فصل: تفسير الآيات (19- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (19- 20):

{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)}
يقول الحق جل جلاله: {إن الذين يُحبون}؛ يريدون {أن تشيعَ الفاحشةُ} أي: تنتشر الخصلة المفرطة في القبح، وهو الرمي بالزنا، أو نفس الزنا، والمراد بشيوعها: شيوع خبرها، أي: يحبون شيوعها ويتصدون مع ذلك لإشاعتها. وإنما لم يصرح به؛ اكتفاء بذكر المحبة؛ فإنها مستلزمة له لا محالة، وهم: عبد الله بن أبيّ وأصحابه ومن تبعهم. {لهم عذابٌ أليم في الدنيا}؛ بالحدّ والفضيحة والتكذيب. ولقد ضرب صلى الله عليه وسلم الحدّ كل من رمى عائشة. وتقدم الخلاف في ابن أُبي، فقيل: حدَّه، وقيل: تركه؛ استئلافاً له.
{و} لهم العذاب في {الآخرة} بالنار وغيرها، إن لم يتوبوا. {والله يعلم} جميع الأمور، التي من جملتها: المحبة المذكورة، {وأنتم لا تعلمون} ما يعلمه تعالى، بل إنما يعلمون ما ظهر من الأقوال والأفعال المحسوسة، فابنوا أمركم على ما تعلمونه، وعاقبوا في الدنيا على ما تشاهدونه من الأحوال الظاهرة، والله يتولى السرائر، فيعاقب في الآخرة على ما تُكنه الصدور.
{ولولا فضلُ الله عليكم ورحمتُه}؛ التكرير؛ لتعظيم المِنَّةِ بترك المعاجلة؛ للتنبيه على كَمَالِ عِظَمِ الجريمة، {وأنَّ الله رؤوف رحيم} عطف على {فضل الله}، أي: لولا فضله ورأفته لعاَجلكم بالعقوبة، وإظهار إسم الجليل؛ لتربية المهابة، والإشعار باستتباع صفة الأولوهية للرأفة والرحمة، وتصديره بحرف التأكيد؛ لأن المراد بيان اتصافه تعالى في ذاته بالرأفة التي هي كمال الرحمة وبالرحيمية التي هي المبالغة فيها على الدوام والاستمرار. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من شأن أهل الُبعد والإنكار: أنهم إذا سمعوا بحدوث نقص أو عيب في أهل النِّسْبَةِ وأهل الخصوصية فرحوا، وأحبوا أن تشيع الفاحشة فيهم؛ قصداً لغض مرتبتهم؛ حسداً وعناداً، لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، ولولا فضل الله ورحمته لعاجلهم بالعقوبة. والله تعالى أعلم وأحلم.
ولما نزلت براءة عائشة- رضي الله عنها- حلف أبوها لا ينفق على مسطح شيئاً؛ غضباً لعائشة، وكان يُنفق عليه؛ لقرابته.

.تفسير الآيات (21- 22):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)}
يقول الحق جل جلاله: {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خُطواتِ الشيطان} أي: لا تسلكوا مسالكه في كل ما تأتون وتذرون من الأفاعيل، والتي من جملتها: منع الإحسان إلى من أساء إليكم؛ غضباً وحَمِيَّةً، {ومن يتبع خُطُوات الشيطان}، وضع الظاهر موضع المضمر، حيث لم يقل: ومن يتبعها، أو: ومن يتبع خطواته؛ لزيادة التقرير والمبالغة في التنفير، {فإنه} أي: الشيطان {يأمرُ بالفحشاء}؛ كالبخل والشح، وكل ما عَظُمَ قُبْحُهُ، {والمنكر}؛ كالغضب، والحمية، وكل ما ينكره الشرع؛ لأن شأن الشيطان أن يأمر بهما. فمن اتبع خطواته فقد امتثل أمره.
{ولولا فضلُ الله عليكم ورحمتُه} بالهداية والتوفيق لأسباب التطهير والعصمة والحفظ، {ما زَكَى منكم} أي: ما طَهُرَ من أَدْناسِ العيوب ولوث الفواحش {من أحدٍ أبداً}؛ إلى ما لا نهاية له، وإذا كان التطهير والعصمة بيد الله فلا تروا لأنفسكم فضلاً عمن لم يعصمه الله؛ فإنه مقهور تحت مجاري الأقدار، {ولَكِنَّ الله يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}؛ يطهر من يشاء من عباده؛ بإفاضة آثار فضله ورحمته عليه؛ بالحفظ والرعاية، أو بالتوبة بعد الجناية، {والله سميعٌ عليم}؛ سميع لأقوالكم وإن خفيت، ومن جملتها: الحلف على ترك فعل الخير، عليم بنياتكم وإخلاصكم.
وهذا الكلام مقدمة لقوله: {ولا يأْتَل}، من قولك: أليت: إذا حلفت، أي: لاَ يَحْلِفْ {أولو الفضل منكم} أي: في الدين، وكفى به دليلاً على فضل الصِّدِيقِ رضي الله عنه، {والسَّعَةِ}. أي: والسعة في المال {أن يُؤتوا} أي: لا يحلف على ألا يُعطوا {أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيلِ الله}؛ كمسطح، فإنه كان ابن خالته، وكان من فقراء المهاجرين. وهذه الأوصاف هي لموصوف واحد، جيء بها، بطريق العطف؛ تنبيهاً على أن كلاًّ منها علة مستقلة لا ستحقاقه الإيتاء. وحذف المفعول الثاني؛ لظهوره، أي: على ألاّ يؤتوهم شيئاً، {وليعفُوا} عما فرط منهم {وليصفحُوا} بالإغضاء عنه، فالعفو: التستر، والصفح: الإعراض، أي: وليتجاوزوا عن الجفاء، وليُعرضوا عن العقوبة.
{ألا تُحبُّون أن يغفر الله لكم}؟ فلتفعلوا ما تحبون أن يُفْعَلَ بكم وبهم، مع كثرة خطاياهم، {والله غفور رحيم}؛ مبالغ في المغفرة والرحمة، مع كثرة ذنوب العباد، فتأدبوا بآداب الله، واعفوا، وارحموا. ولما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه قال: بل أُحب أن يغفر الله لي. ورد إلى مسطح نفقته، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.
وبالله التوفيق.
الإشارة: كل ما يصد عن مكارم الأخلاق؛ كالحلم، والصبر، والعفو، والكرم، والإغضاء، وغير ذلك من الكمالات، فهو من خطوات الشيطان، تجب مجانبته، فإن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر؛ كالغضب، والانتصار، والحمية، والحقد، والشح، والبخل، وغير ذلك من المساوئ، ولا طريق إلى الدواء من تلك المساوئ إلا بالرجوع إلى الله والاضطرار له، والتعلق بأذيال فضله وكرمه.
ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً، فإذا تعلق بالله، واضطر إليه اضطرار الظمآن إلى الماء طهَّره الله وزكاه، إما بلا سبب، أو بأن يلقيه إلى شيخ كامل، يُربيه ويهذبه بإذن الله، وهذا هو الكثير، والكل منه وإليه.
قال الورتيجبي قوله تعالى: {ولولا فضل الله عليكم رحمته...} إلخ: بيّن أن تطهير العباد من الذنوب لا يكون إلا بفضله السابق وعنايته الأزلية، كيف يزكي العِلَلَ ما يكون عللاً، فالمعلول لا يُطَهِّرُ، والمعلول أفعال الحدثان على كل صنف، ولطف القديم له استحقاق ذهاب العلل بوصوله. قال السياري: قال الله: {ولولا فضل الله عليكم}، ولم يقل: لولا عبادتكم وصلاتكم وجهادكم وحسن قيامكم بأمر الله ما نجا منكم أحد؛ ليعلم أن العبادات، وإن كثرت، فإنها من نتائج الفضل. اهـ.
قال في الحاشية: وظهر لي أن الآية مقدمة لما ندب إليه الصدِّيق بقوله: {ولا يأتل أولو الفضل منكم}، ففيه إشارة إلى أن فضله وزكاته فضل من الله عليه، وعنايةٌ سابقةٌ، وهي سبب حِفْظِهِ وتحليه بِخِلَعِ كوامل الأوصاف، فليشهدْ ذلك، ولا يأتل على من لم يجد ذلك، حتى وقع فيما وقع من القذف، بل يعذره، ويرى مِنَّةَ الله عليه في كونه نَزَّهَهُ بعنايته من الوقوع في مثل ذلك، مع كون المحل قابلاً، ولكن الله خَصَّصَهُ. اهـ.
قال الورتجيبي على قوله: {ولا يأتل...} إلخ: في الآية بيانُ وتأديبُ الله للشيوخ والأكابر ألاَّ يهجروا صاحب العثرات والزلات، من المريدين، ويتخلقوا بخلق الله، حيث يغفر الذنوب العظامَ ولا يبالي، وأَعْلَمَهُمْ الاّ يَكُفُّوا أعطافهم عنهم. ثم قال: فَإنَّ مَنْ لَهُ اسْتِعْدَادٌ لا يَحْتَجِبُ بِعَوَارِضِ البَشَرِيَّةِ عَنْ أَحْكَامِ الطَّرِيقَةِ أبَداً. اهـ.

.تفسير الآيات (23- 25):

{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)}
قلت: {يوم تشهد}: ظرف للاستقرار، في لهم، أو: معمول لا ذكر.
يقول الحق جل جلاله: {إن الذين يرمون}؛ يقذفون {المحصَنَاتِ}؛ العفائف مِمَا رُمين به من الفاحشة، {الغافلاتِ} عنها على الإطلاق، بحيث لم يخطر ببالهن شيء منها ولا من مقدماتها، أو السليمات الصدور، النقيات القلوب، اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر؛ لأنهن لم يُجربن الأمور، {المؤمنات}؛ المتصفات بالإيمان بكل ما يجب الإيمان به، إيماناً حقيقياً لا يُخالجه شيء مما يكدره. عن ابن عباس: هنّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: جميع المؤمنات؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقيل: أريدت عائشة وحدها، وإنما جمع؛ لأن من قذف واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قذفهنّ.
ثم ذكر الوعيد، فقال: {لُعِنُوا في الدنيا والآخرة}، حيث يلعنهم اللاعنون من المؤمنين والملائكة أبداً، {ولهم} مع ذلك {عذابٌ عظيم}، هائل لا يُقادَرُ قَدْرُهُ؛ لعظم ما اقترفوه من الجناية، إن لم يتوبوا، فيعذبون.
{يوم تشهدُ عليهم ألسنتُهم وأيديهم وأرجلُهم بما كانوا يعملون} أي: بما أَفكوا وبَهَتُوا {يومئذٍ يُوفّيهم الله دينَهُم} أي: يوم تشهد جوارحُهم بأعمالهم القبيحة يُوفيهم الله جزاءهم {الحقَّ} أي: الثابت الذي يحق أن يثبت لهم لا محالة، أو الذي هم أهله، والحق: صفة لدينهم، أو لله، ونصب على المدح. {ويَعْلَمُونَ} عند ذلك {أن الله هو الحقُّ} الثابت الواجب الوجود {المبين}؛ الظاهر البين؛ لارتفاع الشكوك، وحصول العلم الضروري؛ لارتفاع الغطاء بظهور ما كان وعداً غيباً.
ولم يُغَلِظِ الله تعالى في القرآن في شيء من المعاصي تَغْلِيظَهُ في إفك عائشة- رضي الله عنها- فأوجز في ذلك وأَشْبَعَ، وفَصَّل، وأَجَمَلَ، وأَكَّدَ، وكَرَّرَ، وما ذلك إلا لأمر عظيم.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: (من أذنب ذنباً وتاب قُبلت توبته، إلا مَن خاض في أمر عائشة- رضي الله عنها)، وهذا منه مبالغةً وتعظيم لأمر الإفك، وقد برّأ الله تعالى أربعة؛ برّأ يوسف بشاهدٍ من أهلها، وموسى عليه السلام من قول اليهود فيه: أنه آدر، بالحجر الذي ذهب بثوبه، ومريم بنطق ولدها، وعائشة بهذه الآي العظام في كتابه المعجز، المتلوّ على وجود الدهر، بهذه المبالغات. فانظر: كم بينها وبين تبرئة أولئك؟! وما ذلك إلا لإظهار علوّ منزلة رسوله، والتنبيه على إنَافَةِ محله صلى الله عليه وسلم.
وقد رام بعضُ النصارى الطَّعْنَ على المسلمين بقضية الإفك، فقال: كيف تبقى زوجة نبيكم، مع رجل أجنبي؟ فقال له من كان يناظره من العلماء: قد برأها من برأ أُمَّ نبيكم فبُهت الذي كفر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد مدح الله تعالى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أوصاف، هي من أكمل الأوصاف: العفة، والتغافل، وتحقيق الإيمان؛ أما العفة: فهي حفظ القلب من دخول الهوى، والجوارح من معاصي المولى، وأما التغافل: فهو الغيبة عما سوى الله، والتغافل عن مساوئِ الناس.
وفي الحديث: «المؤمن ثلثاه تغافل»، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: «المومنُ غِرٌّ كَرِيمٌ، والمنافقُ خَبٌّ لَئِيمٌ» وأما تحقيق الإيمان فيكون بالتفكر والاعتبار، وبصحبة الصالحين الأبرار، ثم يصير الإيمان ضرورياً بصحبة العارفين الكبار.
قال القشيري: قوله تعالى: {ويعلمون أن الله هو الحق المبين}: تصير المعارف ضروريةً، فيجدون المعافاة في النظر والتذكر، ويستريح القلبُ من وَصْفَيْ تَرَدُّدِه وتَغيُّرِه، باستغنائه ببَصرِه عن تبصره. ويقال: لا يشهدون هذا إلا بالحق، فهم قائمون بالحق للحق مع الحق، يُبدي لهم أسرارَ التوحيد وحقائقه، فيكون القائمَ فيهم والآخذَ لهم عنهم، من غير أن يردهم عليهم. اهـ. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (26):

{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)}
يقول الحق جل جلاله: {الخبيثاتُ} من النساء {للخبيثين} من الرجال، {والخبيثون} من الرجال {للخبيثات} من النساء. وهذه قاعدة السنة الإلهية، أن الله تعالى يسوق الأهل للأهل، فمن كان خبيثاً فاسقاً يُزوجه الله للخبيثة الفاسقة مثله، ومن كان طيباً عفيفاً رزقه الله طيبة مثله. وهو معنى قوله تعالى: {والطيباتُ} من النساء {للطيبين} من الرجال {والطيبون} من الرجال، {للطيباتِ} من النساء، فهذا هو الغالب.
وحيث كان- عليه الصلاة والسلام- أطيب الأطيبين، وخيرة الأولين والآخرين، تبين كون الصديقة- رضي الله عنها- من أطيب الطيبات، واتضح بطلان ما قيل فيها من الخرافات، حسبما نطق به قوله تعالى: {أولئك مبرؤون مما يقولون}، على أن الإشارة إلى أهل البيت، المنتظمين في سلك الصِّدِّيقِيَّةِ انتظاماً أولياً، وقيل: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والصدِّيقة وصفوان، وما في أسم الإشارة معنى البُعد، للإيذان بعلو رتبة المشار إليهم، وبُعْدِ منزلتهم في الفضل، أي: أولئك الموصوفون بعلو الشأن: مبرؤون مما يقوله أهله الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة.
وقيل: {الخبيثات} من القول تقال: {للخبيثين} من الرجال والنساء، أي: لائقة بهم، لا ينبغي أن تقال إلا لهم. {والخبيثون} من الفريقين أَحِقَّاءُ بأن يُقَالَ في حقهم خبائث القول. {والطيبات} من الكلم {للطيبين} من الفريقين، مختصة بهم، وهم أحقاء بأن يقال في شأنهم طيبات الكلم. {أولئك} الطيبون {مبرؤون} مما يقول الخبيثون في حقهم.
فمآله تنزيه الصديقة أيضاً. وقيل: الخبيثات من القول لا تصدر إلا من الخبيثين، والطيبات من الكلمات لا تصدر إلا من الطيبين، وهم مبرؤون مما يقوله أهل الخبث، لا يقع ذلك منهم أَلْبَتَّةَ، {لهم مغفرة} لما لا يخلو عنه البشر من الذنب، {ورزق كريم}؛ هو نعيم الجنان.
دخل ابن عباس رضي الله عنه على عائشة- رضي الله عنها- في مرضها، وهي خائفة من القدوم على الله عز وجل، فقال: لا تخافي، فإنك لا تقدمين إلا على مغفرة ورزق كريم، وتلى الآية، فغشي عليها: فرحاً بما تلا. وقالت رضي الله عنها-: (قد أُعْطِيت تسعاً ما أُعْطِيَتْهُنَّ امرأة: نزل جبريل بصورتي في راحته، حين أمر- عليه الصلاة والسلام- أن يتزوجني، وتزوجني بكراً، وما تزوج بكراً غيري، وتوفي- عليه الصلاة والسلام- ورأسه في حِجْري، وقبره في بيتي، وينزل عليه الوحي وأنا في لحافه، وأنا ابنة خليفته وصديقه، ونزل عذري من السماء، وخُلقت طيبة عند طيب، ووُعدت مغفرةً ورزقاً كريماً).
الإشارة: الأخلاق الخبيثة؛ مثل الكبر، والعجب، والرياء، والسمعة، والحقد، والحسد، وحب الجاه والمال، للخبيثين، والخبيثون للخبيثات، فهم متصفون بها، وهي لازمة لهم، إلا أن يَصْحُبوا أهل الصفاء والتطهير، فيتطهرون بإذن الله، والأخلاق الطيبات؛ كالتواضع، والإخلاص، وسلامة الصدور، والزهد، والورع، والسخاء، والكرم، وغير ذلك من الأخلاق الطيبة، للطيبين، والرجال الطيبون للأخلاق الطيبات. أولئك مبرؤون مما يقول أهل الإنكار فيهم، لهم مغفرة؛ ستر لعيوبهم، ورزق كريم لأرواحهم؛ من قوت اليقين، وشهود رب العالمين. وبالله التوفيق.