فصل: تفسير الآية رقم (221):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (221):

{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)}
قلت: بدأ الحقّ جلّ جلاله بذكر محل النكاح، وسيأتي في سورة النساء تمامه في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ...} [النِّساء: 23] الآية.
يقول الحقّ جلّ جلاله: ولا تتزوجوا النساء {المشركات حتى يؤمن}، ونكاحهن حرام، بخلاف الكتابيات، كما في سورة المائدة. ونكاح أمة سوداء {مؤمنة خير من} نحكاح {مشركة ولو أعجبتكم} حُسناً وحسباً ومالاً، أو: ولا مرأةٌ مؤمنة أمة كانت أو حُرة خَيْرٌ من مشركة؛ إذ النساء كلهم إماء الله.
رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام- بعث مَرْثَداً الغَنَوي إلى مكة ليُخرج منها نَاساً من المسلمين فأَتتْه امرأة يقال لها: عناق، وكان يهواها في الجاهلية- فقالت: ألا تخلو؟ فقال: إن الإسلام حال بيننا، فقالت: هل لك أنْ تتَزَوج بي؟ فقال: نعم، ولكن أستشير رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشاره، فنزلت الآية. البيضاوي.
ولا تُزوجوا {المشركين} وليَّتَكم، وهو حرام مطلقاً؛ إذ الرجال قوامون على النساء، ولا تَسلُّطَ للكافر على المسلمة، فلا تُنكحوهم {حتى يؤمنوا}، {ولعبد} أسود مملوك {مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم} حسباً ومالاً؛ إذ لا حسب مع الكفر، وإنما حرَّم نكاح أهل الكفر؛ لأنهم {يدعو إلى} الكفر، وهو سبب {النار}، والصحبة توجب عقد المحبة، والطباع تُسْرق، فلا يَؤمنُ جانب الكفر أن يغلب على الإيمان، {والله} تعالى إنما {يدعو إلى} سبب {المغفرة} والتطهير من لَوث الكفر والمعاصي {بإذنه} وقدرته، فلا يأمر إلا بما يقوى عقد الإيمان واليقين، ويُنهض إلى الطاعات، وهو صحبة أهل الإيمان واليقين، {ويُبين آياته} الدالّة على جمع عباده إليه {لعلهم يتذكرون} فيها، ويتعظون بتذكيرها ووعظها.
الإشارة: لا ينبغي للفقير أن يعقد مع نفسه عقد الصحبة والمودة، أو ينظر إليها بعين الشفقة والرحمة، ما دامت مشركة بشهود السّوى، أو مائلة بطبعها إلى الهوى، ولأن تكون عندك نفس مؤمنة بعلم التويد، خير من نفس مشركة برؤية الغير، ولو أعجبتك في الطاعة، وظهور الاستقامة، فقد تُظْهر الطاعة والخدمة، وتُبطن مالها فيها من الحظوظ والمتعة، فليتهمها ما دامت مشركة، فإذا آمنت ووحدت الله تعالى، فلم تر معه سواه، فلا بأس بعقد النكاح معها، فإنها لا تأمره إلا بما يقوي شهودها وتوحيدها. وكذلك لا ينبغي أن يعقد نكاح نفسه، ويدفعها لمن يشهد السّوى، شيخاً أو أخاً، ولو أعجبك طاعته واجتهاده، ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه، خير من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه، أولئك أهل النفوس- يدعون إلى نار الشهوات والحظوظ العاجلة أو الآجلة، والله يدعو إلى التطهير من شهود الأغيار، والدخول في حضرة الأسرار، وهذا لا يكون إلا للعارفين الأبرار؛ الذين تطهروا من الأكدار، وتخلصوا من شهود الأغيار، كذلك يُبين الله آياته الناس- الدالّة على وحدانيته- لعلهم يتعظون فينزجرون عن متابعة الهوى، أو رؤية وجود السوى. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولما بيَّن الحقُ تعالى ما يحرم في النكاح أصالَةً، بيَّن ما يحرم فيه عُروضاً.

.تفسير الآيات (222- 223):

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)}
قلت: المحيض: مصدر، كالمقيل والمعيش والمجيء، وهو الحيض.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ويسألونك} يا محمد {عن} قرب النساء بالجماع في زمن {المحيض قل} لهم: {هو أذى}، أي: مُضِرٍّ، أو مُنتن مستقذر، لا يَرضى ذو همة أن يقربه، {فاعتزلوا} مجامعة {النساء في} زمن {المحيض ولا تقربوهن} بالجماع في المحل {حتى يطهرن} من الدم، بانقطاعه، ويغتسلن بالماء، {فإذا تطهرن} بالماء {فأتوهن من حيث أمركم الله} وهو الفرج، الذي أمركم باجتنابه في الحيض؛ إذ هو محل زراعة النطفة. فمن غلبته نفسه حتى وطئء في الحيض، أو النفاس، فليبادر إلى التوبة، {إن الله يحب التوابين} كلما أذنبوا تابوا.
ولا تجب كفارة على الواطئ، على المشهور. وقال ابن عباس والأوزاعي: (من وطئ قبل الغسل تصدق بنصف دينار، ومن وطئ في حال سيلان الدم تصدق بدينار). رواه أبو داود حديثاً. ومن صبر وتنزَّه عن ذلك فإن الله {يحب المتطهرين} من الذنوب والعيوب كلها، وإنما أعاد العامل؛ لأن محبته للمتنزهين أكثر.
قال البيضاوي: رُوِيَ أن أهل الجاهلية كانوا لا يُسَاكنون الحائض؛ ولا يُؤاكلونها، كفعل اليهود والمجوس، واستمر ذلك إلى أنْ سأل أبو الدحْداح، في نفر من الصحابة، عن ذلك، فنزلت. ولعله سبحانه- إنما ذكر إنما يسألونك من غير واو، ثلاثاً، ثم بها ثلاثاً؛ لأن السؤالات الأُوَل كانت في أوقات متفرقة، والثلاثة الأخيرة كانت في وقت واحد؛ فلذلك ذكرها بحرف الجمع. اهـ.
ثم بيَّن الحق تعالى كيفية إتيان النساء بعد الطُهر، فقال: {نساؤكم حرث لكم}، أي: مواضع حرثكم، شبه ما يلقى في أرحامهن من النطف، بالبذر، والأرحام أرض لها، {فأتوا حرثكم} أي: محل حرثكم، وهو الفرج، {أنى شئتم} أي: من أي جهة شئتم.
رُوِيَ أن اليهود كانوا يقولون: مَنْ جامع امرأته مِنْ خَلْفهَا في قُبُلِهَا جَاء الولُد أَحْولَ، فذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وقيل: إنَّ قُريشاً كانوا يأتون النساء من قُدَّام، مستلقية، والأنصار كانوا يأتوهن من خلف، باركة، فتزوج رجل من المهاجرين امراة من الأنصار، فأراد أن يفعل عادته، فامتنعت، وأرادت عادتها، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية بالتخيير للرجل، مع الإتيان في المحل، وأما الإتيان في الدُّبُر فحرام، ملعونٌ فاعله، وقال في القوت: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} أي: في أي وقت شئتم، ومن أي مكان شئتم، مع اتحاد المحل. اهـ.
ثم حذَّر الحق تعالى من متابعة شهوة النساء، والغفلة عن الله، فقال: {وقدموا لأنفسكم} ما تجدون ثوابه مُدخراً عنده، وهو ذكر الله في مظان الغفلة، قيل: التسمية قبل الوطء وقيل: طلب الولد، والتحقيق: أنه الحضور مع الحق عند هيجان الشهوة، قال بعض العارفين: إني لا أغيب عن الله ولو في حالة الجماع. اهـ.
وهذا شأن أهل الجمع، لا يفترقون عن الحضرة ساعة. وهذه التقوى التي أمر الله بها بقوله: {واتقوا الله} أي: لا تغيبكم عنه شهوةُ النساء، {واعلموا أنكم ملاقوه} فترون وبال الغفلة وجزاء اليقظة، {وبشر المؤمنين} بالقرب من رب العالمين.
الإشارة: إذا سُئلت- أيها العارف- عن النفس في حال جنابتها بالغفلة، وحال تلبسها بنجاسة حب الدنيا، فقل: هي أذى، أي: قذر ونجس، من قَرُب منها لطَّخته بنجاستها، فلا يحل القرب منه، أو الصحبة معها، حتى تطهر من جنابة الغفلة باليقظة، ومن نجاسة حب الدنيا بالزهد، ورفع الهمة عنها، فإذا تطهرت فاتها، وردها إلى حضرة مولاها، كما أمرك الله، {إن الله يحب التوابين}، وقد تابت ورجعت إلى مولاها، {ويحب المتطهرين}، وقد تطهرت من جنابة الغفلة، وتنزهت عن نجاسة الدنيا برفع الهمة، فصارت لك أرضاً لزراعة حقوق العبودية، ومَنْبَتا لبذر شهود عظمة الربوبية، فأتوا حرثكم- أيها العارفون- أنى شئتم، أي: ازرعوا في أرض نفوسكم من أوصاف العبودية ما شئتم، وفي أي وقت شئتم.
فبقدر ما تزرعون من العبودية تحصدون من الحرية. وبقدر ما تزرع فيها من الذل تحصده من العز، وبقدر ما تزرع فيها من الفقر تحصده من الغنى، وبقدر ما تزرع فيها من التواضع تحصده من الشرف والرفعة.
والحاصل: بقدر ما تزرع فيها من السفليات تحصد ضده من العلويات. قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ في الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِنَّ لَهُمْ في الأَرْضِ} [القصص: 5، 6]. فإذا تركتها هَمَلاً، أنبتت لك الشوك والحنظل، {وقدموا لأنفسكم} من أوصاف العبودية ما تجدونه أمامكم من مشاهدة الربوبية، واتقوا الله فلا تشهدوا معه سواه، واعلموا أنكم ملاقوه حين تغيبون عن وجودكم وتفقدونه، وبشر المؤمنين الموقنين بشهود رب العالمين.
ولما تكلم الحقّ جلّ جلاله على بعض أحكام النكاح، أراد أن يتكلم على الإيلاء، وهو الحلف على عدم مس المرأة وجماعها، وقدّم على ذلك النهي عن كثرة الحلف؛ لأنه هو السبب في الوقوع في الإيلاء.

.تفسير الآيات (224- 225):

{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)}
قل: العرضة: فُعلة، بمعنى مفعولة: أي: معرضاً منصوباً، لأيمانكم تحلفون به كثيراً، فيصير اسم الجلالة مبتذلاً بينكم. و{أن تبروا}: مفعول من أجله.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولا تجعلوا الله} أي: اسم الجلالة، معرضاً {لأيمانكم}، فتتبذلونه بكثرة الحلف، فتمتنعون من فعل الخير بسبب الحلف، كراهة {أن تبروا} أي: تفعلوا فعل البر، وهو الإحسان، وكراهة أن {تتقوا} أن تجعلوا بينكم وبين الله وقاية بفعل المعروف، وذلك أن يحلف الرجل ألا يصل رحمه، أو لا يسلم على فلان، او لا يضمن أحداً، أو لا يبيع بدين، أو لا يسلف أحداً، أو لا يتصدق، فهذه الأمور كلها بر وتقوى، نهى الله تعالى عن الحلف على عدم فعلها، أو يحلف ألا يصلح بين الناس، فيجب على الحالف على ذلك أن يحنث، ويكفر عن يمينه. ولذلك قال- عليه الصلاة والسلام-: «إنِّي لأَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى خيْراً منْهَا، فأكفر عن يميني، وآتي الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وقال لابن سَمُرَة: «إذا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرأيْتَ غَيرهَا خَيْراً مِنْهَا، فاتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفّرْ عَنْ يمِينِك».
أو يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولا تجعلوا لله} معرضاً لأيمناكم، تحلفون به كثيراً، نهيتكم عن ذلك، إرَادَةَ أنْ تكونوا أبراراً متقين، مصلحين {بين الناس}؛ فإن الحالف مجترئ على الله، والمجترئ لا يكون برّاً متقياً، ولا موثوقاً به في إصلاح ذات البين، {والله سميع} لأيمانكم، {عليم} بنياتكم.
ثم رفع الحق تعالى الحرج عن يمين اللغو الذي لا قصد فيه- فقال: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم}، وهو ما يجري على اللسان من غير قصد، كقول الرجل في مجرى كلامه: لا والله وبلى والله، قاله ابن عباس وعائشة- رضي الله عنهما-، وبه قال الشافعي.
وقال أبو هريرة والحسنُ وابنُ عباس- في أحد قوليه-: هو أن يحلف على ما يعتقد فيظهر خلافه. وبه قال مالك رضي الله عنه، والأول ألْيَق بقوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} أي: بما عقدت عليه قلوبكم، {والله غفور}؛ حيث لم يؤاخذكم باللغو، {حليم}؛ حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجدّ، تربصاً للتوبة.
الإشارة: يقول الحقّ جلّ جلاله: {لا تجعلوا الله عُرضة لأيمانكم}، لكن اجعلوه عرضة لتعظيم قلوبكم ومشاهدة لأسراركم، فإني ما أظهرت اسمي لتبتذلوه في الأيمان والجدال، وإنما اسمي لتتلقَّوْه بالتعظيم والإجلال، فمن عظَّم اسمي فقد عظَّم ذاتي، ومن عظم ذاتي جعلته عظيماً في أرضي وعند أهل سمواتي، وجعلته برّاً تقيّاً، من أهل محبتي وودادي، وداعياً يدعو إلى معرفتي، ويصلح بيني وبين عبادي، فمن حلمي ورأفتي: أني لا أؤاخذ بما يجري على اللسان، وإنما أؤاخذ بما يقصده الجَنَان.
تنبيه: كثرة الحلف مذموم يدل على الخفة والطيش، وعدم الحلف بالكلية تعسف، وخيرُ الأمور أوساطها، كان عليه الصلاة والسلام يحلف في بعض أحيانه، يقول: «لاَ وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ» «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ» والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (226- 227):

{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}
قلت: {الإيلاء}: يمين زوج مكلَّف على عدم وطء زوجته، أكثر من أربعة أشهر. وآلى: بمعنى حلف، يتعدى بعلى، ولكن لما ضُمَّن هنا معنى البُعد من المرأة، عُدّي بمن، و{تربص}: مبتدأ، و{للذين يؤلون}: خبر.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {للذين} يبعدون {من نسائهم} ويحلفون ألاَّ يجامعوهن أكثر من أربعة أشهر، غضباً وقصداً للإضرار، {تربص} أي: تمهل {أربعة أشهر}، لا يُطالبُ فيهن بفيئة ولا حنث، {فإن فاءوا} أي: رجعوا حلفوا عليه، وحنثوا وكفَّروا أيمانهم، {فإن الله غفور} لما قصدوا من الإضرار، بالفيئة التي هي كالتوبة، {رحيم} بهم؛ حَيث لم يعاجلهم بالعقوبة، {وإن عزموا الطلاق} أي: صمموا عليه، ولم يرجعوا عما حلفوا عليه، {فإن الله سميع} لطلاقهم {عليهم} بقصدهم ونيتهم. ومذهب مالك الشافعي: أن القاضي يُوقفه: إما أن يرجع بالوطء إن قدر، أو بالوعد إن عَجز، أو يُطلِّق عليه طلقة رجعية، عند مالك. ومذهب أبي حنيفة: أنها تَبِين بمجرد مُضي أربعة أشهر، وأحكام الإيلاء مقررة في كتب الفقه.
الإشارة: لا ينبغي للعبد أن يصرف عمره كله في معاداة نفسه ومجانبتها، إذ المقصود هو الاستغال بمحبة الحبيب، لا الاشتغال بعداوة العدو، فلمجاهدة نفسه ومجانبتها حد معلوم ووقت مخصوص، وهو ما دامت جموحة جاهلة بالله. فإن فاءت ورجعت إلى الله، وارتاضت لحضرة الله، وجبت محبتها والاصطلاح معها؛ لأن النفس بها ربح مَنْ ربح، ومنها خسر من خسر، من عرف قدرها، واحتال عليها حتى ردها إلى ربها- ربح، ومن أهملها وجهل قدرها- خسر، وكان شيخ شيوخنا يقول: جزاها الله عنا خيراً؛ والله ما ربحنا إلا منها، يعني نفسه. وفي بعض الآثار: (مَنْ عَرَفَ نَفْسَه عَرَفَ ربَه). وإن عزموا الطلاق، يعني: العباد والزهاد عزموا ألا يرجعوا إلى أنفسهم أبداً، فإن الله سميع عليم بقصدهم هل قصدهم طلب الحظوظ أو محبة الحبيب، وأما العارفون فلا تبقى لهم معادة مع أحد قط، قد اصطلحوا مع الوجود بأسره، فمكنهم الله من التصرف في الوجود بأسره. والله ذو الفضل العظيم.

.تفسير الآية رقم (228):

{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)}
{والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أرادوا إِصْلاَحاً...}
قلت: القُرء هو الطهر الذي يكون بعد الحيض، عند مالك، وجمع القلة: أقراء، والكثرة: قروء، واستعمله هنا باعتبار كثرة المطلقات، و{ثلاثة}: مفعول مطلق، أو ظرف، و{بعولتهن}: جمع بعل، والتاء لتأنيث الجماعة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {والمطلقات يتربصن} أي: يمكثن عن التزوج، {بأنفسهن ثلاثة قروء} أي: أطهار، وتَعْتَدُّ بالطهر الذي طلقها فيه، فتحيض، ثم تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، فإذا رأت الحيضة الثالثة خرجت من العدة، هذا في غير الحامل، واما الحامل فعدتها وضع حملها. {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} من الولد؛ استعجالاً لإتمام العدة، أو من الحيض؛ استبقاءً لتمادي العدة، وتُصدق في ذلك كله، فإن كانت {تؤمن بالله واليوم الآخر} فلا يحل لها أن تكتم ما استؤمنت عليه، {وبعولتهن} أي: أزواجهن: {أحق بردهن في ذلك} التربص، إن كان الطلاق رجعيّاً، وإلا بانت منه، وينبغي للزوج أن يراجعها في العدة، إن أراد بذلك الإصلاح والمودة، لا الإضرار بها، وإلا حرم عليه ارتجاعها، إذ «لاَ ضَرَرَ ولا ضرار»، كما قال- عليه الصلاة والسلام-.
الإشارة: إذا طُلّقَتْ النَّفْسُ، ووقع البعد منها حتى طهرت ثلاثة: الطهر الأول: من الإصرار على الذنوب والمخالفات، الطهر الثاني: من العيوب والغفلات، الطهر الثالث: من الركون إلى العادات الوقوف مع المحسوسات، دون المعاني وأنوار التجليات- حلَّتْ رجعتُها والاصطلاح معها، ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن: من العلوم والمعارف والأنوار، وذلك إذا استشرفَتْ على حضرة الأسرار، فإنها تفيض بالعلوم والحكم، أو ما لا يحصى، فينبغي أن تطلع عليها من يقتدي بشأنها. وبعولتهن أحق بردهن، والصلح معهن، بعد تمام تطهيرهن، إن أرادوا بذلك إصلاحاً، وهو إدخالها في الحضرة، ونعيمها بالشهود والنظرة. وبالله التوفيق.
ثم ذكر الحقّ جلّ جلاله حقوق الزوجية، فقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
يقول الحقّ جلّ جلاله: وللنساء حقوق على الرجال، كما أن للرجال حقوقاً على النساء، فحقوق النساءعلى الرجال: الإنفاق، والكسوة، والإعفاف، وحسن المعاشرة، وكان ابنُ عمر- رضي الله عنهما- يقول: إني لأُحِبُّ أن أتزيَّنَ للمرأة كما تتزين لي، ويقرأ هذه الآية.
وحقوق الرجل على المرأة: إصلاح الطعام والفراش، وطاعة زوجها في كل ما يأمرها به من المباح، وحفظ فرجها، وصاينة ماله الذي ائتمنت عليه- إلى غير ذلك من الحقوق، فللنساء حقوق على الرجال {مثل الذي عليهن بالمعروف} من غير ضرر ولا ضرار.
ولا تفريط ولا إفراط، {وللرجال عليهم درجة} أي: فضيلة؛ لأن الرجال قوّامون على النساء، ولهم فضل في الميراث، والقسمة، وكثير من الحقوق، فضلهم الله على النساء: {والله عزيز} لا يعجزه عقاب من خالف أمره، لكنه يمهل ولا يُهمل، {حكيم} لا يفعل إلا لمصلحة ظاهرة أو خفية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: للنفس حقوق على صاحبها، كما له حقوق عليها، قال- عليه الصلاة والسلام-: «إنَّ لنفْسك عَلَيْكَ حَقّاً، وَلزَوْجِكَ عَلَيْك حَقّاً، ولِربِكَ عليك حَقّاً، فأَعْطِ كُلّ ذِي حَقِ حَقَّهُ» فالنفس مغرفة للسر، فإذا تعبت سقط منها السر، كذلك نفس الإنسان، إذا تحامل عليها حتى تعللت، ودخلها الوجع، تعذر عليها كثر من العبادات، لاسيما الفكرة، فلابد من حفظ البشرية، وإنا ينبغي قتلها بالأمور التي لا تُخِلُّ بصحتها، فعليها طاعتك فيما تأمرها به، كما عليك حفظها مما تتضرر به. وللرجال الأقوياء عليها تسلطٌ وتصرف، فهي مملوكة في أيديهم، وهم غالبون عليها، والله غالب على أمره، وهو العزيز الحكيم.