فصل: تفسير الآيات (20- 26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (20- 26):

{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)}
يقول الحق جل جلاله: {وتفقَّدَ} سليمانُ {الطيرَ} أي: تعرف أحوال الطير تعرف َالمَلِك لمملكته، حسبما تقتضيه عناية الملك بمملكته، والاهتمام بكل جزء منها، أو: تفقده لمعرفته بالماء، أو لغير ذلك على ما يأتي. فلما تفقده لم ير الهدهد فيما بينها. والتفقد: طلب ما غاب عنك. {فقال ماليَ لا أرى الهدهد} أساتر ستره؟ {أم كان من الغائبين}، و{أم}: بمعنى بل. كأنه قال: ما لي لا أراه؟ ثم بدا له أنه غائب، فأضرب عنه، وقال: بل هو من الغائبين.
{لأُعذِّبَنَّه عذاباً شديداً}، قيل: كان عذابه للطير: نتفه ريشه وتشميسه، أو: يجعله مع أضداده في قفص، أو: بالتفريق بينه وبين إلفه. وعن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الأضداد، ومفارقة الأحباب. أو: نتفه، وطرحه بين يدي النحل تلدغه، أو: النمل تأكله. وحلّ له تعذيب الهدهد لينزجر غيره، ولِما سخرت له الحيوانات- ولا يتم التسخير إلا بالتأديب- حلّ له التأديب.
{أو لأذْبحنَّه}؛ ليعتبر به أبناء جنسه، {أو لَيَأْتِيَنِّي بسلطانٍ مبين}؛ بحُجة تُبين عذره، والحلف في الحقيقة على أحد الأمرين، على تقدير عدم الثالث. قال بعضهم: وسبب طلبته للهدهد، لإخلاله بالنوبة التي كان ينوبها. وقيل: كانت الطير تظله، فأصابته لمعة من الشمس، فنظر، فرأى موضع الهدهد خالياً، فتفقده، وقيل: احتاج إلى الماء، وكان عِلْمُ ذلك إلى الهدهد، فتفقده، فلم يجده، فتوعده.
والسبب فيه: أن سليمان عليه السلام لَمَّا فرغ من بناء بيت المقدس، عزم على الخروج إلى أرض الحرم، للحج، فتجهز للمسير، وخرج بجنوده- كما تقدم- فبلغ الحرم، وأقام به، وكان ينحر كل يوم بمكة خمسة آلاف ناقة، ويذبح خمسة آلاف ثور، وعشرين ألف شاة، قرباناً. وقال: إن هذا مكان يخرج منه نبي عزيزُ، صفته كذا وكذا، يُعطَى النصر على جميع من ناوأه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد في الحق عنده سواء، لا تأخذه في الله لومة لائم، دينه دين الحنيفية، فطوبى لمن أدركه وآمن به، وبيننا وبين خروجه زهاء ألف عام. ثم قضى نسكه، وخرج نحو اليمن صباحاً، يؤم سهيلاً، فوافى صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضاً حسناء، تزهو خضرتها، فأحب النزول بها؛ ليصلي ويتغذى، فطلبوا الماء فلم يجدوه، وكان الهدهد دليله على الماء، كان يرى الماء من تحت الأرض، كما نرى الماء في الزجاجة، فينقر الأرض فتجيء الشياطين يستخرجونه. وبحث فيه القشيري بأن الهدهد متعدد في عسكره، إذا فقدوا واحداً بقي آخر، قال: اللهم إلا أن يكون ذلك الواحد مخصوصاً بمعرفة ذلك، والله أعلم. اهـ.
قال سعيد بن جبير: لما ذكر ابن عباس هذا الحديث: قال له نافع بن الأزرق: كيف ينظر الماء تحت الأرض، ولا يبصر الفخ حتى يقع فيه؟ قال ابن عباس: ويحك إذا جاء القدر حال دون البصر. اهـ.
قلت: ونافع هذا هو رأس الخوارج والمعتزلة.
فلما نزل سليمانُ، قال الهدهد: إن سليمان قد اشتغل بالنزول، فارتفع نحو السماء، ونظر طول الدنيا وعرضها، ونظر يميناً وشمالاً، فرأى بستاناً لبلقيس فيه هدهد. وكان اسم هدهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن عنفير. فقال هدهد اليمن لهدهد سليمان: من أين أقبلتَ وأين تريد؟ قال: أقبلتُ من الشام، مع صاحبي سليمان بن داود، قال: ومَن سليمان؟ قال: ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحوش والرياح، فمِن أين أنت؟ قال من هذه البلد، ملكها امرأة، يقال لها بلقيس تحت يديها اثنا عشر ألف قائد، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل. فانطلق معه، ونظر إلى بلقيس ومُلكها، ورجع إلى سليمان وقت العصر. وكان سليمان قد فقده وقت الصلاة، فلم يجده، وكان على غير ماء.
قال ابن عباس: فدعا عريف الطير- وهو النسر- فسأله؟، فقال: ما أدري أين هو، فغضب سليمان وقال: {لأُعذبنه} إلخ، ثم دعا بالعقاب، سيد الطير، فقال: عليّ بالهدهد الساعة، فرفع العقاب نفسه نحو السماء، حتى التزق بالهواء، فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم، فإذا هو بالهدهد مُقبلاً من نحو اليمن، فانقضّ نحوه، فقال له الهدهد: بحق الحق الذي قوّاك إلا ما رحمتني، فقال: ويلك، إن نبي الله حلف أن يعذبك ويذبحك. ثم تلقته النسور والطير في العسكر، وقالوا له: لقد توعدك نبيُّ الله. قال: أوَ ما استثنى؟ قالت: بلى، قال: {أوْ لَيأتيني بسلطان مبين}. ثم دخل على سليمان، فرفع رأسه، وأرخَى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض، تواضعاً لله ولسليمان، فقال سليمان: أين كنت؟ لأعذبنَّك... فلما دنا منه أخذ سليمان برأسه، فمده إليه، فقال له الهدهد: يا نبي الله؛ اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى، بمنزلة وقوفي بين يديك، فارتعد سليمان وعفا عنه. وقال عكرمة: إنما صُرف سليمان عن ذبح الهدهد لبره بوالديه، كان يلتقط الطعام ثم يزقه لهما.
قال تعالى: {فَمَكَثَ غيرَ بعيدٍ} أي: تفقد مكث سليمان حين تفقد الهدهد، وأرسل من ورائه غير زمان بعيد، وهو من الظهر إلى العصر- كما تقدم- أو: فمكث الهدهد في غيبته غير بعيد، خوفاً من سليمان، فالضمير إما لسليمان، أو: للهدهد، وهو الظاهر، ويرجحه قراءة: {فتمكث}. وفي مكث لغتان: الضم والفتح.
ولما قدِمَ من غيبته، أحضر بين يديه، على الهيئة المتقدمة، ثم سأله عن غيبته، {فقال أَحطتُ بما لم تُحِطْ به} أي: أدركت علماً لم تُحط به أنت، أَلهم الله الهدهدَ فكافح سليمانَ بهذا الكلام، مع ما أوتي من فضل النبوة والعلوم الجمة، ابتلاء له عليه السلام في علمه، وتنبيهاً على أن في أدنى خلقه اضعفهم من أحاطه الله علماً بما لم يُحط به؛ لتتصاغر إليه نفسه، ويصغر في عينه وعلمه، في جانب علم الله، رحمة به ولُطفاً في ترك الإعجاب، الذي هو فتنة العلماء.
ثم قال: {وجئتك من سبأ}- بالصرف- اسماً للحيّ، أو: للأب الأكبر، وبعدمه اسماً للقبيلة. {بنبأٍ يقين}، والنبأ: الخبر الذي له شأن. وقوله: {من سبأ بنبإٍ} من محاسن الكلام ويسمى البديع. وقد حسن وبرع لفظاً ومعنىً، حيث فسر إبهامه بأبدع تفسير، وأراه أنه كان بصدد إقامة خدمة مهمة. وعبّر عما جاء به بالنبأ، الذي هو الخبر الخطير والشأن الكبير، ووصفه بما وصفه به. {وإني وجدتُ امرأةَ تملكهم}؛ هو استئناف لبيان ما جاء به من النبأ، وتفسير له إثر الإجمال. وهي بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن ريان. وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها، ورث الملك من أربعين أباً. وقيل: كان أبوها- اسمه الهدهاد- ملكاً عظيم الشأن، ملك أرض اليمن كلها، وأبى أن يتزوج منهم، فزوجوه امرأة من الجن، يقال لها ريحانة فولدت له بلقيس، ولم يكن له ولد غيرها.
قال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كان أحد أبوي بلقيس جنياً» فمات أبوها، فاختلف قومه فرقتين، وملّكوا أمرهم رجلاً قائماً بسيرته، حتى فجَر بحرم رعيته، فأدركت بلقيس الغيرة، فعرضت عليه نفسها، فتزوجته، فسقته الخمر، فسكر، فجزت رأسه، ونصبته على باب دارها فملكوها.
{وأُوتِيَتْ من كل شيءٍ} تحتاج إليه الملوك، من العدة والآلة، {ولها عرشٌ عظيم}: كبير، قيل: كان ثلاثين ذراعاً في ثلاثين عرضاً، وقيل: كان ثمانين ذراعاً في ثمانين، وطوله في الهواء: ثمانون. وكان من ذهب وفضة، مرصعاً بأنواع الجواهر، وقوائمه من ياقوت أحمر وأخضر، ودرّ، وزبرجد، وعليه سبعة أبيات، في كل بيت باب مغلق. واستصغر الهدهد حالها إلى حال سليمان، فلذلك عظّم عرشها. وقد أخفى الله تعالى ذلك على سليمان؛ لحكمة، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب، ليتحقق ضعف العبودية في جانب علم الربوبية.
وكانت بلقيس مجوسية، فلذلك قال: {وجدتُها وقومَها يسجدون للشمس من دون الله} أي: يعبدونها متجاوزين عبادة الله. {وزيَّن لهم الشيطانُ أعمالهم} التي هي عبادة الشمس، ونظائرها من أصناف الكفر والمعاصي، {فصدَّهم عن السبيل}؛ عن سبيل الرشد والصواب، وهو التوحيد {فهم لا يهتدون} إليه. ولا يَبْعد من الهدهد التهدّي إلى معرفة الله، ووجوب السجود له، وحرمة السجود للشمس، إلهاماً من الله له، كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوانات والمعارف اللطيفة، التي لا يكاد العقلاء، الراجحة العقول، يهتدون إليها. وهذا من أسرارالربوبية، التي سرت في الأشياء، فوحّدَت الله تعالى، ولهجت بحمده.
{ألاَّ يسجدوا} بالتشديد، أي: فصدّهم عن السبيل لئلا، فحذف الجار، أي: لأجل ألا يسجدوا لله. ويجوز أن تكون لا مزيدة، أي: فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا. وقرئ: هلا يسجدون. ومن قرأ بالتخفيف. فالتقدير عنده: ألا يا هؤلاء؛ اسجدوا، فألاَ للتنبيه، والمنادي محذوف، فمن شدّد لم يقف على {يهتدون}، ومن خفف وقف ثم استأنف: ألا يا هؤلاء اسجدوا {لله الذي يُخرجُ الخَبْءَ}؛ الشيء المخبوء المستور {في السماوات والأرض}، قال قتادة: خبء السموات: المطر، وخبء الأرض: النبات. واللفظ أعم من ذلك، {ويعلم ما يُخفون وما يُعلنون} عطف على {يخرج}، إشارة إلى أنه تعالى يُخرج ما في العالم الإنساني من الخفايا، كما يُخرج ما في العالم الكبير من الخبايا.
{الله لا إله إلا هو ربُّ العرش العظيم} الذي هو أول الأجرام وأعظمهما. ووصفُ الهدهد عرشَ الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض. وفي الخبر: «إن السموات والأرض في جانب العرش كحلقة في فلاة» ووصفه عرش بلقيس تعظيم له بالنسبة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك. هذا آخر كلام الهدهد. ثم دلهم على الماء فحفروا وشربوا، وملؤوا الركايا، والله تعالى أعلم.
الإشارة: هُدهد كل إنسان نفسه، فإذا تفقدها فوجدها غائبة عن الله، في أودية الغفلة، هددها بالعذاب الشديد، وبذبحها بأنواع المخالفة، حتى تأتيه بحجة واضحة، تعذر بها، فإن لم تأت بحجة عذَّبها وذبحها، بإدخالها في كل ما تكره ويثقل عليها، فتمكث غير بعيد، فتأتيه بالعلوم اللدنية، والأسرار الربانية، التي لم يحط بها علماً قبل ذلك، وتجيئه بالخبر اليقين، في العلم بالله، من عين اليقين، أو حق اليقين، فتخبره عن أحوال عامة أهل الحجاب، فتقول: إني وجدت إمرأة تملكهم، وهي نفسهم الأمارة، وأوتيت من كل شيء تشتهيه وتهواه، من غير وازع ولا قامع، ولها عرش عظيم، وهو سرير الغفلة والانهماك في حب الدنيا والشهوات. أو: لها تسلط كبير على من ملكته، وجدتها وقومها يسجدون للسّوى، ويخضعون للهوى من دون الله، وزيّن لهم الشيطانُ ذلك، فصدهم عن طريق الوصول، فهم لا يهتدون إلى الوصول إلى الحضرة أبداً ما داموا كذلك؛ لأن حضرة ملك الملوك محرمة على من هو لنفسه مملوك. ألا يسجدوا بقلوبهم لله وحده، فإنه مطلع على خبايا القلوب والأسرار، وعلى ما يُسرون من الإخلاص، وما يُعلنون من الأعمال، التي توجب الاختصاص. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (27- 34):

{قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)}
يقول الحق جل جلاله: {قال} سليمانُ للهدهد: {سننظرُ} أي: نتأمل فيما أخبرتَ، فتعلمُ {أَصَدَقْتَ أم كنتَ من الكاذبين}، وهو أبلغُ من: أَكَذَبْتَ؛ لأنه إذا كان معروفاُ بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذباً، لا محالة، وإذا كان كاذباً اتّهم فيما أخبر به، فلا يُوثق به، ثم كتب: من عبد الله، سليمان بن داود، إلى بلقيس ملكة سبأ؛ بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فلا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين. قال منصور: كان سليمان أبلغ الناس في كتابه، وأقلهم كلاماً فيه. ثم قرأ: {إنه من سليمان...} إلخ، والأنبياء كلهم كذلك، كانت تكتب جُملاً، لا يُطيلون ولا يُكثرون. وقال ابن جريج: لم يزد سليمان على ما قال الله تعالى: {إِنه من سليمان...} إلخ. ثم طَيَّبه بالمسك، وختمه بخاتمه، وقال للهدهد: {اذهب بكتابي هذا فَأَلْقِه إِليهم} أي: إلى بلقيس وقومها؛ لأنه ذكرهم معها في قوله: {وجدتها وقومها}، وبنى الخطاب على لفظ الجمع لذلك. {ثم تولّ عنهم} أي: تنح عنهم إلى مكان قريب، بحيث تراهم ولا يرونك، ليكون ما يقولون بمسمع منك، {فانظرْ ماذا يرجعون} أي: ما الذي يردُّون من الجواب، أو: ماذا يرجع بعضهم إلى بعض من القول.
فأخذ الهدهدُ الكتابَ بمنقاره، ودخل عليها من كوّة، فطرح الكتاب على نحرها، وهي راقدةٌ، وتوارى في الكوة. وقيل: نقرها، فانتبهت فزعة، أو: أتاها الجنود حولها، فوقف ساعة يرفرف فوق رؤوسهم، ثم طرح الكتاب في حجرها، وكانت قارئة، فلما رأت الخاتم {قالت} لأشرف قومها وهي خائفة: {يا أيها الملأ إني أُلقي إليَّ كتابٌ كريمٌ}، وصفتْه بالكرم لكرم مضمونه؛ إذ هو حق، أو: لأنه من ملك كريم، أو: لكونه مختوماً. قال- عليه الصلاة والسلام-: «كَرَمُ الكتابِ خَتْمُهُ» أو: لكونه مصدراً بالتسمية، أو: لغرابة شأنه، ووصوله إليها على وجه خرق العادة.
ومضمونه والمكتوب فيه: {إنه من سليمانَ وإنه بسم الله الرحمن الرحيم}، وهذا تبيين لما أُلقي إليها كأنها لما قالت: {أُلقي إليّ كتاب كريم} قيل لها: ممن هو وما هو؟ فقالت: {إنه من سليمانَ وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلُوا عليَّ} إن: مفسرة، أي: لا تترفعوا عليّ ولا تتكبروا، كما يفعل جبابرة الملوك، {وأْتُوني مسلمين}: مؤمنين، أو: منقادين، وليس فيه الأمر بالإسلام. وقيل: إقامة الحجة على رسالته؛ لأن إلقاء الكتاب على تلك الصفة معجزة باهرة.
{قالت يا أيها الملاُ}، كررت حكاية قولها إيذاناً بغاية اعتنائها بما في حيزه: {أفتُوني في أمري} أي: أجيبوني في أمري، الذي حزبني وذكرتُه لكم، وعبّرت عن الجواب بالفتوى، الذي هو الجواب عن الحوادث المشكلة غالباً؛ تهويلاً للأمر، ورفعاً لمحلهم، بالإشعار بأنهم قادرون على حل المشكلات الملمة.
ثم قالت: {ما كنتُ قاطعةً أمراً} من الأمور المتعلقة بالمملكة {حتى تََشهدُونِ} بكسر النون، ولا يصح الفتح؛ لأنه يُحذف للناصب. وأصله: تشهدونني، فحذفت الأولى للناصب وبقي نون الوقاية، أي: تحضروني، وتشهدوا أنه على صواب، أي: لا أقطع أمراً إلا بمحضركم. وقيل: كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، كل واحد على عشرة آلاف.
{قالوا} في جوابها: {نحنُ أولو قوةٍ وأولو بأس شديد} أي: نجدة وشجاعة، فأرادوا بالقوة: قوة الأجساد والآلات، وبالبأس: النجدة والبلاء في الحرب. {والأمرُ إليك} أي: هو موكل إليك {فانظري ماذا تأمرين}، فنحن مطيعون إليك، فمُرينا بأمرك، نمتثل أمرك، ولا نخالفك. كأنهم أشاروا عليها بالقتال، أو أرادوا: من أبناء الحرب، لا من أبناء الرأي والمشهورة، وأنت ذات الرأي والتدبير، فانظري ماذا تأمرين نتبع رأيك.
فلما أحسنت منهم الميلَ إلى المحاربة مالتْ إلى المصالحة، فزيفت رأيهم، حيث {قالت إنَّ الملوك إِذا دخلوا قريةً} على منهاج المقاتلة والحرب، أو عنوة وقهراً {أفسدوها} بتخريب عمارتها، وإتلاف ما فيها من الأموال، {وجعلوا أَعِزَّةَ أهلها أذلةً} بالقتل والاسر والإجلاء، وغير ذلك من فنون الإهانة؛ ليستقيم لهم مُلْكُهم وحدهم. ثم قالت: {وكذلك يفعلون} أي: وهذه عادتهم المستمرة التي لاتتغير، لأنها كانت في بيت المملكة قديماً، أباً عن أب، فجربت الأمور، أو: يكون من قول الله تعالى، تصديقاً لقولها، أي: قال الله تعالى: وكذلك شأن الملوك إذا غلبوا وقهروا أفسدوا. وأنشدوا في هذا المعنى:
إِنَّ الْمُلُوكَ بَلاَءٌ حَيثُمَا حَلُّوا ** فَلاَ يَكُن بكَ فِي أَكْنَافِهِمْ ظلُّ

مَاذَا يُؤمَّل مِن قَوْمٍ إِذَا غَضِبُوا ** جَارُوا عَلَيْكَ وَإِن أَرْضَيْتهمُ مَلوا

وَإِن صدقتهم خالوك تخدعهم ** واستثقلُوكَ كَمَا يُسْتَثْقَلُ الكُلّ

فَاسْتَغْنِ بالله عن أبْوابِهِمْ أبداً ** إِنَّ الْوُقُوفَ عَلَى أَبْوَابِهِم ذُلُّ

ففي صحبة الملوك خطير كبير، وتعب عظيم، فمن قوي نوره، حتى يغلب على ظلمتهم، بحيث يتصرف فيهم، ولا يتصرفون فيه، فلا بأس بمعرفتهم، إن كان فيه نفع للناس بالشفاعة والنصيحة، وقد أقيم في هذا المقام الشيخ أبو حسن الشاذلي، وشيخ شيخنا مولاي العربي الدرقاوي- رضي الله عنهما- وكان تلميذاهما الشيخ أبو العباس المرسي، وشيخنا سيدي محمد البوزيدي الحسني- رضي الله عنهما- يفران من صحبتهم، أشد الفرار وهو أسلم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال صاحب الخصوصية لنفسه: سننظر أَصدقتِ في الخصوصية أم أنتِ من الكاذبين، اذهب بما معك من العلم، وذكّر به عباد الله، وألقه إليهم، ثم تولّ عنهم، وانظر ماذا يرجعون، فإن تأثروا بوعظك، وانتقش فيهم قولك، فأنتِ صادقة في ثبوت الخصوصية لديك؛ لأن أهل العلم بالله إذا تكلموا وقع كلامهم في قلوب العباد، فحييت به قلوبهم وأرواحهم. ومن لا خصوصية له صدت كلامه الآذان. قالت حين أرادت التذكير: يا أيها الملاُ إني أُلقي إليّ في قلبي كتابٌ كريمٌ، وعلمٌ عظيم، فلا تعل عليّ وأتوني مسلمين، منقادين لما آمركم به، وقالت- لَمَّا تطهرت من الأكدار، وتحررت من الأغيار، وأحدقت بها جنود الأنوار: يا أيها الملأ- تعني جنود الأنوار- أفتوني في أمري الذي أريد ان أفعله، ما كنت قاطعة أمراً من الأمور، التي تتجلى في القلب، حتى تشهدون، وتشهدوا أنه رشد وحق، قالو: نحن أولو قوة وأولو بأس شديد، والأمر إليك، حيث تطهرت، فانظري ماذا تأمرين؛ لأن النفس إذا تزكت وتخلصت وجب تصديقها فيما تهتم به، قالت: إن الملوك- أي: الواردات الإلهية التي تأتي من حضرة القهار، إذا دخلوا قرية، أي: قلب نفس، أفسدوا ظاهرها بالتخريب والتعذيب، وجعلوا أعزةَ أهلها أذلة، أي: أبدلوا عزها ذُلاً، وجاهها خمولاً، وغناها من الدنيا فقراً، وكذلك يفعلون.
وفي الحِكَم العطائية: «متى وردت الواردات الإلهية عليك هدمت العوائد لديك، إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون». فكل وارد نزل بالإنسان ولم يغير عليه عوائده فهو كاذب، قال في الحِكَمِ: (لا تزكين وارداً لم تعلم ثمرته، فليس المراد من السحابة الأمطار، وإنما المراد منها وجود الأثمار). وبالله التوفيق.