فصل: تفسير الآيات (20- 21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (20- 21):

{وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)}
يقول الحق جل جلاله: {ومن آياته} الدالة على قدرته، الشاملة للبعث وغيره: أو: ومن علامات ربوبيته: {أن خلقكم} أي: أباكم {من ترابٍ}؛ لأن أصل الإنشاء منه، {ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} أي: ثم فاجأتم وقت كونكم بشراً منتشرين في الأرض، آدم وذريته. {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها}؛ لأن حواء خُلقت من ضلع آدم، والنساء بعدها خُلقن من أصلاب الرجال. أو: من شكل أنفسكم وجنسها، لا مِنْ جنس آخر، وذلك لما بين الاثنين- إِذْ كَانَا من جنس واحد- من الألفة والمودة والسكون، وما بين الجنسين المختلفين من التنافر. ويقال سكن إليه: إذا مال إليه. {وجعل بينكم مودة ورحمة} أي: جعل بينكم التوادد والتراحم بسبب الزواج.
وعن الحسن: المودة كناية عن الجماع، والرحمة هي الولد. وقيل المودة للشابة الجميلة، والرحمة للعجوز، وقيل: المودة والرحمة من الله، والفَرْك من الشيطان- أي: البغض من الجانبين. {إن في ذلك لآياتٍ لقوم يتفكرون}؛ فيعلمون ما في ذلك من الحِكم، وأن قوام الدنيا بوجود التناسل.
الإشارة: أصل النشأة البشرية من الطين، وأصل الروح من نور رب العالمين. فإذا غلبت الطينة على الروح جذبتها إلى عالم الطين، فكان همها الطين، وهوت إلى أسفل سافلين، فلا تجد فكرتها وحديثها، في الغالب، إلا في عالم الحس، ويكون عملها كله عَمَلَ الجوارح، يفنى بفنائها. وإذا غلبت الروح على الطينة؛ وذلك بدخول مقام الفناء، حتى تستولي المعاني على الحسيات. وتنخنس البشرية تحت سلطان أنوار الحقيقة، جذبتها إلى عالم الأنوار والأسرار، فلا تجد فكرتها إلا في أنوار التوحيد وأسرار التفريد، وعملها كله قلبي وسري. بين فكرة واعتبار، وشهود واستبصار، يبقى مع الروح ببقائها، يجري عليها بعد موت البشرية، ويبعث معها، كما تقدم في الحديث: «يموت المرء...» إلخ.
قال القشيري: يقال: الأصل تُربة، ولكن العِبرَة بالتربية لا بالتربة. اهـ. قلت: إذ بالتربية تغلب الروح على البشرية، ثم قال: اصطفى الكعبة، فهي خير من الجنة، مع أن الجنة جواهر ويواقيت، والكعبة حجر ومدر، أي: كذلك المؤمن الكامل، وإن كان أصله من الطين، فهو أفضل من كثير العوالم اللطيفة. ثم قال في قوله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من انفسكم أزواجاً} الآية: رَدَّ المِثْلَ إلى المِثْل، وربط الشكلَ بالشكل، وجعل سكونَ البعض إلى البعضِ، وذلك للأشباح والصُّورَ، والأرواح صحِبت الأشباح؛ كرهاً لا طوعاً، وأما الأسرار فمُعْتَقَةٌ، لا تساكن الأطلال، ولا تتدنس بالأغيار. اهـ.
قلت: وكأنه يشير إلى أن المودة التي انعقدت بين الزوجين إنما هي نفسية، لا روحانية، ولا سرية؛ إذ الروح والسر لا يتصور منها ميل إلى غير أسرار الذات العلية؛ إذ محبة الحق، جذبتها عن الميل إلى شيء من السّوى. واختلف الصوفية: هل تُخِلُّ هذه المودة بين الزوجين يمحية الحق أم لا؟ فقال سهل رضي الله عنه: لا تضر الروح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «حُبب إلي َّمن دنياكم ثلاث...» فذكر النساء إذا كان على وجه الشفقة والرحمة، لا على غلبة الشهوة. وعلامة محبة الشفقة: أنه لا يتغير عند فَقْدها، ولا يحزن بفواتها. وهذا هو الصحيح. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (22- 25):

{وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)}
قلت: {يُريكم البرق}: فيه وجهان، أحدهما: إضمار {أن}؛ كما في حرف ابن مسعود، والثاني: تنزيل الفعل منزلة المصدر، كما قيل في قولهم، في المثل: تَسْمعَ بالمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ من أن تراه. أي: إن تسمع، أو: سماعك. و{خوفاً وطمعاً}: مفعولان له؛ على حذف مضاف، أي: إرادة خوف، وإرادة طمع، أو: على الحال، أي: خائفين وطامعين. و{إذا دعاكم}: شرطية، و{إذا}، الثانية؛ فجائية، نابت عن الفاء. و{من الأرض}: يتعلق بدعاكم.
يقول الحق جل جلاله: {ومن آياته} الدالة على باهر قدرته {خلقُ السماوات والأرض}. قال القشيري: السموات في علوِّها. والأرض في دنوِّها، هذه بنجومها وكواكبها، وهذه بأقطارها ومناكبها، هذه بشمسها وقمرها، وهذه بمائها ومدرها، واختلاف لغات أهلها في الأرض، واختلاف تسبيح الملائكة- عليهم السلام- الذين هم سكان السماء. اهـ. {واختلافُ ألسنتكم} باختلاف اللغات، وبأجناس النطق وأشكاله، {وألوانكم}، كالسواد والبياض وغيرهما، حتى لا تكاد تجد شخصين متوافقين؛ إلا وبينهما نوع تخالف في اللسان واللون، وباختلاف ذلك وقع التعارفُ والتمايز، فلو توافقت وتشاكلت لوقع التجاهل والالتباس، ولتعطلت المصالح. وفي ذلك آية بينة، حيث وُلدوا من أب واحد، وهم على كثرتهم متفاوتون. {إن في ذلك لآيات للعالمين}؛ بفتح اللام وكسره. ويشهد للكسر قوله تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون} [العنكبوت: 43]. قال القشيري: واختصاص كلِّ شيء من هذه ببعض جائزات حكمها؛ شاهدٌ عَدْلٍ، ودليلٌ صِدْقٍ، يناجي أفكار المستيقظين، وتنادي على أنفسها: أنها، بأجمعها، بتقدير العزيز العليم. اهـ.
{ومن آياته منامُكُم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله}، أي منامكم بالليل، وابتغاؤكم من فضله بالنهار، أو: منامكم في الزمانين، وابتغاؤكم من فضله فيهما، وهو حسن؛ لأنه إذا طال النهار يقع النوم فيه، وإذا طال الليل يقع الابتغاء فيه. {إِن في ذلك لآياتٍ لقوم يسمعون}؛ سماع تدبر، بآذان واعية. قال القشيري: غَلَبةُ النوم لصاحبه من غير اختيار، وانتباهُه بلا اكتساب، يدلُّ على موته ثم بَعْثِهِ، ثم في حال منامه يرى ما يسرُّه وما يضرُّه يدل على حاله في قبره. الله أعلمُ كيف حاله، في أمره، فيما يلقاه من خيره وشره. اهـ.
{ومن آياته يُريكُمُ البرقَ خوفاً وطمعاً}، أي: خوفاً من الصواعق، وطمعاً في الغيث، أو: خوفاً للمسافر وطمعاً للحاضر، {ويُنزّل من السماء ماءً}؛ مطراً {فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}: يتفكرون بعقولهم.
{ومن آياته أن تقومَ السماءُ} بغير عمد {والأرضُ} على ماء جماد {بأمره} أي: بإقامته، أو تدبيره وقدرته. {ثم إذا دعاكم} للبعث {دعوةً من الأرض إذا أنتم تخرجون} من قبوركم. وسبك الآية: ومن آياته قيام السماوات والأرض، واستمساكها بغير عمد، ثم إذا دعاكم دعوة واحدة، يا أهل القبور، خرجتم بسرعة.
وإنما عطف هذا بثم؛ بياناً لعِظَم ما يكون من ذلك الأمر، وإظهار اقتداره على مثله، وهو أن يقول: يا أهل القبور، قوموا، فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر، كقوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68].
تنبيه: عبّر عن مودة الزوجين بيتكفرون؛ لأن المودة قلبية، لا تُدْرَكُ إلا بتفكر القلب، وعبّر عن خلق السموات والأرض واختلاف الألسن والألوان بالعالِمين؛ لأن أمر ذلك يدركه كل أحد، ممن له عقل أو علم، وعبّر عن النوم واليقظة بيسمعون؛ لأن من كان في الغفلة لا يسمع أمثال هذه المواعظ، وإنما يسمعها مَنْ كان متيقظاً، وعبّر عن إظهار البرق، وإنزال المطر، وإحياء الأرض، بيعقلون؛ لأن أمر البرق وما معه يبصره كل من له مسكةٌ عن عقل سليم، ويعلم أنه من الله بلا واسطة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما نُصِبَتْ هذه الكائنات لتراها، بل لترى فيها مولاها، فما هذه الأكوان الحسية إلا تجليات من تجليات الحق، ومظاهر من مظاهره، وأنوار من أنوار ملكوته، متدفقة من بحر جبروته. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان. لكن لا يعرف هذا إلا العارفون بالله، وأما غيرهم فحسبهم أن يستدلوا على عظمة خالقها، وباهر قدرته وحكمته، فيقوي إيمانهم ويشتد إيقانهم.
قال في الإحياء: وبحر المعرفة لا ساحل له، والإحاطة بكنْه جلال الله محال، وكلما كثرت المعرفة بالله سبحانه، وبأفعال مملكته، وأسرار مملكته، وقويت، كثر النعيم في الآخرة وعَظُم، كما أنه كلما كثر البذر وحَسُن؛ كثر الزعر وحَسُن، وقال أيضاً، في كتاب شرح عجائب القلب: ويكون سعة ملك العبد في الجنة بحسب سعة معرفته بالله، وبحسب ما يتجلى له من عظمة الله سبحانه، ومن صفاته وأفعاله. اهـ.
ومن آياته خلق سماوات أرواحكم، وأرض نفوسكم، لتقوم الأرواح بشهود عظمة الربوبية، والنفوس بآداب العبودية، واختلاف ألسنتكم؛ فبعضها لا تتكلم إلا في الفَرْق، وبعضها إلا في الجمع. وألوانكم؛ بعضها طهر فيها سيما العارفين وبهجة المحبين وبعضها لم يظهر عليها شيء من ذلك. ومن آياته منامكم في ليل الغفلة والبطالة، وَقْتَ غفلَتِكُمْ، وابتغاؤكم من فضله؛ بزيادة معرفته وَقْتَ يقظتِكُمْ. ومن آياته يُريكم البرق، أي: يُلْمِعُ عليكم أسرَار المعاني، ثم تخفى عند الاستشراف على بحر الحقيقة، خوفاً من الاصطلام والرجوع، وطمعاً في الوصول والتمكين. ومن آياته أن تقوم الأشياء به وبأسرار ذاته، ثم إذا دعاكم دعوة من أرض القطيعة إذا أنتم تخرجون، فتعرجون بأرواحكم إلى سماء وصْلته وتمكن معرفته. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (26- 27):

{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}
يقول الحق جل جلاله: {وله من في السماوات والأرض}؛ ملكاً ومُلكاً، {كل له قانتون} أي: مطيعون، كلُّ لما أراد، لا يستطيع التغيرَ عن ذلك. أو مُقرّون بالعبودية، أو: قائمون بالشهادة على وحدانيته. {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يُعيده} أي: يُنشئهم ثم يعيدهم للبعث، {وهو} أي: البعث {أهونُ}؛ أيسر {عليه} عندكم؛ لأن الإعادة عندكم أسهل من الإنشاء، فلِمَ أنكرتم الإعادة، مع إقراركم بأن الإنشاء منه تعالى؟ وقال الزجاج وغيره: أهون بمعنى هيّن؛ كقوله: {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} [النساء: 30]، كما قالوا: أكبر، بمعنى كبير. والإعادة في نفسها عظيمة ولكنها هُوّنت بالقياس إلى الإنشاء؛ إذ هو أهون عند الخلق من الإنشاء؛ لأن قيامهم بصيحة واحدة أسهل من كونهم نُطفاً، ثم عُلقاً، ثم مضغاً، إلى تكميل خلقهم. قاله النسفي.
{وله المَثَلُ الأعلى في السماوات والأرض} أي: الوصف الأعلى، الذي ليس لغيره، وقد عُرف به، ووُصف في السموات والأرض، على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاءٍ وإعادة، وغيرهما من المقدورات، {وهو العزيزُ} أي: القاهر لكل مقدور، {الحكيم} الذي يجري كل فعل على قضايا حكمته وعلمه. وعن ابن عباس: المثل الأعلى هو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير} [الشورى: 11]. وعن مجاهد: هو قول: لا إله إلا الله. ومعناه: وله الوصف الأرفع، وهو اختصاصه بالألوهية في العالم العلوي والسفلي، ويعضده: ما بعده مِنْ ضرب المثل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الاشياء كلها، من عرشها إلى فرشها، حيها وجامدها، قانتة وساجدة لله تعالى، من حيث حِسُّها الذي هو مَقَر العبودية، وغنية عن السجود من حيث معناها؛ لأنها من أسرار الربوبية. فالعبد، من حيثُ حِسُّها الذي هو مَقَر العبودية، وغنية عن السجود من حيث معناها؛ لأنها من أسرار الربوبية. فالعبد، من حيثُ فرقه، عبد خاضع، ومن حيث جمعه: حُر مُطاع.
قال القشيري: قوله: {وهو أهون عليه} أي: في ظنِّكم وتقديركم. وفي الحقيقة السهولة والوعورة على الحق لا تجوز. {وله المثل الأعلى} والصفات العلى في الوجود بحق القِدَم، وفي وجوده- أي: للأشياء- بنعت الكرم، وفي القدرة بوصف الشمول، وفي النظرة بوصف الكمال، وفي العلم بعموم التعلق، وفي الحكْم بوجود التحقق، وفي المشيئة بوصف البلوغ، وفي القضية بحكم النفوذ، وفي الجبروت بعين العز والجلال، وفي الملكوت بنعت الجد والكمال. اهـ. قلت: والحاصل ان المثل الأعلى يرجع إلى كمال ذاته، تعالى، وصفاته وأفعاله.

.تفسير الآيات (28- 29):

{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)}
يقول الحق جل جلاله: {ضَرَبَ لكم مثلاً} لقُبح الشرك وبشاعته، منتزعاً {من أنفسكم} التي هي أقرب شيء إليكم، وهو: {هل لكم}، معَاشرِ الأحْرَارِ، {مما ملكت أيمانُكُم} اي من عبيدكم {من شركاءَ فيما رزقناكم} من الأموال وغيرها. فَمِنْ، الأولى: للابتداء، والثانية: للتبعيض، والثالثة: مزيدة؛ لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. والمعنى: هل لكم، من بعض عبيدكم، شرك فيما رزقناكم، اي: هل ترضون أن يكون عبيدكم شركاء لكم، فيما رزقناكم؟ {فأنتم فيه سواء}؛ فتكونون أنتم وهم، فيما رزقناكم من الأموال، سواء؛ يتصرفون فيه كتصرفكم، ويحكمون فيه كحكمكم، مع أنهم بشرٌ مثلكم، حال كونكم {تخافونهم} أي: يستبدوا بالتصرف فيه، {كخِيفَتِكُم أنفُسَكُم} أي: كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض- فيما هو مشترك بينهم- أن يستبد فيه بالتصرف دونه. أو: تخافونهم أن يقاسموكم تلك الأموال، أو: يرثونها بعدكم، كما تخافون ذلك من بعضكم، فإذا لم تَرْضَوْا ذلك لأنفسكم، فكيف ترضونه لرب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد، أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء في استحقاق العبادة؟!
{كذلك}، أي: مثل هذا التفصيل البديع، {نُفصِّلُ الآياتِ}؛ بينهما؛ لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها {لقوم يعقلون}؛ يتدبرون في ضرب الأمثال، ويعرفون حكمها وأسرارها، فلما لم ينزجروا أضرب عنهم، فقال: {بل اتَّبعَ الذين ظلموا} أنفسهم بالشرك {أهواءَهم بغير علمٍ}، أي: تبعوا أهواءهم، جاهلين، ولو كان لهم عِلْمٌ؛ لَرُجِيَ أن يزجرهم، {فمن يهدي من أضل الله}؟ اي: لا هادي له قط، {وما لهم من ناصرين} يمنعونهم من العذاب، أو: يَحْفُظونهم من الضلالة، أو: من الإقامة فيها.
الإشارة: ما قيل في الشرك الجلي يجري مثله في الشرك الخفي؛ فأن الحق تعالى غيور، لا يُحب العمل المشترك، ولا القلب المشترك. العمل المشترك لا يقبله، والقلب المشترك لا يُقبل عليه، وأنْشَدُوا:
لِي محْبوبٌ إنما هُوَ غَيُورْ ** يُطِلُّ في الْقَلْبِ كَطَيْر حَذُورْ

ذَا رَأَى شيئاً امتَنَعَ أَنْ يَزُورْ

فكما أنك لا ترضى من عبدك أن يُحب غيرك، ويخضع له، كذلك الحق تعالى، لا يرضى منكُ أن تميل لغيره. قال القشيري. قوله: {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم}: أشدُّ الظلم متابعةُ الهوى؛ لأنه قريب من الشِّرْكِ. قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} [الجاثية: 23]، ومن اتَّبع هواه؛ خالف رضا مولاه، فهو، بوضع الشيء في غير موضعه، صار ظالماً، كما أن العاصي، بوضع المعصية في موضع الطاعة، صار ظالماً، كذلك بمتابعة هواه، بَدَلاً عن موافقة ومتابعة رضا مولاه، صار في الظلم متمادياً. اهـ.