فصل: تفسير الآيات (192- 203):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (192- 203):

{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)}
قلت: {آية} خبر {كان}، و{أَنْ يعلمه}: اسمها، ومن قرأ {آية}؛ بالرفع؛ فآية اسمها، و{أن...} إلخ: خبر أو {كان}: تامة، و{آية}: فاعل، و{أن يعلمه}: بدل منه.
يقول الحق جل جلاله: {وإنه} أي: القرآن المشتمل على القصص المتقدمة، وكأنه تعالى عاد إلى ما افتتح به السورة من إعراض المشركين عما يأتيهم من الذكر، ليتناسب المفتتح والمختتم، أي: وإن القرآن الكريم {لتنزيلُ ربِّ العالمين} أي: منزل من جهته. ووصفه تعالى بربوبية العالمين؛ للإيذان بأن تنزيله من أحكام ربوبيته للعالمين ورأفته للكل.
{نَزَلَ به} أي: أنزله {الروحُ الأمين} أي: جبريل عليه السلام، لأنه أمين على الوحي الذي فيه روح القلوب، ومن قرأ بالتشديد: فالفاعل هو الله، والروح: مفعول به أي: جعل الله تعالى الروح الأمين نازلاً به. والباء؛ للتعدية نزل به {على قلبك} أي: حفظك وفهمك إياه، وأثبته في قلبك إثبات ما لا يُنْسَى، كقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى} [الأعلى: 6].
{لتكونَ من المُنْذرِين} بما فيه من العقوبات الهائلة والمواعظ الزاجرة، {بلسان عربي}؛ بلغة قريش وجُرْهُم، فصيح بليغ، والباء: إما متعلق بمنذرين، أي: لتكون من الذين أَنْذَرُوا بهذا اللسان؛ وهم هود وصالح وشعيب وإسماعيل عليهم السلام أو: بنزل، أي: نزله بلسان عربي؛ لتُنذر به، لأنه لو نزل بلسان أعجمي لتجافوا عنه، ولقالوا: ما نصنع بما لا نفهمه؟ فيتعذر الإنذار به. وهذا أحسن لعمومه؛ أي: لتكون من جملة من أنذر قبلك، كنوح وإبراهيم وموسى، وغيرهم من الرسل، عربيين أو عجمين، وأشد الزواجر تأثيراً في قلوب المشركين: ما أنذره إبراهيم؛ لانتمائهم إليه، وادعائهم أنهم على ملته.
{وإنه} أي: القرآن {لفي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} يعني: أنه مذكور في سائر الكتب السماوية. وقيل: ثبت فيها معناه، فإن أحكامه التي لا تحتمل النسخ والتبديل، بحسب تبدل الأعصار، من التوحيد وسائر ما يتعلق بالذات والصفات مسطورة فيها، وكذا ما في تضاعيفه من المواعظ والقصص. قال النسفي: وفيه دليل على أن القرآن إذا ترجم عنه بغير العربية بقي قرآناً، ففيه دليل على جواز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة. اهـ. وهو حنفي المذهب، وأما مذهب مالك: فلا.
{أوَ لمْ يكن لهم آيةً} أي: أغفلوا ولم يكن لهم آية دالة على أنه تنزيل رب العالمين حقاً، {أن يعلمه علماءُ بني إسرائيل}، كعبد الله بن سلام، وغيره، لوجود ذكره في التوراة. قال تعالى: {وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص: 53]. والمعنى: أَوَ لَمْ يكفهم دليلاً على كون القرآن من عند الله عَلِم أَحْبَارِ بني إسرائيل به.
ومعرفتهم له، كما يعرفون أبناءهم؛ لموافقته لما عندهم في كثير من القصص والأخبار، حتى إن سورة يوسف مذكورة في التوراة بمعنى واحد، وترتيب واحد، وما اختلف مع القرآن فيها إلا في كلمة واحدة: «وجاؤوا على قميصه بدم كذب»، عندهم في التوراة: وجاؤوا على قميصه بدم جدي. وكذا سورة طه: جُلهَا في التوراة. وقد تقدم الحديث: «أوتيت طه والطواسين والحواميم من ألواح موسى» وقد فسر بعض علماء هذه الأمة القرآن العظيم كله بالكتب المتقدمة، ينقل في كل آية ما يوافقها من الكتب السماوية.
ثم قال تعالى: {ولو نزَّلناه على بعض الأَعْجَمِينَ} أي: ولو نزلناه كما هو بنظمه الرائق على بعض من لا يفهم العربية، ولا يقدر على التكلم بها، {فقرأه عليهم} قراءة صحيحة، خارقة للعادة، {ما كانوا به مؤمنين} مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء؛ لفرط عنادهم، وشدة شكيمتهم، قال النسفي: والمعنى: إنّا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربيٍّ مبين، ففهموه، وعرفوا فصاحته وأنّه معجز، وانضم إلى ذلك اتفاق علماء أهل الكتاب قبله على البشارة بإنزاله، وصفته في كتبهم، وقد تضمّنت معانيه وقصصه، وصح بذلك أنها من عند الله، وليست بأساطير كما زعموا، فلم يؤمنوا به، وسمّوه شعراً تارة، وسحراً أخرى. ولو نزلناه على بعض الأعاجم، الذي لا يحسن العربية، فضلاً أن يقدر على نظم مثله، {فقرأه عليهم} هكذا معجزاً، لكفروا به، ولتمحّلوا لجحودهم عذراً، ولسموه: سحراً. اهـ.
والأعجمين: جمع الأعجمي، فإن أفعل، إذا كان للتفضيل، يجمع جمع سلامة إذا لم يكن معناه للتفضيل كأحمر، وأصل الأعجمين: الأعجمين، فحذفت ياؤه، وقيل: جمع أعجم، فلا حذف.
{كذلك سَلَكْنَاه} أي: أدخلنا التكذيب والكفر، وهو مدلول قوله: {ما كانوا به مؤمنين}، {في قلوب المجرمين}: الكافرين الذين علمنا منهم اختيار الكفر والإصرار عليه. يعني: مثل هذا السَّلْكِ الغريب سلكناه في قلوبهم وقررناه فيها، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه، من التكذيب والإصرار عليه، وهو حجتنا على المعتزلة في خلق أفعال العباد؛ خيرها وشرها.
وقوله: {لا يؤمنون} توضيح وتقرير لما قبله. ويجوز أن يكون حالاً، أي: سلكناه فيها غير مؤمنين به، أو: مثل ذلك السلك البديع سلكناه، أي: أدخلنا القرآن في قلوب المجرمين، ففهموا معانيه، وعرفوا فصاحته وبلاغته، وأنه خارج عن القوة البشرية، من حَيْثُ النَّظْم المعجز والأخبار الغيبية. وقد انضم إليه اتفاق علماء أهل الكتاب على اتفاقه لما في أيديهم من الكتب السماوية. ومع ذلك {لا يؤمنون به}، ولا يتأثرون بأمثال تلك الأمور الداعية إلى الإيمان، بل يستمرون على ما هم عليه، {حتى يَرَوُا العذابَ الأليم} الملجئ إلى الإيمان، حين لا ينفعهم الإيمان، {فيأتيهم بَغْتَةً}؛ فجأة في الدنيا والآخرة {وهم لا يشعرون} بإتيانه، {فيقولون هل نحن مُنْظَرُون}؛ مُؤَخَّرُون ساعة.
قالوه تَحَسُّراً على ما فات من الإيمان، وتمنياً للإمهال؛ لتلافي ما فرضوه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا تطهر القلب من الأكدار والأغيار، وملئ بالمعارف والأسرار، كان مَهْبِطاً لوحي الإلهام ووحي الإعلام، ومحلاً لتنزل الملائكة الكرام، إذ كل ما أعطى للرسول كان لوارثه الحقيق منه شِرْبٌ ونصيب؛ ليكون من الواعظين بلسان عربي مبين، يُفصح عن جواهر الحقائق، ويواقيت العلوم، وما ينطق به من العلوم يكون موافقاً لما في زُبُر الأولين، وإن كان أمياً؛ لأن علوم الأذواق لا تختلف. أو لم يكن لهم آية على ولايته أن يعلمه علماء أهل فنه من المحققين.
وقال الورتجبي على هذه الآية: أخبر الله سبحانه أن قلب محمد صلى الله عليه وسلم محل نزول كلامه الأزلي؛ لأنه مصفى من جميع الحدثان، بتجلي مشاهدة الرحمن، فكان قلبه عليه الصلاة والسلام صَدَف لآلِئَ خطابِ الحق، يسْبَح في بحار الكرم، فيتلقف كلام الحق من الحق بلا واسطة، وذلك سر عجيب وعلم غريب؛ لأنه يجمع كلام الحق وما اتصل به، وكلامه لم ينفصل عنه، وكيف تفارق الصفات الذات، لكن أبقى في قلبه ظاهره وعلمه وسره، فجبريل عليه السلام في البين: واسطة لجهة الحرمة، وذكر ذلك بقوله: {نزل به الروح الأمين على قلبك...}؛ لأن القلب معدن الإلهام والوحي والكلام والرؤية والعرفان، به يحفظ الكلام. وفائدة ذلك: الإعلام بسر وجود الإنسان، وأنه ليس شيء يليق بالخطاب ونزول الأنباء إلا قلبه، وكل قلب مسدود بعوارض البشرية لا يسمع خطاب الحق، ولا يرى جمال الحق. قال أبو بكر بن طاهر: ما أنزله على جبريل جعله محلاً للإنذار، لا التحقيق، والحقيقة هو ما تلقفه من الحق، فلم يخبر عنه، ولم يشرف عليه خلق من الجن والإنس والملائكة؛ لأنه ما أطاق ذلك أحد سواه. وما أنزل جبريل جعله للخلق، فقال: {لتكون من المنذرين} بما نزل به جبريل على قلبك المتحقق، فإنك متحقق بما كافحناك به، وخاطبناك على مقامٍ لو شاهدك فيه جبريل لاحترق. اهـ. على تصحيف في النسخة. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (204- 209):

{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)}
يقول الحق جل جلاله: توبيخاً لمن اقترح نزول العذاب، كقولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] {أفبعذابنا يستعجلون} مع كونهم لا يطيقونه إذا نزل بهم؟ وتقديم الجار؛ للإيذان بأن مصب الإنكار والتوبيخ هو كون المُسْتَعْجَلِ به عذابَه، مع ما فيه من رعاية الفواصل.
{أفرأيتَ} أي: أخبرني. ولما كانت الرؤية من أقوى أسباب الإخبار بالشيء وأشهرها شاع استعمال أرأيت في معنى أخبرني. والخطاب لكل من يسمع، أي: أخبرني أيها السامع: {إن متعناهم}؛ إن متعنا هؤلاء الكفرة {سنينَ} متطاولة بطول الأعمار وطيب المعاش، {ثم جاءهم ما كانوا يُوعدون} من العذاب، {ما أغنى عنهم} أي: أيُّ سيء أو أيُّ إغناء أغنى عنهم {ما كانوا يُمَتَّعُونَ} أي: كونهم متمتعين ذلك التمتع المديد، أيُّ شيء أغنى في دفع العذاب، و{ما}: مصدرية، أو: ما كانوا يتمتعون به من متاع الحياة الدنيا، على أنها موصولة، حذف عائدها، وأيا ما كان فالاستفهام للإنكار والنفي. وقيل: {ما}: نافية، أي: لم يغن عنهم تمتعهم المتطاول في دفع العذاب. والأول أرجح.
{وما أهلكنا من قريةٍ} من القرى المهلكةَ، {إلا لها مُنْذِرُون}؛ قد أنذروا أهلها لتقوم الحجة عليهم، {ذِكْرَى} أي: تذكرة، وهو مصد منذرون؛ لأن أنذر وذكر متقاربان، كأنه قيل: لها مُذكرون تذكرة. أو مفعول له، أي: ينذرونهم لأجل التذكرة والموعظة، أو خبر، أي: هذه ذكرى، أو يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا؛ مفعولاً له، والمعنى: وما أهلكنا من أهل قرية ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة، بإرسال المنذرين إليهم؛ ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم، فلا يعصون مثل عصيانهم، {وما كنا ظالمين} فنهلك قوماً غير ظالمين، أو قبل إنذارهم. والتعبير عن ذلك بنفي الظالمية مع أن إهلاكهم قبل الإنذار ليس بظلم؛ إذ لا يجب عليه تعالى شيء- كما تقرر من قاعدة أهل السنة-؛ لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك، وتحقيقاً لكمال عدله. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يقول الحق جل جلاله، في جانب أهل البطالة والغفلة: أفرأيت إن متعناهم سنين بالأموال والنساء والبنين، فاشتغلوا بجمع الأموال والدثور، وبناء الغرف وتشييد القصور، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون من الموت، والرحيل من الأوطان، ومفارقة الأحباب والعشائر والإخوان، أيُّ شيء أغنى عنهم ما كانوا يتمتعون به، من لذيذ المآكل والمشارب، ومفاخر الملابس والمراكب، هيهات هيهات، قد انقطعت اللذات، وفنيت الشهوات، وما بقي إلا الحسرات، فتأمل أيها العبد فيما مضى من عمرك، فما بقي في يدك منه إلا ما كان في طاعة مولاك، من ذكرٍ،، أو تلاوةٍ، أو صلاةٍ، أو صيام، أو علم نافع، أو تعليم، أو فكرة، أو شهود، وما سوى ذلك بطالة وخسران، فالوقت الذي تصرفه في طاعة مولاك ذخائره موجودة، وكنوزه مَذْخُورة، والوقت الذي تصرفه في هوى نفسك ضائع، تجيد حسرته يوم القيامة، ففي الحديث: «ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مضت لهم، لم يذكروا الله تعالى فيها» قال يحيى بن معاذ: أشد الناس عذاباً يوم القيامة من اغتر بحياته والْتَذَّ بمراداته، وسكن إلى مألوفاته، والله تعالى يقول: {أفرأيت إن متعناهم سنين...} الآية. وعن ميمون بن مهران: أنه لقي الحسن في الطواف، وكان يتمنى لقاءه، فقال له: عِظني، فلم يزده على تلاوة هذه الآية، فقال: لقد وَعظت فأبلغت. وعن عمر بن العزيز رضي الله عنه: أنه كان يقرؤها عند جلوسه ليحكم بين الناس. اهـ. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (210- 213):

{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)}
يقول الحق جل جلاله: {وما تنزلت به}؛ بالقرآن، {الشياطينُ}، رداً لما يزعمه الكفرة من أنه من قبيل ما تلقيه الشياطين على الكهنة، بعد تحقيق الحق فيه، ببيان أنه نزل به الروح الأمين. {ما ينبغي لهم} أي: وما يصح وما يستقيم لهم ذلك، {وما يستطيعون} إنزاله أصلاً، {إنهم عن السمع} أي: عن استراقة السمع من الملائكة {لمعْزولُونَ}؛ لممنوعون بالشهب، أو: لانتفاء المشاركة بينهم وبين الملائكة في قبول الاستعداد؛ لفيضان أنوار الحق، والانتعاش بأنوار العلوم الربانية والمعارف القدسية؛ لأن نفوس الشياطين خبيثة ظلمانية شريرة، ليست مستعدة إلا لقبول ما لا خير فيه، من فنون الشرور، فمن أين لهم أن يحوموا حول القرآن الكريم، المنطوي على الحقائق الرائقة الغيبية، التي لا يمكن تلقيتها إلا من الملائكة الكرام- عليهم السلام؟.
{فلا تدعُ مع الله إلهاً آخر}؛ كما هو شأن الأنفس الخبيثة الشيطانية، {فتكونَ من المعذِّبين}، تهديد لغيره على سبيل التعريض، وتحريك له على زيادة الإخلاص، وتنبيه لسائر المكلفين على أن الإشراك بلغ من القبح والسوء، بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدوره منه، فكيف بمن عداه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وحي الإلهام الذي يتنزل على القلوب الصافية من الأغيار، كوحي الأحكام، ما تتنزل به الشياطين، وما ينبغي لهم وما يستطيعون؛ لأنهم ممنوعون من قلوب العارفين؛ لِمَا احتفت به من الأنوار، وما صانها من الأسرار، أعني أنوار التوحيد وأسرار التفريد. وقال في لطائف المنن: إذا كان الحق تعالى حرس السماء من الشياطين بالشُهب، فقلوب أوليائه أولى بأن يحرسها من الأغيار. اهـ. بالمعنى: فلا تدع مع الله إلهاً آخر، وهو ما سوى الله، فتكون من المعذبين بوساوس الشياطين والخواطر والشكوك؛ لأن القلب إذا مال إلى غير الله سلط الله عليه الشيطان، فيكون ذلك القلب جراباً للشيطان، يحشو فيه ما يشاء. والعياذ بالله.

.تفسير الآيات (214- 220):

{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)}
يقول الحق جل جلاله: {وأنَذِرْ} يا محمد {عشيرتَك الأقربين}، إنما خصهم بالذكر؛ لئلا يتكلوا على النسب، فَيَدَعُوا ما يجب عليهم، لأن من الواجبات ما لا يشفع فيها، بقوله في تارك الزكاة وقد استغاث به: لا أملك لكم من الله شيئاً. وفي الغالِّ كذلك. وقيل: إنما خصهم لنفي التهمة؛ إذ الإنسان يساهل قرابته، وليعلموا أنه لا يغني عنهم من الله شيئاً؛ إذ النجاة في اتباعه، لا في قربه منهم.
ولما نزلت صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصَّفا، ونادى الأقربَ فالأقرب، وقال: «يا بَني عبد المطلب، يا بني هاشم، يابني عبد مناف، يا عباسُ- عم النبي صلى الله عليه وسلم- يا صفيَّةُ- عمَّة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لا أمْلِكُ لكم من الله شيئاً» وقال ابن عباس رضي الله عنه: صَعدَ النبي صلى الله عليه وسلم الصَّفا، ونادى: «يا صباحَاه»؛ فاجتمع الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، إنْ أخبرتُكم أن خَيْلاً بسَفْح هذا الجَبَل، تريد أن تُغير عليكم صدقتُموني؟ قالوا: نَعَمْ. قال: فإني نذير لكم بين يَدَيْ عَذَاب شديدٍ. فقال أبو لهب: نبأ لك سائر اليوم، ما جمعتنا إلا لهذا»؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1].
ثم قال: {واخفضْ جناحك} أي: وألن جانبك وتواضعْ، وأصله: أن الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه، فجعل خفض الجناح مثلاً في التواضع ولين الجانب. ويكن ذلك التواضع {لِمَنِ اتبعك من المؤمنين} من قرابتك وغيرهم. {فإن عَصَوْكَ فقل إني بريءٌ مما تعملون} أي: أنذر قومك؛ فإن اتبعوك وأطاعوك فاخفض لهم جناحك، وإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم ومن أعمالهم؛ من الشرك وغيره.
{وتوكل على العزيز الرحيم} أي: على الذي يقهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته، فإنه يكفيك شر من يعاديك. {الذي يراك حين تقومُ} للتهجد، {و} يرى {تقلُّبَكَ في الساجدين}؛ في المصلين. أتبع كونه رحيماً برسوله ما هو من أسباب الرحمة، وهو ذكر ما كان يفعله في جوف الليل، من قيامه للتهجد، وتقلبه في تصفح أحوال المُتَهَجِّدِينَ، ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون. وقيل: معناه: ويراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة، وتقلبك في الساجدين: تصرفه فيما بينهم، بقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذا أمهم. وعن مقاتل: أنه سأل أبا حنيفة: هل تجد الصلاة بالجماعة في القرآن؟ فقال: لا يحضرني، فتلا له هذه الآية. وقيل: تقلبه في أصلاب الرجال. ورُوي عنه صلى الله عليه وسلم في الآية أنه قال: «من نبي إلى نبي حتى أخرجتك نبياً».
{إنه هو السميعُ} لما تقول، {العليمُ} بما تنويه وتعمله. هَوَّنَ عليه مشاقّ العبادة، حيث أخبره برؤيته له، إذ لا مشقّة على من يعْلَم أنه يعمل بمرأى من مولاه، وهو كقوله في الحديث القدسي: «بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي» والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي لمن أُهِّلَ للوعظ والتذكير أن يبدأ بالأقرب فالأقرب، ولو علم أنه لا ينتفع به إلا النزر القليل. فمن تبعه على مذهبه فَلْيُلِنْ له جانبه وليتواضع له، ومن أعرض عنه واشتغل بهواه فليتبرأ من فعله، ولا ينساه من نصحه، ولذلك قال تعالى: {فإن عصوك فقل إني بريءٌ مما تعملون}، ولم يقل: منكم، وهذا مذهب الجمهور وأن الأخ إذا زلّ إنما يُبغض عمله فقط. وعن بعض الصحابة- وقد قيل له في أخيه، فقال: إنما أبغض عمله، وإلا فهو أخي، وذُكر مثل ذلك عن أبي الدرداء. وأن الأخ في الله لا يُبغض لزلته، ولا يترك لشيء من الأشياء، وإنما يبغض عمله، ووافقه على ذلك سلمان، وتابعهما عمر، وخالف في ذلك أبو ذر، فقال: إذا وقعت المخالفة، وانقلب عما كان عليه، فَأَبْغِضْهُ مِنْ حَيْثُ أحببتَهُ.
قال صاحب القوت: وأبو ذر صاحب شدائد، وعزائم، وهذا من عزائمه وشدائده. اهـ. وهذا في المؤمن بدليل قول أبي الدرداء: الأخ في الله لا يبغض لزلة. وأما الكافر فصريح آياته: {إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} [الممتحنة: 4]، ونحوها. وحديث ابن عمر وتبرئه من نفاة القدر- كما في مسلم- موجب للبراءة، وليس لكون حكم الأصول أشد من الفروع. وذكر في الإحياء تأكيد الإعراض عمن يتعدى أذاه لغيره؛ بظلم، أو غصب، أو غيبة، أو نميمة، أو شهادة زور؛ لأن المعصية شديدة فيما يرجع لأذى الخلق. اهـ. من الحاشية.
قوله تعالى: {فتوكل على العزيز الرحيم}، قيل: التوكل: تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره، ويقدر على نفعه وضره، وهو الله وحده، والمتوكل من إذا دهمه أمرٌ لم يحاولْ دفعه عن نفسه بما هو معصية. وقال الجنيد رضي الله عنه: التوكل أن تقبل بالكلية على ربك، وتُعرض بالكلية عمن دونه؛ فإنَّ حاجتك إنما هي إليه في الدارين. اهـ.
قال القشيري: {وتقلبك في الساجدين} من أصحابك، ويقال: تقلبك في أصلاب آبائك من المسلمين، الذين عرفوا الله، فسجدوا له، دون من لم يعرفه. اهـ. وفي القوت: قيل: وتقلبك في أصلاب الأنبياء- عليهم السلام، يقلبك في صلب نبي بعد نبي، حتى أخرجك من ذرية أسماعيل، وروينا معنى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحاصل: أنه من ذرية الأنبياء والمؤمنين الساجدين في الجملة، ولا يقتضي كل فرد من الأفراد. اهـ.