فصل: تفسير الآيات (141- 159):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (141- 159):

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)}
يقول الحق جل جلاله: {كَذَّبَتْ ثمودُ المرسَلين إذ قال لهم أخوهم}؛ نسباً، {صالحٌ ألا تتقون} الله تعالى، فتوحدونه، {إني لكم رسولٌ أمين}: مشهور فيكم بالأمانة، {فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على ربِّ العالمين أَتُتْركون فيما ها هنا آمنين} أي: أتطمعون أن تتركوا فيما ها هنا من النعمة والتَّرَفُّهِ، آمنين من عقاب الله وعذابه، وأنتم على كفركم وشرككم، كلا، والله لنختبرنكم ببعث الرسول، فإن كفرتم عاجلتكم بالعقوبة.
ثم فسّر ما هم فيه من النعمة بقوله: {في جناتٍ وعيونٍ وزروعٍ ونخلٍ} هو دخل فيما قبله، وخصه بالذكر؛ شرفاً له. أو: في جنات بلا نخل، {طَلْعُهَا هَضِيمٌ}، والطلع: عنقود التمر في أول نباته، باقياً في غلافه. والهضيم: اللطيف اللين؛ للطف الثمر، أو: لأن النخل أنثى وطلع الأنثى ألطف، أو: لنضجه، كأنه: قيل: ونخل قد أرطب ثمره. قال ابن عباس: إذا أينع فهو هضيم. وقال أيضاً: هضيم: طيب، وقال الزجاج: هو الذي رطبه بغير نوى، أو: دَانٍ من الأرض، قريب التناول.
{وتَنْحِتُون} أي: تنقبون {من الجبال بيوتاً فارِهين}؛ حال من الواو، أي: حاذقين، أو: ناشطين، أو: أقوياء، وقيل: أَشِرينَ بَطِرِينَ. قيل: كانوا في زمن الشتاء يسكنون الجبال، وفي زمن الربيع والصيف ينزلون بمواشيهم إلى الريف ومكان الخصب. {فاتقوا الله وأطيعون ولا تُطيعوا أمرَ المسرفين}؛ الكافرين المجاوزين الحد في الكفر والطغيان، أي: لا تنقادوا لأمرهم، ولا تتبعوا رأيهم، وهم {الذين يُفسدون في الأرض} بالإسراف بالكفر والمعاصي، {ولا يُصلحُونَ} بالإيمان والطاعة. والمعنى: أن فسادهم خالص، لا يشوبه شيء من الصلاح، كما تكون حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح.
{قََاُلوا إِنَّما أَنتَ مِنَ الْمُسَحِّرِينَ}؛ الذين سُحِرُووا، حتى غَلَبَ على عقلهم السحرُ {وما أنت إلا بشرٌ مثلنا فأتِ بآيةٍ إن كنت من الصادقين} في دعوى الرسالة، {قال هذه ناقةٌ}، قالها بعدما أخرجها الله تعالى من الصخرة بدعائه عليه السلام، {لها شِرْبٌ}؛ نصيب من الماء، فلا تُزاحموها فيه، {ولكم شِرْبُ يومٍ مَعْلومٍ} لا تزاحمكم فيه. رُوي أنهم قالوا: نُريد ناقة عُشَرَاءَ، تخرج من هذه الصخرة، فتلد سَقْباً- والسقب: ولد الناقة- فقعد صالح يتفكر، فقال له جبريل عليه السلام: صَلِّ ركعتين، وسَلْ رَبَّك الناقة، ففعل، فخرجت الناقة، ونتجت سقباً مثلها في العِظم، وصدرها ستون ذراعاً- أي: طولها- وإذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله، وإذا كان يوم شربهم لا تشرب فيه.
{ولا تَمَسُّوها بِسُوءٍ}؛ بضرب، أو عقر، أو غير ذلك، {فيأخذَكم عذابُ يومٍ عظيم}، وصف اليوم بالعظم؛ لعظم ما يحل فيه، وهو أبلغ من تعظيم العذاب، {فعقروها} عَقَرَها قَدَّار، وأسند العقر إلى جميعهم؛ لأنهم راضون به.
رُوي أن عاقرها قال: لا أعقرها حتى ترضوا أجمعين. وكانوا يدخلون على المرأة في خدرها، فيقولون: أترضين بعقر الناقة؟ فتقول: نعم، وكذلك صبيانهم، {فأصبحوا نادمين} على عقرها؛ خوفاً من نزول العذاب بهم، لا ندم توبة؛ لأنهم طلبوا صالحاً ليقتلوه لَمَّا أيقنوا بالعذاب، وندموا حين لا ينفع الندم، وذلك حين مُعَايَنَةِ العذاب.
{فأخذهم العذابُ} أي: صيحة جبريل، فتقطعت قلوبهم، {فأصبحوا في ديارهم جاثمين}: ميتين، صغيرهم وكبيرهم، {إنّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين}. رُوي أنه أسلم منهم ألفان وثلاثمائة رجل وامرأة. وقيل: كانوا أربعة آلاف، وقال كعب: كان قوم صالح اثني عشر ألفاً، من سوى النساء والذرية. ولقد كان قوم عاد مثلهم ست مرات. قاله القرطبي: قيل: في نفي الإيمان عن أكثرهم إيماءٌ إلى أنه لو آمن أكثرهم أو: شطرهم لما أُخذوا بالعذاب، وأن قريشاً إنما عُصموا من تعجيل العذاب ببركة من آمن منهم. وعلى أن {كان} زائدةٌ يكون الضمير لقريش، كما تقدم. {وإن ربك لهو العزيز الرحيم}.
الإشارة: قوله: {أَتُتركون فيما ها هنا آمنين}؛ أنكر عليهم ركونهم إلى الدنيا وزخارفها الغرارة، واطمئنانهم إليها، وهو غرور وحمق؛ إذ الدنيا كسحابة الصيف، تظل ساعة ثم ترتحل، فالدنيا عرض حائل، وظل آفل، فالكيِّس من أعرض عنها، وتوجه بكليته إلى مولاه، صبر قليلاً وربح كثيراً، والأحمق من وقع في شبكتها، حتى اختطفته منيته، وفي الحديث: «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لا دَارَ لَهُ، ومالُ من لا مَالَ له، لَهَا يجمعُ من لا عقل له، وعليها يُعادي من لا علم عنده».

.تفسير الآيات (160- 175):

{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)}
يقول الحق جل جلاله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ...} إلخ، وهو ظاهر، ثم قال: {أتأتون الذُّكْرَان من العالمين}، أراد بالعالمين: الناس، أي: أتطؤون الناس مع كثرة الإناث، أو: أتطؤون أنتم من بين سائر العالمين الذكران، وتختصون بهذه الفاحشة {وتذرُون ما خلقَ لكم ربكم} من الإناث: أو: ما خلق لكم؛ لأجل استمتاعكم من الفروج، {مِن أزواجكم}، فَمِنْ للبيان، إن أريد ب {ما}: جنس الإناث، وهو الظاهر، وللتبعيض، إن أريد بها العضو المباح منهن، تعريضاً بأنهم يفعلون ذلك بنسائهم أيضاً، وفيه دليل تحريم أدبار الزوجات والمملوكات، ومن أجاز ذلك قد أخطأ خطأ عظيماً. {بل أنتم قومٌ عَادُون} أي: متعدون. والعادي: المتعدي في ظُلْمِهِ، المتجاوز فيه الحد، أي: أنتم قوم أحقَّاء بأن توصفوا بالعدوان؛ حيث ارتكبتم مثل هذه العظيمة، التي لم يرتكبها أحد قبلكم، ولو من الحيوانات البهيمية.
{قالوا لئن لم تنتهِ يا لوطُ} عن إنكارك علينا وتقبيح أمرنا {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} من بلدنا، أي: من جملة من أخرجناه من بين أظهرنا، وطردناه من بلدنا. ولعلهم كانوا يُخرجون من أخرجوه على أسوأ حال. {قال إني لِعَمَلِكُم من القَالين}؛ من المبغضين غاية البغض، كأنه يقلي الفؤاد والكبد من شدته. والقِلَى: أَشَدُّ البغض، وهو أبلغ من أن يقول: لعملكم قالٍ، فقولك: فلان من العلماء، أبلغ من قولك: فلان عالم؛ لأنك تشهد بأنه مساهم لهم في العلم. وفي الآية دليل على قبح معصية اللواط؛ ولذلك أفتى مالك بقتل فاعلها.
ثم قال: {رَبِّ نَجّنِي وأهلي مما يعملون}؛ من عقوبة عملهم، {فنجَّيناه وأهله أجمعين} يعني: بناته، ومن آمن معه، {إلا عجوزاً} هي امرأته، وكانت راضية بذلك، والراضي بالمعصية في حكم العاصي، ولو لم يحضر. واستثناؤها من الأهل؛ لأنها داخلة فيه- ولو لم تكن مؤمنة-؛ لاشتراكها في الأهلية بحق الزواج. بقيت {في الغابرين}؛ في الباقين في العذاب، وهي صفة لها. والغابر في اللغة: الباقي، كأنه قيل: إلا عجوزاً غابرة، أي: مُقَدَّراً غبورها؛ إذ الغبور لم يكن صفتها وقت نجاتهم.
{ثم دمَّرنا الآخَرِين} أي: أهلكناهم أشد إهلاك وأفظعه، {وأمطرنا عليهم مطراً} أي: مطراً غير معهود. وعن قتادة: أمطر الله على شُذّاذ القوم، أي: الخارجين عن البلد- حجارة من السماء فأهلكهم، وقلب المدينة بمن فيها. وقيل: لم يرض بالقلب فقط حتى أتبعهم مطراً من حجارة، {فساءَ مطرُ المنذَرين} أي: قَبُحَ مَطَرُ المنذرين مطرهم، فالمخصوص محذوف. {إن في ذلك لآيةً وما كان أكثرُهم مؤمنين}، بل لم يؤمن به إلا بناته وناس قليلون. أو: ما كان أكثر قريش بمؤمنين بهذا، {وإِن ربَّك لهو العزيز} الغالب، {الرحيم}؛ حيث لم يُعاجل بالعقوبة لمن استحقها.
الإشارة: من شناعة هذه المعصية حذر الصوفية من مخالطة الشبان، وكذلك النساء.
وما أُولِعَ فقيرٌ بمخالطتهما فأفلح أبداً، إن سلم من الفاحشة اتُّهِمَ بها، ولا يحل لامرئ يُؤمن بالله واليوم الآخر أن يقف مواقف التهم. والنظر إلى محاسن النساء والشبان فتنة، وهي كالعقارب، الصغيرة تلدغ، والكبيرة تلدغ، فالسلامة البُعد عن ساحتهن، إلا على وجهٍ أباحته الشريعة، كالتعليم أو التذكير، مع غَضِّ البصر، أو حجابٍ بينه وبينهن، وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (176- 191):

{كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)}
يقول الحق جل جلاله: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} وهي: الغيضة التي تنبت الشجر، والمراد بها: غيضة بقرب مدين، يسكنها طائفة منهم، وكانوا ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام، وكان أجنبياً منهم، ولذلك قيل: {إذ قال لهم شُعيبٌ} ولم يقل: أخوهم، بخلاف مدين، فإنه منهم، ولذلك قال: {أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف: 85 وهود: 84 والعنكبوت: 36] وقيل: الأيكة: الشجر الملتف، وكان شجرهم المقل، وهو الدوم. قال قتادة: بعث الله شعيباً إلى أمتين؛ أصحاب الأيكة وأصحاب مدين. فأهلك الله أصحابَ الأيكة بالظُلة، وأما أهل مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا. وقرئ: {لَيْكَةِ}؛ بحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على اللام، وإنما كتبت هنا وفي {ص} باللام؛ اتباعاً للفظ.
{إِذْ قَالَ لهم شُعيبٌ أَلا تَتَّقُون} الله، فتوحدوه ولا تُطففوا، {إني لكم رسول امين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه} أي: التبليغ؛ {من أجرٍ إنْ أجريَ إلا على رب العالمين أوْفُوا الكَيْلَ} أي: أتموه {ولا تكونوا من المخْسِرين} أي: حقوق الناس بالتطفيف، {وزِنُوا} أشياءكم التي تبيعونها {بالقِسْطَاسِ المستقيم} السوي. والقسطاس- بضم القاف وكسرها: الميزان، فإن كان من القسط- وهو العدل، وجعلت العين مكررة- فوزنه: فُعْلاَس، وإلا فهو رباعي، ووزنه: فُعْلاَلٌ. وقيل: عجمي.
{ولا تبخسوا الناس أشياءَهم} أي: لا تنقصوا شيئاً من حقوقهم، أيّ حق كان، يقال: بخسه حقه: إذا انتقصه. وقيل: نهاهم عن نقص الدراهم والدنانير بقطع أطرافها. فالكيل على ثلاثة أقسام: واف، وزائد وناقص. فأمر الحق تعالى بالوافي، ونهى عن الناقص، وسكت عن الزائد، فَتَرْكُهُ دَليلٌ على أنه إن فعله كان أحسن، وإن تركه فلا عليه. {ولا تَعْثَوا في الأرض مفسدين}؛ ولا تبالغوا فيها بالإفساد، وذلك نحو قطع الطريق، والغارة، وإهلاك الزروع. وكانوا يفعلون ذلك فنهُوا عنه، يقال: عَثِيَ كفرح، وعثا يعثو، كنصر.
{واتقوا الذي خلقكم و} خلق {الجِبلّة الأولين} أي: الخلق الماضين، وهم من تقدمهم من الأمم، {قالوا إنما أنتَ من المسحَّرِين وما انت إلا بشرٌ مثلنا}، أدخل الواو بين الجملتين هنا؛ لدلالةٍ على أن كلا من التسحير والبشرية مناف للرسالة؛ مبالغة في التكذيب، فتكذيبهم أقبح من ثمود حيث تركه فدل على معنى واحد وهو كونه مسحوراً وقرره بكونه بشراً. ثم قالوا: {وإنْ نظنك} {إن}: مخففة، أي: وإنه، أي: الأمر والشأن لنظنك {لمن الكاذبين} فيما تدعيه من النبوة.
ثم استعجلوا العذاب بقولهم: {فَأَسْقِطْ علينا كِسفاً من السماء} أي: قطعاً، جمع كِسْفة، وقرئ بالسكون. أي: جُزءاً منه، والمراد بالسماء: إما السحاب، أو: السماء المظلة، {إن كنت من الصادقين} في دعواك الرسالة، ولم يكن طلبهم ذلك إلا لتصميمهم على الجحود والتكذيب، وإلا لما أخطروه ببالهم فضلاً عن أن يطلبوه.
{قال} شعيب عليه السلام: {ربي أعلمُ بما تعملون} من الكفر والمعاصي، وبما تستحقونه من العذاب، فينزله عليكم في وقته المقدر له لا محالة، {فكذّبوه} أي: فتمادوا على تكذيبه، وأَصروا عليه {فأخذهم عذابُ يومِ الظُّلَّة} حسبما اقترحوه. وذلك بأن سلط عليهم الحر سبعة أيام بلياليها، فأخذ بأنفاسهم، فلم ينفعهم ظل ولا ماء ولا شرب، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية، فأظلتهم سحابة، وجدوا فيها برداً ونسيماً، فاجتمعوا تحتها، فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا جميعاً. وقيل: رفع لهم جبل، فاجتمعوا تحته، فوقع عليهم، وهو الظلة. وقيل: لما ساروا إلى السحابة صيح بهم فهلكوا. {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يومٍ عظيمٍ} أي: في الشدة والهول، وفظاعة ما وقع فيه من الطامة والداهية التامة.
{إن في ذلك لآيةً وما كان أَكْثرُهُمْ مؤمنين} قيل: آمن بشعيب من القِسْمَيْنِ- مدين والأيكة- تسعمائة إنسان، أو: وما أكثر قريش بمؤمنين بهذا، {وإن ربك لهو العزيز الرحيم}.
هذا آخر القصص السبع التي أُوحيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لصرفه- عليه الصلاة والسلام- عن الحرص على إسلام قومه ودفع تحسر فواته، تحقيقاً لمضمون ما مر في مطلع السورة الكريمة من قوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ...} [الشعراء: 3]. إلخ، {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ} [الشعراء: 5، 6] الآية، فإن كل واحدة من هذه القصص ذكر متجدد النزول، قد أتاهم من جهته تعالى، بموجب رحمته الواسعة.
{وما كان أكثرهم مؤمنين} بعد ما سمعوها على التفصيل، قِصَّةً بعد قصةٍ، ليتدبروا فيها، ويعتبروا بما في كل واحدة من الدواعي إلى الإيمان، والزجر عن الكفر والطغيان، وبأن يتأملوا في شأن الآيات الكريمة، الناطقة بتلك القصص، على ما هي عليه، مع علمهم بأنه- عليه الصلاة والسلام- لم يسمع شيئاً من ذلك من أحدٍ أصلاً، فلم يفعلوا شيئاً من ذلك واستمروا على ما كانوا عليه من الكفر والضلال. وبالله التوفيق.
الإشارة: كما أمر الله تعالى بوفاء المكيال، أمر بالوفاء في الأعمال، ووفاؤها: إتقانها وإخلاصها، وتخليصها من شوائب النقص، في الظاهر والباطن. وكما أمر بالعدل في الميزان الحسي بقوله: {وزنوا بالقسطاس المستقيم}، أمر بالعدل في الميزان المعنوي، وهو وزن الخواطر بالقسطاس الشرعي، فكل خاطر يخطر بالقلب يريد أن يفعله أو يتكلم به، لا يُخرجه، حتى يزنه بميزان الشرع، فإن كان فيه نفع أخرجه كما كان، أو غيَّره، وإن كان فيه ضررٌ بادَرَ إلى محوه من قلبه، قبل أن يصير هماً أو عزماً، فيعسر رده. وبالله التوفيق.