فصل: تفسير الآية رقم (20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (20):

{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)}
قلت: كُسرت (إنَّ)؛ لأجل اللام في الخبر. والجملة بعد {إلا}: صفة لمحذوف، أي: وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلا آكلين وماشين، وإنما حذف؛ اكتفاء بالجار والمجرور، يعني من المرسلين، وهو كقوله تعالى: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164]، أي: وما منا أحد. وقيل: هي حال، والتقدير: إلا وأنهم ليأكلون.
يقول الحق جل جلاله: في الجواب المشركين عن قولهم: {مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى في الأسواق} [الفرقان: 7]؛ تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا} وَصِفَتُهُمْ {إِنهم لَيأْكُلون}؛ بشر يأكلون {الطعامَ}، مفتقرون إليه في قيام بنيتهم، {ويمشون في الاسواق} في طلب حوائجهم، فليس ببدع أن تكون أنت كذلك، {وجعلنا بعضهم لبعض فتنةً} أي: محنة، وهو التعليل لما قبله، أي: إنما جعلت الرسل مفتقرين للمادة، وفقراء من المال، يمشون في الاسواق لطلب المعاش؛ ابتلاء، وفتنة، واختباراً لمن تبعهم، من غير طمع، ولم يعرض عنهم لأجل فقرهم، فقد جعلت بعضكم لبعض فتنة. قال ابن عباس: أي: جعلت بعضكم بلاءً لبعض؛ لتصبروا على ما تسمعون منهم، وترون من خلافهم، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيكم عليه الدنيا، ولو شئتُ أن أجعل الدنيا مع رسلي، فلا يخالَفون، لفعلت، ولكن قدرت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم. اهـ.
فالحكمة في فقر الرسل من المال: تحقيق الإخلاص لمن تبعهم، وإظهار المزية لهم؛ حيث تبعوهم بلا حرف. قال النسفي: أو جعلناك فتنة لهم؛ لأنك لو كنت صاحب كنوز وجنات لكانت طاعتهم لأجل الدنيا، أو ممزوجة بالدنيا، فإنما بعثناك فقيراً؛ لتكون طاعة من يطعيك خالصة لنا. اهـ.
قال في الحاشية: وقد قيل: إن الدنيا دار بلاء وامتحان، فأراد تعالى أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض، على العموم في جميع الناس: مؤمن وكافر، بمعنى: أن كل واحد مُخْتَبَرٌ بصاحبه، فالغنى ممتحن بالفقير، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه. والفقير ممتحن بالغنى، عليه ألا يحسده، ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق الذي عليه، وتوجه إليه من ذلك؛ لأن الدار دار تكليف بموجبات الصبر، وقد جعل تعالى إمهال الكفار والتوسعة عليهم؛ فتنة للمؤمنين، واختباراً لهم. ولمّا صبروا نزل فيهم: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا} [المؤمنون: 111]. والحاصل: أن الله تعالى دبَّر خلقه، وخص كلاَّ بما شاء، من غِنى أو فقر، أو علم أو جهل، أو نبوة أو غيرها. وكذا سائر الخصوصيات؛ ليظهر من يسلّم له حُكمه وقسمته، ومن ينازعه في ذلك، ومن يؤدي حق ما توجه عليه من ذلك؛ فيكون شاكراً صابراً، ومن لا، وهو أعلم بحكمته في ذلك، ولذلك قال: {وكان ربك بصيراً}. اهـ.
وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل، والوليد بن عتبة، والعاص، حين رأوا أبا ذر وعماراً وصهيباً، وغيرهم من الفقراء المسلمين، قالوا: أنسلم؛ فنكون مِثل هؤلاء؟ فنزلت الآية، تخاطب هؤلاء المؤمنين: أتصبرون على هذه الحالة من الشدة والفقر؟ اهـ.
قال النسفي: أتصبرون على هذه الفتنة فتؤجروا، أم لا تصبرون فيزداد غمّكم؟ حكي أن بعض الصالحين تبرّم بضنك عيشه، فخرج ضجِراً، فرأى خصياً في مواكب ومراكب، فخطر بباله شيء، فإذا بقارئ يقرأ هذه الآية، فقال: بل نصبر، ربّنا. اهـ.
قال القشيري: هو استفهام بمعنى الأمر، فمن قارنه التوفيقُ صبر وشكر، ومن قارنه الخذلان أبى وكفر. اهـ. وقيل: هو الأمر بالإعراض عما جعل في نظره فتنة، كما قال: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه: 131]، فينبغي ألا ينظر بعض إلى بعض، إلا لمن دونه، كما ورد في الخبر. اهـ.
{وكان ربك بصيراً}؛ عالماً بالحكمة فيما يَبْتلِي به، أو: بمن يصبر ويجزع. وقال أبو السعود: هو وعد كريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالأجر الجزيل؛ لصبره الجميل، مع مزيد تشريف له- عليه الصلاة والسلام-؛ بالالتفات إلى إسم الرب مضافاً إلى ضميره صلى الله عليه وسلم. اهـ.
الإشارة: الطريق الجادة التي درج عليها الأنبياء والأولياء هي سلوك طريق الفقر والتخفيف من الدنيا، إلا قدر الحاجة، بعد التوقف والاضطرار، ابتداءً وانتهاء، حتى تحققوا بالله. ومنهم من أتته الدنيا بعد التمكين فلم تضره. والحالة الشريفة: ما سلكها نبينا صلى الله عليه وسلم وهو التخفيف منها وإخراجها من اليد، حتى مات ودرعه مرهونة عند يهودي، في وسق من شعير. وعادته تعالى، فيمن سلك هذا المسلك، أن يُديل الغنى في عقبه، فيكونون أغنياء في الغالب. والله تعالى أعلم.
وما وَصَف به الحق تعالى رسله؛ من كونهم يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، هو وصف للأولياء أيضاً- رضي الله عنهم-؛ فيمشون في الأسواق؛ للعبرة والاستبصار في تجليات الواحد القهار، فحيث يحصل الزحام يعظم الشهود للملك العلام، وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه: عين الزحام هو الوصول لِحَيِّنا.
وكان شيخ أشياخنا- سيدي علي العمراني- يقول لأصحابه: من أراد أن يذوق فليمش إلى السوق. اهـ. فينبغي للمريد أن يربي فكرته في العزلة والخلطة والخلوة والجلوة، ولا يقتصر على تربيتها في العزلة فقط؛ لئلا يتغير حاله في حال الخلطة؛ فيبقى ضعيفاً. فالعزلة تكون؛ ابتداء، قبل دخول بلاد المعاني، فإذا دخل بلاد المعاني فليختر الخلطة على العزلة، حتى يستوي قلبه في الخلوة والجلوة، فالعزلة عن الناس عزلة الضعفاء؛ والعزلة بين الناس عزلة الأقوياء. فالمشي في الأسواق والأكل فيها سنة الفقراء، أهل الأحوال؛ مجاهدةً لنفوسهم، وترييضاً لها على إسقاط مراقبة الخلق، والخوف منهم. وقد ورد أن الله تعالى أمر بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم؛ تشريفاً لأهل الأحوال، كما ذكره صاحب اللباب عند قوله: {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق...}.
ومن آداب الداخل في السوق: أن يكون ماشياً على رجليه، لا راكباً، كما وصف الله تعالى الرسل- عليهم السلام. وفي قوله تعالى: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون}: تسلية لمن يُبْتَلَى من الأولياء، وتهوين له على ما يلقاه من شدائد الزمان، وإذاية الإخوان، وجفوة الناس. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (21- 24):

{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)}
قلت: {وقال}: عطف على: {وقالوا مال هذا الرسول...} إلخ، ووضع الموصول موضع الضمير؛ للتنبيه بما في حيز الصلة على أن ما حكي عنهم مِنَ الشناعة بحيث لا يصدر ممن يعتقد المصير إلى الله- عز وجل-.
يقول الحق جل جلاله: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا} أي: لا يتوقعون الرجوع إلينا بالبعث، أو حسابنا المؤدي إلى سوء العذاب، الذي تستوجبه مقالاتهم الشنيعة.
والحاصل: أنهم يُنكرون البعث بالكلية، فأطلق الرجاء على التوقع. وقيل: لا يخافون لقاءنا؛ لأن الرجاء في لغة تهامة: الخوف، قالوا: {لولا}؛ هلا {أنزل علينا الملائكةُ} رسلاً دون البشر، أو: يشهدون بنبوة محمد ودعوى رسالته، {أو نرى ربَّنا} جهرة، فيخبرنا برسالته، ويأمرنا باتباعه، وإنما قالوا ذلك؛ عناداً وعتواً.
قال تعالى: {لقد استكبروا في أنفسهم} أي: أضمروا الاستكبار، وهو الكفر والعناد في قلوبهم، أو: عظموا في أنفسهم حتى اجترؤوا على التفوه بمثل هذه العظيمة الشنعاء، {وعَتَواْ} أي تجاوزوا الحد في الظلم والطغيان {عُتواً كبيراً}؛ بالغاً أقصى غاياته، أي: إنهم لم يجترئوا على هذا القول العظيم؛ إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار، وأقصى العتو، حتى أمَّلوا نيل المشاهدة والمعاينة والمفاوضة التي اختص بها أكابر الرسل وخاصة الأولياء، بعد تطهير النفوس وتصفية القلوب والأرواح. وهذا كقولهم: {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ...} [الإسراء: 90] إلى قوله: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء: 92]. ولم يكتفوا بما رأوا من المعجزات القاهرة؛ فذهبوا في الاقتراح كل مذهب، حتى منَّتهم أنفسهم الخبيثة أمالي سُدت دونها مطامع النفوس القدسية. واللام: جواب قسم محذوف، أي: والله لقد استكبروا.. الآية. وفيه من الدلالة على قُبح ما هم عليه، والإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم، ما لا يخفى.
{يوم يَرَون الملائكةَ} عند الموت أو البعث. و{يوم}: منصوب باذكر، أو بما دل عليه: {لا بُشرى يومئذٍ للمجرمين}؛ فإنه بمعنى: يُمنعون البشرى، أو: لا يبشر المجرمون. انظر البيضاوي. والجملة: استئناف مسوق لبيان ما يلقونه عند مشاهدتهم لما اقترحوه من نزول الملائكة، بعد استعظامه وبيان كونه في غاية ما يكون من الشناعة. وإنما قيل: يوم يرون، دون أن يقال: يوم تنزل؛ إيذاناً، من أول الأمر، بأن رؤيتهم لهم ليست على طريق الإجابة إلى ما اقترحوه، بل على وجه آخر غير معهود. وتكرير {يومئذٍ}؛ لتأكيد التهويل، مع ما فيه من الإيذان بأن تقديم الظرف للاهتمام، لا لِقَصْرِ نَفْي البُشرى على ذلك الوقت فقط؛ فإن ذلك مُخل بتفظيع حالهم. و{للمجرمين}: تعيين على أنه مظهر، وُضِعَ موضع الضمير؛ تسجيلاً عليهم بالإجرام، مع ما هم عليه من الكفر والطغيان.
{ويقولون حِجْراً محجوراً} على ما ذكر من الفعل المنفي، أي: لا يبشرون، ويقولون. وهو ينبئ عن كمال فظاعة ما يحيق بهم من الشر، وغاية هول مطلعه، أي: يقولون، عند مشاهدة ملائكة العذاب: حِجْراً محجوراً، أي: منعاً ممنوعاً منكم، وهي كلمة تقولها العرب عند لقاء عدو هائل، أو هجوم نازلة هائلة، يضعونها موضع الاستعاذة، فكأن المعنى: نسأل الله تعالى أن يمنع ذلك عَنَّا منعاً، ويحجره عنا حجراً.
والمعنى: أنهم يطلبون نزول الملائكة- عليهم السلام- ويقترحونه، وهم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم أشد كراهة، وفزعوا منهم فزعاً شديداً. وقالوا، عند رؤيتهم، ما كانوا يقولون عند نزول خطب شنيع وبأس فظيع.
وقيل: هو قول الملائكة، أي: تقول الملائكة للمجرمين، حين يرونهم: حِجْراً محجوراً، أي: حراماً محرماً عليكم البشرى، أي: جعل الله ذلك حراماً عليكم، إنما البشرى للمؤمنين. و(الحجر): مصدر، يُفتح ويكسر، وقرئ بهما. من حَجَرَهُ؛ إذا منعه. وهو من المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها. ومحجوراً: لتأكيد معنى الحجر، كما قالوا: موت مائت. وانظر ما وُجِّه بِهِ وقْفُ الهبطى على {حِجْراً}؛ فلعله الأوجه له.
ثم ذكر مآل أعمالهم، فقال: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً} الهباء: شِبْهُ غُبَارٍ يُرى في شعاع الشمس، يطلع من كُوَّة. والقدوم هنا: مجاز. مُثلتْ حال هؤلاء الكفرة وأعمالهم التي عملوها في كفرهم؛ من صلة رحم، وإغاثة ملهوف، وقِرى ضيف، وعِتقٍ، ونحو ذلك، بحال من خالف سلطانه، فقدم إلى أشيائه، وقصد إلى ما تحت يديه، فأفسدها، ومزقها كل ممزق، ولم يترك لها عيناً ولا أثراً، أي: عمدنا إليها وأبطلناها، أي: أظهرنا بطلانها بالكلية، من غير أن يكون هناك قدوم. والمنثور: المفرّق، وهو استعارة عن جَعْلِهِ لا يقبل الاجتماع ولا يقع به الانتفاع.
ثم ذكر ضدهم، فقال: {أصحابُ الجنة يومئذٍ خيرٌ مُستقراً} أي: مكاناً يستقرون فيه، والمستقر: المكان الذي يستقر فيه في أكثر الأوقات، للتجالس والتحادث، {وأحسن مَقِيلاً}: مكاناً يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم. ولا نوم في الجنة، ولكنه سمي مكان استرواحهم إلى أزواجهم الحور مقبلاً؛ على طريق التشبيه. ورُوي أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.
وقال سعيد الصواف: بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين، حتى يكون ما بين العصر إلى غروب الشمس، إنهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من حساب الناس.
وقرأ هذه الآية. اهـ. وأما الكافر فيطول عليه، كما قال تعالى: {فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4].
قال أبو السعود: وفي وصفه بزيادة الحسن، مع حصول الخيرية، رمز إلى أنه مزين بفنون الزين والزخارف. والتفضيل المعتبر فيهما: إما لإرادة الزيادة على الإطلاق، أي: هم في أقصى ما يكون من خيرية المستقر وحسن المقيل، وأما بالإضافة إلى ما للكفرة المتنعمين في الدنيا، أو إلى ما لهم في الآخرة، بطريق التهكم بهم، كما مرّ في قوله: {أذلك خير.
..} الآية. اهـ.
الإشارة: هؤلاء طلبوا الرؤية قبل إِبَّانِهَا وتحصيل شروطها، وهي الإيمان بالله، والإخلاص، والخضوع لمن يدل على الله، وذل النفس وتصغيرها في طلب الله. ولذلك قال تعالى في وصفهم- الذي منعهم من شهوده تعالى: {لقد استكبروا في أنفسهم وعَتَوْا عتواً كبيراً} أي: ولو صغروا في أنفسهم، وخضعوا خضوعاً كبيراً؛ لحصل لهم ما طلبوا، ولبُشروا بما أملوا، وفي ذلك يقول الشاعر:
تَذَلَّلْ لِمنْ تَهْوَى فَلَيْسَ الْهَوى سَهْلُ ** إِذَا رَضِيَ المحبوبُ صَحّ لَكَ الوَصْلُ

تذلَّلْ لَهُ تَحْظَى بِرُؤيَا جَمالِهِ ** فَفِي وَجْهِ مَنْ تَهْوَى الْفَرَائِضُ والنَّفْلُ

وقيل لأبي يزيد رضي الله عنه، حين قام يصلي بالليل: يا أبا يزيد، خزائننا معمورة بالخدمة، ائتنا من كُوّة الذل والافتقار. وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه: أتيت الأبواب كلها فوجدت عليها الزحام، فأتيت باب الذل والفقر فوجدته خالياً، فدخلت وقلت: هلموا إلى ربكم. أو كما قال.
وفي قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ...} إلخ، الترغيب في الإخلاص الموجب لقبول الأعمال، والترهيب من الرياء والعجب، الموجبان لإحباط الأعمال. وفي حديث معاذ عنه صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق سبعة أملاك قبل خلق السموات، ووكل كل مَلَكٍ بباب من أبواب السماء، فتصعد الحَفَظَةُ بعمل العبد إلى السماء الأولى فيقول المَلَكُ: ردوه، واضربوا به وجهه؛ إنَّ صاحبه كان يغتاب الناس، تم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الثانية، فيقول الملك: ردوه؛ إنه كان يفتخر على الناس في مجالسهم ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الثالثة فيقول الملك: ردوه؛ إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الخامسة فيقول الملك: ردوه؛ إنه كان يحسد الناس ويقع فيهم، ثم تصعد الحفظة إلى السماء السادسة، فيقول الملك: ردوه؛ إنه كان لا يرحم إنساناً قط بل كان يشمت بمن وقع في بلاء أنا ملك الرحمة أمرني ألا يجاوزني عمله. ثم تصعد الحفظة إلى السماء السابعة فيقول الملك: ردوه؛ إنه كان يحب الظهور والرفعة عند الناس، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد؛ من صلاة، وذكر، وتفكر، وحسن خلق، فيقفون بين يدي الله، ويشهدون له بالصلاح، فيقول الرب جل جلاله: أنتم الحفظة على عمل عبدي، وأنا الرقيب على قلبه، إنه لم يُرِدْنِي بهذا العمل، أراد به غيري، فعليه لعنتي، ثم تلعنه الملائكة والسموات». وانتهى باختصار، وخرجه المنذري. وتكلم في وضعه. وبالله التوفيق.