فصل: تفسير الآيات (90- 104):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (90- 104):

{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)}
قلت: {وأُزلفت}: عطف على {ينفع}، وصيغة الماضي فيها وفيما بعدها؛ لتحقق الوقوع.
يقول الحق جل جلاله، في شأن اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون: {وأُزلفتِ} أي: قُّربت {الجنةُ للمتقين}، أي: تزلف من موقف السعداء، فينظرون إليها، {وبُرِّزتِ الجحيمُ}: أُظهرت، حتى يكاد يأخذهم لهبها، {للغاوين}: للكافرين، {وقيلَ لهم أينَ ما كنتم تعبدون من دون الله هل يَنْصُرونكم} بدفع العذاب عنكم، {أو ينتصرون} بدفعه عن أنفسهم، يوبّخون على إشراكهم، فيقال لهم: أين آلهتكم التي عبدتموها، هل ينفعونكم اليوم بنصرتهم لكم؟ أو: هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لها؟ كلا، بل هم وآلهتهم وَقُودُ النار، كما قوله تعالى: {فكُبْكِبُوا فيها} أي: أُلقوا في الجحيم على وجوههم، مرة بعد أخرى، إلى أن يستقروا في قعرها. وفي القاموس: كبّه: قَلَبَهُ وصرعه، كأكبه وكبكبه. اهـ. أي: صُرِعُوا؛ منكبين في الجحيم على وجوههم، {هم} أي: آلهتهم {والغاوون} أي: الذين كانوا يعبدونهم.
وفي تأخير ذكرهم عن ذكر آلهتهم رمز إلى أنهم مُؤَخِّرُونَ عنها في الكبكبة؛ ليشاهدوا سوء حالها، فيزدادوا غماً على غم، {وجنودُ إبليسَ} أي: يكبكبون معهم {أجمعون}، وهو شياطينه الذين كانوا يقوونهم ويوسوسونهم، ويُسَوِّلُونَ لهم ما هم عليه من عبادة الأصنام، وسائر فنون الكفر والمعاصي، أو: متبعوه من عصاة الجن والإنس؛ ليجتمعوا في العذاب، حسبما كانوا مجتمعين فيما يوجبه.
{قالوا} أي: العبدة {وهم فيها يختصمون} أي: قالوا معترفين بخطئهم في انهماكهم في الضلالة؛ متحسرين، والحال: أنهم في الجحيم بصدد الاختصام مع من معهم من المذكورين فيجوز أن يُنطق الله الأصنامَ حتى يصح منها التخاصم والتقاول، ويجوز أن يجري ذلك بين العصاة والشياطين.
قالوا: {تالله إنْ كُنَّا لفي ضَلاَل مُبِين} أي: إن الشأن كنا في ضلال واضح، لا خفاء فيه، {إذ نسويكم}؛ نَعْدِلُكُم {بربِّ العالمين} فنعبدُكم معه، أي: تالله لقد كنا في ضلال فاحش وقت تسْويتنا إياكم أيها الأصنام، في استحقاق العبادة، برب العالمين، الذي أنتم أدنى مخلوقاته، وأذلهم وأعجزهم، {وما أضَلَّنا إلا المجرمون} أي: رؤساؤهم، الذين أضلوهم، وإبليس وجنوده، ومن سنَّ الشرك. وليس المراد قصر الإضلال على المجرمين دون من عداهم، بل قصر ضلالهم على كونه بسبب إضلالهم، من غير أن يستقلوا به، وهذا كقولهم: {رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا} [الأحزاب: 67]. وعن السُّدِّي: هم الأولون الذين اقتدوا بهم. وأيّا ما كان ففيه التعريض للذين قالوا: {بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون}.
ثم قالوا: {فما لنا من شافعين} كما للمؤمنين من الملائكة والأنبياء- عليهم السلام- وغيرهم ممن أُهِّلَ للشفاعة. {ولا صديقٍ حميم} كما لهم أصدقاء؛ إذ لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون، وأما الكفار فبينهم التعادي كما يأتي في الآية.
أو: ما لنا من شافعين، ولا صديق من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن أصنامهم تشفع لهم عند الله، وكان له أصدقاء من شياطين الإنس، فلم ينفعهم شيء من ذلك. وجمع الشفعاء ووحّد الصديق؛ لكثرة الشفعاء. وأما الصديق، وهو الصادق في ودادك، الذي يهمه ما أهمك، ويسره ما أسرك، فقليل، وسئل حكيم عن الصديق، فقال: (اسم لا معنى له)، أي: لا وجود له، والبركة لا تنقطع.
قال القشيري: في الخبر: يجيء يوم القيامة عَبْدٌ فيُحاسَبُ، فتستوي حسناتُه وسيئاته، ويحتاج إلى حسنة واحدة يرْضى عنه خصومه، فيقول الله سبحانه له: عبدي يقيت لك حسنةٌ، إن كانت أَدْخَلْتُك الجنةََ، انْظُرْ، وتَطَلَّبْ من الناس لعلَّ أحداً يهبها لَكَ.
فيأتي الصفين، فيطلب من أبيه، ثم من أمه، ثم من أصحابه، فلا يجيبه أحدٌ إلا بقوله: أنا اليومَ فقيرٌ إلى حسنةٍ واحدة، فيرجع إلى مكانه، فيسأله الحقُّ- سبحانه: ما جئتَ به؟ فيقول: يا ربِّ لم يُعْطِني أحد حسنةً، فيقول الله تعالى: عبدي... ألم يكن لك صديق؟ فيتذكر العبدُ، ويقول فلان كان صديقاً لي فيك، فيأتيه ويدل الحق عليه، فيكلِّمه، فيقول: بل لي عباداتٌ كثيرة، فإن قَبِلَها الله مني فقد وهبتُها لك، فيُسَرُّ ويجيء إلى موضعه، فيخبر بذلك ربَّه تعالى فيقول قد قَبِلتُها منه ولم أنقص من حقِّه شيئاً وقد غفرت لك وله- فهذا معناه. اهـ. ونقل القرطبي عن الحسن قال: ما اجتمع ملأ على ذكر الله، فيهم عبد من أهل الجنة، إلا شفَّعه الله فيهم، وإن أهل الإيمان ليشفع بعضهم في بعض، وهم عند الله شافعون مشفعون. اهـ.
ثم قالوا: {فلو أن لنا كرةً} أي: رجعة إلى الدنيا {فنكون من المؤمنين}، وجواب {لو} التَّمْنِيَةِ: محذوف، أي: لفعلنا كيت وكيت؛ إذ {لو}، في مثل هذا، للتمني، أي: فليت لنا كرة فنكون من المؤمنين.
{إن في ذلك} أي: فيما ذكر من الأنباء العجيبة؛ كقصة إبراهيم مع قومه، وما ترتب على ذلك من الوعد والوعيد، {لآيةً} عظيمة، موجبة للزجر عن عبادة الأصنام، لاسيما لأهل مكة، الذين يدَّعون أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام، أو: إن في ذكر نبأه، وتلاوته عليهم، على ما هو عليه، من غير أن تسمعه من أحد، لآية عظيمة دالة على أن ما نتلوه عليهم وحْيٌ صادق، نازل من جهته تعالى، موجبة للإيمان به، {وَمَا كَانَ أَكْثَرهُمُ مُّؤْمِنِينَ} أي: وما أكثر هؤلاء، الذين تتلو عليهم هذه الأنباء، مؤمنين، بل هم مُصِرُّون على ما كانوا عليه من الكفر والضلال. ولا يحسن رجوعه لقوم إبراهيم، على أن {كان} أصلية؛ لأنه لم يؤمن من قومه إلا لوط فقط.
{وإِن ربك لهو العزيزُ الرحيمُ} أي: هو القادر على تعجيل العقوبة لقومك، ولكنه يمهلهم بحلمه ورحمته؛ ليؤمن بعض منهم أو من ذريتهم.
وبالله التوفيق.
الإشارة: وأُزلفت جنة المعارف للمتقين السِّوى، وبرزت جحيم القطيعة للغاوين، المتبعين الهوى. وفي الحِكَم: (لا يُخَافُ أن تلتبس الطرقُ عليك، إنما يُخَافُ من غلبة الهوى عليك) وقيل لأهل الهوى: أين ما كنتم تعبدون من دون الله، من الحاملين لكم على البقاء مع الحظوظ والشهوات، هل ينصروكم أو ينتصرون؟ فكُبكبوا في الحضيض الأسفل، هم والغاوون لهم، الذين منعوهم من الدخول في حضرة الأولياء، وجنود إبليس أجمعون. قالوا- وهم في غم الحجاب ونار القطيهة يختصمون-: تالله إن كنا لفي ضلال مبين، إذ نسويكم برب العالمين في المحبة والميل، وما أضلنا إلا المجرمون، الذين حكموا بقطع التربية على الدوام، وسدوا الباب في وجوه الرجال، فما لنا من شافعين، ولا صديق حميم، يشفع لنا حتى نلتحق بالمقربين. هيات لا يكون اللحوق بهم إلا بالدخول معهم، في مقام المجاهدة في دار الدنيا، ثم يتمنون الرجوع؛ ليُصدِّقوا بهم، وينخرطوا في سلكهم، فلا يجدون له سبيلاً. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (105- 122):

{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)}
قلت: اسم الجمع واسم الجنس يُذكر ويُؤنث، كقوم، ورهط، وشجر.
يقول الحق جل جلاله: {كذبَتْ قومُ نوحٍ}، وهو نوح بن لامَك. قيل: وُلد في زمن آدم عليه السلام، قاله النسفي، وإنما قال: {المرسلين}، والمراد: نوح فقط؛ لأن من كذَّب واحداً من الرسل فقد كذب الجميع، لاتفاقهم في الدعوة إلى الإيمان، لأن كل رسول يدعو الناس إلى الإيمان بجميع الرسل. وقد يُراد بالجمع: الواحد؛ كقولك: فلان يركب الخيل، ويلبس البرود، وماله إلا فرس واحد وبُرد واحد.
{إذ قال لهم}: ظرف للتكذيب، أي: كذبوه وقت قوله لهم {أخوهم نوحٌ}؛ نسباً، لا ديناً، وقيل: أخوة المجانسة، كما في آية: {بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]: {ألاَ تتقون} خالق الأنام، فتتركوا عبادة الأصنام، {إني لكم رسول أمين}، كان مشهوراً بالأمانة عندهم، كحال نبينا صلى الله عليه وسلم في قريش، ما كانوا يُسمونه إلا محمداً الأمين. {فاتقوا الله وأطيعونِ} فيما آمركم به وأدعوكم إليه من الإيمان.
{وما أسألكم عليه} أي: على ما أنا مُتصدٍ له من الدعاء والنصح، {من أجرٍ} أصلاً {إنْ أجريَ} فيما أتولاه {إلا على ربِّ العالمين}؛ لا أطمع في غيره، {فاتقوا الله وأطيعون}، الفاء؛ لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ من تنزيهه عليه السلام عن الطمع، كما أن نظيرتها السابقة؛ لترتيب ما بعدها على أمانته. والتكرير؛ للتأكيد، والتنبيه على أن كلا منهما مستقل في إيجاب التقوى والطاعة، فكيف إذا اجتمعا؟ كأنه قال: إذا عرفتم رسالتي وأمانتي فاتقوا الله وأطيعون.
{قالوا أَنُؤْمِنُ لك واتبعك} والحالة أنه قد تبعك {الأرْذَلونَ} أي: الأرذلون جاهاً ومالاً، والرذالة: الدناءة والخسة، وإنما استرذلوهم؛ لاتضاع نسبهم، وقلة نصيبهم من الدنيا، وقيل: كانوا من أهل الصناعة الدنيئة، قيل: كانوا حاكة وأساكفة- جمع إسكاف- وهو الخَفَّافُ- أي: الخراز، وقيل: النجار. والصناعة لا تزري بالديانة، فالغنى غنى القلوب، والنسب نسب التقوى، والعز عز العلم بالله لا غير، ومرادهم بذلك: أنه لا مزية لك في اتباعهم؛ إذ ليس لهم رزانة عقل، ولا إصابة رأي، وقد كان ذلك منهم في بادي الرأي. وهذا من كمال سخافة عقولهم، وقصر نظرهم على حطام الدنيا حتى اعتقدوا أن الأشرف مَنْ جَمَعَهَا، والأرذل مَنْ حُرمَها. وقد جهلوا بأنها لا تزن عند الله جناح بعوضة، وأن النعيم هو نعيم الآخرة، والأشرف مَنْ فازَ بِه، وسكن في جوار الله، والأرذل من حُرم ذلك.
قال القشيري: ذكر ما لَقِيَ من قومه، وقوله: {واتبعك الأرذلون}، وكذلك أتباع الرسل، إنما هم الأضعفون، لكنهم- في حُكم الله- هم المقدّمون الأكرمون، قال صلى الله عليه وسلم: «نُصِرْتُ بضعفائكم»، إلخ كلامه.
{قال وما عِلْمِي} أي: وأيّ شيء علمي {بما كانوا يعملون} من الصناعات، إنما أطلب منهم الإيمان.
وقيل: إنهم طعنوا في إيمانهم، وقالوا: لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة، وإنما اتبعوك؛ طمعاً في العدة والمال، أي: وما وظيفتي إلا اعتبار الظواهر، دون التنقير على بواطنهم، والشق عن قلوبهم، {إنْ حسابهم إلا على ربي} أي: ما محاسبة أعمالهم والتنقير عن كيفياتها إلا على ربي؛ فإنه المطلع على السرائر، {لو تشعرون} بشيء من الأشياء، أو: لو كنتم من أهل الشعور لعلمتم ذلك، ولكنكم كالبهائم أو أضل.
{وما أنا بِطَاردِ المؤمنين} أي: ليس من شأني أن أتبع شهواتكم، فأطرد المؤمنين؛ طمعاً في إيمانكم، وهو جواب عما أوهمه كلامهم من استدعاء طردهم وتعليق إيمانهم بذلك، حيث جعلوا اتباعهم له مانعاً عنه، {إنْ أنا إلا نذير مبين} وما علي إلا أن أُنذركم إنذاراً بيّناً؛ بالبرهان القاطع، وأنتم أعلم بشأنكم، أي: وما أنا إلا رسول مبعوث لإنذار المكلفين، سواء كانوا أعزاء أو أراذل، فكيف يمكنني طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء؟. {قالوا لئن لم تَنْته يا نوحُ} عما تقول {لتكوننَّ من المرجومين}؛ من المقتولين بالحجارة. قالوه في آخر أمره.
{قال ربِّ إنَّ قومي كذَّبونِ}؛ تمادوا على تكذيبي، وأصروا عليه، بعد ما دعوتهم هذه الأزمنة المتطاولة، فلم يزدهم دعائي إلا فِراراً، وليس هذا من قبيل الإخبار؛ لأن الله لا يخفى عليه شيء، وإنما هو تضرع وابتهال، بدليل قوله: {فافتحْ بيني وبينهم فتحاً}؛ أي: احكم بيني وبينهم بما يستحقه كل واحد منا، وهذه حكاية إجمالية، قد فصلت في سورة نوح {وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِين} من شرهم، أو من شؤم عملهم.
{فأنجيناه ومن معه} حسب دعائه {في الفلك المشحون}؛ المملوء بهم وبما لابد لهم منه. {ثم أغرقنا بَعْدُ} أي: بعد إنجائهم {الباقين} من قومه، {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} الممتنع القاهر بإهانة من جحد وأصر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال القشيري: أخبر عن كل واحد من الأنبياء بقوله: {وما أسألكم عليه من أجر}؛ ليَعْلَمَ الكافةُ أنه من عَمِلَ له فلا ينبغي أن يطلب الأجر من غيره، ففي هذا تنبيهٌ للعلماء- الذين هم ورثة الأنبياء- أن يتأدبوا بآدابهم، وألاّ يطلبوا من الناس شيئاً في بَثِّ علومهم، ولا يرتفقون منهم بتعليمهم، والتذكير لهم، ومن ارتفق من المستمعين في بث فائدة يذكرها من الدين، يَعِظُ بها المسلمين، فلا بارك الله للمسلمين فيما يَسْمعون منه، ولا للعلماءِ أيضاً بركةٌ فيما منهم يأخذون، فيبيعون دينَهم بَعَرَضٍ يسيرٍ، ثم لا بَركضةَ لهم فيه، إذ لا يتقربون به إلى الله، ولا ينتفعون به، ويَحْصُلون على سخط من الله. اهـ.
قلت: أما ما يأخذه العالم من الأحباس فلا يدخل في هذا؛ إذ ليس فيه تكلف من أحد، وكذلك ما يأخذه الواعظ على وجه الزيارة والهدية، من غير استشراف نفسٍ ولا طمعٍ ولا تكلفٍ. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (123- 140):

{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)}
يقول الحق جل جلاله: {كذبتْ عادٌ المرسلين}، وهي قبيلة، ولذلك أنَّث الفعل، وفي الأصل: اسم رجل، هو أبو القبيلة. {إذ قال لهم أخوهم}؛ نسباً، {هودٌ أَلاَ تتقون إني لكم رسول أمين}، وقد مر تفسيره، {فاتقوا الله} في تكذيب الرسول الأمين، {وأطيعونِ} فيما آمركم به وأنهاكم عنه، {وما أسألكم عليه من أجرٍ إن أَجْرِيَ إلا على رَبِّ العاَمينَ}، وتصدير القصص بتكذيب الرسل والأمر بالطاعة؛ للدلالة على أن مبنى البعثة هو الدعاء إلى معرفة الحق، والطاعة فيما يقرب المدعو إلى الثواب، ويُبعده من العقاب، وأنَّ الأنبياء- عليهم السلام- مُجْمِعون على ذلك، وإن اختلفوا في فروع الشرائع، المختلفة باختلاف الأزمنة والأعصار، وأنهم منزهون عن المطامع الدنيئة، والأغراض الدنيوية بالكلية.
ثم وبَّخهم بقوله: {أتَبْنونَ بكل رِيعٍ}: مكان مرتفع، ومنه: ريع الأرض؛ لارتفاعها، وفيه لغتان: كسر الراء وفتحها. {آيةً}؛ علَماً للمارة، كانوا يصعدونه ويسخرون بمن يمر بهم. وقيل: كانوا يسافرون ولا يهتدون إلا بالنجوم، فبنوا على الطريق أعلاماً ليهتدوا بها؛ عبثاً، وقيل: برج حمام، دليله: {تَعْبَثُون} أي: تلعبون ببنائها، أو: بمن يمر بهم على الأول، {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ}، مآخذ الماء، أو قصوراً مشيدة، أو حصوناً، وهو جمع مصنع، والمصنع: كل ماصنع وأتقن في بنيانه، {لعلكم تَخْلُدُونَ} أي: راجين الخلود في الدنيا، عاملين عمل من يرجو ذلك، أو كأنكم تخلدون.
{وإذا بطشتم} بسوط او سيف، أو أخذتم أحداً لعقوبة {بطشتم جبارين}؛ مسلطين، قاسية قلوبكم، بلا رأفة ولا رقة، ولا قصد تأديب، ولا نظراً للعواقب. والجبار الذي يضرب أو يقتل على الغضب. {فاتقوا الله} في البطش، {وأطيعونِ} فيما أدعوكم إليه؛ فإنه أنفع لكم، {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ} من ألوان النعماء وأصناف الآلاء. ثم فصّلها بقوله: {أمدَّكم بأنعامٍ وبنين}؛ فإن التفصيل بعد الإجمال أدخل في القلب. وقرن البنين بالأنعام؛ لأنهم يعينونهم على حفظها والقيام بها.
{وجناتٍ}؛ بساتين {وعيونٍ}: أنهار خلال الجنات، {إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} إن عصيتموني، أو: إن لم تقوموا بشكرها؛ فإن كفران النعم مستتبع للعذاب، كما أن شكرها مستلزم لزيادتها، قال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
{قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ}؛ فإنّا لن نرعوي عما نحن عليه، ولا نقبل كلامك ودعوتك، وعظت أو سكت. ولم يقل: أم لم تعظ؛ لرؤوس الآي. {إنْ هَذَا إِلا خُلق الأولين} بضم اللام، أي: ما هذا الذي نحن عليه؛ من ألاَّ بعث ولا حساب، إلا عادة الأولين وطبيعتهم واعتقادهم، أو: ما هذا الذي نحن عليه؛ من الموت والحياة إلا عادة قديمة، لم يزل الناس عليها، ولا شيء بعدها، أو: ما هذا الذي أنكرت علينا؛ من البنيان والبطش، إلا عادة مَنْ قَبْلَنَا، فنحن نقتدي بهم، وما نُعَذَّبُ على ذلك.
وبسكون اللام، أي: ما هذا الذي خوفتنا به {إلا خَلْق الأولين} أي: اختلاقهم وكذبهم، أو: ما خَلْقُنا هذا إلا كخلْقهم، نحيا كما حيوا، ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا حساب، {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} على ما نحن عليه من الأعمال.
{فَكَذَّبُوهُ} أي: أصروا على تكذيبه، {فأهلكناهم} بسبب ذلك بربح صَرْصَرٍ، تقدم في الأعراف كيفيته، {إنّ في ذلك لآيةً وما كان أكْثَرُهُمْ} أي: قوم هود {مؤمنين}؛ ما أسلم معه ثلاثمائة ألف... وأهلك باقيهم. قاله المحشي الفاسي. وقيل: وما أَكْثَرُ قَوْمِكَ بمؤمنين بهذا، على أن {كان}: صلة. {وإن ربك لهو العزيزُ الرَّحِيمُ}؛ العزيز بالانتقام من أعدائه، الرحيم بالانتصار لأوليائه.
الإشارة: أنكر هود عليه السلام على قومه أمرين مذمومين، وهما من صفة أهل البُعد عن الله؛ الأول؛ التطاول في البنيان، والزيادة على الحاجة، وهي ما يُكن من البرد، ويقي من الحر، من غير تمويه ولا تزويق، والزيادةُ على الحاجة في البنيان من علامة الرغبة في الدنيا، وهو من شأن الجهال رعاء الشاه، كما في الحديث، وفي خبر أخر: «إذاعلا العبد البناء فوق ستة أذْرُعٍ ناداه ملك: إلى أين يا أفْسَقَ الفاسِقينَ؟».
والثاني: التجبر على عباد الله، والعنف معهم، من غير رحمة ولا رقة، وهو من قساوة القلب، والقلب القاسي بعيد من الله، وفي الخبر عن عيسى عليه السلام: (لا تُكثِرُوا الكلام بغير ذكر الله، فتقسو قلوبكم؛ فإن القلبَ القاسِيَ بعيدٌ من الله، ولكن لا تشعرون). وفي الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم: «لا تنظُرُوا إلى عيوب الناس كأنكم أربابٌ، وانظروا إلى عيوبكم كأنكم عَبِيدٌ، فإنما الناس مُبْتَلى ومُعَافى، فارحموا أهل البلاء وسلو الله العافية» وبالله التوفيق.