فصل: تفسير الآيات (51- 52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (51- 52):

{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)}
قلت: {قول}: خَبَرُكَانَ؛ مُقَدَّمٌ، و{أن يقولوا}: اسمها؛ مؤخر، وقرأ الحسن: بالرفع؛ على الاسمية، والأول: أرجح؛ صنَاعةً، والثاني: أظهر؛ دلالة، وأكثر إفادة. انظر أبا السعود.
يقول الحق جل جلاله: {إِنما كان قَوْلَ المؤمنين} الصادر عنهم {إذا دُعُوا إلى الله ورسولِه ليحكم} الرسولُ صلى الله عليه وسلم {بينهم} وبين خصومهم، سواء كانوا منهم أو من غيرهم، {أن يقولوا سمعنا} قوله، {وأطعنا} أمره، {وأولئك هم المفلحون}؛ الفائزون بكل مطلب، الناجون من كل مهرب. والإشارة إلى المؤمنين باعتبار صدور القول المذكور عنهم، وما فيه من البُعد، للإشعار بعلو رتبتهم، وبُعد منزلتهم في الفضل، أي: أولئك المنعوتون بتلك النعوت الجميلة هم الفائزون بكل مطلوب.
{ومن يُطع الله ورسولَه}، هذا استئناف جيء به لتقرير ما قبله من حسن حال المؤمنين، وترغيب مَن عَدَاهم في الانتظام في سلكهم، أي: ومن يُطع الله ورسوله، كائناً من كان، فيما أمَرَا به من الأحكام الشرعية اللازمة والمتعدية، وقيل: من يطع الله في فرائضه، ورسولَهُ في سننه. {ويَخْشَ الله} على ما مضى من ذنوبه، {ويتَّقه} فيما يستقبل من عمره، {فأولئك} الموصوفون بما ذكر؛ من الطاعة والخشية، والاتقاء، {هم الفائزون} بالنعيم المقيم، لاَ مَنْ عَدَاهُم.
وعن بعض الملوك: أنه سأل عن آية كافية، فتُليت عليه هذه الآية. وهي جامعة لأسباب الفوز. قال القرطبي: ذكر أسلم: أن عمر بينما هو قائم في مسجده صلى الله عليه وسلم فإذا رجل من دهاقين الروم قائم على رأسه، وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقال له عمر: ما شأنك؟ قال: أسلمت، قال: ألهذا سبب؟ قال: نعم؛ إني قرأت التوراة والزبور والإنجيل، وكثيراً من كتب الأنبياء، فسمعت أسيراً يقرأ آية من القرآن، جمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة، فعلمت أنه من عند الله، فأسلمت. قال: ما هذه الآية؟ قال قوله تعالى: {ومن يُطع الله} في الفرائض، {ورسولَه} في السنن، {ويَخْشَ الله} فيما مضى من عمره، {ويتَّقه} فيما بقي، {فاولئك هم الفائزون}؛ والفائز: من نجا من النار واُدْخِل الجنة، فقال عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أُعطيتُ جوامع الكلم». اهـ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إنما كان قول المؤمنين الكاملين، الطالبين الوصول إلى حضرة رب العالمين، إذا دُعوا إلى حضرة الله ورسوله؛ ليحكم بينهم وبين نفوسهم التي حجبتهم حتى يغيبوا عنها، أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، ويدخلوا تحت تربية المشايخ، فإذا أمروهم أو نهوهم، قالوا: سمعنا وأطعنا، وأولئك هم المفلحون الفائزون بالوصول إلى الله تعالى.
ومن يطع الله في أمره ونهيه، ورسوله في سنَّته، وما رغَّب فيه، ويخش الله أن يعاتبه، أو يؤدبه ويتقه أي: يجعل وقاية بينه وبيْن ما يحجبه أو يبعده عنه فأولئك هم الفائزون الظافرون بمعرفة الله على نعت الشهود والعيان. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (53- 54):

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)}
قلت: {جهد}: مصدر مؤكد لفعله، الذي هو حيز النصب على الحال، من فاعل {أقسموا}، ومعنى جَهْدِ اليمين: بلوغ غايتها بطريق الإستعارة، من قولهم: جهد نفسه: إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها. وأصل أقسم جهد اليمين: أقسم بجهدِ اليمين جَهداً، فحذف الفعل وقدم المصدر، فوضع موضعه مضافاً إلى المفعول، كقوله: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 5] وحكم هذا المنصوب حكم حال، كأنه قال: أقسموا جاهدين أيمانهم. و{طاعة}: مبتدأ حذف خبره، أي: طاعة معروفة أولى من تسويفكم، أو: خبر عن محذوف، أي: الذي يطلب منكم طاعة معروفة.
يقول الحق جل جلاله: {وأَقْسَموا} أي: المنافقون {بالله جَهْدَ أَيمانهم} أي: بلغوا فيها غاية وسعهم، بأن حلفوا بالله. وعن ابن عباس رضي الله عنه: (من حلف بالله فقد جهد يمينه)، {لئن أمرتهم ليخرجُنَّ} أي: قالوا: لئن أمرنا محمد بالخروج للغزو، أو من ديارنا وأموالنا، لخرجنا. وحيث كانت مقالتهم هذه كاذبة ويمينهم فاجرة أمر عليه الصلاة والسلام- بردها حيث قيل: {قل لا تُقسموا} أي: قل؛ رداً عليهم، وزجراً عن التفوه بها: لا تحلفوا وأنتم كاذبون، {طاعةٌ معروفة}، تعليل للنهي، أي: لا تُقسموا على ما تدعون من الطاعة؛ لأن طاعتكم طاعة نفاقية، معروفة بالنفاق، واقعة باللسان فقط من غير مواطأة للقلب. وإنما عبّر عنها بمعروفة؛ للإيذان بأن كونها نفاقية مشهور معروف لكل أحد. وحملها على الطاعة الحقيقية، على حذف المبتدأ أو الخبر، مما لا يساعده المقام. انظر أبا السعود.
قال القشيري: طاعة في الوقت أولى من تسويفٍ في الوعد، ولا تعِدُوا بما هو معلوم أنكم لا تفوا به. اهـ. وقال النسفي: طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الفاجرة. أو: الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يُشك فيها ولا يُرتاب، كطاعة الخُلص من المؤمنين، لا أيمان تقسمونها بأفواهكم، وقلوبُكُم على خلافها. اهـ.
{إن الله خبير بما تعملون} من الأعمال الظاهرة والباطنة، التي من جملتها ما تظهرونه من الأكاذيب المؤكدة بالأيمان الفاجرة، وما تضمرونه في قلوبكم من الكفر والنفاق، والعزيمة على مخادعة المؤمنين، وغيرها من فنون الفساد.
{قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسولَ}، أُمِر- عليه الصلاة والسلام- بتبليغ ما خاطبهم الله به، وصرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب، وهو أبلغ في تبكيتهم، {فإِن تولَّوا}- بحذف إحدى التاءين؛ بدليل قوله: {وعليكم} أي: فإن تُعرضوا عن الطاعة إثر ما أمرتكم بها {فإِنما عليه ما حُمِّلَ} من التبليغ وقد بلَّغَ، {وعليكم ما حُمِّلتم} من التلقي بالقبول والإذعان. والمعنى: فإن تعرضوا عن الإيمان فما ضررتم إلا أنفسكم، فإن الرسول ليس عليه إلا ما حمله الله تعالى من أداء الرسالة، فإذا أدى فقد خرج عن عهدة تكليفه.
وأما أنتم فعليكم ما كلفتم، أي: ما أمرتم به من الطاعة والإذعان، فإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرَّضتم نفوسكم لسخط الله وعقوبته. قال القشيري: قل يا محمد: أطيعوا الله، فإن أجابوا، سعدوا في الدارين، وإنما أحسنوا لأنفسهم. وإن تولوا؛ فما أضروا إلا بأنفسهم، ويكون اللوم في المستقبل عليهم، وسوف يلقون سوء عواقبهم. اهـ.
{وإن تُطيعوه} فيما أمركم به من الهدى {تهتدوا} إلى الحق، الذي هو المقصد الأصلي الموصل إلى كل خير، والمنجي من كل شر، {وما على الرسول إلا البلاغُ المبين}؛ الموضح لكل ما يحتاج إلى الإيضاح، أو: البيِّن الوضوح؛ لكونه مقروناً بالآيات والمعجزات المتواترة. والجملة مقررة لما قبلها من أن غائلة التولي وفائدة الإطاعة مقصورتان عليهم. واللام: إما للجنس المنتظم فيه- عليه الصلاة والسلام- انتظاماً أولياً، أو للعهد، أي: ما على جنس الرسول كائناً من كان، أو ما عليه- عليه الصلاة والسلام- إلا التبليغ الواضح. وبالله التوفيق.
الإشارة: ترى بعض الناس يُقسمون بالله جهد أَيْمَانهم: لئن ظهر شيخ التربية وأمرهم بالخروج عن أموالهم وأنفسهم ليخرجن، فلما ظهر تولوا وأعرضوا، فيقال لهم: فإن تولوا فإنما عليه ما حُمِّل من الدلالة على الله، والتعريف به، وعليكم ما حُملتم من الدخول تحت تربيته، وإن تُطيعوه تهتدوا إلى معرفة الله بالعيان، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.

.تفسير الآيات (55- 56):

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)}
قلت: {ليستخلفنهم}: جواب لقسم مضمر، أو تنزيل وعْده تعالى منزلة القسم، و{كما}: الكاف: محلها النصب على المصدر التشبيهي، أي: استخلافاً كائناً كاستخلافه مَنْ قَبْلَهُمْ. و{ما}: مصدرية. و{ويعبدونني}: حال من الموصول الأول، مقيدة للوعد بالثبات على التوحيد، أو استئنافٌ ببيان مقتضى الاستخلاف، و{لا يشركون}: حال من واو {يعبدونني}.
يقول الحق جل جلاله: {وعد الله الذين آمنوا منكم} أي: كل من اتصف بالإيمان بعد الكفر من أي طائفة كان، وفي أي وقت وجد، لا من آمن من المنافقين فقط، ولا من آمن بعد نزول الآية الكريمة، بحسب ظهور الوعد الكريم. و(من): للبيان. وقيل: للتبعيض، ويراد المهاجرون فقط. {وعملوا} مع الإيمان الأعمال {الصالحات}، وتوسيط المجرور بين المَعْطُوفَيْنِ؛ لإظهار أصالة الإيمان وعراقته في استتباع الآثار والأحكام، والإيذان بكونه أول ما يطلب منهم، وأهم ما يجب عليهم.
وأما تأخيره في قوله: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً} [الفتح: 29]؛ فإن الضمير للذين آمنوا معه صلى الله عليه وسلم؛ فلا ريب أنهم جامعون بين الإيمان والأعمال الصالحة، مثابون عليها، فلابد من ورود بيانهم بعد نعوتهم الجليلة بكمالها.
ثم ذكر الموعود به، فقال: {لَيستخلفنَّهم في الأرض} أي: لَيجعلهم خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في مماليكهم، والمراد بالأرض: أرض الكفار كلها، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ليدخلن هذا الدين ما دخل الليل والنهار»، {كما استخلف الذين مِن قبلهم}؛ كبني إسرائيل، استخلفهم الله في مصر والشام، بعد إهلاك فرعون والجبابرة، ومَنْ قَبْلَهم مِن الأمم المؤمنة التي استخلفهم الله في أرض من أهلكه الله بكفره. كما قال تعالى: {فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ} [إبراهيم: 13].
{وليُمَكِّنَنَّ لهم دينَهم}: عطف على {ليستخلفنهم}، داخل معه في سلك الجواب، وتأخيره عنه مع كونه أصل الرغائب الموعودة وأعظمها؛ لأن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل، فَتصْدير المواعد بها فب الاستمالة أدخل، والمعنى: ليجعل دينهم ثابتاً متمكناً مقرراً لا يتبدل ولا يتغير، ولا تنسخ أحكامه إلى يوم القيامة. ثم وصف بقوله: {الذي ارتضى لهم}، وهو دين الإسلام، وصفه بالارتضاء؛ تأليفاً ومزيدَ ترغيب فيه وفضْلَ تثبيت عليه. {وليُبدِّلنهُمْ} بالتشديد والتخفيف من الإبدال، {من بعد خوفهم} من الأعداء {أمناً}.
نزلتْ حيث كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة عشر سنين، أو أكثر، خائفين، ولَمَّا هاجروا كانوا بلمدينة يُصْبِحُون في السلاح ويُمْسُون فيه، حتى قال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع السلاح، فلما نزلت، قال عليه الصلاة والسلام: «لا تصبرون إلا يسيراً حتى يَجْلِسَ الرجل منكم في الملأِ العظيم، مُحْتبياً، ليس معه حديدة»، فأنجز الله وعده، فأمِنُوا، وأظهرهم على جزيرة العرب، وفتح لهم بلاد المشرق والمغرب، ومزقوا ملك الأكاسرة، وملكوا خزائنهم، واستولوا على الدنيا بحذافيرها.
وفيه من الإخبار بالغيب ما لا يخفى. وقيل: الخوف والأمن في الآخرة.
ثم مدحهم بالإخلاص فقال: {يعبدونني} وحدي، {لا يُشركون بي شيئاً} أي: حال كونهم موحدين غير مشركين بي شيئاً من الأشياء، شركاً جلياً ولا خفياً؛ لرسوخ محبتهم، فلا يُحبون معه غيره، {ومن كَفَر بعد ذلك} أي: بعد الوعد الكريم، كفرانَ النعمة، أو الرجوع عن الإيمان، كما فعل أهلُ الردة، {فأولئك هم الفاسقون}؛ الكاملون في الفسق، حيث كفروا تلك النعمة بعد ظهور عزها وأنوارها، قيل: أول من كفر هذه النعمة قتلةُ عثمان رضي الله عنه؛ فاقتتلوا بعد ما كانوا إخواناً.
والآية أوضح دليل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين؛ لأن المستخلَفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات على ما ينبغي هم الخلفاء- رضي الله عنهم-.
ولمّا كان كفر من كفر بعد الوعد إنما كان بمعنى بمنع الزكاة، قرَنَه مع الصلاة في الأمر به فقال: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاةَ}؛ فمن فرّق بينهما فقد كفر، وكان من الفاسقين. {وأطيعوا الرسولَ} فيما دعاكم إليه وأمركم به، ومن جملة ما أمر به: طاعة أمرائه وخلفائه؛ لقوله: «عليكم بسنتي، وسنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ»، فمن امتنع من دفع الزكاة لخليفته- كما فعل أهل الردة- فقد كفر، ومن أداها إليه كما أمره الله فقد استوجب الرحمة، لقوله: {لعلكم تُرحمون} أي: لكي تُرحموا، فإنها من مُسْتَجلبَاتِ الرحمة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: سنة الله تعالى في خواصه: أن يُسلط عليهم في بدايتهم الخَلْقَ، فينُزل بهم الذلَ والفقرَ والخوفَ من الرجوع عن الطريق، ثم يُعزهم، ويُمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، ويبدلهم من بعد خوفهم أمناً، كما قال الشاذلي رضي الله عنه: اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا... إلخ كلامه.
قال القشيري: وفي الآية إشارة إلى أئمة الدين، الذين هم أركان السُنَّة ودعائم الإسلام، الناصحون لعباد الله، الهادون من يسترشد في الله. ثم قال: فأما حُفاظ الدين؛ فهم الأئمة والعلماء الناصحون لدين الله، وهم أصناف: قومٌ هم حفَّاظُ أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وحُفّاظُ القرآن، وهم بمنزلة الخزنة، وقوم هم علماء الأصول، الرادُّون على أهلِ العناد، وأصحاب الابتداع، بواضح الأدلة، وهم بطارِقَةُ الإسلام وشجعانُه، وقوم وهم الفقهاء المرجوعُ إليهم في علوم الشريعة وفي العبادات وكيفية المعاملات، وهم من الدين بمنزلة الوكلاء والمتصرفين في المُلْك، وآخرون هم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق، وهم في الدِّين كخواص الملك وأعيان مجلس السلطان وأرباب الأسرار، الذين لا يبرحون في عالي مجلس السلطان، فالدين معمورٌ بهؤلاء على اختلافهم إلى يوم القيامة. اهـ. تقدم ومثله في قوله: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} [التوبة: 122]. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (57):

{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)}
يقول الحق جل جلاله: {لا تحسَبنَّ الذين كفروا مُعْجِزِينَ} أي: فائتين الله عن إدراكهم وإهلاكهم، في قُطْرٍ من أقطار الأرض، بل لابد من أخذهم، عاجلاً أو آجلاً، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل سامع. و{الذين}: مفعول أول، و{معجزين}: مفعول ثان. وقرأ حمزة والشامي بالغيب، و{الذين}: فاعل، والأول، محذوف، أي: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين {في الأرض}. و{مأواهم النار}: معطوف على محذوف، أي: بل هم مُدْرَكُونَ، {ومأواهم النار} أي: مسكنهم ومرجعهم، {ولبئس المصيرُ} أي: والله لبئس المرجع هي. وفي إيراد النار، بعنوان كونها مأوى ومصيراً لهم، إثر نفي قوتهم بالهرب في الأرض كل مهرب، من الجزالة ما لا غاية وراءه. والله تعلى أعلم.
الإشارة: لا تحسبن أهل الانتقاد على أولياء الله أنهم فائتون، بل لابد من غيرة الله عليهم، عاجلاً أو آجلاً، في الظاهر أو الباطن، ومأواهم نار القطيعة ولبئس المصير. وقال القشيري على هذه الآية: الباطل قد تكون له صَوْلَةٌ لكنه يختل، وما لذلك بقاء، ولعل لبثه من عارض الشتاء في القيظ، أي: الحر. اهـ. والله تعالى أعلم.