فصل: تفسير الآيات (47- 49):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (47- 49):

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)}
يقول الحق جل جلاله: {وكذلك} أي: ومثل ذلك الإنزال البديع {أنزلنا إليك الكتاب} مصدقاً لسائر الكتب السماوية وشاهداً عليها، {فالذين آتيناهم الكتاب}؛ التوراة والإنجيل، {يؤمنون به}، وهم عبد الله بن سلام ومن آمن معه، وأصحاب النجاشي، أو: من تقدم عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، {ومن هؤلاء}، من أهل مكة، {من يؤمن به}، أو: فالذي آتيناهم الكتب قبلك يؤمنون به قبل ظهوره، ومن هؤلاء الذين أدركوا زمانك من يؤمن به. وإذ قلنا: إِنّ السورة كلها مكية، يكون إخباراً بغيب تحقق وقوعه، {وما يجحد بآياتنا}، مع ظهورها وزوال الشبهة عنها، {إلا الكافرون}؛ إلا المتوغلون في الكفر، المصممون عليه، ككعب بن الأشرف وأضرابه، أو كفار قريش، إذا قلنا: الآية مكية.
{وما كنت تَتْلوا من قبله}؛ من قبل القرآن {من كتاب ولا تَخُطُّه بيمينك}، بل كنت أمياً، لم تقرأ ولم تكتب، فظهور هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم الشريفة والأخبار السالفة، على يد أُمي؛ لم يُعْرَفْ بالقراءة والتعلم، خرق عادة، قاطعة لبغيته. وذكر اليمين، لأن الكتابة، غالباً، تكون به، أي: ما كنت قارئاً كتاباً من الكتب، ولا كَاتِباً {إِذاً لارتابَ المبطلون} أي: لو كنت ممن يخط ويقرأ لقالوا: تعلمه، والتقطه من كتب الأقدمين، وكتبه بيده. أو: يقول أهل الكتاب: الذي نجده في كتابنا أُمي لا يكتب ولا يقرأ، وليس به. وسماهم مبطلين، لإنكارهم النبوة، أو: لارتيابهم فيها، مع تواتر حججها ودلائلها.
هذا، وكونه صلى الله عليه وسلم أُمياً كَمَالٌ في حقه صلى الله عليه وسلم، مع كونه أمياً أحاط بعلوم الأولين والآخرين، وأخبر بقصص القرون الخالية والأمم الماضية، من غير مدارسة ولا مطالعة، وهو، مع ذلك، يُخبر بما مضى، وبما يأتي إلى قيام الساعة، وسرد علم الأولين والآخرين مما لا يعلم القصة الواحدة منها إلا الفاذ من أحبارهم، الذي يقطع عمره في مدارسته وتعلمه، وهذا كله في جاهلية جهلاء، بَعُد فيها العهد بالأنبياء، وبدّل الناس، وغيَّروا في كتب الله تعالى؛ بالزيادة والنقصان، ففضحهم صلى الله عليه وسلم وقرر الشرائع الماضية، فهذا كله كاف في صحة نبوته، فكانت أميته صلى الله عليه وسلم وَصْفَ كمال في حقه، ومعجزةً دالة على نبوته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم، مع كونه أُمياً، ظهر عليه من العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، ما يعجز عنه العقول، ولا تُحيط به النقول، مع إحكامه لسياسة الخلق، ومعالجتهم، مع تنوعهم، وتدبير أمر الحروب، وإمامته في كل علم وحكمة.
وأيضاً: المقصود من القراءة والكتابة: ما ينتج عنهما من العلم؛ لأنهما آلة، فإذا حصلت الثمرة استغنى عنهما. والمشهور أنه صلى الله عليه وسلم لم يكتب قط.
وقال الباجي وغيره: إنه كتب، لظاهر حديث الحديبية. وقال مجاهد والشعبي: ما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ. وهذا كله ضعيف.
قال تعالى: {بل هو} أي: القرآن {آيات بيناتٌ في صدور الذين أُوتوا العلم} اي: في صدور العلماء وحُفاظه، وهما من خصائص القرآن كون آياتِ بيناتِ الإعجاز وكونه محفوظاً في الصدور، بخلاف سائر الكتب، فإنها لم تكن معجزات، ولم تكن تُقرأ إلا بالمصاحف. قال ابن عباس: {بل هو} أي: محمد، والعلم بأنه أُمي، {آيات بينات}؛ في صدور أهل العلم من أهل الكتاب، يجدونه في كتبهم. اهـ. و{بل}: للإضراب عن محذوف، ينساق إليه الكلام، أي: ليس الأمر مما يمكن الارتياب فيه، بل هو آيات واضحات. و{في صدور}: متعلق ببينات، أو: خبر ثان لهو. {وما يجحدُ بآياتنا} الواضحة {إلا الظالمون}؛ المتوغلون في الظلم. قال ابن عطية: الظالمون والمبطلون هم كل مُكذب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن عُظم الإشارة بهما إلى قريش لأنهم الأهم. قاله مجاهد. اهـ.
الإشارة: كم من وليٍّ يكون أُمياً، وتجد عنده من العلوم والحِكَم والتوحيد ما لا يوجد عند نحارير العلماء. ما اتخذ الله ولياً جاهلاً إلا علَّمه ولقد سمعت من شيخنا البوزيدي رضي الله عنه علوماً وأسراراً، ما رأيتها في كتاب، وكان يتكلم في تفسير آيات من كتاب الله على طريق أهل الإشارة، قلّ أن تجدها عند غيره، وسمعته يقول: والله ما جلست بين يدى عالم قط، ولا قرأت شيئاً من العلم الظاهر. قال القشيري: قلوبُ الخواص من العلماء بالله خزائنُ الغيب، فيها أودع براهين حقه، وبينات سرِّه، ودلائل توحيده، وشواهد ربوبيته، فقانون الحقائق في قلوبهم، وكلُّ شيء يُطلب من موطنه ومحله، فالدر يُطلب من الصدف؛ لأنه مسكنه، كذلك المعرفة، ووصف الحق يُطْلَبُ من قلوب خواصه؛ لأن ذلك قانون معرفته، ومنها ترفع نسخةُ توحيده. اهـ.

.تفسير الآيات (50- 52):

{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)}
يقول الحق جل جلاله: {وقالوا} أي كفار قريش: {لولا أُنزل عليه آية من ربه} تدل على صدقه، مثل ناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى، ونحو ذلك. وقرأ نافع وابن عامر وحفص: بالجمع؛ {آيات}، كثيرة {قل إنما الآيات عند الله}، يُنزل منها ما شاء متى شاء، ولست أملك منها شيئاً، {وإنما أنا نذير مبين}؛ إنما كلفت بالإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات، وليس من شأني أن أقول: أنزل على آية كذا دون آية كذا، مع علمي أن المراد من الآيات ثبوت الدلالة على نبوتي، والآيات كلها في حُكم آية واحدة في ذلك. {أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم}، أي أَوَلَمْ يكفهم إنزال آية مغنية عن سائر الآيات، إن كانوا طالبين للحق، غير متعنتين، وهو هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل زمان ومكان، فلا يزال معهم آية ثابته، لا تزول ولا تنقطع، كما انقطع غيره من الآيات، وفي ذلك يقوم البوصيري:
دامَتْ لَدَيْنا فَفاقَتْ كلَّ مُعْجِزَةٍ ** مِنَ النَّبِيِّينَ إِذْ جاءَتْ ولَمْ تَدُمِ

{إن في ذلك} أي: هذه الآية الموجودة في كل زمان إلى آخر الدهر، {لرحمة}؛ لنعمة عظيمة، {وذكرى}؛ وتذكرة {لقوم يؤمنون} من دون المتعنتين. قال يحيى بن جعدة: إن ناساً من المسلمين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بكتب قد كتبوها، فيها بعض ما يقول اليهود، فألقاها، وقال: كفى بها حماقة، أو ضلالة قوم، أن يرغبوا عما جاء به نبيهم، فنزل: {أولم يكفهم...} إلخ.
{قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً} أي: شاهداً بصدق ما أدعيه من الرسالة وإنزال القرآن عليّ، وتكذبيكم، {يعلم ما في السماوات والأرض}، فهو مطلع على أمري وأمركم، وعالم بحقي وباطلكم، فلا يخفى عليه شيء. {والذين آمنوا بالباطل}، وهو ما يُعبد من دون الله، {وكفروا بالله} وبآياته منكم {أولئك هم الخاسرون}؛ المغبونون في صفقتهم، حيث اشتروا الكفر المؤدي إلى النيران، بالإيمان المؤدي إلى الخلود في الجنان. رُوي أن كعب بن الأشرف وأصحابه من اليهود قالوا: من يشهد لك بأنك رسول الله؟ فنزل: {قل كفى...} إلخ.
الإشارة: اقتراح الآيات والكرامات كله جهل وحمق؛ إذ ليس بيد النبي أو الولي شيء من ذلك، وإنما هو مأمور بالوعظ والدلالة على الله، والدعاء إليه، والكرامة لا تدل على كمال صاحبها، ربما رُزق الكرامة من لم تَكْمُلْ له الاستقامة، ليس كل من ثبت تخصيصه كَمُلَ تخليصه. وقد تظهر الكرامات في البدايات وتخفى في النهايات، والكرامة العظمى هي الاستقامة وكشف الحجاب بين الله وعبده حتى يشاهده عياناً، ويذهب عنه الأوهام والشكوك، وأما غير هذا فقد يكون استدراجاً لمن يقف معه. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (53- 55):

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)}
يقول الحق جل جلاله: {ويستعجلونك بالعذاب}، كقولهم: أمطر علينا حجارة من السماء، {ولولا أجلٌ مسمى} المضروب لعذاب كل قوم، أو: القيامة، أو: يوم بدر، أو: وقت فنائهم بأجلهم. والمعنى: ولو أجل قد سمّاه الله وعيَّنه في اللوح المحفوظ، {لجاءهم العذاب} عاجلاً. والحكمة تقتضي تأخيره إلى ذلك الأجل المسمى، {وليأتينهم} العذاب في الأجل المسمى {بغتةً}: فجأة {وهم لا يشعرون} بإيتانه.
{يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} أي: لتحيط بهم، أو: هي كالمحيطة بهم، لإحاطة أسبابها بهم من الكفر والمعاصي. واللام للعهد، على وضع الظاهر موضع المضمر؛ للدلالة على موجب الإحاطة، وهو الكفر، أو الجنس، فيدخل المخاطبون دخولاً أولياً. وتكرير استعاجلهم؛ لاختلاف ما يترتب على كل واحد، فرتب على الأول حكمة تأخيره، وعلى الثاني تهديهم وزجرهم عنه.
ثم قال تعالى: {يوم يغشاهم العذابُ من فوقهم ومن تحت أرجلهم}، هذا وقت إحاطتها بهم، أي: تحيط من جميع جوانبهم، كقوله: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16]. {ويقولوا ذُوقوا ما كنتم تعملون} أي: باشروا جزاء أعمالكم.
الإشارة: ما قيل في حق استعجل العذاب من الأنبياء، يقال في حق استعجله من الأولياء، بحيث يؤذيهم ويقول: ليُظهروا ما عندهم، فهذا حمق كبير، ولابد أن يلحقه وبال ذلك، عاجلاً، أو آجلاً، إما ظاهراً أو باطناً، وقد لا يشعر، وقد يسري ذلك إلى عَقبه، فيصيبه ذلك الوبال، كما أصاب أباه والعياذ بالله من التعرض لأوليائه.

.تفسير الآيات (56- 59):

{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)}
يقول الحق جل جلاله: {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعةً}، فإذا لم يتيسر لكم إقامةُ دينِكُمْ في بلد، فاخرجوا منها إلى أرض يتهيأ لكم فيها استقامة دينكم، والبقاع تتفاوت في ذلك تفاوتاً كبيراً، والناس مختلفون، فأهل الشرائع يطلبون البقاع التي يتيسر لهم فيها استقامة ظواهرهم، كالمدن والقرى الكبار، التي يكثر فيها العلم وأهله. وأهل الحقائق من الصوفية يطلبون البقاع التي تسلم فيها قلوبهم من العلائق والشواغل، أينما وجدوها عمروها، إن تهيأ لهم الاجتماع على ربهم. وعن سهل رضي الله عنه: إذا ظهرت المعاصي والبدع في أرض، فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فرّ بدينه من أرض، إلى ارض وإن كان بشيراً، استوجب الجنة، وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما السلام».
{فإياي فاعبدون} أي: فخصوني بالعبادة. وإياي: مفعول لمحذوف، ومفعول اعبدوني: الياء المحذوفة، أي: فاعبدوا إياي، فاعبدوني. والفاء: جواب الشرط، محذوف، إذ المعنى، إن أرضي واسعة، فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض، فاخلصوا لي في غيرها.
ثم شجع المهاجرين بقوله: {كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموت}، أي: واجدة مرارته وكربه؛ لأنها إذا تيقنت بالموت؛ سهل عليها مفارقة وطنها. {ثم إلينا تُرجعون} بالموت، فتجاوزن على ما أسلفتم. ومن عَلِمَ أن هذا عاقبته، ينبغي أن يجتهد في الاستعداد له، فإن لم يتهيأ في أرض فليهاجر منها.
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم}؛ لنُنزلنهم {من الجنة غُرَفاً}؛ علالي، عالية، وقرأ حمزة والكسائي: {لنثوينهم}؛ لنقيمنهم، من الثَّوَى، وهو الإقامة، وثوى: غَيْرُ متعد، فإذا تعدى؛ بزيادة الهمزة لم يجاوز مفعولاً واحداً. والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف: إما إجراؤه مجرى لننزلنهم، أو: بحذف الجار، وإيصال الفعل، أو: شبه الظرف المؤقت، بالمبهم، أي: لنقيمنهم في غرف {تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها نِعْمَ أجرُ العاملين} أجرهم هذا. وهم {الذين صبروا} على مفارقة الأوطان وأذى المشركين، وعلى المحن والمصائب، ومشاق الطاعات، وترك المحرمات، {وعلى ربهم يتوكلون}، أي: لم يتوكلوا في جميع ذلك إلا على الله، فكفاهم شأنهم. وبالله التوفيق.
الإشارة: كل من لم يَتَأَتَّ له جَمْعُ قَلْبِهِ في بلده؛ فليهاجر منها إلى غير، وليسمع قول سيده: {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة}، فإن شق عليه مفارقة الأوطان، فليذكر مفارقته للدنيا في أقرب زمان. وكان الصدِّيق رضي لَمَّا هاجر إلى المدينة، وأصابته الحمى، يتسلى بذكر الموت، ويُنشد:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ في أَهْلهِ ** والمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ

وقد أكثر الناس في الوعظ بالموت وهجومه، نظماً ونثراً، فمن ذلك قول الشاعر:
المَوْتُ كَأسٌ وكُلُّ النَاس شَارِبُه ** والقَبْرُ بَابٌ وكُلُّ الناس دَاخِلُهُ

وقال آخر:
اعْلَمْ بِأَنَّ سِهَامَ الْمَوْتِ قَاطِعَةٌ ** بِكُلِّ مُدِّرع فِيهَا وَمُتَّرِسِ

ركوبُك النعشُ يُنْسِيكَ الرُّكُوبَ إلى ** مَا كُنْتَ تَرْكَبُ مِنْ نَعْلٍ ومَنِ فَرَسِ

تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ طَرِيَقَتَهَا ** إنَّ السَّفَينَةَ لاَ تَجْرِيَ علَى يَبَسِ

إلى غير ذلك مما يطول.

.تفسير الآيات (60- 63):

{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)}
يقول الحق جل جلاله: {وكأيِّن من دابة} أي: وكم دابة من داوب الأرض، عاقلة وغير عاقلة، {لا تحملُ رِزْقَها}؛ لا تطيق أن تحمله؛ لضعفها عن حمله، {اللهُ يرزقها وإياكم} أي: لا يرزق تلك الدواب الضعاف إلا الله، ولا يرزقكم أنتم أيها الأقوياء إلا الله، وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها؛ لأنه لو لم يخلق فيكم قدرة على كسبها، لكنتم أعجز من الدواب. وعن الحسن: {لا تحمل رزقها}: لا تدخره، إنما تصبح خِمَاصاً، فيرزقها الله. وقيل: لا يدخر من الحيوان قوتاً إلا ابن آدم والفأرة والنملة. {وهو السميع} لقولكم: نخشى الفقر والعيْلة إن هاجرنا، {العليم} بما في ضمائركم من خوف فوات الرزق.
ثم ذكر دلائل قدرته على الرزق وغيره فقال: {ولئن سألتهم} أي: المشركين وغيرهم {مَنْ خَلَقَ السماوات والأرض} على كبرهما وسعتهما، {وسخَّرَ الشمسَ والقمرَ} يجريان في فلكهما، {ليقولُنَّ اللهُ}؛ لا يجدون جواباً إلا هذا، لإقرارهم بوجود الصانع، {فأنى يؤفكون}؛ فكيف يُصرفون عن توحيد الله؟ مع إقرارهم بهذا كله، إذ لوتعدد الإله لفسد نظام العالم.
{الله يَبسُطُ الرِزْقَ لمن يشاءُ من عباده} هاجر أو أقام في بلده، {ويقدرُ له}؛ ويضيق عليه، أقام أو هاجر، فالضمير في {له} لمن يشاء؛ لأنه مبهم غير معين، {إن الله بكل شيء عليم}؛ يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم، فمنهم من يصله الفقر، ومنهم من يُفسده، ففي الحديث القدسي: «إن من عبادي من لا يُصلح إيمانه إلى الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك» ذكره النسفي.
{ولئن سألتهم من نزَّل من السماءِ ماء فأحيا به الأرضَ من بعد موتها ليقولن اللهُ}؛ معترفين بأنه الموجد للكائنات بأسرها، أصولها وفروعها، ثم إنهم يُشركون به بعض مخلوقاته الذي هو أضعف الأشياء. {قل الحمد لله} على إظهار قدرته، حتى ظهرت لجميع الخلق، حتى أقرت بها الجاهلية الجهلاء. أو: على ما عصمك مما هم عليه، أو: على تصديقك وإظهار حجتك، أو: على إنزاله الماء لإحياء الأرض، {بل أكثرُهُم لا يعقلون}؛ لا عقول لهم، فلا يتدبرون فيما يُريهم من الآيات ويقيم عليهم من الدلالات.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: الرزق مضمون بيد من أَمْرِ بين الكاف والنون، لا يزيد بحرص قوي، ولا ينقص بعجز ضعيف، بل قد ينعكس الأمر، كما الشاعر:
كَمْ قَوِيٍّ قَوِيٍّ في تقلبه ** ترى عَنْهُ أَمْرَ الرَّزْقِ يَنْحَرفُ

وكم ضعيفٍ ضعيفٍ في تصرفه ** كأنه من خليجِ البحرِ يَغْتَرِفُ

وقد يبسطه الله لأهل الغفلة والبُعد، ويقدره لأهل الولاية والقُرب، كما قال القائل:
اللهَ يَرْزُق قَوْماً لاَ خَلاَقَ لَهُمْ ** مِثْلَ الْبَهَائِمِ في خَلْقِ التَّصَاوِيرِ

لَوْ كَانَ عَنْ قُوَّةٍ أَوْ عَنْ مُغَالَبَةٍ ** طَارَ البُزَاةُ بِأرْزَاقِ الْعَصَافِيرِ

وقال عليه الصلاة والسلام- في بعض خطبه-: «أيها الناس، إن الرزق مقسوم، لن يعدو امْرُؤٌ ما كُتِبَ له، فاتقوا الله، وأَجْمِلُوا في الطَلَبِ. وإن الأمر محدود، لن يجاوز أحد ما قُدر له، فبادروا قبل نفود الأجل، وإن الأعمال محصاة، لن يُهْمَلَ منها صغيرةٌ ولا كبيرةٌ، فأكثروا من صالح الأعمال...» الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: «لو توكلتمْ على الله حقَّ توكلِهِ، لرَزقتم كما تُرزق الطير؛ تغدو خِمَاصاً وتروح بِطَانا».