فصل: تفسير الآيات (51- 56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (51- 56):

{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)}
قلت: {وإن هذه}: مَن كسره استأنف، ومَن فتحه حذف اللام، أي: فاتقون؛ لأنَّ هذه، أو معطوف على ما قبله: {بما تعملون عليم}، وبأن هذه، أو بتقدير: واعلموا أن هذه. و{زُبُراً}: حال من: {أَمْرهم}، أو من واو {تقطعوا}، و{نُسارع}: خبر أن، وما: موصولة.
يقول الحق جل جلاله: {يا أيها الرسل كُلوا من الطيبات}، هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما؛ لأنهم أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة، وإنما المعنى: الإعلام بأنَّ كل رسول في زمانه نُودي بذلك، ووصي به؛ للإيذان بأن إباحة الطيبات شرعٌ قديم، جرى عليه جميع الرسل- عليه الصلاة والسلام- وَوُصّوا به، أي: وقلنا لكل رسول: كُلْ من الطيبات واعمل صالحاً. فعبَّر عن تلك الأوامر المتعددة المتعلقة بالرسل بصيغة الجمع؛ للإيجاز، وفيه من الدلالة على بطلان ما عليه الرهابنة من رفض الطيبات ما لا يخفى. قاله أبو السعود. وقيل: خطاب لعيسى عليه السلام؛ لاتصال الآية به، وكان يأكل من غزل أمه، وهو من أطيب الطيبات، وقيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لفضله وقيامه مقام الكل، وكان يأكل من الغنائم، وما رزقه الله من غير اختيار على الله، والجمع: للتعظيم فيهما، والطيبات: ما يُستطاب ويُستلذ من مباحات المآكل والفواكه، حسبما يُنبئ عنه سياق النظم الكريم.
{واعملوا} عملاً {صالحاً}، فإنه المقصود منكم؛ شكراً لما أُسدي إليكم، ولا تشتغلوا بالنعم عن طاعة المنعم وشهوده، {إني بما تعملون} من الأعمال الظاهرة والباطنة، {عليم}، فأجازيكم عليه، وفيه تهديد للمذكورين، فما بالك بغيرهم ممن ألهته النعم عن شهود المنعم وشكره؟!
{وإن هذه أمتكم} أي: ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها {أمةً واحدة} أي: ملة واحدة، متحدة في أصول الشرائع، التي لا تُبدل بتبدل الأعصار، وهو التوحيد وما يتبعه من أصول العقائد. {وأنا ربكم} من غير أن يكون لي شريك في الربوبية، {فاتقون}: فخافوا عتابي في مخالفتكم أمري، أو في شق العصا، والمخالفة بالإخلال بمواجب ما ذكر من اختصاص الربوبية بي.
والخطاب للرسل والأمم جميعاً، على أن الأمر في حق الرسل للتهييج، وفي حق الأمم للتحذير. قيل: وجاء هنا: {فاتقون}، الذي هو أبلغ في التخويف والتحذير من قوله في الأنبياء: {فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]؛ لأن هذه جاءت عقب إهلاك طوائف كثيرين، وفي الأنبياء، وإن تقدمت أيضاً قصة نوح وما قبلها، فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام، في قصة أيوب ويونس وزكريا ومريم، فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته.
ثم قال تعالى: {فتقطَّعوا أمرهم} أي: فتفرقوا في أمر دينهم مع اتحاده، وجعلوه قطعاً متفرقة، وأدياناً مختلفة، {بينهم زُبراً} أي: قطعاً- جمع زَبور، بمعنى الفرقة، ويؤيده قراءة من قرأ: {زُبَراً} بفتح الباء، جمع زُبْرة؛ كغُرْفة، أي: قطعاً مختلفة، كلٌّ ينتحل كتاباً، وقيل: جمع زَبور، بمعنى كتاب، أي: كل فريق يزعم أن له كتاباً يتمسك به.
وعن الحسن: قطعوا كتاب الله قطعاً وحرَّفوه، والأول أقرب، أي: تفرقوا في أصل الدين فرقاً، وتحزبوا أحزاباً، {كل حزب} من أولئك المتحزبين {بما لديهم} من الدين الذي اختاروه، أول من الهوى والرأي، {فَرِحُون}: مُعجبُون، يعتقدون أنه الحق.
{فذَرهم في غمرتهم}؛ في جهالتهم وغفلتهم، شبَّه ما هم فيه من الجهالة بالماء الذي يغمر القامة؛ لأنهم مغمورون فيها، سابحون في بحر الجهالة، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم؛ إيذاناً بأنهم مطبوع على قلوبهم، أي: اتركهم على حالهم {حتى حين}: حتى نأمرك فيهم بما شئتُ من الجهاد أو غيره، أو: إلى أن يُقتلوا أو يموتوا على الكفر، أو: إلى وقت حلول العذاب بهم. فهو تهديد وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهى عن استعجال عذابهم، وفي التنكير والإبهام ما لا يخفى من التهويل.
{أيحسبون أنما نُمِدُّهم به} أي: نعطيهم إياه ونجعله مدداً لهم، {من مالٍ وبنين}؛ {من}: بيان، أي: أيظنون أن الذي نمدهم به من الأموال والبنين، {نُسارعُ لهم} بذلك {في الخيرات بل لا يشعرون} أنه استدراج، قيل: استدراك لقوله: {أيحسبون} أي: بل هم أشباه البهائم، لا شعور لهم حتى يتأملوا في ذلك، هل هو استدراج أو مسارعة في الخيرات؟ وحاصل المعنى: أن هذا الإمداد ليس إلا استدراجاً لهم إلى المعاصي، وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات، ومعاملة لهم بالثواب، جزاء على حسن صنيعهم.
وهذه الآية حجة على المعتزلة في مسألة الأصلح؛ لأنهم يقولون: إن الله- تعالى- لا يفعل بأحد من الخلق إلا ما هو أصلح له في الدين، وقد أخبر أن ذلك لا خير لهم فيه ولا صلاح، والله تعالى أعلم.
الإشارة: تناول الطيبات وما تشتهيه النفس من أنواع الملذوذات، مباح في الشرع قديماً وحديثاً، إن كان من وجه مباح وقارنه الشكر؛ لأن الحق تعالى ما خلق ذلك إلا لعباده؛ ليشكروه ويحمدوه، ويتذكروا بذلك نعيم الجنان، الذي لا يفنى ولا يزول، وما هذا النعيم الدنيوي إلا أنموذج من نعيم الآخرة، قال تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا في الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} [التوبة: 38]. هذا باعتبار عامة المسلمين، وأما الخاصة؛ من العُبَّاد والزهاد والمريدين السائرين، فهم يجتنبون ما تجنح إليه النفس، ويتعلق به القلب؛ خوفاً من الإشتغال بذلك عن العبادة أو السير؛ لأن القلب إذا توجه لأمر أعرض عن الآخر، فإذا توجه إلى طلب الشهوات أعرض عن الله، وتَفَتَّر عن السير، وتَكَبَّل عن النهوض إلى الحضرة. ولذلك قال في الحِكَم: (كيف يشرق قلب: صُورُ الأكوان منطبعة في مرآته؟ أم كيف يرحل إلى الله وهو مُكَبَّل بشهواته؟ أم كيف يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته؟) وقال بعضهم: لَدغُ الزنابير على الأجسام المَقرحة، أيسر من لدغ الشهوات على القلوب المتوجهة. اهـ.
وأما خاصة الخاصة؛ وهم العارفون المتمكنون، فهم مع مولاهم، يأخذون من يده ما يعطيهم؛ لأن قلوبهم قد استغرقتها الأنوار، فلم يبق فيها متسع للأغيار، قد تهذبت نفوسهم، واطمأنت بالله قلوبهم، فلا تلتفت إلى غير مولاها. وبالله التوفيق.
وقوله تعالى: {فتقطعوا أمرهم بينهم...} إلخ، الاختلاف، إن كان التوحيد وما يرجع إليه من أصول العقائد، فهو مذموم، وهو الذي نعاه الله على الكفرة المتحزبة، وأمَّا إن كان في الفروع فهو مشروع، كاختلاف الشرائع والمذاهب، ولذلك قال- عليه الصلاة والسلام-: «اختلاف أمتي رحمة»، وقال بعض الصوفية: ما زالت الصوفية بخير ما تنافروا، فإن توافقوا فلا خير فيهم. اهـ. والمراد بالتنافر- في حقهم- التناصح، وإنكار بعضهم على بعض؛ إذا رأى من أحد عيباً، فإن سكتوا عن بعضهم، وتوافقوا على مساوئ بعضهم بعضاً، فلا خير فيهم، وأما قلوبهم فهي متوافقة مؤتلفة.
وقوله تعالى: {كل حزب بما لديهم فرحون}، أما أهل الحق فهم فرحون؛ لسلوكهم على المنهاج المستقيم، المُفضي إلى رضوان الله ورحمته، وأما أهل الباطل فزين لهم الشيطان أعمالهم؛ ليتمكنوا من التقرر عليه حتى ينفذ مراد الله فيهم، ولو تحققوا أنهم على باطل لم يمكن قرارهم عليه، فتبطل حكمته وقهريته، وكل من أقامه الحق- تعالى- في حرفة أو خُطة، زينها الله- تعالى- في قلبه حتى يقوم بها، وكذلك أهل الأسباب من أرباب الدليل والبرهان، مع أهل التجريد من أهل الشهود والعيان، لو علموا بمقام أهل العيان ما أقاموا في الأسباب، ولتجردوا كلهم، فتبطل الحكمة الإلهية. وكان إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه يقول: (لو يعلم الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف): فسبحان من قرَّب قوماً وأبعد قوما، {وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعا}. والله تعالى أعلم وأحكم.

.تفسير الآيات (57- 62):

{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)}
قال في الحاشية: لمّا ذكر تعالى غفلةَ الكفار ووعيدهم، عقَّب ذلك بوصف المؤمنين بضد ذلك ويقينهم بالرُّجْعَى، وإشفاقهم من جلال الحق وقهره. اهـ.
يقول الحق جل جلاله: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون} أي: من عذابه خائفون حذرون، {والذين هم بآيات ربهم} المنصوبة والمُنَزَّلة، {يؤمنون} بتصديق مدلولها، وبكتب الله كلها، لا يُفرقون بين كتبه، كالذين تقطعوا أمرهم بينهم- وهم أهل الكتاب وغيرهم، {والذين هم بربهم لا يشركون} شركاً جلياً ولا خفياً، بخلاف مشركي العرب والعجم.
{والذين يُؤتون ما آتَوْا} أي: يعطون ما أعطوا من الزكوات والصدقات. وقرئ: {يأَتُونَ مَا أَتَواْ} بالقصر، أي: يفعلون من الطاعات، {وقلوبهم وَجِلةٌ}: خائفة ألاَّ تُقبل منهم؛ لتقصيرهم؛ بأن لا يقع على الوجه اللائق، فيُؤخذوا به ويُحرموا ثوابه؛ لأنهم {إلى ربهم راجعون} فيعاتبهم، أو من مرجعهم إليه، وهو يعلم ما يحيق عليهم، والمصولات الأربعة عبارة عن طائفة واحدة متصفة بما ذكر، في حَيِّزِ صِلاتِهَا من الأوصاف الأربعة، لا عن طوائف، كل واحدة منها متصفة بواحد من الأوصاف المذكورة، كأنه قيل: إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون، وبآيات ربهم يؤمنون... إلخ.
وإنما كرر الموصول؛ إيذاناً باستقلال كل واحد من تلك الصفات بفضيلة باهرة على حِيالها، وتنزيلاً لاستقلالها منزلة استقلال الموصوف بها، وخبر {إنّ}: {أولئك يسارعون}، أشار إليهم بالجمع اعتبار اتصافهم بتلك النعوت، مع أنَّ الموصول واقع على الجمع.
ومعنى البُعد؛ للإشعار ببُعد رُتبتهم في الفضل، أي: أولئك المنعوتون بتلك النعوت الجليلة يسرعون {في الخيرات} أي: يرغبون في الطاعات أشد الرغبة، فيبادرون إليها. أويسارعون في نيل الخيرات العاجلة والآجلة الموعودة على الأعمال الصالحات؛ كما في قوله تعالى: {فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة} [آل عمران: 148]، وقوله: {وَآتَيْنَاهُ في الدنيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ في الآخرة لَمِنَ الصالحين} [النحل: 122]، فقد أثبت لهم ما نفى عن أضدادهم، غير أنه غيّر الأسلوب، حيث لم يقل: أولئك نسارع لهم في الخيرات؛ بل أسند المسارعة إليهم؛ إيماءاً إلى كمال استحقاقهم نيل الخيرات لمحاسن الأعمال. وإيثار كلمة {في}، عن كلمة إلى؛ إيذانا بأنهم مُتَقلِّبون في فنون الخيرات، لا أنهم خارجون عنها متوجهون إليها، كما في قوله تعالى: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عمران: 133] الآية.
{وهم لهم} أي: لأجل نيل تلك الخيرات، {سابقون} الناس إلى الطاعات، أو: وهم إياها سابقون، واللام زائدة؛ لتقوية العامل، كقوله: {وهم لها عاملون} أي: ينالونها قبل الآخرة، فتُعجل لهم في الدنيا، وعن ابن عباس: {هم لها سابقون} أي: سبقت لهم من الله السعادة، فلذلك سارعوا في الخيرات. اهـ. فهو إشارة إلى تيسير كلِّ لما خُلِق له، وأنه يَسَّرهمُ القدرُ لما وصفهم به من الخير، كما أن الكفار أُمدوا بما يدعو للغفلة والإعجاب، مما هو استدراج ومكر من حيث لا يشعرون.
قال تعالى: {ولا نُكلِف نفساً إلا وُسْعَها} أي: طاقتها، فهو تحريض على تحصيل ما وُصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدي إلى نيل الخيرات؛ ببيان سهولته، وأنه غير خارج عن حد الوسع والطاقة، أي: عادتنا جارية بأنْ لا نكلف نفساً من النفوس إلا ما في طاقتها، فإن لم يبلغوا في فعل الطاعة مراتب السابقين، فلا عليهم، بعد أن يبذلوا طاقتهم ويستفرغوا وسعهم.
{ولدينا كتابٌ} أي: صحائف الأعمال التي يرونها عند الحساب، حسبما يُعرب عنه قوله: {ينطِق بالحق}، كقوله: {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق إِنَّ كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] أي: عندنا كتاب أثبت فيه أعمال كل أحد على ما هو عليه، أو أعمال السابقين والمقتصدين جميعاً، وقوله: {بالحق}: يتعلق بينطق، أي: يُظهر الحق المطابق للواقع على ما هو عليه، أو يظهره للسامع، فيظهر هناك جلائل أعمالهم ودقائقها، ويرتب عليها أجزيتها، إن خيراً فخير، وإن شراً فشرٌ، وقيل: المراد بالكتاب: اللوح المحفوظ، وهو مناسب لتفسير ابن عباس بسبق السعادة، وقوله: {وهم لا يظلمون}، بيان لفضله تعالى وعدله في الجزاء، إثر بيان لطفه في التكليف وكتب الأعمال، أي: لا يظلمون في الجزاء؛ بنقص الثواب أو بزيادة عذاب، بل يُجزون بقدر أعمالهم التي كُلّفوها، ونطقت بها صحائف أعمالهم، أو: لا يُظلمون بتكليف ما لا وسع فيه، أو: لا ينقصون مما سبق لهم في اللوح المحفوظ شيئاً، والله تعالى أعلم.
الإشارة: ذكر في هذه الآية أربعة أوصاف من أوصاف المقربين، أولها: الخوف والإشفاق من الطرد والإبعاد، والثاني: الإيمان الذي لا يبقى معه شك ولا وَهْم، بما تضمنته الآيات التنزيلية من الوعد والإيعاد، والثالث: التوحيد الذي لا يبقى معه شرك جلي ولا خفي، والرابع: السخاء والكرم، مع رؤية التقصير فيما يعطي. فمن جمع هذه الخصال كان من السابقين في الخيرات ويُسارع لهم في تعجيل الخيرات، وكل ذلك بقدر ما يطيق العبد، مع بذل المجهود في فعل الخيرات.
قال في الحاشية: والمسارعة إلى الخيرات إنما هو بقطع الشرور وأول الشرور: حب الدنيا؛ لأنها مزرعة الشيطان، فمن طلبها وعمرها فهو حراثه وعبده، وشر من الشيطان من يُعين الشيطان على عمارة داره، وما ذلك إلا أنه لم يهتم بأمر معاده ومنقلبه، لما جرى عليه في السابقة من الحكم، ولا كذلك من وصفه في الإشفاق من المؤمين؛ إجلالاً لربهم، ورجوعاً لحكمه فيهم غيباً، فلا يأمنون مكره بحال، ولا يركنون إلى أعمال، بل عمدتهم ربهم ورحمته في كل حال. والله أعلم. والحاصل: أنهم مع كونهم يخشون ربهم ويؤمنون بآياته، ولا يشركون به شيئاً، ويودون طاعته، يخافون عدم قبوله لهم عند الرجوع إليه، ولقائهم له؛ لأنه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وأحكامه لا تعلل، ومن استغرق فيه لم يقف مع وعده. اهـ.
قوله: ومن استغرق فيه لم يقف مع وعده، أي: لأنه قد يرتب ذلك على شروط أخفاها عنه، ليدوم خوفه واضطراره، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره، وليس خوف العارف من السابقة ولا من الخاتمة؛ لأنه شغله استغراقه في الحق والغيبة فيه عن الشعور بالسابقة واللاحقة، إنما خوفه من الإبعاد بعد التقريب، أو الافتراق بعد الجمع، وهذا أيضاً قبل التمكين، وإلا فالكريم إذا أعطى لا يرجع. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (63- 67):

{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)}
قلت: {بل} إضراب عما قبله من أوصاف المؤمنين، وانتقال إلى أضدادهم من الكافرين، والضمير للكفرة، و{حتى}: ابتدائية مختصة بالدخول على الجُمل.
يقول الحق جل جلاله: {بل قلوبُهم} أي: الكفرة المستدرج بهم، وهم لا يشعرون، {في غَمْرَةٍ}؛ في غفلة غامرة لها، مما عليه هؤلاء الموصوفون بما تقدم من الخشية وما بعده، أو مما بيَّن في القرآن من أن لديه كتاباً ينطق بالحق، ويُظهر لهم أعمالهم السيئة على رؤوس الأشهاد، فيُفضحون بها، كما ينبئ عنه ما بعده من قوله: {قد كانت آياتي تتلى عليكم..}. {ولهم أعمال من دون ذلك} أي: ولهم أعمال خبيثة كثيرة، متجاوزة لذلك الذي وصف به المؤمنون، من الأعمال الصالحات، وهي فنون كفرهم ومعاصيهم، {هم لها عاملون}، وعليها مقيمون، مستمرون عليها، حتى يأخذهم الله بالعذاب، كما قال: {حتى إذا أخذنا مُتْرَفِيهم} أي: منعميهم {بالعذاب} أي: عذاب الدنيا، وهو القحط سبع سنين، حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «اللهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، واجعلها عَلَيْهمَ سِنِينَ كَسِنيِّ يُوسُفَ»، فقحطوا حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام. أو: القتل يوم بدر. والحق: إنه العذاب الأخروي؛ إذ هو الذي يُفاجأون عنده بالجؤار، فيجابون بالرد والإقناط عن النصر، وأما عذاب يوم بدر فلم يوجد لهم عنده جؤار، حسبما ينبئ عنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] فإنَّ المراد به ما جرى عليهم يوم بدر كما يأتي. وأما الجوع فإن أبا سفيان، وإن تضرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرد عليه بالإقناط، بل دعا لهم فكشف عنهم. وقوله تعالى: {إذا هم يجأرون} أي: يصرخون؛ استغاثة، والجؤار: الصراخ باستغاثة. فيقال لهم: {لا تجأروا اليوم}؛ فإن الجؤار غيرُ نافع لكم، {إنكم منا لا تُنصرون} أي: لا يلحقكم من جهتنا نصرة تمنعكم مما دهمكم.
{وقد كانت آياتي} القرآنية {تُتلى عليكم} في الدنيا، {فكنتم على أعقابكم تَنكصُونَ} أي: ترجعون القهقرى، وتعرضون عن سماعها أشد الإعراض فضلاً عن تصديقها والعمل بها والنكوص: الرجوع القهقرى وهي أقبح المشية؛ لأنه لا يرى ما وراءه، {مستكبرين به}، الظاهر أن الضمير للقرآن؛ لتقدم ذكر آياته، والباء بمعنى عن أي: متكبرين عن سماعه والإذعان له، أو سببية، أي: فكنتم بسبب سماعه مستكبرين عن قبوله، وعمن جاء به، أو ضَمَّن مستكبرين معنى مُكذبين، وقيل: يعود إلى البيت الحرام، أو الحرم، وأضمر ولم يذكر؛ لأنه من السياق. والمعنى: أنهم يستكبرون بسبب المسجد الحرام؛ لأنهم أهله وأهل ولايته، وكانوا يقولون: لا يظهر علينا أحد؛ لأن أهل الحرم، وقيل: تتعلق بالباء بقوله: {سامراً} أي: تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه، وكانوا يجتمعون حول البيت يسمرون، وكان عامة سمرهم ذكر القرآن والطعن فيه، وفي النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء به، و{سامراً}: مفرد بمعنى الجمع، وقرئ سُمَّاراً، {تهجرون}، إما من الهَجر بالفتح، بمعنى الهذيان، أي: تهذون في شأن القرآن كما يهذو الحالم أو السكران.
أو من الترك، أي: تتركونه وتفرون منه، أو تهجرون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أو من الهجر بالضم، وهو الفحش، ويؤيده قراءة من قرأ: {تُهجِرون}، من أهجر في منطقة: إذا أفحش. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من كان قلبه في غمرة حظوظه وهواه، عاكفاً على جمع دنياه، لا يطمع في دخول حضرة مولاه، ولو صلى وصام ألف سنة. قال القشيري: لا يَصلُحُ لهذا الشأنِ إلا من كان فارغاً من الأعمال كلها، لا شغلَ له في شأن الدنيا والآخرة، فأمَّا من شُغل بدنياه، وعلى قلبه حديثٌ من عقباه، فليس له نصيبٌ من حديث مولاه. اهـ. وفي الحديث: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهمَا كَثِيرٌ مِنَ الناس: الِّصحَّةُ والفَرَاغُ».