فصل: تفسير الآيات (41- 42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (41- 42):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)}
يقول الحق جل جلاله: {ألم تَرَ} يا محمد، وخصَّه بالخطاب؛ إيذاناً بأنه صلى الله عليه وسلم قد أفاض عليه أعلى مَرَاتِبَ النور وأجلاها، وبيَّن له من أسرار الملكوت أجلهَا وأخفاها، أي: ألم تنظر بعين بصيرتك، فتعلم علم اليقين، {أن الله يُسبِّح له} أي: ينزهه على الدَّوَامِ {من في السموات والأرض}؛ من العقلاء وغيرهم، تنزيهاً معنوياً، فإن كلا من الموجودات يدل على وجود صانع واجب الوجود، متصف بصفات الكمال، مقدس عن كل ما لا يليق بعلو شأنه. أو تنزيهاً حسياً بلسان المقال، ولكن لا تفقهون تسبيحهم. وتخصيص التنزيه بالذكر، مع دلالة ما فيهما على اتصافه تعالى بنعوت الكمال أيضأً؛ لأن مساق الكلام تَقْبيحُ حَالِ الكفرة في إخلالهم بالتنزيه؛ بجعلهم الجمادات شركاء له ودعوى اتخاذه الولد.
{و} يسبحه {الطيرُ} حال كونها {صافَّاتٍ} أي: يصففن أجنحتهن في الهواء، وتخصيصها بالذكر، مع اندراجها في جملة ما في الأرض؛ لعدم استمرار قرارها فيها، ولاختصاصها بصنع بارع، وهو اصطفاف أجنحتها في الجو، وتمكينها من الحركة كيف تشاء، وإرشادها إلى كيفية استعمالها بالقبض والبسط، ففي ذلك دلالة واضحة على كمال قدرة الصانع المجيد، وغاية حكمة المبدئ المعيد.
{كُلٌّ قد عَلِمَ صلاتَه وتسبيحه} أي: كل واحد من الأشياء المذكورة قد عَلِمَ الله تعالى صَلاتَهُ، أي: دعاءه وخضوعه وتسبيحه. أو: كلٌّ قد علم في نفسه ما يصدر عنه من صَلاَةٍ وتسبيح، فالضمير: ما إليه أو لكلٌ. ولا يبعد أن يلهم الله الطيرَ دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها. {والله عليم بما يفعلون}؛ لا يعزب عن علمه شيء.
{ولله ملكُ السموات والأرض} لا لغيره؛ لأنه الخالق لهما، ولما فيهما من الذوات، وهو المتصرف فيهما فيهما إيجاداً وَإعْداماً، {وإلى الله المصير} أي: إليه، خَاصَّةً، رجوع الكل بالفناء والبعث لا إلى غيره، وإظهار اسم الجلالة في موضع الإضمار، لتربية المهابة، والإشعار بِعِلِّيّةِ الحُكم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما استقر في السموات السبع والأرضين السبع كله من قَبْضَةِ النُّور الأوَّلِيَّةِ بين حس ومعنى، حسه خاضع لأحكام الربوبية، ومعناه قاهر بسطوات الألوهية، حسه حِكْمةٌ، ومعناه قدرة، حسه مُلْكٌ، ومعناه ملكوت، وهذا معنى قوله: {الله نورُ السموات والأرض}، فافهم.

.تفسير الآيات (43- 44):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)}
يقول الحق جل جلاله: {ألم ترَ أن الله يُزْجِي} أي: يسوق، برفق وسهولة، {سَحَاباً}: جمع سحابة، {ثم يُؤلِّف بينه} أي: يضم بعضه إلى بعض، {ثم يجعله رُكاماً}؛ متراكماً بعضه فوق بعض، {فَتَرى الوَدْقَ}: المطر، {يخرجُ من خِلالِه}؛ من فُتُوقِهِ ووسطه، جمع خَلل، كجبال وجبل، وقيل: مفرد، كحجاب وحجاز.
قال القشيري: ترتفع بقدرته بُخَارَاتُ البحر، فيتصعد، بتسييره وتقديره، إلى الهواء، وهو السحاب، ثم يديره إلى سَمْتِ يريد أن ينزل به المطر، ثم ينزل ما في السحاب من ماء البحر، قطرة قطرة، ويكون الماء، حين حصوله في بخارات البحر، غير عذب، فيقلبه عذباً، ويَسُحُّهُ السحابُ سَكْباً، فيوصل إلى كلِّ موضع قَدْراً يكون له مُراداً معلوماً، لا بالجهدِ مِنَ المخلوقين يُمْسَكُ عن المواضع الذي عليه ينزله، ولا بالحيلة يُسْتَنْزلُ على المكانِ الذي لا يُمْطِره. اهـ. قلت: وهذا أحد الأقوال في الحقيقة المطر، والمشهور عند أهل السنة: أن الله تعالى يُنْشِئُ السحاب بقدرته، ويخلق فيه الماء بحكمته، وينزله حيث شاء.
ثم قال تعالى: {ويُنزِّل من السماء من جبالٍ فيها من بَرَدٍ}، {مِنْ} الأولى: لابتداء الغاية، والثانية: بدل من الأولى، والثالثة: لبيان الجنس، أي: يُنَزِّل البَرَد، وهو الثلج المكور، من السماء، أي: الغمام العلوي، فكل ما علاك سماء، من جبال فيها كائنة من البَرَد، ولا غرابة في أن الله يخلق في السماء جِبَالَ بَرَدٍ كما خلق في الأرض جبال حجر.
قال ابن جزي: قيل: إن الجبال هنا حقيقة، وإن الله جعل في السماء جبالاً من بَرَد، وقيل: إنه مجاز، كقولك: عند فلان جبال من مال أو عِلم، أي: هن في الكثرة مثل الجبال. اهـ. وأصله لابن عطيه. وقال الشيخ أبو زيد الثعالبي: حَمْلُ اللفظ على حقيقته أولى، إن لم يمنع من ذلك مانع. اهـ. يعني: ولا مانع هنا، فيحمل على ظاهره، وإن الله خلق جبال بَرد في السماء. وقال الهروي عن ابن عرفة- يعنى اللغوي-: سمعت أحمد بن يحيى يقول: فيه قولان: أحدهما: وينزل من السماء بَرَدَاً من جباللافي السماء من برد والآخر: وينزل من السماء أمثال الجبال من البَرَد. ويقال: إنما سمي برَدَاً؛ لأنه يَبْرُدُ وجه الأرض أي: يُقشره. اهـ.
قال البيضاوي: إن الأبخرة إذا تصاعدت ولم يتخللها حرارة، فبلغت الطبقة الباردة من الهواء، وقوي البرد هناك، اجتمع وصار سحاباً، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطراً، وإن اشتد، فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها، نزل ثلجاً، وإلاّ نزل بَرَداً، وقد يبرد الهواء برداً مفرطاً فينقبض، وينعقد سحاباً، وينزل منه المطر أو الثلج. وكل ذلك لابد وأن يُسْنَدَ إلى إرادة الواجب الحكيم؛ لقيام الدليل على أنها الموجبة لاختصاص الحوادث بمحالِّها وأوقاتها، وإليه أشار بقوله: {فيُصيبُ به من يشاء ويصْرِفُهُ عمن يشاء} والضمير للبرَد. اهـ.
أي: فيصيب بذلك البَرَد من يشاء أن يصيبه به، فيناله ما ناله من ضرره في بدنه وماله؛ من زرع أو غيره. {ويَصْرِفُه عمن يشاء} أن يصرفه عنه، فينجو من غائلته.
{يكاد سَنَا بَرْقِهِ} أي: ضوء برق السحاب، الموصوف بما مر من الإزجاء والتآلف.
وإضافة البرق إليه، قبل الإخبار بوجوده، فيه إيذان بظهور أمره واستغنائه عن التصريح به. وقيل: الضمير للسماء، وهو أقرب، أي: يكاد ضوء برق السماء، ويحتمل أن يعود على {الله} تعالى؛ لتقدم ذكره، أي: يكاد ضوء برقه تعالى {يذهب بالأبصار}، أي: يخطفها من فرط الإضاءة، وسرعة ورودها، ولو عند إغماضها. {يُقلِّبُ الله الليلَ والنهارَ} أي: يصرفهما بالتعاقب، فيأتي هذا بعد هذا، أو بنقصِ أحدهما وزيادة الآخر، أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد وغيرهما.
{إن في ذلك}، الإشارة إلى ما فصل آنفاً، أي: إن في إزجاء السحاب، وإنزال الودق، وتقليب الليل والنهار، {لعبرةً}؛ لَدَلاَلَةً واضحة على وجود الصانع القديم، القائم بالأشياء، والمدبر لها بقدرته وحكمته، {لأُولي الأبصار}؛ لذوي العقول الصافية. وهذا من تعدد الدلائل على ظهور نوره تعالى في الكائنات، حيث ذكر تسبيح مَنْ في السموات والأرض ما يطير بينهما وخضوعهم له، وتسخير السحاب وإنزال الأمطار، وتقليب الليل والنهار، إلى غير ذلك من لوامح الأنوار. والله تعالى أعلم وأحكم.
الإشارة: ألم تر أن الله يُزجي سحابَ الواردات الإلهية، تحمل العلوم اللدنية، ثم يُؤلف بينه حتى يكون قوياً، يُقتطع به صاحبه عن حسه، ويغيبه عن أمسه ورسمه، فترى أمطار العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، والفتوحات العرفانية، تخرج من خلاله، أي: من قلب العارف، وهي نتائج الواردات وثمراتها. وفي الحِكَم: (لا تزكين وارداً لم تعلم ثمرته، فليس المراد من السحابة الأمطار، وإنما المراد منها وجود الأثمار).
وينزل من سماء الأرواح من جبالِ عقولٍ، فيها علم الرسوم الظاهرة، فيصيب به من يشاء، ممن أريد لحمل الشرائع والقيام بها، ويصرفه عمن يشاء، ممن أريد أن يكون من عامة الناس، أو من خاصتهم. إن هبت عليه رياح الحقائق، فأمطرت على قلبه العلوم الغيبية فأغنته عن العلوم الرسمية، يكاد سنا برقه الساطع لقلوب أوليائه، وهو سطوع أنوار الملكوت وأسرار الجبروت، فإنها تكون أولاً كالبرق، تلمع وتخفي، ثم يتصل ورودها وشروقها، فتكون متصلة البروق دائمة الشروق، نهار بلا ليل، واتصال بلا انفصال، ووصال بلا انقطاع. وفي ذلك يقول القائل:
طلعت شمسُ مَنْ أُحِبُّ بِلَيْلٍ ** وَاسْتَنَارَتْ فَمَا تَلاَهَا غُرُوبُ

إنَّ شَمْسَ النهار تَغْربُ بالليل ** وشَمْسَ القُلُوبِ ليْس لَهَا مَغِيبُ

يقلب الله ليل القبض على نهار البسط، ونهار البسط على ليل القبض، حتى يتصل النهار بالخروج عنهما، ليكون لله، لاشيء دونه. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (45):

{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)}
يقول الحق جل جلاله: {والله خلقَ كلَّ دابةٍ} أي: خلق كل حيوان يدب على وجه الأرض {من ماء}؛ من نوع من الماء مختص بتلك الدابة، وهو جزء مادته عند الأطباء، أو: من ماء مخصوص، وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات من تلك النطفة، فمنها أناسي، ومنها بهائم، ومنها هوام وسباع، وهو كقوله: {يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ} [الرعد: 4] وهذا دليل على أن لها خالقاً مدبراً، وإلاَّ لم تختلف لاتفاق الأصل، وإنما عَرَّفَ الماء في قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شيء حَيٍّ} [الأنبياء: 30] ونكّرره هنا؛ لأن المقصود ثمَّة أن أجناس الحيوان مخلوقة من جنس الماء، وأنه هو الأصل، وإن تخللت بينه وبينها وسائط، وأما هنا فالمراد نوع منه.
قالوا: إن أول ما خلق الله الماء، فخلق منه النار والريح والطين، فخلق من النار الجن، ومن الريح الملائكة، ومن الطين آدم ودواب الأرض. قاله النسفي. وعلى الثاني: تكون الآية أغلبية؛ لأن مِن الحيواناتِ من يتولد من غير نطفة، كالدود والبَعُوضِ وغيرهما.
ثم فصّل أحوالهم بقوله: {فمنهم من يمشي على بطنه}؛ كالحية والحوت، وتسمية حركتها مشياً، مع كونها زحفاً، استعارة، كما يقال في الشيء المستمر: قد مشى هذا الأمر على هذا النمط، او على طريق المشاكلة؛ لذكر الزاحف مع الماشين. {ومنهم من يمشي على رِجْلين} كالإنسان والطير، {ومنهم من يمشي على أربع} كالبهائم والوحش. وعدم التعرض لما يمشي على أكثر من أربع؛ كالعناكب ونحوها من الحشرات؛ لعدم الاعتداد بها، لقلتها. وتذكير الضمير في {منهم}؛ لتغليب العقلاء، وكذلك التعبير بكلمة {مَن}. وقدَّم ما هو أغرق في القدرة، وهو الماشي بغير آلة، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع.
{يَخْلُقُ الله ما يشاء} مما ذكر ومما لم يذكر، بَسيطاً أو مركباً، على ما يشاء من الصور والأعضاء والهيئات والطبائع والقوى والأفاعيل، مع اتحاد العنصر؛ {إنَّ الله على كل شيء قدير} فيفعل ما يشاء كما يشاء. وإظهار الاسم الجليل في الموضعين في موضع الإضمار؛ لتفخيم شأن الخلق المذكور، والإيذان بأنه من أحكام الألوهية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أظهر الحق تعالى الأشياء من الماء، وأظهر الماء من نور القبضة، وأظهر القبضة من بحر سر الذات. أو تقول: أظهر الماء من نور الملكوت، وأبرز نور الملكوت من بحر الجبروت، وبحر الجبروت هو بحر أسرار الذات الأزلية، فالكل منه وإليه، ولا شيء معه، فتنوعت أنوار التجليات، وتعددت أسماؤها بتعدد فروعها، والمتجلي واحد، كما قال صاحب العينية:
تَجلَّى حَبِيبي في مَرَائِي جَمَالِهِ ** فَفِي كُلِّ مَرْئِيّ لِلْحَبِيبِ طَلاَئِعُ

فَلَمَّا تَبَدَّى حُسْنُه مُتَنَوِّعاً ** تَسَمَّى بِأَسْمَاءٍ فَهُنَ مَطَالِعُ

ولا يفهم هذا إلا من هداه الله لمعرفته.

.تفسير الآية رقم (46):

{لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)}
يقول الحق جل جلاله: {لقد أنزلنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ} لكل ما يليق بيانه؛ من الأحكام الدينية، والأسرار التكوينية. أو: موضحات، أوضحنا بها ما يحتاجون إليه من علم الشرائع والأحكام، {والله يهدي من يشاء} توفيقه {إلى صراط مستقيم} أي: دين قيِّم يُوصل إلى رضوان الله ومعرفته.
الإشارة: لقد أنزلنا من بحر الجبروت أنواراً ساطعة لعالم الملكوت، والله يهدي من يشاء إلى طريق شهود هذه الأنوار. فالطريق المستقيم هي التي تُوصل إلى حضرة العيان، على نعت الكشف والوجدان، وهي ثلاثة مدارج: المدرج الأول: إتقان الشريعة الظاهرة، وهي تهذيب الظواهر وتأديبها بالسُنَّة والمتابعة. والمدرج الثاني: إتقان الطريقة، وهي تهذيب البواطن وتصفيتها من الرذائل، فإذا تطهر الباطن، وكمل تهذيبه، أشرف على المدرج الثالث، وهو كشف الحقائق العرفانية والأسرار الربانية فتغطي وجودَ الأكوان. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (47- 50):

{وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)}
يقول الحق جل جلاله في شأن من لم يشأ هدايته إلى صراط مستقيم: {ويقولون} أي: المنافقون {آمنا بالله وبالرسول}؛ بألسنتهم، {وأطعنا} الله والرسول في الأمر والنهي، {ثم يتولى} عن قبول حُكْمِهِ {فريقٌ منهم مِن بعدِ ذلك} أي: من بعد ما صدر عنهم من ادعاء الإيمان بالله والرسول والطاعة لهما.
قال الحسن: نزلت في المنافقين، الذين كانوا يُظهرون الإيمان ويًسرون الكفر.
وقيل: نزلت في بِشْر المنافق، خاصم يهودياً، فدعاه إلى كعب بن الأشْرَف، ودعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بشر: لا، إن محمداً يحيفُ علينا- قبح الله سعيه. وقيل: في المغيرة بن وائل، خاصم عليّاً رضي الله عنه في أرض وماء، فأبى أن يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأيا ما كان فصيغة الجمع تدل على أن للقائل طائفة يساعدونه ويشايعونه في تلك المقال.
ثم حكم عليهم بالكفر، فقال: {وما أولئك بالمؤمنين} أي: المخلصين، والإشارة إلى القائلين: آمنا بالله وبالرسول، لا إلى الفريق المتولي منهم فقط، لئلا يلزم نفي الإيمان عنهم فقط، دون مَنْ قبلهم، بخلاف العكس، فإن نفى الإيمان عن القائلين يقتضي نفيه عنهم، على أبلغ وجه وآكده، وما فيه من معنى البعد؛ للإشعار ببُعد منزلتهم في الكفر والفساد.
{وإذا دُعُوا إلى الله ورسولِه} أي: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن حُكمَه حكمُ الله، {ليَحْكُمَ بينهم} أي: ليحكم الرسول بينهم؛ لأنه المباشر للحُكم حقيقة، وإن كان ذلك حكم الله في الحقيقة؛ لأنه خليفته. وذكر الله تعالى لتفخيم شأنه عليه، والإيذان بجلالة قدره عنده. فإذا دُعُوا إلى التحاكم بينهم {إذا فريقٌ منهم مُعْرِضون} أي: فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إليه صلى الله عليه وسلم؛ لكون الحق عليهم، وقد علموا أنه صلى الله عليه وسلم يحكم بالحق على من كان.
{وإن يكن لهم الحقُّ} على غيرهم {يأتوا إليه}؛ إلى الرسول {مُذْعنين}؛ مسرعين في الطاعة، طلباً لحقهم، لا رضاً بحُكم رسولهم. قال الزجاج: والإذعان: الإسراع مع الطاعة. والمعنى: أنهم؛ لمعرفتهم أنك لا تحكم إلا بالحق المُر والعدل المحض، يمتنعون من المحاكمة إليك، إذا ركبهم الحق، لئلا تنزعه منهم بقضائك عليهم لخصُومهم، وإن ثبت لهم حق على خصم أسرعوا إليك، ولم يرضوا إلا بحكومتك، لتأخذ لهم ما وجب لهم على خصمهم.
{أفي قلوبهم مرضٌ}؛ كفر ونفاق، {أم ارْتابُوا} في نبوته صلى الله عليه وسلم، {أم يخافون أن يَحِيفَ}؛ أن يجور {الله عليهم ورسولهُ} فيحكم بينهم بغير الحق. قسَّم الحق تعالى الأمر في صدود المنافقين عن حكومته- عليه الصلاة والسلام- إذا كان الحق عليهم ثلاث: بأن يكونوا مرضى القلوب منافقين أو مرتابين في أمر نبوته، أو خائفين الحيف في قضائه، ثم أبطل الكل بقوله: {بل أولئك هم الظالمون}، أما الأولان؛ فلأنه لو كان شيء منهما لأعرضوا عنه، عند كون الحق لهم؛ لتحقيق نفاقهم وارتيابهم، وأما الثالث؛ فلمعرفتهم بأحواله صلى الله عليه وسلم في الأمان والثبات على الحق، فهم لا يشكون أنه لا يحيف؛ بل لأنهم هم الظالمون، يريدون أن يظلِمُوا من له الحق عليهم، ويتم لهم جحودهم، فيأبَوْن المحاكمة إليه- عليه الصلاة والسلام- لأنه صلى الله عليه وسلم يقضي عليهم بالحق الصريح، المؤيد بالوحي الصحيح.
الإشارة: ترى فريقاً من الناس يدّعون الإيمان والطاعة والمحبة، ونفوسهم غالبة عليهم، فإذا دُعُوا إلى من يحكم بينهم وبينها، بأن يأمرهم بمجاهدتها أو قتلها؛ إذا فريق منهم معرضون، وإن يكن لهم الحق، بأن وجدوا من يدلهم على البقاء مع عوائدها وشهواتها، يأتوا إليه مذعنين. أفي قلوبهم شك ووَهْم، أم ارتابوا في وجود الطبيب، أم يخافون أن يحيف الله عليهم؟ بأن يدلهم على من يتبعهم ولا يبرئهم، حتى حسَّنوا الظن به والتجأوا إليه، فلا يدلهم إلا على من يوصلهم إليه، بل أولئك هم الظالمون لنفوسهم، حيث حرموها الوصول، وتركوها في أودية الشكوك والخواطر تجول. قال الورتجبي: {وإذا دُعُوا إلى الله ورسوله} أي: دُعوا إلى مشاهدة الله بنعت المحبة والمعرفة، وعبوديته بنعت الإخلاص، ودُعُوا إلى رسوله بالمتابعة والموافقة في الشريعة والطريقة. اهـ.