فصل: تفسير الآيات (27- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (27- 29):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)}
يقول الحق جل جلاله: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم} أي: بيوتاً لستم تملكونها ولا تسكنونها، {حتى تستَأْنسوا}؛ تسأذنوا، وقرئ به، والاستئناس: الاستعلام، والاستكشاف، استفعال، من أنَس الشيء: أبصره، فإن المستأذن مستعلم للحال، مستكشف له، هل يؤذن له أم لا، ويحصل بذكر الله جهراً، كتسبيحة أو تكبيرة.
أو تَنَحْنُحٍ، {وتُسلِّموا على أهلها}، بأن يقول: السلام عليكم، أَأَدْخُلُ؟ ثلالث مرات، فإذا أُذن له، وإلا رجع، فإن تلاقيا، قدّم التسليم، وإلا، فالاستئذان. {ذلكم} أي: التسليم {خيرٌ لكم} من أن تدخلوا بغتة، أو من تحية الجاهلية.
كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتاً غير بيته يقول: حُييتم صباحاً، حييتم مساءاً، فربما أصاب الرجلَ مع امرأته في لحاف. رُوي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أَأَسْتأذنُ على أمي؟ قال: «نَعَم» قال: ليس لها خادم غيري، أأستأذن عليها كلما دَخَلْتُ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أتحُبُّ أن تراها عريانة...؟» {لعلكم تذكَّرون} أي: أمرتكم به، أو: قيل لكم هذا؛ لكي تتعظوا وتعملوا بموجبه.
{فإن لم تجدوا فيها}؛ في البيوت {أحداً} ممن يستحق الإذن، من الرجال البالغين وأما النساء والولدان فوجودهم وعدمهم سواء، {فلا تدخلوها}، على أن مدلول الآية هو النهي عن دخول البيوت الخالية؛ لما فيه من الاطلاع على ما يعتاد الناس إخفاءه، وأما حرمة دخول ما فيه النساء والولدان فمن باب الأولى؛ لما فيه الاطلاع على الحريم وعورات النساء. فإن لم يُؤذن لكم فلا تدخلوا، واصبروا {حتى يُؤْذَنَ لكم} من جهة من يملك الإذن، أو: فإن لم تجدوا فيها أحداً من أهلها، ولكم فيها حاجة فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها؛ لأن التصرف في ملك الغير لابد أن يكون برضاه.
{وإن قيل لكم ارجِعُوا} أي: إذا كان فيها قوم، وقالوا: ارجعوا {فارجعوا} ولا تُلحُّوا في طلب الإذن، ولا تقِفُوا بالأبواب، ولا تخرقوا الحجاب؛ لأن هذا مما يُوجب الكراهية والعداوة، وإذا نهى عن ذلك؛ لأدائه إلى الكراهية؛ وجب الانتهاء عن كل ما أدى إليها؛ من قرع الباب بعنف، والتصييح بصاحب الدار، وغير ذلك. وعن أبي عبيد: ما قرعت باباً على عالم قط. فالرجوع {وهو أزْكَى لكمْ} أي: أطيب لكم وأطهر؛ لِمَا فيه من سلامة الصدور والبُعد عن الريبة، والوقوفُ على الأبواب من دنس الدناءة والرذالة. {والله بما تعملون عليم}؛ فيعلم ما تأتون وما تذرون مما كلفتموه، فيجازيكم عليه. وهو وعيد للمخاطبين.
{ليس عليكم جُنَاحٌ} في {أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونةٍ} أي: غير موضوعة لسكنى طائفة مخصوصة، بل يتمتع بها مَنْ يُضطر إليها، من غير أن يتخذها مسكناً؛ كالرُّبَطِ، والخانات، والحمامات، وحوانيت التجار.
{فيها متاعٌ لكم} أي: منفعة؛ كاستكنانٍ من الحر والبرد، وإيواء الرجال والسلع، والشراء والبيع، والاغتسال، وغير ذلك، فلا بأس بدخولها بغير استئذان. روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، إن الله قد أنزل عليك آية في الاستئذان، وإنا لنختلِفُ في تجارتنا إلى هذه الخانات، فلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت. وقيل: هي الخرابات، يُتَبَرَّزُ فيها، ويقضون فيها حاجتهم من البول وغيره، والظاهر: أنها من جملة ما ينتظم في البيوت، لا أنها المرادة فقط. {والله يعلم ما تُبدون وما تكتمون}، وعيد لمن يدخل مدخلاً من هذه المداخل؛ لفسادٍ أو اطلاعٍ على عورات. والله تعالى أعلم.
الإشارة: التصوف كله آداب، حتى قال بعضهم: اجعل عملك مِلْحاً وأدبك دقيقاً.
فيتأدبون بالسُنَّة في حركاتهم وسكناتهم، ودخولهم وخروجهم، فهم أَولى بالأدب، فيستأذنون كما أمر الله عند دخول منزلهم؛ برفع صوتهم بذكر الله، أو بالتسبيح، أو بالسلام قبل الدخول. وكذا عند دخول منزل غيرهم، أو منزل بعضهم بعضاً. وأما مع الشيخ: فالأدب هو الصبر حتى يخرج، تأدباً بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} [الحجرات: 5]، فلا يقرعون بابه، ولا يطلبون خروجه إلا لضرورة فادحة.

.تفسير الآيات (30- 31):

{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)}
{قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلك أزكى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بنى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بنى أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِى الإربة مِنَ الرجال أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ...}.
يقول الحق جل جلاله: {قل للمؤمنين}، ويندرج فيهم المستأذنون بعد دخولهم البيوت اندراجاً أوَّلِيّاً، أي: قل لهم: {يغضُّوا مِنْ أبصارهم}، و{مِن}: للتبعيض، والمراد: غض البصر عما يحرم، والاقتصار على ما يحل. ووجه المرأة وكفاها ليس بعورة، إلا خوف الفتنة، فيحل للرجل الصالح أن يرى وجه الأجنبية بغير شهوة. وفي الموطأ: هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم، أو مع غلامها؟ قال مالك: لا بأس بذلك، على وجه ما يُعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال، وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن يؤاكله. اهـ. وقال ابن القطان: فيه إباحة إبداء المرأة وجهها ويديها للأجنبي، إذ لا يتصور الأكل إلا هكذا، وقد أبقاه الباجِي على ظاهره وقال عياض: ليس بواجب أت تستر المرأة وجهها وإنما ذلك استحباب أو سنَّة لها، وعلى الرجل غض بصره. ثم قال في الإكمال: ولا خلاف أن فرض ستر الوجه مما اختص به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.
{و} قل لهم أيضاً: {يحفظوا فُرُوجَهُم}، إلا على أزواجهم، أو ما ملكت إيمانهم، وتقييد الغض بمن التبعيضية، دون حفظ الفروج؛ لِما في النظر من السَّعَة، فيجوز النظر إلى وجه الأجنبية وكفيها وقدميها، وإلى رأس المحارم والصدور والساقين والعضدين. قاله النسفي. قلت: ومذهب مالك: حرمة نظر الساقين والعضدين من المحرَم، فإن تعذر التحرر مِنْهُ، كشغل البنات في الدار، باديات الأرجلِ، فليتمسك بقول الحنفي، إن لم يقدر على غض بصره. قاله شيخنا الجنوي.
{ذلك أَزْكَى لهم} أي: أطهر لهم من دَنَسِ الإثم أو الريبة، {إن الله خبير بما يصنعون}، وفيه ترغيب وترهيب، يعني: أنه خبير بأحوالهم وأفعالهم، فكيف يجيلون أبصارهم، وهو يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور؟! فعليهم، إذا عرفوا ذلك، أن يكونوا منه على حَذر.
{وقُلْ للمؤمنات يَغْضُضْنَ من أبصارهن}؛ بالتستر والتصون عن الزنا، فلا تنظر إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من عورات الرجال والنساء، وهي من الرجل: ما عدا الوجه والأطراف، ومن النساء: ما بين السرة والركبة، فلا يحل للمرأة أن تنظر إلى الرجل ما سوى الوجه والأطراف، أو بشهوة.
وقيل: إن حصل الأمن من الشهوة جاز، وعليه يحمل نظر عائشة إلى الحبشة.
{وَيَحْفَظْنَ فُروجَهُنَّ} من الزنا والمساحقة. وإنما قدّم غض البصر على حفظ الفروج؛ لأن النظر بريد الزنا، ورائد الفجور، فَبَذْرُ الهوى طُمُوحُ العَيْنِ. {ولا يُبدينَ زينتَهُن}؛ كالحُلي، والكحل، والخِصاب، والمراد بالزينة: مَوَاضِعُها، فلا يحل للمرأة أن تظهر مواضع الزينة، كانت مُتَحَلِّيَةً بها أم لا، وهي: الرأس، والأُذن، والعنق، والصدر، والعضدان، والذراع، والساق. والزينة هي: الإكليل، والقرط، والقلادة، والوِشاح، والدملج، والسوار والخلخال. {إلا ما ظهرَ منها}؛ إلا ما جرت العادة بإظهارها، وهو الوجه والكفان، إلا لخوف الفتنة، زاد أبو حنيفة: والقدمين، ففي ستر هذه حرج؛ فإن المرأة لا تجد بُدّاً من مزاولة الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها، خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات، وظهور قدميها، ولاسيما الفقيرات منهن. قاله النسفي.
{وليَضْرِبْنَ بخُمُرِهنَّ على جُيُوبهنَّ} أي: وَلْيَضَعْنَ خُمُرَهنَّ، جمع خمار، وهو ما يستر الرأس، {على جيوبهن}، وهو شَقُّ القميص من ناحية الصدر، وكانت النساء على عادة الجاهلية يَسْدِلْنَ خُمُرَهُنَّ مِنْ خَلْفِهِنَّ، فتبدو نحورُهن وقلائدهُن من جيوبهن، وكانت واسعةً، يبدو منها صدورهن وما حواليها، فأُمِرْنَ بإسدال خُمُرِهن على جيوبهن؛ ستراً لما يبدو منها. وقد ضمَّنَ الضَّرْبَ معنى الإلقاء والوضع، فَعُدِّيَ بعلى.
{ولا يُبدين زينتهنَّ} أي: مواضع الزينة الباطنة؛ كالصدر، والرأس، ونحوهما، كرره: ليستثني منه ما رخص فيه، وهو قوله: {إلا لِبُعُولَتِهِنَّ}؛ لأزواجهن، فإنهم المقصودون بالزينة. ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج، {أو آبائِهنَّ}، ويدخل فيهم الأجداد، {أو آباء بُعُولَتِهنَّ}؛ فقد صاروا محارم، {أو أبنائهن}، ويدخل فيهم الأحفاد، {أو أبناء بُعولتِهِنَّ}؛ لأنهم صاروا محارم أيضاً، {أو إِخوانهن} الشقائق، أو لأب، أو لأم، {أو بني إخوانهن أو بني أخَوَاتِهِنَّ} وإن سفلوا، ويدخل سائر المحارم، كالأعمام، والأخوال، وغيرهم؛ لكثرة المخالطة وقلة توقع الفتنة من قِبلَهِم، فإن تحققت؛ حيل بينهم، وعدم ذكر الأعمام والأخوال، لأن الأحوط أن يُسْتَرْنَ عنهم؛ حذراً من أن يَصِفُوهُنَّ لأبنائهم، {أو نسائهنّ}؛ يعني جميع المؤمنات؛ فكأنه قال: أو صنفهن؛ ويخرج من ذلك نساء الكفار؛ لئلا يَصفْنَهُنَّ إلى الرجال، {أو ما ملكت أيمانُهنّ}، يعني: الإماء المؤمنات أو الكتابيات، وأما العبيد ففيهم ثلاثة أقوال: منع رؤيتهم لسيدتهم، وهو قول الشافعي، والجواز، وهو قول ابن عباس وعائشة، والجواز بشرط أن يكون العبد وَغْداً، وهو قول مالك.
قال البيضاوي: رُوي أنه- عليه الصلاة والسلام- أتى فَاطِمَةَ بعبد، وَهَبَهُ لها، وعليها ثوب إذا قَنَّعَتْ به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطّت رجليها لم يبلغ رأسها، فقال- عليه الصلاة والسلام: «إنه ليس عليك بأسٌ، إنما هو أبوكِ وغلامُك»، فانظر من أخرجه.
واختلف: هل يجوز أن يراها عبد زوجها، وعبد الأجنبي، أم لا؟ على قولين.
{أو التابعين غير أُولِي الإرْبة من الرجالِ} أي: الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم، أو لخدمة، أو لشيء يُعْطَاهُ، كالوكيل والمتصرف. وقال بعضهم: هو الذي يتبعك وَهَمُّهُ بَطْنُهُ، ويشترط ألا تكون له إِربةٌ، أي: حاجة وشهوة إلى النساء؛ كالخَصِيِّ، والمُخَنَّثِ، والشيخ الهَرِم، والأحمق، فلا تجوز رؤيتهم إلا باجتماع الشرطين: أن يكونوا تابعين، ولا إربة لهم في النساء. {أو الطفل الذين لم يَظْهَرُوا على عَوْرَاتِ النساء}، أراد بالطفل: الجنس، ولذلك وصفه بالجمع، ويقال فيه: طفل ما لم يراهق الحلُمُ. و{يظهروا} معناه: يطلعون بالوطء على عورات النساء، مِنْ: ظهر على كذا: إذا قوي عليه، فمعناه: الذين لم يطيقوا وطء النساء، أو: لا يدرون ما عورات النساء؟.
{ولاَ يضْربنَ بأرجُلهنَّ ليُعْلَم ما يُخفين من زِينَتِهِنَّ}، كانت المرأة تضرب برجلها الأرض ليسمع قعقعة خلخالها، فيعلم أنها ذات خُلْخال، فنُهين عن ذلك؛ إذ سَمَاعُ صَوْتِ الزينة كإظهارها، فيورث ميل الرجال إليهن. ويوهم أن لهن ميلاً إليهم. قال الزجاج: سماع صوت الزينة أشد تحريكاً للشهوة من إبدائها. اهـ.
الإشارة: غض البصر عما تُكره رؤيته: من أسباب جمع القلب على الله وتربية الإيمان. وفي الحديث: «من غض بصره عن محارم الله، عوضه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه» وفي إرسال البصر: مِنْ تشتيت القلب، وتفريق الهم، ما لا يخفى، وفي ذلك يقول الشاعر:
وإِنَّكَ إِنْ أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِداً ** لِقَلْبِكَ يَوْماً أَتْعَبَتْكَ المُناظِرُ

تَرَى ما لاَ كٌلهُ أَنْتَ قَادِرٌ ** عَلَيْهِ وَلاَ عَنْ بَعْضِه أَنْتَ صَابِرُ

فالعباد والزهاد يغضون بصرهم عن بهجة الدنيا، والعارفون يغضون بصرهم عن رؤية السِّوَى، فلا يرون إلا تجليات المولى. قال الشبلي: {قٌل لِلمُؤمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} أي: أبصار الرؤوس عن المحارم، وأبصار القلوب عما سِوَى الله. اهـ.
وقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}، قال بعضهم: لا يجوز كل ما يستدعي فِتْنَةً للغير؛ من إظهار حال مع الله، مما هو زينة السريرة، فلا يظهر شيئاً من ذلك إلا لأهله، إلا إذا ظهر عليه شيئ من غير إظهار منه، ولا قصدَ غير صالح. اهـ. فلا يجوز إظهار العلوم التي يفتتن بها الناس؛ من حقائق أسرار التوحيد، ولا من الأحوال التي تُنكرها الشريعة، فَيُوقِعُ النَّاسَ في غيبته. وأما قَضِيَّةُ لِصَّ الحَمَّامِ؛ فحال غالبة لا يقتدى بها. والله تعالى أعلم.
ثم أمر بالتوبة؛ لأن النظر لا يسلم منه أحد في الغالب. فقال: {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
يقول الحق جل جلاله: {وتوبوا إلى الله جميعاً أَيُّه المؤمنون}؛ إذ لا يكاد يخلو أحدكم من تفريط، ولاسيما في الكف عن الشهوات، وقيل: توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية، فإنه، وإن جُبّ بالإسلام، لكن يجب الندم عليه، والعزم على الكف عنه، كلما يُتَذَكَّرُ، ويَخْطِرُ بالبال.
وفي تكرير الخطاب بقوله: {أية المؤمنون}: تأكيد للإيجاب، وإيذان بأن وصف الإيمان موجب للامتثال، حَتْماً. قيل: أحوج الناس إلى التوبة من توهم أنه ليس له حاجة إلى التوبة. وظاهر الآية: أن العصيان لا ينافي الإيمان، فبادروا بالتوبة {لعلكم تفلحون}؛ تفوزون بسعادة الدارين. وبالله التوفيق.
الإشارة: التوبة أساس الطريق، ومنها السير إلى عين التحقيق، فَمَنْ لاَ تَوْبَةَ لَهُ لا سَيْرَ لَهُ، كمن يبني على غير أساس. والتوبة يَحْتَاجُ إليها المبتدئ والمتوسط والمنتهي، فتوبة المبتدئ من المعاصي والذنوب، وتوبة السائر: من الغفلة ولوث العيوب، وتوبة المنتهي: من النظر إلى سوى علام الغيوب.
قال ابن جزي: التوبة واجبة على كل مكلف، بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
وفرائضها ثلاثة: الندم على الذنب؛ من حيث عُصِيَ به ذو الجلال، لا من حيث أضر ببدن أو مال. والإقلاع على الذنب في أول أوقات الإمكان، من غير تأخير ولا توان، والعزم ألا يعود إليها أبداً. ومهما قضى الله عليه بالعود، أضحْدَثَ عَزْماً مُجَدَّداً. وآدابها ثلاث: الاعتراف بالذنب، مقروناً بالانكسار، والإكثار من التضرع والاستغفار، والإكثار من الحسنات لمحو ما تقدم من الأوزار. ومراتبها سبع: فتوبة الكفار من الكفر، وتوبة المُخَلِّطِينَ من الذنوب الكبائر، وتوبة العدول من الصغائر، وتوبة العابدين من الفترات، وتوبة السالكين من عِلَلِ القلوب والآفات، وتوبة أهل الورع من الشبهات، وتوبة أهل المشاهدة من الغفلات. والبواعث على التوبة سبعة: خوف العقاب، ورجاء الثواب، والخجل من الحساب، ومحبة الحبيب، ومراقبة الرقيب، وتعظيم المقام، وشكر الإنعام. اهـ.