فصل: تفسير الآية رقم (35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (35):

{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)}
يقول الحق جل جلاله: {الله نورُ السموات والأرض} أي: منور أهلهما بنور الإسلام والإيمان؛ لأهل الإيمان، وبنور الإحسان؛ لأهل الإحسان، فحقيقة النور: هو الذي تنكشف به الأشياء على ما هي عليه، حسية أو معنوية، والمراد هنا: المعنوية؛ بدليل قوله: {يهدي الله لنُوره من يشاء}، فإن انكشف به أحكام العبودية، باعتبار المعاملة الظاهرة، يُسمّى: نُورُ الإسلام، وإن انكشف به أوصاف الذات العلية وكمالاتها، من طريق البرهان، يُسمى: نُور الإيمان، وإن انكشف به حقيقة الذات وأسرارها، من طريق العيان، يُسمى: نور الإحسان. فالأول: يشبه نور النجوم، والثاني: نور القمر، والثالث نور الشمس، ولذلك تقول الصوفية: نجوم الإسلام، وقمر الإيمان، وشمس العرفان.
ثم ضرب المثل لذلك النور، حين يقذفه في قلب المؤمن، فقال: {مَثَلُ نُورِهِ} أي: صفة نوره العجيبة في قلب المؤمن- كما هي قراءة ابن مسعود- {كمشكاةٍ} أي: كَصِفَةِ مِشْكَاةٍ، وهي الكُوَّةُ في الجدار غير النافذة؛ لأن المصباح فيها يكون نوره مجموعاً، فيكون أزهر وأنور، {فيها مصباح} أي: سراج ضخم ثاقب، {المصباحُ في زجاجة} أي: في قنديل من زجاج صافٍ أزهر، {الزجاجةُ} من شدة صفائها {كأنها كوكب دُرِّيِّ}؛ بضم الدال وتشديد الراء، منسوب إلى الدر؛ لفرط ضيائه وصفائه، وبالكسر والهمز: أبو عمرو؛ على أنه يدْرأ الظلام بضوئه. وبالضم والهمز: أبو بكر وحمزة، شبهه بأحد الكواكب الدراري، كالمشتري والزهرة ونحوهما. {تَوَقَدُ} بالتخفيف والتأنيث، أي: الزجاجة، أو {يُوقَدُ} بالتخفيف والغيب، أو: {تَوَقَّدَ} بالتشديد، أي: المصباح {من شجرةٍ} أي من زيت شجرة الزيتون، أي: رويت فتيلته من زيت {شجرةٍ مباركةٍ}؛ كثيرة المنافع، أو: لأنها تنبت في الأرض التي بارك فيها للعالمين، وهي الشام، وقيل: بارك فيها سبعون نبياً، منهم إبراهيم عليه السلام.
{زيتونةٍ}: بدلٌ من {شجرة}، من نعتها {لا شرقيةٍ ولا غريبةٍ} أي: ليست شرقية فقط، لا تُصيبها الشمس إلا في حالة الشروق، ولا غربية، لا تصيبها إلا في حال الغروب، بل هي شرقية غربية، تصيبها الشمس بالغداة والعشي، فهو أَنْضَرُ لها، وأوجود لزيتونها. وقيل: ليست من المشرق ولا من المغرب، بل في الوسط منه، وهو الشام، وأجودُ الزيتونِ زيتون الشام.
{يكادُ زيتُها يٌضيءُ ولو لم تمسسه نارٌ}؛ هو في الصفاء والإنارة بحيث يكاد يضيء بنفسه من غير مسَاسٍ نَارٍ أصلاً. {نورٌ على نورٍ} أي: نور المصباح متضاعف على نور الزيت الصافي، فهذا مثال النور الذي يقذفه الله في قلب المؤمن؛ فالمشكاة هو الصدر، والمصباح نور الإيمان أو الإسلام أو الإحسان، على ما تقدم، والزجاجة هو القلب الصافي، ولذلك شبهه بالكوكب الدُرّيّ، والزيت هو العِلْمُ النافع الذي يقوي اليقين. ولذلك وصفه بالصفاء والإنارة.
يكاد صاحبه تشرق عليه أنوار الحقائق، ولو لم يمسسه علمها. {نورٌ على نورٍ} أي نور الإيمان مُضَافٌ إلى نور الإسلام، أو نور الإحسان مضاف إلى نور الإيمان والإسلام.
{يهدي الله لنوره} أي: لهذا لنور الباهر {من يشاء} من عباده؛ إما بإلهام أو بواسطة تعليم. وفيه إيذان بأن مناط هذه الهداية إنما هي بمشيئته تعالى، وأن الأسباب لا تأثير لها. {ويضرب الله الأمثالَ للناس}؛ تقريباً للفهم، لأنه إبراز للمعقول في هيئة المحسوس {والله بكل شيءٍعليمٌ}، معقولاً كان أو محسوساً، فيبين الأشياء بما يمكن أن تُعْلَم به. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أعلم أن الكون كله من عرشه إلى فرشه قطْعةٌ من نور الحق، وسر من أسرار ذاته، مُلْكٌ، وباطنه ملكوت فائض من بحر الجبروت، فالكائنات كلها: الله نُورُها وسرُّها، وهو القائم بها. ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء من العارفين بالله، وحسبُ من لم يبلغ مقامهم التسليم لما رمزوا إليه، وتحققوه ذوقاً وكشفاً.
ثم ضرب الحقُّ تعالى مثلاً لنوره الفائض من بحر جبروته، فقال: {مثل نوره} الظاهر، الذي تجلى به في عالم الشهادة، {كمشكاة فيها مصباح} أي: كطاقة انفتحت من بحر اللّطَافَةِ الكَنْزِيَّةِ، خرج منها نور كثيف كالمصباح، فالكون كله مِصْبَاحُ نورٍ، انفجر من نور النور، ومن ذلك المصباح تفرعت الكائنات، فهي كلها نور فائض من بحر نوره اللطيف، ثم جعل الحق تعالى يصف ذلك المصباح في توقده وتوهجه بقوله: {المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دُري...} إلخ. فالآية كلها من تتمه التمثيل.
وقوله تعالى: {ولو لم تمسسه نار} قيل: الإشارة فيه إلى استغناء العبد في تلك الحالة عن الاستمداد إلا من رب العزة، فيستغني عن الوسائط. وقوله تعالى: {نورٌ على نور} أي: نور ملكوته على نور جبروته، {يهدي الله لنوره} أي: لشهود نوره، أو لمعرفة نوره، {من يشاء} من خواص أحبابه، كأنبيائه وأوليائه، فمن لم يشهد هذا النور، ولم يعرفه، لا خصوصية له؛ يتميز بها عن العوام، فهو من عامة أهل اليمين، ولو كثر علمه وعمله؛ إذ لا عبرة بالعلم والعمل مع الحِجَاب. وفي الحكَم: (الكائن في الكون، ولم تفتح له ميادين الغيوب، مسجون بمحيطاته، محصور في هيكل ذاته)، والمحجوب برؤية الأكوان من جملة العوام عند أهل العيان، ينسحب عليه معنى المثال الآتي في ضد هذا بقوله: {أو كظلمات...} إلخ.
وفي الحِكَم: (الكون كله ظلمة، وإنما أناره ظهورُ الحَقِّ فيه، فمن رأى الكون ولم يشهده فيه، أو عنده، أو قبله أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس المعارف بسُحب الآثار). فالكون عند أهل العيان كله نور، وعند أهل الحجاب كله ظلمة، وهو محيط بهم، فالظلمة محيطة بهم، وقد ألف الغزالي في هذه الآية كتابه: (مشكاة الأنوار)، وكلامه فيه يدور على أن معنى اسمه تعالى النور: يرجع إلى ما ثبتت به الأشياء وظهرت من العدم، ولذلك قال قائلهم:
فَالنُّورُ يُظْهِرُ مَا تَرَى مِنْ صُورَةٍ ** وبه ظهور الكَائِنَاتِ بِلاَ امْتِرَاءِ

وفي لطائف المنن: الله نور السموات والأرض؛ نور سموات الأرواح بمشاهدته، ونور أرض النفوس بمطالعته وخدمته، وجعل قلوب أوليائه مَجْلاَةً لذاته ولظهور صفاته، أظهرهم ليظهر فيهم خصوصاً، وهو الظاهر في كل شيء عموماً، ظهر فيهم بأنواره وأسراره، كما ظهر فيهم، وفيما عداهم بقدرته واقتداره. اهـ.

.تفسير الآيات (36- 38):

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)}
قلت: {في بيوت}: يتعلق بمشكاة، أي: كائنة في بيوت، أو توقد، أو بيسبح، أي: يسبح له رجال في بيوت، وفيه تكرير؛ لزيادة التأكيد، نحو: زيد في الدار جالس فيها، أو بمحذوف، أي: سبّحوا في بيوت. و{أَذِنَ}: نَعْتٌ له.
يقول الحق جل جلاله: وذلك النور الذي في المشكاة يكون {في بيوتٍ أَذن الله أن ترفع}، وهي المساجد والزوايا المُعدَّة لذكر الله والصلاة وتلاوة القرآن. ورفعها: تعظيمها. أي: التي أمر الله بتعظيمها؛ كتطهيرها من الخبث، وتنقيتها من القذى، وتعليق القناديل ونصب الشموع، ويزاد التعظيم في شهر رمضان. ومن تعظيمها: غلقها في غير أوقات الصلاة، وقيل المراد برفعها: بناؤها، كقوله تعالى: {بناها رَفَعَ... سَمْكَهَاَ} [النازعات: 27و28] {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت} [البقرة: 127]، والأول أصح.
{و} أَذِنَ أيضاً أن {يُذْكَرَ فيها اسمُه}، وهو عام في جميع الذِّكْر، مفرداً أو جماعة، ويدخل فيه تلاوة القرآن. {يُسَبِّحُ له فيها بالغُدوّ والآصال} أي: يصلي له فيها بالغداة: صلاة الفجر، والآصال: صلاة الظهر والعصر والعِشَاءين. وإنما وَحَّد الغدو؛ لأن صلاته صلاة واحدة، وفي الآصال صلوات، وهو جمع أصيل، وفاعل {يُسَبِّحُ}: رجال.
ومن قرأ بفتح الباء، فأسنده إلى أحد الظروف الثلاثة، أعني: {له فيها بالغدو}. و{رجال}: مرفوع بمحذوف، دل عليه {يُسبح} أي: يسبحه {رجالٌ لا تُلهيهم}: لا تشغلهم {تجارةٌ} في السفر، {ولا بيعٌ} في الحضر، {عن ذكر الله} باللسان والقلب، وقيل: التجارة: الشراء، أي: لا يشغلهم شراء ولا بيع عن ذكر الله، والجملة صفة لرجال، مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة، مفيدة لكمال تَبَتُّلِهِمْ إلى الله تعالى، واستغراقهم فيما حكى عنهم من التسبيح من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم.
وتخصيصُ التِّجَارَةِ بالذكر؛ لكونها أقوى الصوارف عندهم وأشهرها، أي: لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة، ولا فرد من أفراد البياعات، وإن كان في غاية الربح.
وإفراده بالذكر، مع اندراجه تحت التجارة؛ لأنه ألهى؛ لأن ربحه متيقن ناجز في الغالب، وما عداه متوقع في ثاني الحال.
{و} لا يشغلهم ذلك أيضاً عن {إِقامِ الصلاةِ} أي: إقامتها لمواقيتها من غير تأخير، وأصله: وإقامة، فأسقطت التاء المعوضة عن العين الساقطة بالإعلال، وعوض عنها الإضافة، فأقيمت الإضافة مقام التاء، {وإِيتاء الزكاة} أي: وعن إيتاء الزكاة، وذكرها، وإن لم يكن مما تفعل في البيوت، لكونها قرينتها لا تفارق إقامة الصلاة في عامة المواضع، مع ما فيه من التنبيه على أن مَحَاسِنَ أعمالهم غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فيما يقع في المساجد. والمعنى: لا تجارة لهم حتى تلهيهم، أو يبيعون ويشترون ويذكرون الله مع ذلك، لا يشغلهم عن ذكر الله شيء، وإذا حضرت الصلاة قاموا إليها مسرعين.
{يخافون يوماً} أي: يوم القيامة {تتقلَّبُ فيه القلوبُ} أي: تضطرب وتتغير من الهول والفزع، وتبلغ إلى الحناجر، {و} تتقلب {الأبصارُ} بالشخوص أو الزرقة. أو تتقلب القلوب إلى الإيمان بعد الكفران، والأبصار إلى العيان بعد النكران، كقوله: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} [ق: 22].
يفعلون ذلك الاستغراق في التسبيح والذكر، مع الخوف؛ {ليجزيهم الله أحسنَ ما عَمِلُوا} أي: أحسن جزاء أعمالهم، حسبما وعدهم بمقابلة حسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، {ويزيدَهُم من فَضْلِه} أي: يتفضل عليهم بأشياء وعدهم بها، لم تخطر على بال؛ كالنظر إلى وجهه، وزيادة كشف ذاته، فهو كقوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. {والله يرزق من يشاء بغير حساب} أي: يثيب من يشاء ثواباً لا يدخل تحت حساب الخلق، و{مَنْ}: واقعة على من ذُكِرَتْ أوصافهم الجميلة، كأنه قيل: والله يرزقهم بغير حساب، ووضعه موضع ضميرهم؛ للتنبيه على أن مناط الرزق المذكور مَحْضُ مشيئتِه تعالى، لا أعمالهم المحكية، ويحتمل أن يريد بالرزق ما يرزقهم في الدنيا مما يقوم بأمرهم، حين تَبتَّلُوا إلى العبادة، يرزقهم الله من حيث لا يحتسبون، من غير حَصْرٍ ولا عد. والله تعالى أعلم.
الإشارة: البيوت التي أَذِنَ الله أن تُرفع هي القلوب، التي هي معدن الأسرار ومحل مصابيح الأنوار، ورفعها: صونها من الأغيار، وتطهيرها من لوث الأكدار، وبُعدها من جيفة الدنيا، التي هي مجمع الخبائث والأشرار، ليُذكَرَ فيها اسم الله، كثيراً، على نعت الحضور والاستهتار، وإنما يمكن ذلك من أهل التجريد والانقطاع إلى الله، الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب عن حضرة الله، والأبصار عن شهود الله، وذلك بشؤم الغفلة في الدنيا عن الله، والقيام بحقوق الله، ليجزيهم الله أحسن ما عملوا، في جنة الزخارف، ويزيدهم من فضله التَّنَزُّهَ في جنة المعارف. والله يرزق من العلوم والمعارف من يشاء بغير حساب.

.تفسير الآيات (39- 40):

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)}
قلت: {كسراب}: خبر الثاني، وهو: ما يُرى في الفلوات من لمعان الشمس وقت الظهيرة، يسرب على وجه الأرض، فَيُظَنُّ أنه ماء يجري. و{بقيعة}: متعلق بمحذوف، صفة لسراب، أي: كائن بأرض قيعة، أي: منبسطة، و{سحاب ظلمات}: مَنْ جَرَّها: فبالإضافة، ومن رفعها: فخبر، أي: هي ظلمات.
يقول الحق جل جلاله: في بيان أعمال الكفرة وظلمة قلوبهم، بعد بيان حَالِ المؤمنين وأنوار قلوبهم: {والذين كفروا أعمالُهم} التي هي من أبواب البر، كصلة الرحم، وفك العُنَاةِ، وسقاية الحاج، وعمارة البيت، وإغاثة الملهوف، وَقِرَى الأضياف، ونحوها، مما لَوْ قارنه الإيمان لاستوجب الثواب، مثاله: {كسراب}؛ كفضاء {بقيعَةٍ}؛ بأرض منبسطة، {يَحْسَبُهُ الظمآنُ ماءً حتى إذا جاءه لم يجِدْه شيئاً} أي: لم يجده كما ظنه ورجاه، بل خاب مطمعه ومسعاه، {ووجدَ الله عنده} أي: وجد جزاء الله، أو حُكمه، عند عمله، أو عند جزائه، {فوفَّاه حسابَه} أي: أعطاه جزاءه كله وافياً، وإنما وحّد، بعد تقديم الجمع، حملاً على كل واحد من الكفار.
{والله سريعُ الحساب}؛ يحاسب العباد في ساعة؛ لأنه لا يحتاج إلى عد وعقد، ولا يشغله حساب عن حساب، أو قَرِيبٌ حسابُه؛ لأنَّ كل آتٍ قريبٌ. شبه ما يعمله الكفرة من البر، الذي يعتقد أنه ينفعه يوم القيامة وينجيه من عذاب الله، ثم يخيب في العاقبة أَملُهُ، ويلقى خلاف ما قدّر، بسراب يراه الكافر بالساهرة، وقد غلبه عطش يوم القيامة، فيحسبه ماء، فيأتيه، فلا يجد ما رجاه، ويجد زبانية الله، فيأخذونه إلى جهنم، فيسقونه الحميم والغساق. قيل: هم الذين قال الله فيهم: {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} [الغاشية: 3]، {ويَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104]. قيل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، كان ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، والتمس الدين، فلما جاء الإسلام كفر. اهـ.
ثم ضرب مثلاً لأعمالهم في الدنيا، فقال: {أوْ كظلماتٍ}، {أو}: للتنويع، {في بحرٍ لجيِّ}؛ عميق كثير الماء، منسوب إلى اللج، وهو معظم ماء البحر، {يغشاه} أي: يغشى البحر، أو مَن فيه، أي: يعلوه ويغطيه بالكلية، {موجٌ} هو ما ارتفع من الماء، {من فوقه موجٌ} أي: من فوق الموج موج آخر، {من فوقه سَحَابٌ}؛ من فوق الموج الأعلى سحاب، {ظلماتٌ} أي: هذه ظلمات؛ ظلمة السحاب، وظلمة الأمواج وظلمة البحر، {بعضُها فوق بعض}؛ ظلمة الموج على ظلمة البحر، وظلمة الموج على ظلمة الموج الأسفل، وظلمة السحاب على الموج، وهذا أعظمُ للخوف وأقربُ للعطب، لأنه يغطي النجوم التي يهتدي بها ويشتد معه الريح والمطر، وذلك يؤكد التلف، {إذا أخرج يده} أي: الواقع فيه، أو مَن ابْتُلِيَ بها، {لم يكد يراها}؛ مبالغة في {لم يرها}، أي: لم يقرب أن يراها، فضلاً عن أن يراها.
شبّه أعمالهم، في ظلمتها وسوادها؛ لكونها باطلة، وخلوها عن نور الحق، بظلماتٍ متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب.
قال ابن جُزَيّ: لما ذكر حال المؤمنين عَقَّبَ ذلك بمثالين لأعمال الكفار؛ الأول: يقتضي حال أعمالهم في الآخرة، وأنها لا تنفعهم، بل يضمحل ثوابها كما يضمحل السراب. والثاني: يقتضي حال أعمالهم في الدنيا، وأنها في غاية الفساد والضلال، كالظلمة التي بعضها فوق بعض. ثم قال: وفي وصف هذه الظلمات مبالغة، كما أن في وصف النور المذكور قبلها مبالغة. اهـ. وقوله: لما ذكر حال المؤمنين، يعني بقوله: {رجال لا تلهيهم..} إلخ، الله بقوله: {يهدي الله لنوره من يشاء}، وقيل: كلا المثالين في الآخرة، يخيبون من نفعها، ويخوضون في بحر ظلمتها.
{ومن يجعل الله له نوراً} في قلبه، من نور توحيده ومعرفته، {فما له من نورٍ} أي: من لم يشأ الله أن يهديه لنوره: لم يهتد، وفي الحديث: «خلق الله الخلق في ظلمة، ثم رش عليها من نوره، فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل»، وينبغي للقارئ عند هذه الآية أن يقول: (اللهمَّ اجعلْ في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، واجعلني نوراً، وأعظم لي نوراً)، كما في الحديث في غير هذا المحل.
الإشارة: كل من لم يتحقق بمقام الإخلاص كانت أعماله كسرابٍ بقيعة، يحسبه الظمآنُ ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده، فوفاه حسابه، أي: يناقشه فيما أراد بعمله، وأهل التوحيد الخاص: الوجود كله، عندهم، كالسراب، يحسبه الناظر إليه شيئاً، حتى إذا جاءه بفكرته لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده وحده، وفيه يقول الشاعر:
مَنْ أبْصَرَ الخَلْقَ كالسَّرابِ ** فَقَدْ تَرَقَّى عَن الحِجَابِ

إِلَى وجُودٍ تَرَاهُ رَتْقَاً ** بِلاَ ابتعَادٍ ولا اقْتِرَابِ

ولم تُشاهد به سواه ** هناك يُهْدَى إلى الصَّوَابِ

فلا خِطَاب بِهِ إِلَيْهِ ** ولا مُشير إلى الخِطَابِ

ومثال من عكف على دنياه، واتخذ إلهه هواه، كذي ظلمات في بحر لجي، وهو بحر الهوى، يغشاه موج الجهل والمخالفات، من فوقه موج الحظوظ والشهوات، من فوقه سحاب أثر الكائنات، أو: يغشاه موج الغفلات، من فوقه موج العادات، من فوقه سحاب الكائنات، ظلمات بعضها فوق بعض؛ من حب الدنيا، وحب الجاه، وحب الرئاسة، إذا أخرج يد فكرته لم يكد يراها.
وقال بعضهم: الدنيا كلها بحر لُجَي، والناس مغروقون فيه، إلا مَنْ عَصَمَ الله، وساحله الموت، فمن لعبت به أمواج الهوى والحظوظ، فليأوي إلى سفينة الزهد والورع، وليتمسك برئيس عارف بأهوال البحر، وهم العارفون بالله، فإنه ينجو من أهوالها، ومن أخطأ هذا غرق في تيارها، ولعبت به أمواج حظوظها وشهواتها، فكان من الهالكين، نسأل الله الحفظ بمنِّه وكرمه.