فصل: تفسير الآيات (64- 66):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (64- 66):

{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)}
يقول الحق جل جلاله: {وما هذه الحياةُ الدنيا إلا لهوٌ ولعب} أي: وما هي؛ لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها، إلا كما يلعب الصبيان ساعة، ثم يفترقون متعبَين بلا فائدة. وفيه ازدراء بالدنيا وتحقير لشأنها، وكيف لا يحقرها وهي لا تزن عنده جناح بعوضة؟ واللهو: ما يتلذذ به الإنسان، فيلهيه ساعة، ثم ينقضي. {وإنَّ الدار الآخرة لهي الحيوان}، أي: الحياة الحقيقية؛ لأنها دائمة. والحيوان: مصر، وقياسه: حيَيَان، فَقَلَبَ الياءَ الثانية واواً. ولم يقل: لهي الحياة؛ لِمَا في بناء فَعَلاَن من معنى الحركة والاضطراب. وفي المصباح: الحيوان: مبالغة في الحياة، كما قيل: للموت الكثير مَوَتَان. اهـ. {لو كانوا يعلمون} حقيقة الدارين؛ لَمَا اختاروا اللهو الفاني على الحيوان الباقي.
{فإذا رَكِبُوا في الفلك}، هو مرتب على محذوف، دل عليه ما وصفهم به قَبْلُ، والتقدير: هم على ما هم عليه من الشرك والعناد، وإذا ركبوا في الفلك {دَعَوا الله مخلصين له الدين}، أي: كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين، حيث لا يذكرون إلا الله، ولا يدعون معه إلهاً آخر، {فلما نجاهم إلى البر}، وأمنوا من الغرق، {إذا هم يُشركون}، أي: عادوا إلى حال الشرك، {ليكفروا بما آتيناهم} من النعمة، {وَلِيَتَمَّتعوا} باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادهم عليها. واللام فيهما: إما لاَمُ كي، أي: يعودون إلى شركهم؛ ليكونوا به كافرين بنعمة النجاة، قاصدين التمتع بها والتلذذ لا غير على خلاف عادة المؤمنين المخلصين فإنهم يشكرون نعمة الله إذا أنجاهم ويجعلون نعمة النجاة ذريعة إلى توحيده وطاعته لا إلى التلذذ والتمتع. أو: لام الأمر، علة وجه التهديد، كقوله: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، ويقويه: قراءةُ مَنْ سَكَّنَ الثانية، أي: ليكفروا وليتمتعوا {فسوف يعلمون} تدبيرهم عند تدميرهم.
الإشارة: الدنيا عند أهل الجد والاجتهاد جد، يتوصلون فيها إلى معرفة الحق، ويترقون منها إلى أسرار ومعارف لا يحصرها عقل؛ ولا يحيط بها نقل، لأن في هذه الدار: عرفه من عرف، وجَهِلَهُ من جهله. والترقي عند العارفين فيها أكثر؛ لأنه يسير بين جلاله وجماله، وهناك ليس إلا الجمال، والترقي بين الضدين أعظم، فإذا مات بقي يترقى في أنوار الجمال على قدر ما أدرك هنا. والله أعلم.
فتحصل أن الدنيا في حق أهل الغفلة لعب ولهو؛ لأنها شغلتهم وغرتهم بزخارفها عن معرفة الله والوصول إليه، ولذلك حذّر منها صلى الله عليه وسلم، فقد قال في بعض خطبه: «أيها الناس، لا تكونوا ممن خَدَعَتْهُ العاجلة، وغرته الأمنية، واستهوته الخدعة، فركن إلى دار سريعة الزوال، وشيكة الانتقال؛ إذ لن يبقى من دنياكم هذه في جنب ما مضى إلا كإناخة راكب، أو درّ حالب، فعلام تعرجون؟ وما تنتظرون؟ فكأنكم، والله، بما قد أصبحتم فيه من الدنيا، كأن لم يكن، وما تصيرون إليه من الآخرة، لم يزل، فخذوا في الأهْبة لأزُوف النقلة، وأعدوا الزاد لقرب الرحلة، واعلموا أن كل امرئ على ما قَدَّمَ قادِمٌ، وعلى ما خَلَّفَ نادمٌ» وفي حق أهل الجد جدٌ وحق؛ لأنها مزرعة للآخرة، ومتجر من أسواق الله، فيها ربحهم وغنيمتهم. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (67- 68):

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68)}
يقول الحق جل جلاله: {أَوَلَمْ يَرَوا} أي: أهل مكة {أنا جعلنا} بلدهم {حَرَماً} أي: ممنوعاً مصوناً من الهبب، {آمِنا}؛ يأمن كل من دخله، أو آمناً أهله من القتل والسبي، {ويُتَخَطّفُ الناس من حولهم} أي: يخطف بعضهم بعضاً، قتلاً وسبياً، إذ كانت العرب حوله في تغاور وتناهب، {أفبالباطل يؤمنون}؛ أبعد هذه النعمة العظمى يُؤمنون بالأصنام ويعبدونها، أو: الشيطان، {وبنعمة الله يكفرون}؛ حيث أشركوا به غيْرَهُ، أو بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو النعمة المهداة، أو: الإسلام. وتقديم المعمولين؛ للاهتمام، أو للاختصاص.
{ومَنْ أظلمُ} أي: لا أحد أظلم {ممن افترى على لله كذباً}؛ بأن جعل له شريكاً، {أو كذّب بالحق}؛ الرسول صلى الله عليه وسلم، أو: الكتاب، {لمَّا جاءه} أي: لم يتعلثموا في تكذيبه لَمّا سمعوه، وفي {لَمَّا}، المقتضية للاتصال، تسفيه لرأيهم، حيث لم يتوقفوا ولم يتأملوا قط حين جاءهم، بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه. {أليس في جهنم مَثْوىً}؛ مقاماً {للكافرين}، وهو تقرير لمثواهم في جهنم، لأن همزة الإنكار، إذا دخلت على النفي، صار إثباتاً، كقوله:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المطايا

أي: أتم خير من ركب المطايا، والتقدير: ألا يستوجبون الثوى فيها؟ وقد افتروا مثل هذه العظيمة، كذبوا على الله وكذّبوا بالحق الذي جاء من عنده، أو: ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين؟ حين اجترأوا مثل هذه الجرأة، بل لهم فيها مثوى وإقامة. وهذه الآية في مقابلة قوله: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً} [العنكبوت: 58]. لاسيما في قراءة الثاء. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الحرم الآمن، في هذه الدار، هو التبتل والانقطاع عن الدنيا وأبنائها، والتجريد من أسبابها، فمن دخله أَمِنَ ظاهراً وباطناً، ومن هجرها، وترك الناس حوله يتخطفون ويتهارجون عليها، وهو يتفرج عليهم، فالدنيا جيفة والناس كلابها، فإن خالطتهم ناهشوك، وإن تركت لهم جيفتهم سَلِمتَ منهم، فمن كذّب بهذا فقد كذَّب بالحق وآمن بالباطل، فلا أحد أظلم منه. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (69):

{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)}
يقول الحق جل جلاله: {والذين جاهدوا فينا}، أطلق المجاهدة، ولم يُقيدها بمفعول؛ ليتناول من تجب مجاهدته من النفس والشيطان وأعداء الدين، أي: جاهدوا نفوسَهم في طلبنا أو في حقنا، ومن أجلنا، ولوجهنا، خالصاً، {لنهدينهم سُبلنا} أي: طُرُق السير إلينا، والوصول إلى حضرتنا، أو لنسهلنهم فعل الخير حتى يصلوا إلى جنابنا.
وعن الداراني: والذين جاهدوا بأن عملوا بما علموا، لنهدينهم إلى علم ما لم يعلموا. وقال الفضيل: والذين جاهدوا في طلب العلم، أي: لله، لنهدينهم سبل العمل. وقال سهل: والذين جاهدوا في إقامة السنَّنَّة، لنهدينهم سبل الجنة. وقال ابن عطاء: جاهدوا في إرضائنا؛ لنهدينهم سبل الوصول إلى محل الرضوان. وقال ابن عباس: جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سُبل ثوابنا.
وقال الجنيد: جاهدوا في التوبة، لنهديهم سُبل الإخلاص، أو: جاهدوا في خدمتنا؛ لنمنحنهم سبل المناجاة معنا والأنس بنا، {وإن الله لمع المحسنين} بالنصر والمعونة في الدنيا، وبالثواب والمغفرة في العُقبى. والله تعالى أعلم.
الإشارة: المجاهدة، على قدرها تكون المشاهدة، فمن لا مجاهدة له لا مشاهدة له. وبالمجاهدة تميزت الخصوص من العموم، وبها تحقق سير السائرين، فالعموم وقفوا مع موافقة حظوظهم؛ من الجاه والغنى وغيره والخصوص خالفوا نفوسهم ورفضوا حظوظهم، وخرقوا عوائدهم، فَخُرِقَتْ لهم العوائد، وانكشفت عنهم الحجب، وشاهدوا المحبوب. فجاهدوا أولاً في ترك الدنيا، وتحملوا مرارة الفقر، حتى تحققوا بمقام التوكل، ثم جاهدوا في ترك الجاه والرئاسة، فتحققوا بالخمول، وهو أساس الإخلاص، ثم جاهدوا في مخالفة النفس، فَحَمَّلوها كل ما يثقل عليها، وأخرجوها من كل ما تهواه ويخف عليها، وارتكبوا في ذلك أهوالاً وأحوالاً صِعَاباً، حتى ماتت نفوسهم مَوْتَاتٍ، فتحقق بذلك حياة أرواحهم، وأشرفت على البحر الزاخر، بحر التوحيد الخاص، فغابت ظلال الأكوان حين أشرقت شمس العيان، ففني من لم يكن، وبقي من لم يزل، فدخلوا جنة المعارف، ولم يشتاقوا قط إلى جنة الزخارف؛ لأنها منطوية فيها. ولابد من صحبة شيخ كامل، قد سلك هذه المسالك، يلقيه زمام نفسه، حتى يوصله إلى ربه، وإلا أتعب نفسه بلا فائدة.
وقوله تعالى: {وإن الله لمع المحسنين}؛ تهوينٌ وتسهيلٌ على السائرين أَمْرَ نفوسِهِمْ ومجاهدَتَها، إذا علموا أن الله معهم، هان عليهم كل صعب، وقَرُبَ كل بعيد. وبالله التوفيق. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

.سورة الروم:

.تفسير الآيات (1- 7):

{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)}
يقول الحق جل جلاله: بعد التسمية {الام} أي: أيها المصطفى، أو: المرسل، {غُلبت الرومُ} أي غلبت فارسُ الرومَ {في أدنى الأرض} أي: في أقرب أرض العرب؛ لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم، أي: غلبوا في أدنى أرض العرب منهم، وهي أطراف الشام. أو أراد أرضهم على إنابة اللام مناب المضاف إليه أي: في أدنى أرضهم إلى عدوّهم. قال ابن عطية: قرأ الجمهور: {غُلبت}؛ بضم الغين. وقالوا: معنى الآية: أنه بلغ أهل مكة أن الملك كسرى هزَم جيشَ الروم بأذرعاتِ، وهي أدنى أرض الروم إلى مكة، فسُر لذلك كفارُ قريش، فبشر المؤمنين بأن الروم سيغلبون. اهـ. وهذا معنى قوله: {وهم} أي: الروم {من بعد غَلَبِهم}، وقرئ: بسكون اللام؛ كالحلَب والحلْب، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول، أي: وهم من بعد غلبة فارس إياهم {سيَغْلِبون} فارس، وتكون الدولة لهم.
وذلك {في بِِضْعِ سنين}، وهو ما بين الثلاث إلى العشر. قال النسفي: قيل: احتربت الروم وفارس، بين أذرعاتِ وبُصرى، فغلبت فارسُ الروم، والمَلِكُ بفارس، يومئذٍ، كسرى أبرويز، فبلغ الخبر مكة، فشقَّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ لأنَّ فارسَ مجوسٌ؛ لا كتاب لهم، والروم أهل كتاب، وفرح المشركون وشمتوا، وقالوا: أنتم والنصارى أهل الكتاب، ونحن فارس أُمِّيُّون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم، ولنظهرنَّ نحن عليكم فنزلت الآية. فقال أبو بكر: والله ليَظْهَرَنَّ الروم على فارس بعد بضع سنين، فقال له أُبَيُّ بنُ خلف: كذبت، فناحبه- أي: قامره- على عشر قلائص من كل واحد منهما، وجعل ثلالث سنين، فأخبر أبو بكر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال- عليه الصلاة والسلام-: «زِدْ في الخطر وأبعد في الأجل»، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين ومات أبيّ من جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم يو أحد وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، أو: يوم بدر، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أُبَيَّ، فقال عليه الصلاة والسلام-: «تصدَّقْ به».
وهذه آية بينة على صحة نبوته، وأن القرآن من عند الله؛ لأنها إنباء عن علم الغيب. وكان ذلك قبل تحريم القمار، عن قتادة. ومذهب ابي حنيفة ومحمد- رضي الله عنهما-: أن العقود الفاسدة؛ كعقد الربا وغيره، جائز في دار الحرب بين المسلمين والكفار، واحتجا بهذه القصة. اهـ. زاد البيضاوي: وأجيب بأنه كان قبل تحريم القمار. ه وقرئ: {غلبت}؛ بالفتح، {وسيُغلبون} بالضم، ومعناه: أن الروم غَلَبُوا على ريف الشام، وسيغلبهم المسلمون، وقد غزاهم المسلمون في السنة التاسعة من نزولها، وفتحوا بعض بلادهم، وعلى هذا يكون إضافة الغلَب إلى الفاعل.
{لله الأمرُ من قبلُ ومن بعد} أي: من قبل كل شيء، ومن بعد كل شيء. أو: من قبل الغلبة وبعدها، كأنه قيل: من قبل كونهم غالبين- وقبله: وهو وقت كونهم مغلوبين- ومن بعد كونهم مغلوبين- وهو وقت كونهم غالبين، يعني: أن كونهم مغلوبين أولاًُ، وغالبين آخراً، ليس إلا بأمر الله وقضائه. {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} [آل عمران: 140]. {ويومئذٍ} أي: ويوم تغلب الرومُ فارسَ، ويحل ما وعده الله من غلبتهم، {يفرح المؤمنون بنصر الله}، وتغلب من له كتاب على مَن لا كتاب له، وغيظ من شمت بهم من أهل مكة.
وقيل: نصر الله: هو إظهار صدق المؤمنين، بما أخبروا به المشركين من غلبة الروم. {ينصُر من يشاء} فينصر هؤلاء تارة وهؤلاء أخرى، {وهو العزيزُ}: الغالب على أعدائه {الرحيمُ}: العاطف على أوليائه.
{وَعْدَ اللهِ} اي: وعد ذلك وعداً، فسينجزه لا محالة، فهو مصدر مؤكّد لِمَا قبله؛ لأن قوله: {سيغلبون} وعد، {لا يُخْلِفَ الله وعْدَه}؛ لامتناع الكذب عليه تعالى، فلابد من نصر الروم على فارس. {ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون} صحة وعده، وأنه لا يُخلف، أو: لا يعلمون أن الأمور كلها بيد الله؛ لجهلهم وعدم تفكرهم. وإنما {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا}؛ ما يشاهدونه منها من التمتع بزخارفها. وفيه دليل أن للدنيا ظاهراً وباطناً، فظاهرها: ما يعرفه الجهّال من التمتع بزخارفها. قال بعض الحكماء: إن كنت من أهل الاستبصار فألق ناظرك عن زخارف هذه الدار، فإنها مجمع الأكدار، ومنبع المضار، وسجن الإبرار، ومجلس الأشرار، الدنيا كالحية، تجمع سموم نوائبها، وتفرغه في صميم قلوب أبنائها. اهـ. وباطنها: أنها مجازٌ إلى الآخرة، يتزودون منها إليها بالأعمال الصالحة وتحقيق المعرفة. وتنكير {ظاهِراً}: مُفيدٌ أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من جملة ظواهرها. {وهم عن الآخرة هم غافلون}؛ لا تخطر ببالهم، ولا يتفكرون في أهوالها ونوائبها. فهم، الثانية: مبتدأ، و{غافلون}: خبره، والجملة: خبرالأولى، وفيه تنبيه أنهم معدن الغفلة ومقرّها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كما تقع الدولة بين الأشباح، تقع بين النفوس والأرواح. فتارة تغلب النفوس بظلماتها على الأرواح، فتحجبها عن الله، وتارة تغلب الأرواح بأنوارها على النفوس، فتستر ظلمة حظوظها، ويرتفع الحجاب بين الله وعبده. آلم. غُلبت أنوار الأرواح بظلمة كثائف النفوس في أدنى أرض العبودية وهم من بعد غلبهم سيغلبون فتغلب أنوار الأرواح المطهرة، على ظلمة نفوس الظلمانية، وذلك في بضع سنين، مدة المجاهدة، والبُضع: من ثلاث إلى عشر، على قدر الجد والاجتهاد، وعلى قدر تفاوت النفوس والطبع، فمنهم من يظفر بنفسه في مدة يسيره، ومنهم من يظفر بعد مدة طويلة. لله الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ، ويومئذٍ يفرح المؤمنون السائرون بنصر الله، حيث نصرهم على نفوسهم، فظفروا بها.
ينصر من شاء حيث يشاء وهو العزيز الرحيم. قال بعضهم: انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم، فإن ظفروا بها وصلوا. اهـ.
وقال الورتجبي: قوله: {غُلبت الروم..} الآية، إشارة إلى أن الأرواح، وإن كانت مغلوبة من النفوس الأمارة، والشياطين الكافرة؛ امتحاناً من الله، وتربيةً لها بمباشرة القهريات، فإنها تغلب على النفوس، من حيث تخرج من مقام الاختيار. انظر تمامه. وقال القشيري: قوله تعالى: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا}: استغراقُهم في الاشتغال بالدنيا، وانهماكهم بما مَنَعهم عن العلم بالآخرة وقيمة كل امرئٍ عِلمُه؛ كما في الأثر عن عليّ رضي الله عنه. قال:
وَقِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا كَانَ يُتْقِنُهُ ** والجاهلون لأهلِ العِلْمِ أعداءُ

فأهل الدنيا في غفلة عن الآخرة، والمشتغلون بعلم الآخرة، هم بوجودها، في غفلة عن الله. اهـ. قلت: وأهل المعرفة بالله لم يشغلهم عنه دنيا ولا آخرة. والله تعالى أعلم.