فصل: تفسير الآيات (12- 14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (12- 14):

{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)}
يقول الحق جل جلاله: {وأَدْخِلْ يدَكَ} يا موسى {في جَيْبكَ}؛ في جيب قميصك. والجيب: الفتح في الثوب لرأس الإنسان. قال الثعلبي: إنما أمره بذلك؛ لأنه كان عليه مدرعة صوف، لا كُم لها. {تخرجْ بيضاءَ من غير سُوءٍ}؛ من غير آفة، كَبَرَصٍ ونحوه، {في تسع آياتٍ} أي: هاتان الآيتان في جملة تسع آيات، وهي الفلق، والطوفان، والجراد، والقُمل، والضفادع، والدم، والطمس، والجدب في بواديهم، والنقصان في مزارعهم. ومن عدّ اليد والعصا من التسع عدّ الاخيرين واحداً، ولم يعد الفلق؛ لأنه لم يبعث به إلى فرعون. وقوله: {إلى فرعون} متعلق بمحذوف، أي: مرسلاً، أو: ذاهباً إلى فرعون {وقومِه إنهم كانوا قوماً فاسقينَ}؛ خارجين عن أمر الله، كافرين به.
{فلما جاءتهم آياتُنا}؛ معجزاتنا، وظهرت على يد موسى، حال كونها {مُبصرةً}؛ بيّنة واضحة، وهي اسم فاعل، أطلق على المفعول، إشعاراً بأنها لفرط ظهورها كأنها تبصر نفسها؛ مبالغة في وضوحها وإلا فهي مبصرة لمن ينظر ويتفكر فيها. أو: ذات تبصر؛ لأنها تهدي من يتبصر بها. فلما جاءتهم {قالوا هذا سحرٌ مبين} واضح سحريته.
{وجَحَدوا بها} أي: كذبوا بها {و} قد {اسْتَيقنتها أنفُسُهم} أي: علمتها علماً يقيناً، فالاستيقان: أبلغ من الإيقان. يعني: أنهم جحدوا بألسنتهم واستيقنوها في قلوبهم. {ظلماً}: حال من ضمير {جحدوا} أي: ظالمين في ذلك، ولا ظلم أفحش ممن تيقن أنها آيات من عند الله، وسماها سحراً بيّناً، {وعُلُوّاً}؛ تكبراً وترفعاً عن الإيمان بموسى عليه السلام، وهو أيضاً حال، أو: علة، {فانظر كيف كان عاقبةُ المفسدين} وهو الإغراق في الدنيا، والإحراق في الآخرة. نسأل الله العافية.
الإشارة: وأدْخِل يد فكرتك في جيب قلبك، تخرج بيضاء شعشعانية، يستولي شعاعها على وجود بشريتك، فتنخنس البشرية تحت أنوار المعاني، ثم يستولي على الوجود بأسره، فيصير كله نوراً ملكوتياً، جبروتياً، متصلاً بالنور الأعظم، والبحر الطام، بعد قطع مقامات التوبة، والتقوى، والإستقامة، والإخلاص، والصدق، والطمأنينة، والمراقبة والمحبة، والمشاهدة، فيكون حينئذٍ آية مبصرة واضحة، من آيات الله، يدلّ على الله، ويدعو إليه على بصيرة منه. فمن جحدها انخرط في سلك من قال تعالى في حقه: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعُلُواً...} الآية.

.تفسير الآيات (15- 16):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)}
يقول الحق جل جلاله: {ولقد آتينا داودَ وسليمانَ عِلماً} أي: أعطينا كل واحد منهما طائفة خاصة به من علم الشرائع والأحكام، وغير ذلك مما يختص به كل واحد منهما، كصنعة الدروع، ومنطق الطير. أو: علماً لدُنِيا. {وقالا} أي: كل واحد منهما، شكراً لما أُوتيه من العلم: {الحمدُ لله الذي فضَّلنا} بما آتانا من العلم {على كثيرٍ من عباده المؤمنين}. قال النسفي: وهنا محذوف، ليصلح عطف الواو عليه، ولولا تقدير المحذوف لكان الوجه: الفاء، كقولك: أعطيته فشكر، وتقديره: آتيناهما علماً، فعملا به، وعرفا حق النعمة فيه، وقالا: {الحمد لله الذي فضَّلنا على كثير}. والكثير المفضّل عليه: من لم يؤت علماً أو: من لم يؤت مثل علمهما. وفيه: أنهما فُضّلا على كثير وفضل عليهما كثير.
وفي الآية دليلٌ على شرف العلم، وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجلّ النعم، وأن من أوتيه فقد أُوتي فضلاً على كثير من عباده، وما سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثة الأنبياء إلا لمداناتهم في الشرف والمنزلة؛ لأنهم القوّام بما بُعِثُوا من أجله. وفيها: أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة أن يحمدوا الله تعالى على ما أوتوه، وأن يعتقدَ العالم أنه إذا فُضّل على كثير فقد فُضّل عليه مثلهم. وما أحسن قول عمر رضي الله عنه: (كلّ الناس أفقه من عمر). اهـ.
والعلماء على قسمين: علماء بالله وعلماء بأحكام الله. فالعلماء بالله هم العارفون به، أهل الشهود والعيان. وهم أهل علم الباطن، أعني علم القلوب، والعلماء بأحكام الله هم علماء الشرائع والنوازل. وحيث انتهت درجة العلماء بأحكام الله ابتدئت درجة العلماء بالله. فنهاية علماء الظاهر بداية علماء الباطن؛ لأن علم أهل الظاهر جله ظني، وعلم أهل الباطن عياني، ذوقي، وليس الخبر كالعيان، مع ما فاقوهم به من المجاهدة والمكابدة، ومقاساة مخالفة النفوس، وقطع المقامات، حتى ماتوا موتات، ثم حييت أرواحهم، فشاهدوا من الأنوار والأسرار ما تعجز عنه العقول، وتكلّ عنه النقول.
ثم قال تعالى: {وورِثَ سليمانُ داودَ}. وَرِثَ منه النبوة والملك دون سائر بنيه وكانوا تسعة عشر. ووراثته للنبوة: انتقالها إليه بعد أبيه، وإلا فالنبوة لا تورث. {وقال يا أيها الناس عُلِّمنا منطلقَ الطير} تشهيراً لنعمة الله، واعترافاً بمكانها، ودعاء للناس إلى تصديقه بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير.
والمنطق: كل ما يصوَّت به من المفرد والمؤلّف، والمفيد وغير المفيد. وكان سليمان عليه السلام يفهم عنها كما يفهم بعضها بعضاً. يُحكى أنه مرَّ على بلبل على شجرة، يحرك رأسه، ويميل ذنبه، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: الله ونبيه أعلم، قال يقول: إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العَفَاء.
وصاحت فاختة، فأخبر أنها تقول: ليت ذا الخلق لم يُخلقوا، وصاح طاووس، فقال: يقول: كما تدين تدان، وصاح هُدهد، فقال: يقول: من لا يرحم لا يُرحم، وصاح صُّرَد- وهو طائر ضخم الرأس- فقال: يقول: استغفروا الله يا مذنبين، وصاح طيطوى، فقال: يقول: كل حي ميت، وكل جديد بال. وصاح خُطَّاف، فقال: يقول: قَدِّموا خيراً تجدوه. وصاح قُمْرِيّ، فأخبر أنه يقول: سبحان ربي الأعلى. وصاحت رخمة، فقال: إنها تقول سبحان ربي الأعلى ملء أرضه وسمائه.
وفي رواية: هدرت حمامة، فقال: إنها تقول: سبحان ربي الأعلى- مثل الرخمة- وقال: الغراب يدعو على العشَّار. والحِدَأة تقول: كل شيء هالك إلا وجهه. والقطاة تقول: من سكت سَلِمَ، والببغاء تقول: ويل لمن الدنيا همه، والديك يقول: اذكروا الله يا غافلين، والنسر يقول: يا ابن آدم؛ عش ما شئت، آخرك الموت. والعُقاب يقول: في البُعد من الناس أُنس. والضفدع تقول: سبحان ربي القدوس. والبازي يقول: سبحان ربي وبحمده، المذكور في كل مكان. والدراج يقول: الرحمن على العرش استوى. والقنب يقول: إلهي؛ العن مبغض آل محمد، عليه الصلاة والسلام.
وقيل: إن سليمان كان يفهم صوت الحيوانات كلها، وإنما خضّ الطير؛ لأنه معظم جنده.
ثم قال: {وأُوتينا من كل شيء} أي: ما نحتاج إليه. والمراد به كثرة ما أُوتي، كما تقول: فلان يقصده كل أحد، ويعلم كل شيء، كناية عن كثرة علمه. {إنَّ هذا لهو الفضلُ} والإحسان من الله تعالى {المبين} أي: الواضح، الذي لا يخفى على أحد، أو: إن هذا الفضل الذي أوتيته هو الفضل المبين. على أنه عليه السلام قاله على سبيل الشكر والمحمدة. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ» أي: أقول هذا القول شكراً، لا فخراً، والنون في {عُلمنا} و{أُوتينا} نون الواحد المطاع، وكان حينئذٍ ملكاً، فكلم أهل طاعته على الحالة التي كان عليها، وليس فيه تكبر ولا فخر؛ لعصمة الأنبياء من ذلك. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أشرف العلوم وأعظمها وأعزها العلم بالله، على سبيل الذوق والكشف والوجدان، ولا يكون إلا من طريق التربية على يد شيخ كامل؛ لأنه إذا حصل هذا العلم أغنى عن العلوم كلها، وصغرت في جانبه، حتى إن صاحب العلم بالله يعد الاشتغال بطلب علم الرسوم بطالة وانحطاطاً، ومَثَله كمن عنده قناطير من الفضة، ثم وجد جبلاً من الإكسير، فهل يلتفت صاحبُ الإكسير إلى الفضة أو الفلوس؟ لأن من كانت أوقاته كلها مشاهدة ونظراً لوجه الملك، كيف يلتفت إلى شيء سواه، ولذلك قال الجنيد رضي الله عنه: لو نعلم تحت أديم السماء أشرف من هذا العلم، الذي نتكلم فيه مع أصحابنا، لسعيت إليه. اهـ.
وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن العارف: كنت أعرف أربعة عشر علماً، فما أدركت علم الحقيقة، سرطت ذلك كله، ولم يبق إلا التفسير والحديث، نتكلم فيه مع أصحابنا. أو قريباً من هذا الكلام. وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي الله عنه:
أقارئينَ عِلْمَ التْوحِيد ** هُنا البُحُورُ إليَّ تنبي

هَذا مَقامُ أهْل التجريدِ ** الواقِفِينَ مَع ربي

وهذا أمر بيِّن عند أهل هذا الفن، وقال الورتجبي: العلم علمان: علم البيان وعلم العيان. علم البيان ما يكون بالوسائط الشرعية، وعلم العيان مستفاد من الكشوفات الغيبية. ثم قال: فالعلم البياني معروف بين العموم، والعلم العياني مشهور بين الخصوص، لم يطلع عليه إلا نبي أو وَليّ، لأنه صدر من الحق لأهل شهوده، من المحبين العارفين والموحدين والصديقين، والأنبياء والمرسلين، انظر بقية كلامه.
وقال أيضاً في قوله: {عُلِّمنا منطقَ الطير}: أفْهَم أن أصوات الطيور والوحوش وحركات الأكوان جميعاً هي خطابات من الله عز وجل للأنبياء والمرسلين، والعارفين والصديقين، يفهمونها من حيث أحوالهم ومقاماتهم. فللأنبياء والمرسلين علم بمناطقها قطعياً. ويمكن أن يقع ذلك بوحي، لكن أكثر فهوم الأنبياء أنهم يفهمون من أصواتها ما يتعلق بحالهم، بما يقع في قلوبهم من إلهام الله، لا بأنهم يعرفون لغاتهم بعينها. اهـ. قلت: وكذلك الأولياء يفهمون عنها ما يليق بمقاماتهم، من ألفاظ، أو أنس، أو إعلام، أو غير ذلك. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (17- 19):

{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)}
قلت: {قالت نملة}: التاء للوحدة، لا للتأنيث. قال الرضي: تكون التاء للفرق بين المذكر والمؤنث، وتكون لآحاد الجنس، كنحلة ونحل، وثمرة وثمر، وبطة وبط، ونملة ونمل، فيجوز أن تكون النملة مذكراً، والتاء للوحدة، وأنث الفعل باعتبار تأنيث اللفظ. اهـ. مختصراً. و{لا يحطمنكم}: يحتمل أن يكون جواباً للأمر، أو: نهياً بدلاً من الأمر؛ لتقارب المعنى؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده. والضد ينشأ عنه الحطْم، فلا: ناهية، ومثله الحديث: «فليُمسك بِنَصَالها، لا يعقر مسلماً». اهـ.
يقول الحق جل جلاله: {وحُشِرَ لسليمانَ} أي: جُمع له {جنودُهُ من الجنِ والإِنس والطيرِ} بمباشرة مخاطبيه، فإنهم رؤساء مملكته، وعظماء دولته، من الثقلين وغيرهم. وتقديم الجن على الإنس للإيذان بكمال قوة ملكه وعزة سلطانه؛ لأن الجن طائفة عاتية، وقبيلة طاغية، ماردة، بعيدة من الحشر والتسخير، {فهم يُوزَعون} أي: يحبس أوائلهم على أواخرهم، أي: يوقف سلاف العسكر حتى يلحقهم الثواني، فيكونوا مجتمعين، لا يختلف منهم أحد، وذلك لكثرة العظمة والقهرية.
قال قتادة: فكان لكل صنف منهم وزعة. أو: لترتيب الصفوف، كما هو المعتاد في العساكر. والوزع: المنع، ومنه قول الحسن البصري، حين ولي القضاء: (لا بد للحاكم من وزعة) أي: شُرط يمنعون الناس من الظلم. وتخصيص حبس أوائلهم بالذكر دون سوق أواخرهم مع أن التلاحق يحصل بذلك أيضاً: لأن أواخرهم غير قادرين على ما يقدر عليه أوائلهم من السير السريع، وهذا إن لم يكن سيرهم بتسيير الريح في الجو. قال محمد بن كعب: كان عسكر سليمان مائة فرسخ، خمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش. وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة منكوحة، وسبعمائة سرية. وقد نسجت له الجن بساطاً من ذهب وإبريسم، فرسخاً في فرسخ، وكان يوضع منبره في وسطه، وهو من ذهب، فيقعد عليه، وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فتقعد الأنبياء- عليهم السلام- على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها، حتى لا تقع عليه الشمس، وترفع ريح الصبا البساط، فتسير به مسيرة شهر، من الصباح إلى الرواح.
ورُوي أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله، ويأمر الرخاء تُسيِّره، فأوحى الله تعالى إليه، وهو يسير بين السماء والأرض: إني زدت في ملكك أنه لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك. قال وهب: حدثني أبي: أن سليمان مرّ بحرّاثٍ، فقال: لقد أُوتي آلَ داود مُلكاً عظيماً، فالتفت ونزل إلى الحرّاث، فقال: إني سمعت قولك، وإنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه، لتسبيحة واحدة يقبلها الله منك خير لك مما أوتي آلُ داود. اهـ.
{حتى إذا أتوا على وادِ النمل} أي: فساروا حتى بلغوا وداي النمل، وهو واد بالشام، كثير النمل، قاله مقاتل. أو: بالطائف، قاله كعب. وقيل: هو واد يسكنه الجن، والنمل مراكبهم. وعدي الفعل ب {على}؛ لأن إتيانهم كان من فوق، فأتى بحرف الاستعلاء. ولعلهم أرادوا أن ينزلوا بأعلى الوادي؛ إذ حينئذٍ يخافهم من في الأرض، لا عند سيرهم في الهواء. وجواب (إذ) قوله: {قالت نملة}، وكأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرّت منهم، فصاحت صيحة، فنبهت بها ما بحضرتها من النمل.
قال كعب: مرّ سليمان عليه السلام بوادي السدير، من أودية الطائف، فأتى على واد النمل، فقالت نملة، وهي تمشي، وكانت عرجاء تتكاوس، مثل الذئب في العِظَم. قال الضحاك: كان اسم تلك النملة طاحية، وقيل: منذرة، وقيل: جرمي. وقال نوف الحميري: كان نمل وادي سليمان أمثال الذباب. وعن قتادة: أنه دخل الكوفة، فالتف عليه الناس، فقال: سلوني عما شئتم، فسأله أبو حنيفة، وهو شاب، عن نملة سليمان، أكان ذكراً أو أنثى؟ فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى، فقيل له: بم عرفت؟ فقال: قوله تعالى: {قالت نملة} ولو كان ذكراً لقال: قال نملة. اهـ. قلت: وهو غير صحيح لِمَا تقدم عن الرضي.
{قالت نملةٌ يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} لم يقل: ادخلن؛ لأنه لَمَّا جعلها قائلة، والنمل مقولاً لهم، كما يكون من العقلاء، أجرى خطابهن مجرى ذوي العقل، {لا يَحْطِمَنَّكُمْ}؛ لا يكسرنّكم. والحطم: الكسر، وهو في الظاهر نهى لسليمان عن الحطم، وفي الحقيقة نهى لهم عن البروز والوقوف على طريقه، نحو: لا أرينك ها هنا، أي: لا تتعرضوا فيكسرنكم {سليمانُ وجنودُه}، وقيل: أراد: لا يحطمنكم جنود سليمان، فجاء بما هو أبلغ. {وهم لا يشعرون} لا يعلمون بمكانكم، أي: لو شعروا ما فعلوا. قالت ذلك على وجه العذر، واصفةً سليمان وجنوده بالعدل، فحمل الريح قولها إلى سليمان على ثلاثة أميال.
رُوي أن سليمان قال لها: لم حذرت النمل، أَخفتِ ظلمي؟ أما عَلِمتِ أني نبي عدل، فلِمَ قُلتِ: {لا يحطمنكم سليمان وجنوده}؟ فقالت: أما سمعتَ قولي: {وهم لا يشعرون}، مع أني لم أُرد حَطْم النفوس، وإنما أردت حطم القلوب، خشيتُ أن يتمنينَّ ما أُعطيتَ، ويشغلن بالنظر إليك عن التسبيح، فقال لها سليمان: عظيني، فقالت: هل علمتِ لِمَ سُمي أبوك داود؟ قال: لا، قالت: لأنه داوى جرحَه. هل تدري لِمَ سميت سليمان؟ قال: لا، قالت: لأنك سليم، ما ركنت إلى ما أوتيت، لسلامة صدرك، وأنَى لك أن تلحق أباك. ثم قالت: اتدري لِمَ سخر الله لك الريح؟ قال: لا، قالت: أخبرك الله أن الدنيا كلها ريح. قال ابن عباس: ومن هنا «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربعة من الدواب: الهدهد، والصُّرد، والنحلة، والنملة».
{فتبسم ضاحكاً}، معجباً {من قولها} ومِن حَذَرِها، واهتدائها لمصالحها، ونُصحها للنمل، وفرحاً بظهور عدله. والتبسم: ابتداء الضحك، وأكثر الضحك الأنبياء التبسّم، أي: فتبسم ابتداء، ضاحكاً انتهاء. {وقال ربِّ أوزعني}، الإيزاع في الأصل: الكف، أي: كُفَّني عن كل شيء إلا عن شكر نعمتك، ويطلق على الإلهام، أي: ألهمني {أن أشكرَ نعمتك التي أنعمتَ عليَّ} من النبوة والمُلك والعلم، {وعلى والديَّ}؛ لأن الإنعام على الوالدين إنعام على الولد، {و} ألهمني {أن أعمل صالحاً ترضاه} في بقية عمري، {وأدخِلْني برحمتك} أي: وأدخلني الجنة برحمتك، لا بصالح عملي؛ إذ لا يدخل الجنة إلا برحمتك كما في الحديث. {في عبادك الصالحين} أي: في جملة أنبيائك المرسلين، الذين صلحوا لحضرتك. أو: مع عبادك الصالحين. رُوي أن النملة أحست بصوت الجنود، ولم تعلم أنهم في الهواء فأمر سليمان عليه السلام الريح، فوقفت؛ لئلا يذعرن، حتى دخلن مساكنهن، ثم دعا بالدعوة. قاله النسفي.
الإشارة: من أقبل بكليته على مولاه، وأطاعه في كل شيء، سخرت له الأكوان، وأطاعته في كل شيء. ومن أعرض عن مولاه أعرض عنه كلُّ شيء، وصعب عليه كلُّ شيء. «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوانُ معك». فإذا سخرت له الأشياء، وزهد فيها، وأعرض عنها، واختار مقام العبودية، ارتفع قدره، ولم ينقص منه شيئاً، كحال نبينا- عليه السلام-. ومن سخرت له الأشياء، ونظر إليها، انتقص قدره، وإن كان كريماً على الله، ولذلك ورد في الخبر أن سليمان عليه السلام: هو آخر من يدخل الجنة من الأنبياء. ذكره في القوت.
وذكر فيه أيضاً: أن سليمان عليه السلام لَبِسَ ذات يوماً ثياباً رفيعة، ثم ركب على سريره، فحملته الريح، وسارت به، فنظر إلى عطفيه نظرة، فأنزلته إلى الأرض، فقال لها: لِمَ أنزلتني ولَمْ آمرك؟ فقالت له: نطعيك إذا أطعت الله، ونعصيك إذا عصيته. فاستغفر وتاب، فحملته. وهذا مما يعتب على المقربين؛ لِكِبر مقامهم، فكل نعيم في الدنيا ينقص في الآخرة. والله تعالى أعلم.