فصل: تفسير الآيات (63- 71):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (63- 71):

{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)}
{وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ...}.
قلت: و{عباد}: مبتدأ، و{الذين} وما بعده: خبر. وقيل: {أولئك يُجزون}.
و{هوناً}: حال، أو: صفة، أي: يمشون هينين، أو مشياً هونا.
يقول الحق جل جلاله: {وعبادُ الرحمن} أي: خواصه الذين يسجدون ويخضعون للرحمن، {الذين يمشون على الأرض هوناً} أي: بسكينة وتواضع ووقار، قال الحسن: يمشون حُلَمَاء علماء مثل الأنبياء، لا يؤذون الذر، في سكون وتواضع وخشوع، وهو ضد المختال الفخور المَرِح، الذي يختال في مشيه. وقال ابن الحنفية: أصحاب وقار وعفة، لا يسفهون، وإن سفهم عليهم حلَموا. و{الهَوْن} في اللغة: الرفق واللين. ومن قوله صلى الله عليه وسلم: «أحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا. وأبْغِض بَغِيضَكَ هَوْناً مَا، عسى أنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا».
{وإذا خاطبهم الجاهلون} أي: السفهاء بما يكرهون، {قالوا سلاماً}؛ سداداً من القول، يَسلمون فيه من الإيذاء والإثم والخَنا. أو: سلمنا منكم سلاماً، أو: سلموا عليهم سلاماً، دليله قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55]، ثم قالوا: {سلام عليكم}. قيل: نسختها آية القتال، وفيه نظر؛ فإن الإغضاء عن السفهاء مستحسن شرعاً ومروءة، فلا ينسخ. وكان الحسن إذا تلا الآيتين قال: هذا وصف نهارهم، ثم قال تعالى: {والذين يبيتون لربهم سُجّداً وقياماً}: هذا وصف ليلهم. قال ابن عباس: من صلى لله تعالى ركعتين، أو أكثر، بعد العشاء، فقد بات لله تعالى ساجداً وقائماً. وقيل: ما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء، والظاهر أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره.
{والذين يقولون ربنا اصرفْ عنا عذابَ جهنم إن عذابها كان غَرَاماً}؛ هلاكاً لازماً.
ومنه: الغريم؛ لملازمته غريمه، وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين، وعقّبه بذكر دعوتهم هُنا؛ إيذاناً بأنهم، مع اجتهادهم، خائفين مبتهلين إلى الله في صرف العذاب عنهم {إنها ساءت مستقراً ومُقاماً}، أي: إن جهنم قَبُحَت مستقراً ومقاماً لهم. و{ساءت}: في حكم بئست، وفيها ضمير مبهم يفسره {مستقراً}. والمخصوص بالذم: محذوف، أي: ساءت مستقراً ومقاماً هي. وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم إن.
{والذين إذا أنفقوا لم يُسْرفُوا}؛ لم يجاوزوا الحد في النفقة. وعن ابن عباس: لم ينفقوا في المعاصي. فالإسراف: مجاوزة حد الأمر، لا مجاوزة القدر.
وسمع رجلٌ رجلاً يقول: لا خير في الإسراف، فقال: لا إسراف في الخير. وقال صلى الله عليه وسلم: «من منع حقاً فقد قتر، ومن أعطى في غير حق فقد أسرف» {ولم يَقْتُرُوا}، القتر والإقتار والتقتير: التضييق. وقرئ بالجميع، {وكان بين ذلك قواماً} أي: وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار قواماً؛ عدلاً بينهما. فالقوام: العدل بين الشيئين. قال أبو عبيدة: لم يزيدوا على المعروف، ولم يخلو به، لقوله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] الآية. وقال يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا لا يأكلون الطعاماً للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوباً للجمال والزينة. ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسدُّ عنهم الجوع، ويقويهم على عبادة ربهم، ومن الثياب ما يستر عوراتهم، ويُكِنُّهم من الحرّ والبرد.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كفى بالمرء سَرَفاً إلا يشتهي شيئاً إلا اشتراه فأكله. ومثله في سنن ابن ماجه؛ مرفوعاً. قال القشيري: الإسراف: أن ينفق في الهوى ونصيب النفْس، ولو فلساً، وأما ما كان لله فليس فيه إسراف، ولو ألفاً. والإقتارُ: ما كان ادخاراً عن الله، فأمَّا التضييقُ على النَّفْس؛ منعاً لها عن اتباع الشهوات، ولتتعود الاجتزاء باليسير، فليس بالإقتار المذموم. اهـ.
{والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} أي: لا يشركون بالله شيئاً، {ولا يقتلون النفسَ التي حرَّم الله} قتلها {إلا بالحق} بقَوَدٍ، أو رَجْمٍ، أو شِرْكٍ، أو سعي في الأرض بالفساد، {ولا يزنون} أي: لا يفعلون من هذه العظائم القبيحة التي جمعهن الكفرة شيئاً، حيث كانوا مع إشراكهم به- سبحانه- مداومين على قتل النفوس المحرمة، التي من جملتها المؤودة، مُنْكَبِّينَ على الزنا، لا يرعوون عنه أصلاً، فنفَى هذه الكبائر عن عباده الصالحين؛ تعريضاً بما كان عليه أعداؤهم من قريش وغيره، كأنه قيل: والذين طهرهم الله مما أنتم عليه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: «قُلْتُ: يا رَسُولَ الله، أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ؟ قال: أنْ تَجْعَلَ لله نداً وَهُوَ خَلَقَكَ، قلت: ثُمَّ أيُّ؟ قال: أنْ تَقْتلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أنْ يُطْعَمَ مَعَكَ، قُلْتُ: ثمَّ أيُّ؟ قال: أنْ تُزَانِي بحَلِيلَة جَارِكَ» فنزلت الآية تصديقاً لذلك.
الإشارة: قد تضمنت الآية أربعة أصناف من الناس على سبيل التدلي؛ الأول: الأولياء العارفون بالله، أهل التربية النبوية، ومن تعلق بهم من أهل التهذيب والتأديب، وإليهم أشار بقوله: {وعباد الرحمن..} إلخ، وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت أقواماً من أمتي، ما خُلقوا بعد، وسيكونون فيما بعد اليوم، أُحبهم ويحبونني، ويتناصحون ويتباذلون، ويمشون بنور الله في الناس رويداً، في خفية وتقى، يَسلمون من الناس، ويسلم الناسُ منهم بصبرهم وحلمهم، قلوبهم بذلك إليه يَرْجِعُون، ومساجدهم بصلاتهم يعمرون، يرحمون ضعيفهم، ويجلون كبيرهم، ويتواسَوْن بينهم، يعود غنيهُم على فقيرهم، وقويُهم على ضعيفهم، يعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم»
فقال رجل من القوم: يرفقون برقيقهم؟ فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كلا؛ لا رقيق لهم، وهم خدام أنفسهم، هم أكرم على الله تعالى من أن يوسع عليهم؛ لهوان الدنيا عند ربهم.» ثم تلى النبي صلى الله عليه وسلم: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً...} الآية. رواه أبو برزة الأسلمي، عنه صلى الله عليه وسلم.
الثاني: العباد والزهاد أهل الجد والاجتهاد، أهل الصيام والقيام، الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً، أقامهم الحق تعالى لخدمته، كما أقام الأولين لمحبته ومعرفته. الثالث: الصالحون والأبرار، الذين يعبدون الله طمعاً في الجنة وخوفاً من النار، ومن كان منهم له مال أنفقه في سبيل الله، من غير سرف ولا إقتار. الرابع: عامة الموحدّين من أهل اليمين، المجتنبون لكبائر الذنوب، المسارعون بالتوبة إلى علام الغيوب. والله تعالى أعلم.
ثم أشار إلى وبال من فعل شيئاً من ذلك ولم يتب، فقال: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً}.
قلت: {يُضاعفْ} و{يخلُدْ}: بدل من {يَلْقَ}؛ بدل كل من كل، عند الأزهري؛ لأن لُقِيّ الآثام هي مضاعفة العذاب، وبدل اشتمال، عند المرادي. ومن رفعهما: فعلى الاستئناف.
يقول الحق جل جلاله: {ومن يَفْعَلْ ذلك} أي: ما ذكر، كما هو دأب الكفرة المذكورين، {يَلْقَ} في الآخرة {أثاماً}؛ وهو جزاء الآثام، كالوبال والنكال؛ وزْناً ومعنى، {يُضاعَفْ له العذابُ يومَ القيامة} أضعافاً كثيرة، كما يضاعف للمؤمنين جزاء أعمالهم كذلك، {ويخْلُدْ فيه} أي: في ذلك العذاب المضاعف، {مهاناً}؛ ذليلاً حقيراً، جامعاً للعذاب الجسماني والروحاني.
{إلا من تابَ} من الشرك، {وآمن} بمحمد صلى الله عليه وسلم، {وعَمِلَ عملاً صالحاً} بعد توبته {فأولئك يُبَدِّلُ الله سيئاتهم حسناتٍ} أي: يوفقهم للمحاسن بعد القبائح، فيوفقهم للإيمان بعد الشرك، ولقتل الكافر بعد قتل المؤمن، وللعفة بعد الزنا، أو: يمحوها بالتوبة، ويثبت مكانها الحسنات. ولم يُرد أن السيئة بعينها تصير حسنة، ولكن يمحوها ويعوض منها حسنة.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَيَتَمَنَّيَنَّ أقوامٌ أنهم أكثروا من السيئات، قيل: من؟ قال: الذين يُبدل الله سيئاتهم حسنات» {وكان الله غفوراً} للسيئات، {رحمياً} يُبَدِّلُها حسنات.
{ومن تاب وعمل صالحاً فإِنه يتوب إلى الله مَتَابَا} أي: ومن تاب، وحقق التوبة بالعمل الصالح، فإنه بذلك تائب إلى الله متاباً مُرْضِياً مكفراً للخطايا. وسبب نزول الآية: أن ناساً من المشركين قَتَلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تدعو إليه لَحَسنٌ لو تخبرنا أنَّ لِمَا عَمِلْنَاهُ كَفَّارَةً.
فنزلت: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر...} إلى قوله: {إلا من تاب...} إلخ. والظاهر أن توبة قاتل النفس بغير حق مقبولة؛ لعموم قوله: {إلا من تاب}، وهو قول الجمهور. وقيل: إن هذه منسوخة بآية النساء، وهو ضعيف والله تعالى أعلم.
الإشارة: من قنع من نفسه بمجرد الإسلام والإيمان، ولم تنهضه نفسه إلى التشوف لمقام الإحسان، لابد أن يلحقه الندم وضرب من الهوان، ولو دخل فسيح الجنان؛ لتخلفه عن أهل القرب والوصال، وفي ذلك يقول الشاعر:
مَنْ فَاتَهُ مِنْكَ وَصْلٌ حَظُّهُ النَّدَمُ ** ومَنْ تَكُنْ هَمَّهُ تَسْمُو به الهِمَمُ

.تفسير الآيات (72- 77):

{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)}
يقول الحق جل جلاله: {والذين لا يشهدون الزورَ} أي: لا يقيمون شهادة الكذب، أو لا يحضرون محاضر الكذب؛ فإنَّ مشاهدة الباطل مشاركة فيه، أي: يبعدون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطَّائين، فلا يقربونها، تَنَزُّها عن مخالطة الشر وأهله. وفي مواعظ عيسى- عليه السلام-: إياكم ومجالسَ الخطَّائين. {وإِذا مَرُّوا باللغو} أي: بالفحش وكل ما ينبغي أن يلغى ويُطرح، والمعنى: وإذا مروا بأهل اللغو المشتغلين به {مَرُّوا كراماً} معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن التلوث به كقوله: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55] وعن الباقر: إذا ذَكروا الفروج كفوا عنها، وقال مقاتل: إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا عنه وصفحوا.
{والذين إذا ذُكِّروا بآياتِ ربهم} أي: قرئ عليهم القرآن، أو: وعظوا بالقرآن، {لم يَخرُّوا عليها صُمّاً وعُمْياناً}، بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية، مجلتين لها بعيون راعية. وإنما عبّر بنفي الضد؛ تعريضاً بما يفعله الكفرة والمنافقون.
{والذين يقولون ربنا هَبْ لنا من أزواجنا}، {من}: للبيان، كأنه قيل: هب لنا قرة أعين، ثم بُينت القرة وفُسرت بقوله: {من أزواجنا وذرياتنا} والمعنى: أن يجعلهم الله لهم قرة أعين؛ بأن يروا منهم من الطاعة والإحسان وما تقر به العين. أو للابتداء، أي: هب لنا من جهتهم ما تقر به العين، من طاعة أو صلاح. {و} هب لنا أيضاً من {ذرياتنا قُرةَ أعيُن}؛ بتوفيقهم للطاعة، ومبادرتهم للفضائل والكمالات، فإن المؤمن إذا ساعده أهله في طاعة الله تعالى وشاركوه فيها؛ يسر قلبه، وتقر عينه؛ بما شاهده من مقاربتهم له في الدين، ويكون ذلك سبباً في لحوقهم به في الجنة، حسبما وعد به قوله تعالى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21].
وإنما قال: {أعين}؛ بلفظ القلة، دون عيون؛ لأن المراد أعين المتقين، وهي قليلة بالإضافة إلى أعين غيرهم. والمعنى: أنهم سألوا ربهم يرزقهم أزواجاً وأعقاباً، عُمَّالاً لله، يسرون بمكانهم، وتقر بهم عيونهم، قيل: ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله. وعن ابن عباس: (هو الولد إذا رآه يكتب الفقه).
{واجعلنا للمتقين إماماً} أي: أئمة يقتدى بنا في الدين، فاكتفى بالواحد؛ لدلالته على الجنس، أو: واجعل كل واحد منا إماماً؛ أي: من أولادنا إماماً. والظاهر: أن صدور هذا الدعاء منهم كان بطريق الانفراد؛ إذ يتعذر اجتماعهم في دعاء واحد. وإنما كانت عبارة كل واحد منهم عند الدعاء: واجعلني للمتقين إماماً، غير أنه حكيت عبارة الكل بصيغة المتكلم مع الغير؛ قصداً إلى الإيجاز، كقوله تعالى: {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} [المؤمنون: 51]. وأبقى إماماً على حاله من الانفراد. قيل: وفي الآية دليل على أن الرئاسة في الدين ينبغي أن تُطلب ويُرغب فيها، إذا كان القصد نفع عباد الله دون حظ نفساني.
{أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة}، جنس، أي: الغرفات، وهي العلالي في الجنة. ووحده بقصد الجنس. {بما صبروا}؛ بصبرهم على مشاق الطاعات، وترك الشهوات، وتحمل المجاهدات، وعلى إذاية أهل الإنكار، وارتكاب الذل والافتقار. {ويُلَقَّون فيها تحيةً وسلاماً} أي: تحييهم الملائكة، ويدعون لهم بطول الحياة والسلامة من الآفات. أو: يُحيي بعضُهم بعضاً، ويسلمون عليهم، {خالدين فيها}؛ لا يموتون ولا يخرجون، {حَسُنتْ} أي: الغرفة {مستقراً ومُقاماً}؛ موضعَ قرارٍ وإقامة، وهي مقابلة: {ساءت مستقراً ومقاماً}.
{قل} يا محمد: {ما يعبأُ بكم ربي لولا دعاؤكم} أي: ما يصنع بكم ربِّي، وأي فائدة في خلقكم، لولا دعاؤكم إلى الإسلام والتوحيد، أو: لولا عبادتكم له، أي: إنما خلقكم لعبادته؛ كقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ فإنما خلق الإنسان لمعرفته وطاعته، وإلا فهو وسائر البهائم سواء. قال المحشي: والظاهر: أنه خطاب لقريش القائلين: {أنسجد لما تأمرنا} أي: لا يحفل بكم ربي لولا تضرعكم واستغاثتكم إياه في الشدائد. اهـ.
وقيل: ما يعبأ: بمغفرة ذنوبكم، ولا هو عنده عظيم، لولا دعاؤكم معه الآلهة والشركاء، كقوله: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147]، قاله الضحاك. ثم قال: فظاهره: أن {ما}: استفهامية، ويحتمل كَوْنُهَا نَافِيَةً. انظر بقية كلامه.
وفسّر البخاري الدعاء هنا بالإيمان، أي: ما يبالي بكم ربي لولا إيمانكم المتوقع من بعضكم، {فقد كذبتم} بما جاء به الرسول فتستحقون العقاب، {فسوفَ يكونُ} العذاب الذي أنْتَجَهُ تكذيبكم {لِزاماً}؛ لازماً لكم؛ لا تنفكون عنه، حتى يكبكُم في النار. فالفاء في قوله: {فقد كذَّبتم} استئناف وتعليل لكونهم لا يُعبأ بهم، وإنما أضمر العذاب من غير تقدم ذكرٍ؛ للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره، وأنه مما لا تفي العبارة به.
وعن مجاهد: هو القتل يوم بدر، وأنه لُوزِمَ بين القتلى. وفي المشارق: اللزام: الفيصل، وقد كان يوم بدر. اهـ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قوله تعالى: {وإذا مروا بأهل اللغو}، وهم المتكلمون في حس الأكوان، مروا كراماً؛ مكرمين أنفسهم عن الالتفات إلى خوضهم. والذين إذا سمعوا الوعظ والتذكير أنصتوا بقلوبهم وأرواحهم، خلاف ما عليه العامة من التصامم والعمى عنه. {والذين يقولون ربنا..} إلخ، قال القشيري: قرة الروح: حياتها، وإنما تكون كذلك إذا كان بحق الله قائماً. ويقال: قرة العين من كان لطاعة الله معانقاً، ولمخالفة الأمر مفارقاً. اهـ. قلت: قرة العين تكون في الولد الروحاني، كما تكون في الولد البشري؛ فإن الشيخ إذا رأى تلميذه مُجِدّاً صادقاً في الطلب، حصل له بذلك غاية السرور والطرب، كما هو معلوم عند أرباب الفن. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وَصلَّى الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه وسَلَّمَ تسليماً.