فصل: تفسير الآيات (35- 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (35- 37):

{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)}
يقول الحق جل جلاله: في حكاية بلقيس- وكانت سيسة، قد سيست وساست، فقالت لقومها: {وإني مُرْسِلَةً إِليهم}؛ سليمان وقومه، {بهديةٍ} أُصانعه بذلك عن ملكي، وأختبره، أملك هو أم نبي؟ {فناظرة}؛ فمنتظرة {بمَ يرجعُ المرسلون}؛ بأي شيء يرجعون، بقبولها أم بردها؛ لأنها عرفت عادة الملوك، وحسن موقع الهدايا عندهم، فإن كان مَلِكاً قَبِلَها وانصرف. وإن كان نبياً ردها ولم يَقبل منا إلا أن نتبعه على دينه، فبعثت خمسمائة غلام، عليهم ثياب الجواري وحُليهنِ، راكبين خيلاً، مغشاة بالديباج، محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجوهر، وخمسمائة جارية على رِمَاك في زي الغلمان، وألف لبنة من ذهب وفضة، وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت، وحُقاً فيه دُرة عذراء، وخرزة جزعية مثقوبة، معوجّة الثقب، وأرسلت رسلاً، وأمّرت عليهم المنذر بن عمرو وكتبت كتاباً فيه نسخة الهدية. وقالت فيه: إذ كنتَ نبياً فميّز بين الوصفاء والوصائف، وأخْبِر بما في الحُقّ، واثقب الدرّة ثقباً مستوياً، واسلك في الخرزة خيطاً. ثم قالت للمنذر: إن نظر إليك نظر غضب فهو ملك، فلا يهولنك منظره، وإن رأيته ليناً لطيفاً فهو نبيّ.
فأقبل الهدهد، فأخبر سليمان الخبر كله، فأمر سليمانُ الجن فضربوا لبِنَات الذهب والفضة، وفرشوها في الميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطاً، شرفه من الذهب والفضة، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر، فربطوها عن يمين الميدان ويساره، على اللبنات. وأمر بأولاد الجن- وهم خلقٌ كثير- فأُقيموا عن اليمين واليسار، ثم قعد على سريره، والكراسي من جانبيه، واصطفت الشياطين صفوفاً فراسخ، والإنس صفوفاً فراسخ، والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك فلما دنا القوم، ونظروا، بُهتوا، ورأوا الدواب تروث على اللبن، فتقاصرت إليهم أنفسهم، ورموا بما معهم من الهدايا.
ولما وقفوا بين يديه، نظر إليهم سليمان بوجهٍ طَلْقٍ، فأعطوه كتاب الملكة، فنظر فيه، فقال: أين الحُق؟ فأتى به، فحرّكه، وأخبره جبريل عليه السلام بما فيه. فقال لهم: إن كان فيه كذا وكذا. ثم أمر بالأرضَة فأخذت شعرة، ونفذت في الدرّة، فجعل رزقها في الشجر. وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها ونفذت في ثقب الجزعة فجعل رزقها في الفواكه. ودعا بالماء، وأمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم، فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى، ثم تضرب به وجهها، والغلام كما يأخذ الماء يضرب به وجهه فيميزهم بذلك. ثم ردّ الهدية.
ذلك قوله تعالى: {فلما جاء سليمانَ} أي: جاء رسولها المنذرُ بن عمرو إليه {قال أتمدُّونَنِ بمالٍ}، توبيخ وإنكار لإمدادهم إياه بالمال، مع علو شأنه وسعة سلطانه. والتنكير للتحقير، والخطاب للرسول ومن معه، أو للرسول والمرسل تغليب للحاضر. {فما آتانيَ الله} من النبوة والمُلك الذي لا غاية وراءه {خير مما آتاكم} أي: من المال الذي من جملته ما جئتم به، فلا حاجة لي إلى هديتكم، ولا وقْعَ لها عندي، ولعله عليه السلام إنما قال لهم هذه المقالة.
.. إلخ بعد ما جرى بينه وبينهم ما حكي من قصة الحُقّ وغيرها، لا أنه عليه السلام خاطبهم بها أول ما جاؤوه.
ثم قال لهم: {بل أنتم بهديتِكم تفرحون}. الهدية: اسم للمُهدَى، كما أن العطية اسم للمُعطَى، فتضاف إلى المُهْدِي والمهدَى له. والمعنى: أن ما عندي خير مما عندكم، وذلك أن الله تعالى آتاني الدين والمعرفة به، التي هي الغنى الأكبر، والحظ الأوفر، وأتاني من الدنيا ما لا يستزاد عليه، فكيف يرضى مثلي بأن يُمد بمال من قِبلكم؟ بل أنتم قوم لا تعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، فلذلك تفرحون بما تزدادون ويُهدى إليكم؛ لأنَّ ذلك مبلغ همتكم، وحالي خلاف ذلكم، فلا أرضى منكم بشيء، ولا أفرح إلا بالإيمان منكم، وترك ما أنتم عليه من المجوسية. والإضراب راجع إلى معنى ما تقدم، كأنه قيل: أنا لا أفرح بما تمدونني به بل أنتم.
ثم قال للرسول: {ارجعْ إليهم}؛ إلى بلقيس وقومها، وقل لهم: {فلَنَأْتينَّهم بجنودٍ لا قِبَلَ}: لا طاقة {لهم بها}. وحقيقة القِبَل: المقابلة والمقاومة، أي: لا يقدرون أن يقابلوهم، {ولنُخْرجنّهم منها} أي: من سبأ {أذلةً وهم صاغرون}: أسارى مهانون. فالذل: أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العز والملك، والصغار: أن يبقوا في أسر واستعباد. فلما رجع إليها رسولها بالهدايا، وقصّ عليها القصة، قالت: هو نبي، وما لنا به طاقة. ثم تجهزت للقائه، على ما يأتي إن شاء الله.
الإشارة: إذا توجه المريد إلى مولاه، توجهت إليه نفسه بأجنادها، وهي الدنيا، والجاه، والرئاسة، والحظوظ، والشهوات، فتُمده أولاً بمالٍ وجاه، تختبره، فإن علت همته، وقويت عزيمته، أعرض عن ذلك وأنكره، وقال: أتمدونني بمال حقير، وجاهٍ صغير، فلما آتاني الله من معرفته والغنى به خير مما آتاكم. ثم يقول للوارد بذلك: ارجع إليهم- أي: للنفس وجنودها- فلنأتينهم بجنود من الأنوار لا قِبَل لهم بها، ولنخرجنهم منها- أي: قرية القلب- أذلة وهم صاغرون. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.

.تفسير الآيات (38- 44):

{قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)}
ولما أرادت بلقيس الخروج إلى سليمان، جعلت عرشها آخر سبعة أبيات، وغلّقت الأبواب، وجعلت عليه حُراساً يحفظونه، وبعثت إلى سليمان: إني قادمة إليك؛ لأنظر ما الذي تدعو إليه، وشَخَصَتْ إليه في اثني عشر ألف قَيْل، تحت كل قيل ألوفٌ، فلما بلغت على رأس فرسخ من سليمان، {قال يا أيها الملأُ أيُّكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين}، أراد أن يريها بذلك بعض ما خصه الله تعالى به، من إجراء العجائب على يده، مع إطلاعها على عظيم قدرة الله تعالى، وعلى ما يشهد لنبوة سليمان. أو: أراد أن يأخذه قبل أن تتحصن بالإسلام، فلا يحل له، والأول أليق بمنصب النبوة، أو: أراد أن يختبرها في عقلها، بتغييره، هل تعرفه أو تُنكره.
{فال عِفْريتٌ من الجن}، وهو المارد الخبيث، واسمه ذكوان، أو: صَخْر: {أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك} أي: من مجلسك إلى الحكومة، وكان يجلس إلى تُسع النهار، وقيل: إلى نصفه. {وإني عليه}؛ على حمله {لقويُّ أمين}، آتي به على ما هو عليه، لا أغير منه شيئاً ولا أُبدله، فقال سليمان عليه السلام، أريد أعجل من هذا، {قال الذي عنده علم من الكتاب}. قيل هو: آصف بن برخيا- وزير سليمان عليه السلام، كان عنده اسمُ الله الأعظم، الذي إذا سئل به أجاب. قيل هو: يا حيّ يا قيوم، أو: يا ذا الجلال والإكرام، أو: يا إلهنا وإله كل شيء، إلهاً واحداً، لا إله إلا أنت. وليس الشأن معرفة الاسم، إنما الشأن أن يكون عين الاسم، أي: عين مسمى الاسم، حتى يكون أمره بأمر الله. وقيل: هو الخضر، أو: جبريل، أو: ملك بيده كتاب المقادير، أرسل تعالى عند قول العفريت. والأول أشهر. قال: {أنا آتيك به قبل أن يرتذَّ إليك طَرْفُك} أي: ترسل طرفك إلى شيء، فقبل أن ترده تُبصر العرش بين يديك.
رُوي: أن آصف قال لسليمان: مُدّ عينيك حتى ينتهي طرفك، فمدّ عينيه، فنظر نحو اليمن، فدعا آصف، فغار العرش في مكانه، ثم نبع عند مجلس سليمان، بقدرة الله تعالى، قبل أن يرجع إليه طرفه. {فما رآه} أي: العرش {مستقراً عنده}؛ ثابتاً لديه غير مضطرب، {قال هذا} أي: حصول مرادي، وهو حضور العرش في مدة قليلة، {من فضل ربي} عليّ، وإحسانه إليّ، بلا استحقاق مني، بل هو فضل خالٍ من العوض، {ليبلُوني}: ليختبرني {أأشكرُ} نعمَه {أم أكفرُ ومن شكَر فإنما يشكر لنفسه}؛ لأنه يقيد به محصولها، ويستجلب به مفقودها، ويحط عن ذمته عناء الواجب، ويتخلص من وصمة الكفران. {ومن كَفَرَ فإِن ربي غنيٌّ كريم} أي: ومن كفر بترك الشكر، فإن ربي غني عن شكره، كريم بترك تعجيل العقوبة إليه.
وفي الخبر: «من شكر النعم فقد قيّدها بعقالها، ومن لم يشكر فقد تعرض لزوالها».
وقال الواسطي: ما كان مِنَّا من الشكر فهو لنا، وما كان منه من النعمة فهو إلينا، وله المنة والفضل علينا. اهـ.
{قال} سليمانُ عليه السلام لأصحابه: {نكِّروا لها عرشها} أي: غيّروا هيئته بوجه من الوجوه، {ننظر أتَهْتَدِي} لمعرفته، أو: للجواب الصواب إذا سُئلت عنه، {أم تكون من الذين لا يهتدون} إلى معرفة عرشها. أو إلى الجواب الصواب.
{فلما جاءتْ} بلقيسُ سليمانَ عليه السلام، وقد كان العرش بين يديه، {قيل} من جهة سليمان، أو بواسطة: {أهكذا عرشُكِ}؟ ولم يقل: أهذا عرشك؛ لئلا يكون تلقيناً، فيفوت ما هو المقصود من اختبار عقلها، وقد قيل لسليمان- لما أراد تزوجها-: إن في عقلها شيئاً، فاختبرها بذلك. {قالت}- لما رأته-: {كأنه هو} فأجابت أحسن جواب، فلم تقل: هو هو، ولا: ليس به، وذلك من رجاحة عقلها، حيث لم تقل: هو هو مع علمها بحقيقة الحال، ولِمَا شبّهوا عليها بقولهم: أهكذا عرشك شبهت عليهم بقولها: {كأنه هو} مع أنها علمت بعرشها حقيقة، تلويحاً بما اعتراه بالتنكير من نوع مغايرة في الصفات مع اتحاد الذات، ومراعاة لحسن الأدب في محاورته عليه السلام. ولو قالوا: أهذا عرشك؟ لقالت: هو.
ثم قالت: {وأُوتينا العلم} بقدرة الله تعالى، وبصحبة نبوتك {مِن قَبْلِها}؛ من قَبل هذا الأمر، أي: من قبل المعجزة التي شاهدنا الآن، من أمر الهدهد، وبما سمعناه من المنذر من الآيات الدالة على ذلك، {وكُنا مسلمين}؛ منقادين لك من ذلك الوقت، وكأنها ظنت أنه أراد عليه السلام اختبار عقلها، وإظهار المعجزة، لتؤمن به. فأظهرت أنها آمنت به قبل وصولها إليه. أو قال سليمان: {وأُوتينا العلم} بالله تعالى وبكمال قدرته من قبل هذه الآية، {وكنا مسلمين}؛ موحدين، أو: {وأُوتينا العلم} بإسلامها ومجيئها طائعةً {من قبل} مجيئها، {وكنا مسلمين} موحّدين.
{وصدّها ما كانت تعبدُ من دون الله}، هو من كلام سليمان، أي: وصدها عن العلم بما علمناه- أو: عن التقدم إلى الإسلام- عبادةُ الشمس وإقامتها بين ظهرانيِّ الكفرة، أو: من كلام تعالى، بياناً لما كان يمنعها من إظهار ما ادعته من الإسلام الآن، أي: صدَّها عن ذلك عبادتُها القديمة للشمس، {إنها كانت من قوم كافرين} أي: كانت من قوم راسخين في الكفر، ولذلك لم تكن قادرة على إظهار إسلامها، وهو بين ظهرانيهم، حتى دخلت تحت ملكة سليمان عليه السلام، أو: وصدها الله تعالى، أو: سليمان، عما كانت تعبد من دون الله، فحذف الجار وأوصل الفعل.
{قيل لها ادْخلي الصَّرْحَ} أي: القصر، أو: صحن الدار، {فما رأته حسِبَتْهُ لُجَّةً}: ماء عظيماً، {وكشفتْ عن ساقيها}.
رُوي أن سليمان عليه السلام أمر قبل قدومها، فبُني له على طريقها قصر من زجاج أبيض، وأجرى من تحته الماء، وألقى فيه السمك وغيره، ووضع سريره في صدره، فجلس عليه، وعكف عليه الطير والجن والإنس. وإنما فعل ليزيدها استعظاماً لأمره، وتحقيقاً لنبوته. وقيل: إن الجن كرهوا أن يتزوجها، فنفضي إليه بأسرارهم؛ لأنها كانت بنت جنّية. وقيل: خافوا أن يولد له منها ولد، فيجتمع له فطنة الجن والإنس، فيخرجون من مُلْكِ سليمان إلى مُلْكِ أشدّ منه، فقالوا له: إن في عقلها شيئاً، وهي شَعْراء الساقين، ورِجْلها كحافر الحمار، فاحتبر عقلها بتنكير العرش، واتخذ الصرح ليتعرف ساقيها ورِجلها فكشفت عنهما، فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً، إلا أنه شعراء وصرف يصره. ثم {قال} لها {إنه صرح مُمَرد}؛ مملس مستو. ومنه: الأمرد، للذي لا شعر في وجهه، {من قواريرَ}؛ من الزجاج، وأراد سليمان تزوجها، فكره شعرها، فعملت له الشياطين النورة، فنكحها سليمان، وأحبها، وأقرها على ملكها، وكان يزورُها في الشهر مرة، فيقيم عندها ثلاثة ايام وولدت له، وانقضى ملكها بانقضاء ملك سليمان عليه السلام، فسبحان من لا انقضاء لملكه.
رُوي أنه مُلِك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة. اهـ.
ثم ذكر إسلامها، فقال: {قالت ربي إني ظلمتُ نفسي} بعبادة الشمس، {وأسلمتُ مع سُليمانَ} تابعة له، مقتدية به، {لله ربِّ العالمين}. وفيه الالتفات إلى الاسم الجليل، ووصفه بربوبيته للعالمين؛ لإظهار معرفتها بألوهيته تعالى، وتفرده باستحاق العبادة، وربوبيته لجميع الموجودين، التي من جملتها: ما كانت تعبد قبل ذلك من الشمس. والله تعالى أعلم.
الإشارة: عرش النفس الذي تستقر عليه هو الدنيا، فمن أحب الدنيا وركن إلى أهلها، فقد أجلس نفسه على عرشها، وصيَّرها مالكه له، متصرفة فيه بما تُحب، ومن أبغض الدنيا وزهد في أهلها، فقد هدم لها عرشها، وصارت خادمة مملوكة له، يتصرف فيها كيف يشاء. فيقول الداعي إلى الله- وهو من أهَّله الله للتربية- للمريدين: أيكم يأتيني بعرشها، ويَخرج عنها لله في أول بدايته؟ فمنهم من يأتي بها بعد مدة، ومنهم من يأتي بها أسرع من طرفة، على قدر القوة والعزم والصدق في الطلب، ومن أتى بعرش نفسه، وخرج عنها لله، فهو الذي آتاه الله علماً من الكتاب، وعرف مدلوله ومقصوده، لكن من السياسة أن يتدرج المريدُ في تركها شيئاً فشيئاً، حتى يخرج عنها، أو يغيب عن شغلها بالكلية، وإن كانت بيده. فاما خرجوا عن عرش نفوسهم لله، وتوجهوا إليه، ورأى ذلك منهم، قال: هذا من فضل ربي، حيث وقعت الهداية على يدي، ليبلوني أشكر أم أكفر.. الآية. قال نكروا لها عرشها، أي: اعرضوا عليها الدنيا، وأرُوها عرشها التي كانت عليه، متغيراً عن حاله الأولى- لأنه كان معشوقاً لها، والآن صار ممقوتاً، لغناها بالله- ننظر أتهتدي إليه، وترجع إلى محبته، فيكون علامة على عدم وصولها، أم تكون من الذين لا يهتدون إليه أبداً، فتكون قد تمكنت من الأنس بالله، فلما جاءت وأظهر لها عرشها اختباراً، قيل: أهكذا عرشك؟ قالت: كأنه هو، وأوتينا العلم بالله من قبل هذه الساعة، وكنا منقادين لمراده، فلن نرجع إلى ما خرجنا عنه لله أبداً.
وصدّها عن الحضرة ما كانت تبعد من الهوى، من دون محبة الله، إنها كانت من قوم كافرين، منكرين للحضرة، غير عارفين بها. قيل لها حين رحلت عن عرشها: ادخلي دار الحضرة، فلما رأت بحر الوحدة يتموج بتيار الصفات دهشت وحسبته لُجةً يغرق صاحبه في بحر الزندقة، قال لها رئيس البحرية- وهو شيخ التربية: إنه بحر منزه متصل، لا أول له، ولا آخر له. ليس مثله شيء، ولا معه شيء، محيط بكل شيء، وماحٍ لكل شيء. ثم اعترفت أنها ظالمة لنفسها، مشغولة بهواها، قبل أن تعرف هواه، فلما عرفته غابت عن غيره، واستسلمت وانقادت له. والله تعالى أعلم.