فصل: تفسير الآيات (55- 59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (55- 59):

{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولا يزال الذين كفروا في مريةٍ}: شك {منه}؛ من القرآن، أو الصراط المستقيم، {حتى تأتيهم الساعةُ بغتةً}: فجأة، {أو يأتيهم عذاب يومٍ عقيم}، وهو عذاب يوم القيامة، كأنه قيل: حتى تأتيهم الساعة أو عذابها، فزاد اليوم العقيم؛ لمزيد التهويل. واليوم العقيم: الذي لا يوم بعده، كأنَّ كل يوم يلد ما بعده من الأيام، فما لا يوم بعده يكون عقيمًا. وقيل: اليوم العقيم: يوم بدر، فهو عقيم عن أن يكون للكافرين فيه فَرح أو راحة، كالريح العقيم؛ لا تأتي بخير، أو لأنه لا مثل له في عِظم أمره؛ لقتال الملائكة فيه، ولكن لا يساعده ما بعده، من قوله: {المُلكُ يومئذٍ لله} أي: السلطان القاهر، والتصرف التام، يومئذ لله وحده، ولا منازع له فيه، ولا تصرف لأحد معه، لا حقيقة ولا مجازاً، ولا صورة ولا معنى، كما في الدنيا، فإنَّ للبعض فيه تصرفًا مجازيًا صُوريًا. {يحكم بينهم} أي: بين فريق أهل المرية وأهل الإيمان.
ثم بيّن حكمه فيهم، فقال: {فالذين آمنوا} بالقرآن الكريم ولم يُماروا فيه، {وعملوا الصالحات} امتثالاً لما أمر به في تضاعيفه {في جنات النعيم}، {والذين كفروا} بالقرآن وشكوا فيه، أو بالبعث والجزاء، {وكذبوا بآياتنا} الدالة على كمال قدرتنا أو القرآن، {فأولئك لهم عذابٌ مهين}، يُهينهم ويُخزيهم.
ثم خص قومًا من الفريق الأول بفضيلة، فقال: {والذين هاجروا في سبيل الله}: خرجوا من أوطانهم مجاهدين، {ثم قتلوا} في الجهاد، {أو ماتوا} حتف أنفهم، {لَيَرزقنَّهم الله رزقًا حسنًا}، وهو ما لا ينقطع من نعيم الجنان. ومراتب الحسن متفاوتة، فيجوز تفاوت حال المرزوقين، حسب تفاوت أرزاق الجنة. رُوي أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نَبِي الله؛ هؤُلاَءِ الذين قُتِلُوا في سَبِيل اللهِ قَدْ عَلِمْنَا مَا أعْطَاهُمُ الله مِن الخَيْرِ، ونَحْنُ نُجَاهِدُ مَعَكَ كَما جَاهَدُوا، فَمَا لَنَا مَعَكَ؟ فنزلت: {والذين هاجروا...} الآيتين. وقيل: نزلت في طوائف، خرجوا من مكة إلى المدينة، فتبعهم المشركون فقتلوهم.
ثم قال تعالى: {وإِن الله لهو خير الرازقين}، فإنه يرزق بغير حساب، مع أنَّ ما يرزقه لا يقدر عليه غيره، {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ}، وهو الجنة؛ لأنَّ فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، قيل: لَمَّا ذكر الرزق ذكر المسكن، {وإِن الله لعليمٌ حليمٌ}، عليم بأحوال من قضى نحبه مجاهدًا، وآمال من مات وهو ينتظره معاهدًا، حليم بإمهال من قاتلهم معاندًا.
الإشارة: من لم يصحب العارفين أهل الرسوخ واليقين، لا يمكن أن تنقطع عنه خواطر الشكوك والأوهام، حتى يلقى الله بقلب سقيم، فيُفضي إلى الهوان المقيم. والذين هاجروا في طلب محبوبهم لتكميل يقينهم، ثم قتلوا قبل الوصول، أو ماتوا بعد الوصول، ليرزقنهم الله جميعًا رزقًا حسنًا، وهو لذة الشهود والعيان، في مقعد صدق مع المقربين، {وإن الله لهو خير الرازقين}. والمدخل الذي يرضونه: هو القرب الدائم، والشهود المتصل. جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه.

.تفسير الآيات (60- 62):

{ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)}
قلت: {ذلك}: خبر، أي: الأمر ذلك. و{مَن عاقب}: شرط سدّ مسد جوابه، أي: من عاقب بمثل ما عُوقب به ينصره الله.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ذلك} أي: الأمر ذلك، كما أخبرتك في بيان الفريقين، ثم استأنف فقال: {ومن عاقب بمثل ما عُوقِبَ به} أي: لم يزد في القصاص على ما فُعل به، وسمى الابتداء عقابًا؛ للمشاكلة ولملابسته له، من حيث إنه سبب له وهو مسبب عنه. {ثم بُغِيَ عليه لينصُرَنَّه اللهُ} أي: من جازى بمثل ما فُعل به من الظلم، ثم ظُلم، بعد ذلك، وبُغي عليه بعد ذلك، فحق على الله أن ينصره؛ {إِنَّ الله لعفوٌّ} يمحو آثار الذنوب، {غفورٌ} يستر أنواع العيوب.
ومناسبة الوصفين لما قبلهما: أن المعاقب مأمور بالعفو من عند الله، بقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} [الشورى: 40]، {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43]، فحين لم يفعل ذلك، وانتصر لنفسه، فكأنه مُذنب، فمعنى العفو في حقه أنه لا يلزمه على ترك الفضل شيء، وأنه ضامن لنصره في الكرة الثانية، إذا ترك العفو وانتقم من الباغي عليه، وعَرَّضَ، مع ذلك، بما كان أولى به من العفو بذكر هاتين الصفتين.
ثم ذكر دلائل قدرته على النصر وغيره بقوله: {ذلك بأن الله يُولج الليلَ في النهار ويُولجُ النهارَ في الليل وأنَّ الله سميع بصيرٌ} أي: ذلك النصر للمظلوم بسبب أنه قادر على ما يشاء. ومن آيات قدرته أنه {يُولجُ الليلَ في النهار ويُولجُ النهارَ في الليل} أي: يُدخل أحدهما في الآخر، فيدخل الليلَ في النهارِ إذا طال النهار، ويُدخل النهارَ في الليل إذا طال الليلُ، فيزيد في أحدهما ما ينقص من الآخر. أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما، بإدخال أحدهما على الآخر، فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر، والبغي والإنصاف. {وأن الله سميع} لما يقولون، لا يشغله سمع عن سمع، وإن اختلفت في النهار الأصوات بفُنون اللغات، {بصير} بما يفعلون، فلا يستتر عنه شيء بشيء في الليالي، وإن توالت الظلمات.
{ذلك بأن الله هو الحقُّ} الواجب لذاته، الثابت في نفسه، الواحد في صفاته وأفعاله، فإن وجوب وجوده ووحدته يقتضيان كونه مُبديًا لكل ما يوجد من الموجودات، عالمًا بكل المعلومات. وإذا ثبت أنه الحق فدينُه حق، وعبادته حق، {وأن ما تدعون من دونه} إلهًا {هو الباطل} ي: المعدوم في حد ذاته. أو الباطل ألوهيته، {وأن الله هو العليُّ الكبيرُ} أي: المتعالي عن مدارك العقول، وعن سمات الحدوث، أو المرتفع على كل شيء بقهريته، أو المتعالي عن الأنداد والأشباه، الكبير شأنًا وعظمةً وكبرياء؛ إذ كل شيء يصغر دون كبريائه، فلا شيء أعلى منه شأنًا وأكبر سلطانًا؛ لأن له الوجود المطلق.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: ومن عاقب نفسه وجاهدها وأدَّبها في أيام اليقظة، بمثل ما عاقبته وجنت عليه وطغت في أيام الغفلة، ثم صرعته بعد ذلك وغلبته؛ لينصرنه الله عليها، حتى يغلبها ويملكها، فكلما هاجت عليه هجم عليها، حتى يملكها؛ ذلك بأن الله يُولج ليلَ المعصية في نهار الطاعة، ويولجُ نهارَ الطاعة في ليلِ المعصية، أي: يدخل أحدهما على الآخر، فلا يزال العبد يعصي ويطيع حتى يمنَّ عليه بالتوبة النصوح. أو يولج ليل المعصية في نفس الطاعة، فتنقلب الطاعة معصية، إذا صحبها علو واستكبار. ويولج نهار الطاعة في عين المعصية، فتنقلب طاعة إذا صحبها ذل وافتقار. ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما دونه باطل.

.تفسير الآيات (63- 65):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)}
قلت: {فتصبح}: عطف على {أنزل}، والعطف بالفاء أغنى عن الضمير، وإيثار صيغة الاستقبال؛ للإشعار بتجدد أثر الإنزال، وهو الاخضرار واستمراره، أو لاستحضار صورة الاخضرار، وإنما لم ينصب جوابًا للاستفهام؛ لأنه لو نصب لبطل الغرض؛ لأن معناه في الرفع إثبات الاخضرار، فينقلب في النصب إلى نفيه، كما تقول لصاحبك: ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر، إن نصبته نفيت شكره، وشكوت من تفريطه، وإن رفعته أثبت شكره.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ألم تر} يا محمد، أو يا من يسمع، {أن الله أنزل من السماء ماءً}؛ مطرًا {فتصبحُ الأرض مخضرةً} بالنبات، بعدما كانت مسودة يابسةً، {إِنَّ اللهَ لطيفٌ} بعباده، أو في ذاته لا يدرك، {خبيرٌ} بمصالح خلقه ومنافعهم، أو اللطيف المختص بدقائق التدبير، الخبير بكل جليل وحقير، قليل وكثير. {له ما في السماوات وما في الأرض}؛ مُلكًا ومِلْكًا، قد أحاط بهم؛ قدرةً وعلمًا، {وإِنَّ الله لهو الغني} عن كل شيء، المفتقر إليه كل شيء، {الحميد}: المحمود بنعمته، قبل ثناء من في السماوات والأرض عليه، أو المستحق للحمد، أعطى أو لم يعط.
ثم ذكر موجب الحمد من عباده، فقال: {ألم ترَ أن الله سخَّر لكم ما في الأرض} من الأنعام؛ لتأكلوا منها، ومن البهائم؛ لتركبوها في البر، {والفُلكَ تجري في البحر بأمره}: بقدرته وإذنه، أي: وسخر لكم المراكب حال كونها جارية في البحر بإذنه، {ويُمسكُ السماء أن تقعَ على الأرض} أي: يحفظها من السقوط، بأن خلقها على هيئة متداعية إلى الاستمساك، {إِلا بإِذنه}: إلا بمشيئته، وذلك يوم القيامة، وفيه رد لاستمساكها بذاتها؛ فإنها مساوية لسائر الأجسام في الجسمية، فتكون قابلة للميل الهابط قبُولَ غيرها. {إِنَّ الله بالناس لرؤوفٌ رحيمٌ}؛ حيث هيأ لهم هذه الأسباب لقيام معاشهم، وفتح لهم أبواب المنافع، ودفع عنهم أنواع المضار، فأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية، فله الحمد وله الشكر.
الإشارة: ألم تر أن الله أنزل من سماء المعاني ماء علم الغيوب، وهو علم أسرار الذات وأنوار الصفات، أعني: التوحيد الخاص، فإذا نزل على أرض النفوس، اهتزت وربت، واخضرت بالعلوم والمعارف، إن الله لطيف خبير، لطيف؛ لسريان معانيه اللطيفة في كل شيء، خبير ببواطن كل شيء، فمن كوشف بلطيف معانيه وإحاطة علمه في كل شيء، وبكل شيء، حيي قلبه بمعرفة الله، واخضرت أرض نفسه بأنواع العلوم والمعارف. ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض، يكون عند أمركم ونهيكم، وفلك الفكرة تجري في بحر التوحيد بأمره، ويُمسك سماء الأرواح أن تقع على أرض الحظوظ إلا بإذنه، بعد الرسوخ في معرفته، والتمكين من الفهم عنه، إن الله بالناس لرؤوف رحيم؛ حيث فتح لهم باب العلوم، وهيأ لهم أسباب الفهوم، وهي الرياضة والتأديب.

.تفسير الآية رقم (66):

{وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وهو الذي أحياكم} بعد أن كنتم جمادًا، عناصر ونطفًا في الأصلاب والأرحام، حسبما فُصل في صدر السورة، {ثم يُميتُكم} عند مجيء آجالكم، {ثم يُحييكم} عند البعث، لإيصال جزائكم، {إِنَّ الإِنسان لكفور}: لَجَحُود لِمَا أفاض عليه من ضُروب النعم، ودفع عنه من صنوف النقم، أو لا يعرف نعمة الإيجاد المُظهرة للوجود، ولا نعمة الإمداد الممدة بعد الوجود، ولا نعمة الإفناء المقربة إلى الموعود، ولا نعمة الإحياء الموصلة إلى المقصود، وهو التنعم في جوار الملك الودود، فله الحمد دائمًا وله الشكر.
الإشارة: وهو الذي أحياكم باليقظة بعد الغفلة، وبالعلم بعد الجهل، ثم يميتكم عن حظوظ نفوسكم وهواها، ثم يُحييكم بالمعرفة به، حياةٌ لا موت بعدها، فمن لم يعرف هذا فهو كنود.

.تفسير الآيات (67- 71):

{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {لكل أمةْ} من الأمم الخالية والباقية {جعلنا} أي: وضعنا، وعَيَّنا {منسَكًا}: شريعة خاصة يتمسكون بها، أي: عيّنا كل شريعة لأمة معينة من الأمم، بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى شريعة أخرى، لا استقلالاً ولا اشتراكًا، فكل جيل لهم شرع مخصوص، {هم ناسكوه}: عاملون به، فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى- عليهما السلام- منسكهم التوراة، هم عاملون به لا غيرهم. والتي كانت من مبعث عيسى عليه السلام إلى مبعث النبي صلى الله عليه وسلم منسكهم الإنجيل، هم ناسكوه وعاملون به. وأما الأمة الموجودة عند مبعث النبي- عليه الصلاة والسلام- ومن بعدهم إلى يوم القيامة؛ فهم أمة واحدة، منسكهم القرآن، ليس إلا.
والفاء في قوله: {فلا ينازعنك في الأمر} لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ فإن تعيين كل أمة بشرع مخصوص، يجب اتباعه، يُوجب اتباع هؤلاء الموجودين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم منازعتهم له في أمر الدين، أي: فلا يجادلنك في أمر الدين، بل يجب عليهم الاستسلام والانقياد لكل أمر ونهي. أو: فلا تلتفت إلى قولهم، ولا تمكنهم من أن ينازعوك في الأمر، أي: أمر الدين أو أمر الذبائح. قيل: نزلت حين قال المشركون للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتله الله؟ يعني: الميتة، فأمر الله بالغيبة عنهم، وعدم الالتفات إلى قولهم. {وادعُ إلى ربك} أي: دم على الدعاء إلى الله، والتمسك بدينه القويم؛ {إِنك لعلى هُدى مستقيم}: طريق قويم موصل إلى الحق.
{وإن جادلوك} بعد ظهور الحق؛ مِراء وتعنتًا، كما يفعله السفهاء، بعد اجتهادك ألاَّ يكون بينك وبينهم تَنازع وجدال، {فقل اللهُ أعلمُ بما تعملون} أي: فلا تجادلهم، وادفعهم بهذا القول، والمعنى: إن الله عالم بأعمالكم وما تستحقون عليها من الجزاء، فهو يُجازيكم به. وهذا وعيد وإنذار، ولكن برفق ولين، يُجيب به العاقلُ كلَّ متعنت سفيه. قال تعالى: {اللهُ يحكمُ بينكم يومَ القيامةِ فيما كنتم فيه تختلفون} من أمر الدين، وهو خطاب من الله تعالى للمؤمنين والكافرين، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان يلقى منهم.
{ألم تعلم أن الله يعلمُ ما في السماء والأرض}، الاستفهام للتقرير، أي: قد علمت أن الله يعلم كل ما يحدث في السماء والأرض، ولا يخفى عليه شيء من الأشياء، ومن جملتها: ما تقوله الكفرة وما يعملونه، {إِنَّ ذلك في كتاب}؛ في اللوح المحفوظ، {إِنَّ ذلك على الله يسير} أي: علمه بجميع ذلك عليه يسير، فلا يخفى عليه معلوم، ولا يعسُر عليه مقدور. {ويعبدونَ من دون الله} أي: متجاوزين إياه، مع ظهور دلائل عظمته وقدرته وتوحيده، {ما لم يُنزل به سلطانًا}: حجة وبرهانًا، {وما ليس لهم به علمٌ} أي: وما ليس لهم بجواز عبادته علم؛ من ضرورة أو استدلال، أي: لم يتمسكوا في عبادتهم لها ببرهان سماوي من جهة الوحي، ولا حملهم عليها دليل عقلي، بل لمجرد التقليد الرديء، {وما للظالمين من نصير} أي: وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم العظيم من أحد ينصرهم، أو يصوب مذهبَهم، أو يدفع العذاب عنهم، حين يعتريهم بسبب ظلمهم.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: كما اختلفت الشرائع باختلاف الملل، اختلفت التربية باختلاف الأشخاص والأعصار، وقد تقدم عند قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48]. وجملتها ترجع إلى الهمة والحال، وبهما كانت التربية في الصدر الأول، فكانت الملاقاة والصحبة تكفي، ويحصل التهذيب والتصفية وكمال المعرفة. وذلك في زمان الصحابة والتابعين إلى القرن الثالث؛ لقربهم من النور النبوي. فلما بَعُد الأمر، وأظلمت القلوب، أحدثوا تربية الاصطلاح، وهو التزيي بزي مخصوص، كالمرقعة وحمل السبحة في العنق، والركوة، وغير ذلك من مسائل التجريد، وترتيب أمور تموت بها النفوس وتعالج بها القلوب، واستعمال أوراد مخصوصة، فكانت التربية حينئذ بالهمة والحال والاصطلاح. وقد تحصل التربية لمن له الهمة والحال بغير اصطلاح، إذا رآه ينجع فيه ذلك، فبقي الأمر كذلك إلى القرن التاسع، فتصدى للتربية بالاصطلاح قوم مُدَّعُون، لا همة لهم ولا حال، فقال الحضرمي حسمًا لهذه الدعوى: قد انقطعت التربية بالاصطلاح، وما بقي إلا الهمة والحال، فعليكم بالكتاب والسنة، أي: بظاهر الكتاب والسنة من غير زيادة ولا نقصان، يعني طريق الأحوال والاصطلاح. ومراده بذلك: قطع التربية بالاصطلاح من غير همة ولا حال. وأما من له الهمة والحال فلا يقصد الحضرمي قطع تربيته بالاصطلاح. والحاصل: أن الحضرمي ما حكم إلا على وقته؛ لِمَا رأى من الفساد الذي دخل في التربية. وق وُجد بعده رجال مُربون بالاصطلاح مع الهمة والحال. والمراد بالهمة: العلم بالله على نعت الشهود والعيان، وبالحال: إنهاض القلوب عند رؤيته لذكر الله؛ لقوله- عليه الصلاة والسلام-: «خَيْرُكُمْ مَنْ إِذا رُؤوا ذُكر اللهُ» ولابد من إذن خاص من الشيخ، أو من يقوم مقامه، وإلا فلا تنجح تربيته، ولا ينهض حاله. والله تعالى أعلم.
فإن تأهلتَ للتربية بإذن خاص، فلا ينازعنك في الأمر، أي: لا تلفت إلى من ينازعك ويحتج عليك بانقطاع التربية؛ تعنتًا وعنادًا. وادع إلى ربك، إنك لعلى هدى مستقيم. قال القشيري: قوله: {وإن جادلوك...} إلخ، أي: كِلْهُم إلينا، عندما راموا أمر الجدال، ولا تتكل على ما تختاره من الاحتيال، واحذر جنوحَ قلبك إلى الاستغاثة بالأمثال والأشكال؛ فإنهم قوالبُ خاويةٌ. وأشباحٌ من رؤية المعاني خالية. اهـ. ويوم القيامة يظهر المحق من المبطل، ويقال في شأن من يعبد هواه: {ويعبدون من دون الله...} الآية.