فصل: تفسير الآية رقم (8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (8):

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)}
قلت: {في أنفسهم}: يحتمل أن يكون ظرفاً، أي: أَوَ لمْ يحدثوا التفكر فيها، وأن تكون صلة للتفكر، نحو: تفكر في الأمر: أجال فيه فكره. والأول أظهر.
يقول الحق جل جلاله: {أَوَ لَمْ يَتَفَكروا في أنفسهم} أي: أَوَ لَمْ يثبتوا التفكر في أنفسهم، أي: في قلوبهم الفارغة، فيتفكروا بها في مصنوعات الله، حتى يعلموا أنها ما خُلِقَتْ عبثاً، والتفكر لا يكون إلا في القلوب، ولكن زيادة تصوير لحال المتفكرين، كقوله: اعتقده في قلبك. أو: أَوَلَمْ يتفكروا في أنفسهم، التي هي أقرب إليهم من غيرها، وهم أعلم بأحوالها، فيتدبروا ما أودعها الله تعالى، ظاهراً وباطناً، من غرائب الحكمة الدالة على التدبير من الحكيم القديم، وأنه لابد لها من الانتهاء إلى وقت تجازي فيه، على الإحسان إحساناً، وعلى الإساءة مثلها، حتى يعلموا، عند ذلك، أن سائر الخلائق مثلها، وأنه لابد لهم من الانتهاء إلى ذلك الوقت، فعلموا أن {ما خَلَقَ الله السماواتِ والأرض وما بينهما إلا بالحقِ وأَجَلٍ مُّسَمى} أي: ما خلقها باطلاً وعبثاً من غير حكمة، ولا لتبقى خالدة، وإنما خلقها مقرونة بالحق، مصحوبة بالحكمة البالغة، وتنتهي إلى أجل مسمى، وهو قيامُ الساعة، ووقت الحساب، بالثواب والعقاب، فيخرب هذا العالم، ويقوم عالم آخر، لا انتهاء لوجوده.
قال في الحاشية الفاسية: وبالجملة: فخلقُ السموات والأرض؛ للدلالة على التوحيد بوجودهما، وعلى الآخرة بفنائهما، وانقضاء أجلهما. ثم قال: والحاصل أن خلقه بمقتضى الحكمة يقتضي جزاء أوليائه، وتعذيب أعدائه. وقد نصب تعالى القلب شاهداً ومُنزلاً منزلة الآخرة، والقلب منزلة الدنيا، وكما أن عمل القالب يعود نفعه، إذا فعل الطاعة، على القلب؛ بالتنوير والتقريب لحضرة الربوبية، ويعود ضرره عليه، إذا فعل ضد ذلك، كما يعرفه أهل القلوب، وأنه مزرعة للقلب، ولا بقاء له، وإنما خلق لقضاء ذلك، فكذلك الدنيا مزرعة للآخرة، وإنما خلقت لذلك، كما يعرفه أهل القلوب والبصائر الصافية السالمة، فاعتبر ذلك. اهـ.
{وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم}؛ بالبعث والجزاء {لكافرون}: لجاحدون.
الإشارة: قد تقدم الكلام على فضل التفكر في آل عمران. وقوله تعالى: {إلا بالحق} أي: ما خلق الكائنات إلا بالحق، من الحق إلى الحق، فهي من تجليات الحق، ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، فالحق عبارة عن عين الذات عند أهل الحق، فافهم.

.تفسير الآيات (9- 10):

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)}
قلت: من رفع {عاقبة الذين أساءوا}؛ فالسوأى منصوب خبر كان، ومن نصب {عاقبة}؛ فالسُّوأى: مرفوع اسمها، أو: مصدر لأساؤوا. انظر البيضاوي. والسُّوأى: تأنيث أسوأ. و{أن كذبوا}: مفعول من أجله، أو: بدل، على أن معنى {أساءوا}: كفروا.
يقول الحق جل جلاله: {أوَ لَمْ يَسيروا} اي: أَعَمُوا ولم يسيروا {في الأرض}، ثم قرره بقوله: {فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم} أي: فينظروا إلى آثار الذين من قبلهم؛ كيف دمرهم الله، وأخلا بلادهم، وبقيت دارسة بعدهم، كعاد وثمود، وغيرهم من الأمم العاتية، والجبابرة الطاغية، {كانوا أشدَّ منهم قوةً} حتى كان منهم من يفتل الحديد بيده، {وأثاروا الأرض}؛ قلبوا وجهها بالحراثة، واستنباط المياه، واستخراج المعادن، وغير ذلك. {وعَمَروها} اي: عمرَ المدمَّرون الأرض {أكثرَ مما عَمَروها} أي: أهل مكة، فأكثر: صفة لمصدر محذوف. و(ما): مصدرية، أي: عمارة هؤلاء، فإنهم أهل واد غير ذي زرع، ولا تَبَسُّطَ لهم في غيرها. وفيه تهكم بهم؛ من حيث أنهم عمروا الأرض، مغترون بالدنيا، مفتخرون بها، وهو أضعف حالاً فيها؛ إذ مدار أمرها على التبسّط في البلاد، والتسلط على العباد، والتصرف في أقطار الأرض بأنواع العمارة، وهم ضعفاء مُلْجؤونَ إلى واد لا نفع فيه. قال البيضاوي.
{وجاءتهم رسلُهم بالبينات}؛ بالمعجزات الواضحات، فلم يؤمنوا؛ فأُهلِكوا، {فما كان الله ليظلمهم}؛ بأن دمرهم بلا سبب، أو: من غير إعذار، {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}؛ حيث ارتكبوا ما أدى إلى تدميرهم.
{ثم كان عاقبةُ الذي أساءوا} بالكفر والمعاصي {السُّوأى} أي: العقوبة السوأى، والأصل: ثم كان عاقبتهم، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ للدلالة على ما اقتضى أن تكون تلك عاقبتهم، وهو إساءتهم. والمعنى: أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار، ثم كان عاقبتهم في الآخرة العقوبة التي هي أسوأ العقوبات، وهي انار التي أُعدت للكافرين. لأجل {أن كذَّبوا} أو: بأن كذَّبوا {بآيات الله} الدالة على صدق رسله، أو: على وحدانيته. {وكانوا بها يستهزؤون}؛ حيث قابلوها بالتكذيب، أو: غفلوا عن التفكر فيها. أو: ثم كان عاقبة الذين اقترفوا الخطيئة السُّؤاى أن طبع الله على قلوبهم، حتى كذّبوا بالآيات، واستهزءوا بها. أو: ثم كان عاقبة الذين فعلوا الفعلة السوأى، وهو أن كذّبوا واستهزءوا، أن يلحقهم ما تعجز عنه نطاق العبارة، فخبر كان، على هذا: محذوف؛ للتهويل. و{أن كذبوا}: بيان، أو: بدل من السوأى. والله تعالى أعلم.
الإشارة: السير إلى الله على أقسام: سَيْرُ النفوس: بإقامة عبادة الجوارح؛ لطلب الأجور، وسَيْرُ القلوب: بجَولاَنها في ميادين الأغيار، للتبصر والاعتبار، طلباً للحضور، وسير الأرواح: بجولان الفكرة في ميادين الأنوار؛ طلباً لرفع الستور ودوام الحضور، وسير الأسرار: الترقي في أسرار الجبروت، بعد التمكن من شهود أنوار الملكوت على سبيل الدوام.
قال القشيري: سَيْرُ النفوس في أوطان الأرض ومناكبها لأداء العبادات، وسَيْرُ القلوب بجَوَلاَن الفكْر في جميع المخلوقات، وغايته: الظَّفَرُ بحقائق العلوم التي تُوجبُ ثلج الصدور- ثم تلك العلوم على درجات- وسَيْرُ الأرواح في ميادين الغيب: بِنَعْتِ خَرْقِ سُرَادِقَات الملكوت. وقُصَاراه: الوصولُ إلى ساحل الشهود، واستيلاء سلطان الحقيقة. وسَيْرُ الأسرار: بالترقي- أي: الغيبة- عن الحِدْثان بأَسْرها، والتحقق، أولاً، بالصفات، ثم بالخمود، بالكلية، عمَّا سوى الحق. اهـ.
وقال في قوله: {ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السُّوأى}: من زَرَعَ الشوكَ لم يحصدُ الوَرْدَ، ومَنْ استنبت الحشيش لم يقطف البهار، ومَنْ سَلَكَ سبيل الغيّ لم يَحْلُلْ بساحة الرشد. اهـ.

.تفسير الآيات (11- 16):

{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)}
يقول الحق جل جلاله: {الله يَبدأُ الخلقَ}؛ ينشئهم، {ثم يُعيده}؛ يحييهم بعد الموت، {ثم إليه تُرْجَعونَ}؛ للجزاء؛ بالثواب والعقاب. والالتفات إلى الخطاب؛ للمبالغة في إثباته. وقرأ أبو عمرو وسهل وروح: بالغيب، على الأصل. {ويوم تقوم الساعة يُبْلِسُ}: ييأس ويتحير {المجرمون}؛ المشركون؛ يُقال: ناظرته فأبلس، أي: أُفْحِمَ وأَيِسَ من الحجة، أو: يسكتون متحيرين، {ولم يكنُ لهم من شركائهم} التي عبدوها من دون الله {شفعاء} يشفعون لهم ويجيرونهم من النار، {وكانوا بشركائهم كافرين}؛ جاحدين لها، متبرئين من عبادتها، حين أيسوا من نفعها. أو: كانوا في الدنيا كافرين بسبب عبادتها.
{ويوم تقوم الساعةُ يومئذٍ يتفرقون} أي: المسلمون والكافرون، بدليل قوله: {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضةٍ}، أي: بستان ذي أزهار وأنهار، وهي الجنة. والتنكير؛لإبهام أمرها وتفخيمه، {يُحْبَرون}: يُسرّون، يقال: حبره، إذا سرّه سروراً تهلّل به وجهه، وظهر فيه أثره.
ووجوه المسار كثيرة، فقيل: يُكرمون، وقيل: يُحلّون. وقيل: هو السماع في الجنة. قاله غير واحد. قال أبو الدرداء: كان عليه الصلاة والسلام يذكَّر الناس بنعيم الجنان؛ فقيل: يا رسول الله؛ هل في الجنة من سماع؟ قال: «نعم، إنَّ فِي الجنْة لنَهَراً حَافَتاهُ الأبْكَار مِنْ كُل بَيْضَاءَ خَمْصانة، يَتَغَنيْنَ بأصْواتٍ لَمْ تَسْمَعِ الخلائِقُ بمِثْلها قَطُّ، فَذلك أفْضَلُ نعيم أهل الجنَّة» قال الرواي: فسألت أبا الدرداء: بم يتغنين؟ قال: بالتسبيح إن شاء الله. والخمصانة: المرهفة الأعلى، الضخمة الأسفل. اهـ. انظر الثعلبي. وذكر غيره أن هذا السماع يكون في نُزْهَةٍ تكون لأهل الجنة على شاطئ هذا النهر، وقد ذكرناها في شرحنا الكبير على الفاتحة.
{وأما الذين كفروا وكذّبوا بآياتنا ولقاءِ الآخرة}؛ بالبعث {فأولئك في العذاب مُحضرون}: مقيمون، لا يغيبون عنه. عائذاً بالله من غضبه.
الإشارة: من اعتمد على غير الله، أو ركن إلى شيء سواه، فهو مجرم عند الخصوص، وذلك الشيء الذي ركن إليه صنم في حقه، يتبرأ منه يوم القيامة، ويُبلس من نفعه، {يوم تقوم الساعة يُبلس المجرمون}: الآية. {ويوم تقوم الساعة يومئذٍ يتفرقون}؛ فريقٌ هم أهل الوصلة، وفريق هم أهل القطعة، فريق في المنة، وفريق في المحنة، فريق في السرور، وفريق في الثبور، فريقٌ في الثواب، وفريق في العقاب، فريق في الفراق، وفريق في التلاق. قال القشيري: وإذا كان الأمر هكذا، فَجِدَّ، أيها المؤمن، في طاعة مولاك، وأَكْثِرْ من ذكره، صباحاً ومساء، وليلاً ونهارا؛ لتنال ذلك الوعد، وَتَنْجَو من الوعيد.

.تفسير الآيات (17- 19):

{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)}
قلت: {فسبحان}: مصدر لمحذوف، أي: سبحوا سبحان. و{حين}: متعلق بذلك المحذوف، وجملة: {وله الحمد}: معترضة بين معطوفات الظروف. و{في السموات}: حال من الحمد، أي: وله، على عباده، الحمد؛ كائناً في السموات... إلخ.
يقول الحق جل جلاله: {فسبحانَ اللهِ} أي: فسبّحوا الله ونزّهوه تنزيهاً يليق به في هذه الأوقات التي تظهر قدرته، وتجدد فيها نعَمه، وهي {حينَ تُمسون}؛ تدخلون في المساء {وحين تُصبحون} تدخلون في الصباح. {وله الحمدُ في السماوات والأرض} أي: وله، على المميّزين كلّهم، من أهل السموات والأرض، أن يحمدوه، {وعشيّاً} أي: وسبحوه عشياً؛ آخر النهار، {وحين تُظْهِرُون}؛ تدخلون في وقت الظهيرة.
قال البيضاوي: وتخصيص التسبيح بالمساء والصباح؛ لأن آثار العظمة والقدرة فيهما أظهر، تخصيص الحمد بالعشي- الذي هو آخر النهار، من عشى العين؛ إذ نقص نورها- والظهيرة- التي هي وسطه؛ لأن تجدد النعم فيها أكثر. ويجوز أن يكون {عَشِيّاً} معطوف على {حين تُمسون}، وقوله: {وله الحمد..} إلخ- اعتراضاً. وعن ابن عباس: الآيةُ جامعة للصلوات الخمس، {تُمسون}: صلاتا المغرب والعشاء، {تصبحون}: صلاة الفجر، {وعشياً}: صلاة العصر، {وتُظهرون} صلاة الظهر. ولذلك زعم الحسن أنها مَدَنِيَّةٌ؛ لأنه كان يقول: كان الواجب عليه بمكة ركعتين، في أي وقت اتفقت، وإنما فرضت الخمس بالمدينة. والأكثر على أنها فرضت بمكة. اهـ.
ثم ذكر وجه استحقاقه للحمد والتنزيه بقوله: {يُخرج الحيَّ من الميت}، الطائر من البيضة، والإنسان من النطفة، أو: المؤمن من الكافر، والعالم من الجاهل. {ويُخرج الميتَ من الحيّ}، البيضة من الطائر، والنطفة من الإنسان، أو: الكافر من المؤمن، والجاهل من العالم. {ويحيي الأرضَ} بالنبات {بعد موتها} بيبسها، {وكذلك تخرجون}، والمعنى: أن الإبداء والإعادة متساويان في قدرة مَن هو قادر على إخراج الحي من الميت، وعكسه.
رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ {فسبحان الله حين تمسون}.. إلى الثلاث آيات، وآخر سورة الصافات: {سبحان ربك رب العزة..} إلخ.. دُبُرَ كُلّ صلاة، كتب له من الحسنات عدد نجوم السماء، وقطر الأمطار، وورق الأشجار، وتراب الأرض. فإذا مات؛ أجرى له بكل لفظ عشر حسنات في قبره» نقله الثعلبي والنسفي. وعنه- عليه الصلاة والسلام: «مَن قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: {فسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ}... إلى قوله: {وكذلك تخرجون}؛ أدْرَكَ ما فَاتَهُ في يوْمِهِ، ومن قاله حين يُمْسِي؛ أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي لَيْلَتِهِ» رواه ابو داود.
وقال الضحاك: من قال: {فسبحان الله حين تمسون..} إلخ؛ كان له كعدل مائتي رقبة من ولد إسماعيل. اهـ. زاد كعب: ولم يفته خَيْرٌ كان في يومه، ولا يدركه شر كان فيه.
وإن قالها في السماء؛ فكذلك. وكان إبراهيم الخليل عليه السلام يقرها ست مرات في كل يوم وليلة. اهـ.
الإشارة: أما وجه الأمر بالتنزيه حين المساء والصباح؛ فلأنَّ المجوس كانوا يسجدون للشمس في هذين الوقتين؛ تسليماً وتوديعاً، فأمر الحق تعالى المؤمنين أن ينزهوه عمن يستحق العبادة معه، وأما العشي؛ فلأنه وقت غفلة الناس في جميع حوائجهم، وأما وقت الظهيرة؛ فلأن جهنم تشتعل فيه؛ كما في الحديث، وأمر بحمده والثناء عليه في كل وقت؛ لما غمرهم من النِعَم الظاهرة والباطنة.
قال القشيري: فمن كان صباحُه بالله؛ بُوركَ له في يومه، ومن كان مساؤه بالله؛ بورك له في ليلته، وأنشدوا:
وإنَّ صَبَاحاً نلتقي في مسائه ** صَبَاحٌ على قلب الغريب حبيبُ

شتَّان بين عبد: صباحُه مُفْتَتَحٌ بعبادته، ومساؤه مُخْتَتَمٌ بطاعته، وبين عبدٍ: صباحه مُفتتح بمشاهدته، ورواحه مختتم بعزيز رؤيته. قلت: الأول من عامة الأبرار، والثاني من خاصة العارفين الكبار، وبقي مقام الغافلين، وهو: من كان صباحه مفتتح بهم نفسه، ومساؤه مختتم برؤية حسه، ثم ذكر احتمال الصلوات الخمس في الآية، كما تقدم- ثم قال: وأراد الحق من أوليائه أن يجددوا العبودية في اليوم والليلة خمس مرات، فيقف على بساط المناجاة، ويستدرك ما فاته بين الصلاتين من صوارف الزلات. اهـ.
وقوله تعالى: {يُخرج الحي من الميت} يُخرج الذاكر من الغافل، والغافل من الذاكر، والعارف من الجاهل، والجاهل من العارف، ويُحيي أرض النفوس باليقظة والمعرفة بعد موتها بالغفلة والجهل وكذلك تُخرجون من قبوركم على ما متم عليه من معرفة أو جهل، من يقظة أو غفلة، يموت المرء على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه. والله تعالى أعلم.