فصل: تفسير الآيات (58- 59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (58- 59):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)}
يقول الحق جل جلاله: {يا أيها الذين آمنوا}، ويدخل فيه النساء، {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين ملكت أيمانُكُم} من العبيد والإماء، {والذين لم يبلغوا الحُلُمَ منكم} أي: والأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار، {ثلاثَ مراتٍ} في اليوم والليلة، وهي {من قبلِ صلاة الفجر}؛ لأنه وقت القيام من المضاجع، وطرح ما ينام فيه من الثياب، ولبس ثياب اليقظة، وربما يجدهم في هذا الوقت نائمين متجردين، {وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة}؛ وهي نصف النهار في القيظ؛ لأنها وقت وضع الثياب للقيلولة، {ومن بعد صلاةِ العشاء}؛ لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة، والالتحاف بثياب النوم. هي {ثلاثُ عوراتٍ لكم}، ومن نصبه؛ فَبَدلٌ من {ثلاث مرات} أي: أوقاتُ ثلاثِ عوراتٍ، وسمى كل واحد من هذه الأوقات عورة؛ لأن الإنسان يختل تستره فيها، والعورة: الخلل، ومنه سمي الأعور؛ لاختلاف عينه.
رُوي أن غلاماً لأسماء بنت أبي مرثد دخل عليها في وقت كَرِهَتْهُ، فنزلت. وقيل: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مُدْلِجَ بنَ عَمرو الأنصاري، وكان غلاماً، وقت الظهيرة، ليدعو عُمر رضي الله عنه، فدخل عليه وهو نائم قد انكشف عنه ثوبه، فقال عمر رضي الله عنه: لوددت أن الله تعالى نهى عن الدخول في هذه الساعات إلا بإذن، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجده وقد نزلت عليه هذه الآية. والأمر، قيل: للوجوب، وقيل: للندب.
ثم عذرهم في ترك الاستئذان في غير هذه الأوقات، فقال: {ليس عليكم ولا عليهم جُناح بعدهنّ} أي: لا إثم عليكم ولا على المذكورين من المماليك والغلمان في الدخول بغير استئذان بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث، أي: في الأزمنة التي بين هذه العورات الثلاث.
ثم بيّن العلة في ترك الاستئذان في هذه الأوقات بقوله: {طوَّافون} أي: هم {طوَّافون عليكم} لحاجة البيت والخدمة، {بعضُكم على بعضٍ} أي: بعضكم طائف على بعض، أو يطوف على بعض، والجملة: إما بدل مما قبلها، أوبيان، يعني: أنكم محتاجون إلى المخالطة والمداخلة، يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام، فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت لأفضى إلى الحرج، وهو مدفوع بالنص، {كذلك يبين الله لكم الآيات} أي: كما بيّن الاستئذان، يبين لكم غيره من الآيات التي تحتاجون إلى بيانها، {والله عليمٌ} بمصالح عبادة، {حكيم} فيما دَبَّرَ وحكم به.
{وإذا بلغ الأطفالُ منكم} أي: الأحرار دون المماليك {الحُلُمَ} أي: الاحتلام، وهو البلوغ، وأرادوا الدخول عليكم {فَلْيَستأذِنوا} في جميع الأوقات. قال القرطبي: لم يقل: {فليستأذنوكم}، وقال في الأولى: {ليستأذنكم}؛ لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبَدين. اهـ. قلت: فالمخاطبون في الأولى هم الأولياء بتعليمهم الاستئذان وإيصائهم به، وهنا صاروا بالغين، فأمرهم بالاستئذان {كما استأذن الذين من قبلهم} أي: الذين بلغوا الحُلُم مِن قبلهم، وهم الرجال المذكورون في قوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور: 27] الآية. والمعنى: أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن، إلا في العورات الثلاث، فإذا اعتاد الأطفال ذلك ثم بلغوا الحُلُمَ وَجَبَ أن يُفطَمُوا عن تلك العادة، ويُحملوا على أن يَسْتَأْذِنوا في جميع الأوقات، كالرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن.
والناس عن هذه غافلون. عن ابن عباس رضي الله عنه: ثلاث آيات جحدهن الناس: الإذن كله، وقوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وقوله: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة} [النساء: 8]. وعن سعيد بن جبير: (يقولون: إنها منسوخة، والله ما هي بمنسوخة). وعن ابن عباس أيضاً قال: إنما أُمروا بها حين لم يكن للبيوت الستر، فلما وجدوا ذلك استغنوا عن الاستئذان. وعن أبي محمد مكي: هذا الأمر إنما كان من الله للمؤمنين؛ إذ كانت البيوت بغير أبواب. قلت: أما باعتبار الأجانب فالأبواب تكفي، وأما باعتبار المماليك والأطفال الذين يلجون الدار من غير حَجْرٍ؛ فلا تكفي الأبواب في حقهم، فلا بن من الاستئذان كما في الآية.
{كذلك} أي: مثل ذلك البيان العجيب {يُبين الله لكم آياته}. قال ابْنُ عرفة: قال قبل هذه وبعدها: الآيات، وفي هذه: آياته؛ لوجهين، الأول: هذه خاصة بالأطفال، وما قبلَها عامة في العبيد والأطفال، فأطلقت الآية، ولم تقيد بالإضافة، وهذه خاصة، فعبّر عنها بلفظ خاص. الثاني: أن الخطاب بما هنا للبالغين، فأسند فيه الحكم إلى الله تعالى، تخويفاً لهم وتشديداً عليهم. اهـ. والمتبادر أنه تفنن. قاله المحشي الفاسي. {والله عليمٌ حكيم} فيما أمر ودبر.
الإشارة: إنما أمر الله بالاستئذان لئلا يُكشف السر إلى غير أهله؛ غَيْرَةً منه تعالى على كشف أسرار عباده، وإذا كان غار على كشف سر عبد، فَغَيْرَتُهُ على كشف أسرار ذاته أولى وأحرى، فيجب كتم أسرار الذات عن غير أهله، وكل من خصه الله بسر وجب كتمه إلا على من هو أهل له، وهو من أَعْطَى نفسه وماله، وباعهما لله تعالى. وكل من أُطْلِعَ على سر من أسرار الله أو قضاء من قضائه، ثم استشرف أن يُعْلِم الناس بذلك فهو كذاب. وفي الحِكَم: (استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصِيَّتِكَ دليل على عدم صدقك في عبوديتك). وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (60):

{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)}
قلت:{القواعد}: جمع قاعد، بغير تاء؛ لأنهما من الصفات المختصة بالنساء، كالطالق والحائض، فلا تحتاج إلى تمييز، وهو مبتدأ، و{اللاتي} إلخ: صفة له، {فليس}: خبر، وأدخلت الفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط من العموم الذي في الألف واللام. و{يرْجُون}: مبني لاتصاله بنون النسوة.
يقول الحق جل جلاله: {والقواعدُ} أي: العجائز {من النساء اللاتي} قعدن عن الحيض والولادة؛ لِكِبَرِهِنَّ. قال ابن قتيبة: سمين بذلك لأنهن بعد الكِبَرِ يُكثرن القعود. ويقرب منه من فسره بالقعود عن التصرف للكبر، والظاهر أن قوله: {لا يرْجُون نِكاحاً}: نعت مُخَصِّصٌ، إن فُسِّرَ القعود فيها بالقعود عن الحيض والولد؛ لأنه قد يكون فيها مع ذلك رَغْبَةٌ للرجال. وقد يُجْعَلُ كاشفاً؛ إذا فسر القعود باستقذار الرجال لهن من عزوف النفس عنهن، فقوله: {لا يرجون نكاحاً} أي: لا يطمعن في رغبة الرجال فيهن، {فليس عليهن جناحٌ} في {أن يَضَعْنَ ثيابَهنّ} أي: الثياب الظاهرة، كَالجِلْبَابِ الذي فوق الخمار ونحوه.
قال ابن عطية: قرأ ابن مسعود وأُبَيّ: {أن يَضَعْنَ مِنْ ثيابهن}. والعرب تقول: امرأة واضع، للتي كبرت فوضعت خِمَارها، قال في الحاشية: والآية صادقة بما إذا دخل أجنبي بعد الاستئذان، وبخروجهن أيضاً، ومن التبرج: لبس ما يَصف؛ لكونه رقيقاً، أو: شفافاً. اهـ.
ثم قيَّد الرخصة بقوله: {غير مُتَبرِّجَاتٍ بزينة} أي: مظهرات زينة، يريد الزينة الخفية، كالشعر والنحر والساق ونحوه، أي: لا يقصدن بوضعهن التبرجَ وإظهارَ مَحَاسنها، ولكن التخفيف. وحقيقة التبرج: تَكَلُّفُ إِظْهَارِ ما يجب إخفاؤه، من قولهم: سفينة بارجة: لاَ غِطَاءَ عليها، إلا أنه خص بكشف المرأة زينتها أو محل حسنها للرجال. {وأن يستعففنَ} أي: يطلبن العفة عن وضع الثياب، فيتسترن {خيرٌ لهن} من الانكشاف، {والله سميعٌ عليم} أي: سميع ما يجري بيهن وبين الرجال من المقاولة، عليم، فيعلم مقاصدهن وسرائرهن في قصد التخفيف أو التبرج، وفيه من الترهيب ما لا يخفى.
الإشارة: إذا كمل تهذيب الإنسان وإخلاصه، وكمل استغناؤه بربه، فلا بأس أن يظهر من أحواله وعلومه ما يقتدى به ويُهتدى، ليعلم الانتفاع به. فإن خيف منه تهمة فالاستعفاف والاكتفاء بعلم الله خير له. والله سميع عليم.

.تفسير الآية رقم (61):

{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)}
{لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً...}
يقول الحق جل جلاله: {ليس على الأعمى حَرَجٌ} في الدخول من غير استئذان؛ لأنه لا يتوقع منه نظر لما يكره. وكذلك لا حرج عليه فيما لا قدرة له عليه من الجهاد وغيره، ثم استطرد من شاركه في مطلق العذر فقال: {ولا على الأعْرج حَرَجٌ} فيما لا يقدر عليه من الجهاد وغيره، {ولا على المريض حرج} في ذلك. وقال سعيد بن المُسَيِّب: كان المسلمون إذا خرجوا إلى الغزو وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم، ويأذنونهم أن يأكلوا من بيوتهم، فكانوا يتحرجون من ذلك، ويقولون: نخشى أن تكون نفوسهم غير طيبة بذلك، فنزلت الآية، رُخْصَةً لهم. وقيل: كانوا يتحرجون من ذلك ويقولون: نخشى أن تكون نفوسهم غير طيبة بذلك فنزلت الآية رُخْصَةً لهم وقيل: كانوا يتحرجون من الأكل معهم؛ لأن الأعمى لا يبصر الطيب من الطعام، والأعرج لا يستطيع المزاحمة عليه، والمريض لا يستطيع استيفاءه. اهـ.
{ولا على أنفسكم} أي: لا حرج عليكم {أن تأكلوا من بيوتكم} أي: البيت الذي فيه أهل بيتكم؛ أزواجكم وعيالكم، فإذا كان للزوجة أو للولد هناك شيء منسوب إليهما فلا بأس للرجل بأكله؛ لأن الزوجين صارا كنفس واحدة، فصار بيت المرأة بيت الزوج. وقيل: المراد ببيوتكم: بيوت أولادكم، فجعل بيوت أولادهم بيوتهم؛ لأن ولد الرجل من كسبه، وماله كمالِه، لقوله عليه الصلاة والسلام: «أنت ومالك لأبيك»، ولذلك لم يذكر الأولاد في الآية؛ لاندراجهم في بيوتكم.
ولا حرج عليكم أيضاً أن تأكلوا من {بيوت آبائكم أو بيوتِ أمهاتكم أو بيوتِ إخوانكم} الذكور {أو بيوت أَخَواتكم} النساء، {أو بيوت أعمامكم أو بيوت عمَّاتكم أو بيوتِ أخوالكم أو بيوت خالاتكم}؛ لأن الإذن من هؤلاء ثابت؛ دلالة. واختلف العلماء في إباحة الأكل من هذه البيوت المذكورة، فقيل: إنه منسوخ وإنه لا يجوز الأكل من بيت أحد إلا بإذنه، والناسخ: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} [البقرة: 188]، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مسلم إلا عن طِيبِ نَفْسٍ» وقيل: محكمة ومعناها: إذا أذنوا في ذلك، وقيل: ولو بغير إذن، والتحقيق: هو التفصيل: فمن عُلم منه طيب نفسه وفرحُه بذلك؛ بقرينةٍ: حَلَّ أَكْلُ مَالِهِ، ومَنْ لاَ؛ فلا.
{أو ما ملكتم مَّفَاتحه} قال ابن عباس: وهو وكيل الرجل وقيّمه في ضَيْعَتِهِ وماشيته، له أن يأكل من ثمرة ضيعته، ويشرب مِنْ لبن ماشيته.
والمراد بملك المفاتيح: كَوْنُها في يده وتحت حَوْزِهِ. وقيّده ابن العربي بما إذا لم تكن له أجرة، وإن كانت له أجرة على فعله حَرُمَ، يعني: إلا إذا علم طيب نَفْسٍ صاحبه؛ فيدخل في الصديق. وقيل: أريد به بيت عَبْدهِ؛ لأن العبد وما في يده لمولاه.
{أو صَدِيقِكُمْ} أي: أو بيوت أصدقائكم، والصديق يكون واحداً وجمعاً، وهو من يصدقك في مودته وتصدقه في مودتك، يُؤلمه ما يؤلمك ما يؤلمه، ويسرك ما يسره كذلك. وكان الرجل من السلف يدخل دار صديقه وهو غائب، فيسأل جاريته كيسَهُ فيأخذ ما شاء، فإذا حضر مولاها أعتقها سروراً بذلك، فأما الآن فقد غلب الشحّ فلا يأكل إلا بإذن. قاله النسفي.
{ليس عليكم جناحٌ أن تأكلوا جميعاً}: مجتمعين {أو أشتاتاً}: متفرقين، جمع شَتّ، نزلت في بني ليث بن عمرو، كانوا يتحرّجُون أن يأكل الرجل وحده، فربما قعد منتظراً نهاره إلى الليل، فإذا لم يجد من يؤاكله من الضيفان أكَل أكْل ضرورة. وقيل: في قوم من الأنصار كانوا إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا مع ضيفهم، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاؤوا. وقيل: في قوم تحرجوا من الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس في الأكل، وزيادة بعضهم على بعض، فخيّرهم. وقيل: كان الغنى منهم إذا دخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته، ودعاه إلى الطعام، فيقول: إني أتحرج أن آكل معك، وأنا غني وأنت فقير، فأباح لهم ذلك. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ليس على من عَمِيَتْ بصيرتُه، فلم ير إلا الكون حَرج في أن يقف مع رُخَصِ الشريعة، ويتناول كل ما يشتهيه نفسه، مما أباحته الشريعة، من غير تورع ولا توقف ولا تبصر. وكذلك المريضَ القلب بالخواطر والأوهام، ومن عَرجت فكرته عن شهود الملكوت، فلا بأس لهؤلاء الضعفاء أن يقفوا مع العوائد والأسباب، ويتناولوا كل ما أباحته ظواهر الشريعة، وأما الأقوياء فلا يأخذون إلا ما تحققوا حِلِّيَّتَهُ، وفهموا عن الله في أخذه وتركه، لفتح بصيرتهم وشدة تبصُّرهم.
وقال الورتجبي في قوله: {ليس على الأعمى حرج}: عماه الحقيقي ألا يطيق أن ينظر بطونَ الأزل والغيبَ وغيبَ الغيب. وهذا من قوله- عليه الصلاة والسلام- في وصف جمال الحق سبحانه: «حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبُحَاتُ وَجْهِه ما انتهى إليه بَصَرُهُ مِنْ خلْقِهِ» فجعله معذوراً ألا يدرك حق الحقيقة وحقيقة الحق؛ إذ يستحيل الحَدَثُ أن يحيط بالقدم إن كان واجباً معرفة الكل من حيث الحقوق لا من حيث التوحيد. ه ومراده ببطون الأزل: تجلياته تعالى، البارزة من وسط بحر جبروته الغيبي، وهي المراد بالغيب وغيب الغيب، فالأكوان كلها برزت من بحر الذات الأزلية والكنز الغيبي، لكنها، لما تجلت، كستها رداء الكبرياء، فمن فتحت بصيرته رأى الحق تعالى فيها، أو قبلها، أو معها، ومن عميت بصيرته لم ير إلا حس الأكوان الظُّلْمَانِيَّةِ.
والله تعالى أعلم.
ومذهب الصوفية في تناول متاع بعضهم بعضاً هو ما قال القائل: نَحْنُ: لاَ مَالٌ مَقْسُومٌ، وَلاَ سِرٌّ مَكْتُومٌ، فَتَرِكَتُهُمْ لاَ تُقْسَمُ أبداً. دخل الجنيد بَيْتَ بَعْضِ إخوانه، فوجد زوجته، فقال: هل عندك شيء نطعم به الفقراء؟ فأشارت إلى وعاء فيه تمر، لا يملك غيره، فأفرغه على رأسه، فأكلوا، وأخذوا ما بقي، فلما جاء زوجها ذكرت له ذلك، فقال: الآن علمت أنه يُحبني.
ثم أمر بالسلام بعد الاستئذان، فقال: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
يقول الحق جل جلاله: {فَإِذَا دخلتم بيوتاً} من البيوت المذكورة أو غيرها بعد الإذن، {فسَلّمُوا على أنفسكم} أي: فابدأوا بالسلام على أهلها، الذين هم منكم، الذين هم بمنزلة أنفسكم؛ لما بينكم وبينهم من القرابة الدينية أو النَّسَبِيَّةِ. أو بيوتاً فارغة، أو مسجداً، بأن تقولوا: السلام عليكم، أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، إن كانت خاوية. {تحيةً}، مَنْ نَصَبَ فعلى المصدر لِسلِّمُوا؛ لأنها في معنى تسليماً، {من عند الله} أي: بأمره مشروعه من لدنه، أو لأنها طلب للسلامة، وهي بيد الله، {مباركةً}: مستتبعة لزيادة الخير والثواب ودوامهما، {طيبةً}: تطيب بها نفس المستمع.
وعن أنس رضي الله عنه أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: «من لقيت أحداً من أمتي فسلم عليه، يَطُلْ عُمْرُكَ. وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكْثُرُ خَيْرُ بَيْتِك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين».
{كذلك يُبين الله لكم الآيات}، تكرير؛ لتأكيد الأحكام المختتمة وتفخيمها، {لعلكم تعقلون}: لكي تعقلوا ما في تضاعيفها من الشرائع والأحكام، وتعملوا بموجبها، فتفوزوا بسعادة الدارين. والله تعالى أعلم.
الإشارة: السلام على النفس: هو طلب الأمان لها ومنها، فإذا سَلِمَت النفس من موجات الغضب من الله، سَلِمَ صاحبها منها، قال القشيري: السلامُ: الأمانُ، فسبيل المؤمن إذا دخل بيتاً أن يُسلِّمَ مِنَ الله على نَفْسه، يعني: بأن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وأن يطلب السلامة والأمان من الله تعالى، لِتسْلَمَ نَفْسُه من الإقدام على ما لا يرضي الله، إذ لا يحل لمُسلم أن يفْتُرَ لحظة عن الاستجارة بالله، بأن لا يرفع عنه ظل عصمته بإدامة حِفظهِ من الاتصاف بمكروه الشرع. اهـ.