فصل: تفسير الآيات (51- 53):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (51- 53):

{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)}
قلت: اجتمع القسم والشرط، فذكر جواب القسم وأغنى عن جواب الشرط.
والضمير في (رأوه): يعود على النبات المفهوم مما تقدم من أحياء الأرض، أو: على السحاب.
يقول الحق جل جلاله: {و} الله {لئن أرسلنا ريحاً} عاصفة على ما نبت في الأرض من الزروع وسائر الأشجار، الذي هو أثر رحمة الله، {فَرَأَوْه} أي: ما نبت في الأرض، {مُصْفَرّاً} يابساً {لظلُّوا} أي: ليظلون {من بعده} أي من بعد اصفراره {يكفرون}، ويقولون: ما رأينا خيراً قط، فينسون النعم السابقة بالنقم اللاحقة. وهذه صفة أهل الغفلة، وأما أهل اليقظة؛ فيشكرون في أوقات النعم، ويصبرون ويرضون في أوقات النقم، وينتظرون الفرح بعد الشدة، واليسر بعد العسر، غير قَانِطِينَ ولا ضَجِرين. أو: ولئن أرسلنا ريحاً؛ لتعذيبهم، فرأوا سحابة صفراء، لأنَّ اصفراره علامة على أنه لا مطر فيه، لظلوا، أي: للجوا من بعد ذلك على كفرهم وطغيانهم، لانهماكهم.
قال البيضاوي: وهذه الآية ناعية على الكفار، لقلة تثبيتهم، وعدم تدبرهم، وسرعة تزلزلهم، لعدم تفكرهم، وسوء رأيهم، فإن النظر السوي يقتضي أن يتوكلوا على الله، ويلتجئوا إليه؛ بالاستغفار، إذا احتبس القطر عنهم، ولا ييأسوا من رحمته، وأن يبادروا إلى الشكر واستدامة الطاعة، إذا أصابهم برحمته ولم يبطروا بالاستبشار، وأن يصبروا على بلائه؛ إذا ضرب زروعهم بالاصفرار، ولم يكفروا نعمه. اهـ.
قال النسفي: ذمهم الله تعالى بأنهم، إذا حبس عنهم المطر، قنطوا من رحمته، وضربوا أذقانهم على صدورهم، مبلسين، فإذا أصابهم برحمته، ورزقهم المطر، استبشروا، فإذا أرسل الله ريحاً فضرب زروعهم بالصفار ضجّوا، وكفروا بنعمه، وهم في جميع هذه الأحوال على صفة مذمومة، وكان عليهم أن يتوكلوا على الله. فقنطوا، وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها صفة مذمومة، وكان عليهم أن يتوكلوا على الله، فقنطوا، وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها، ففرحوا وبطروا، وأن يصبروا على بلائه، فكفروا. اهـ.
وهذه حال من مات قلبه، قال تعالى: {فإنك لا تُسمع الموتى} أي: موتى القلوب، وهؤلاء في حكم الموتى؛ فلا تطمع أن يقبلوا منك، {ولا تُسمع الصمَّ الدعاءَ} أي: لا تقدر أن تُسْمِعَ من كان كالأصم دعاءك إلى الله، او: لا يقدرون أن يسمعوا منك، {إِذا ولوا مدبرين}، فإن قلت: الأصم لا يسمع؛ مقبلاً أو مدبراً، فما فائدة التخصيص؟ قلت: هو إذا كان مُقبلاً يفهم بالرمز والإشارة، فإذا ولّى فلا يفهم، ولا يسمع، فيتعذر إسماعه بالكلية. قاله النسفي.
{وما أنت بهادِ العُمي} أي: عُمْي القلوب. وقرأ حمزة: {ومات أنت تهدي العمي}، {عن ضلالتهم} أي: لا تقدر أن تهدي الأعمى عن طريقه إذا ضلّ عنه، بالإشارة إليه، {إنْ}؛ ما {تُسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون}؛ منقادون لأوامر الله ونواهيه.
الإشارة: من أصول طريقة التصوف: الرجوع إلى الله في السراء والضراء، فالرجوع في السراء: بالحمد والشكر، وفي الضراء: بالرضا والصبر. قال القشيري: {فإنك لا تُسمع الموتى..} إلخ: مَنْ فَقَدَ الحياةَ الأصلية؛ لم يَعِشْ بالرُّقَى والتمائم وإذا كان في السريرة طَرَشٌ عن سماء الحقائق، فَسَمْعُ الظواهر لا يفيد إلا تأكيد الحُجَّة، وكما لم يُسمع الصمّ الدعاء، فكذلك لا يمكنه أن يهدي العُمْيَ عن ضلالتهم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (54):

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)}
قلت: {الله}: مبتدأ، والموصول: خبره.
يقول الحق جل جلاله: {الله} الذي يستحق ان يعبد وحده هو {الذي خلقكم من ضَعْف} أي: ابتدأكم ضُعفاء، وجعل الضعف أساس أمركم، أو: خلقكم من أصل ضعيف، وهو النطفة؛ كقوله: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} [المرسلات: 20]، {ثم جعل من بعد ضعف قوةً}، يعني: حال الشباب إلى بلوغ الأشد، {ثم جعل من بعد قوةٍ ضَعْفاً وشَيْبَةً}، يعني: حال الشيخوخة والهرم.
وقد ورد في الشيب ما يسلي عن روعة هجومه فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من شاب شيبة الإسلام؛ كانت له نوراً يوم القيامة»، ولما رأى إبراهيم عليه السلام الشيب في لحيته قال: يارب، ما هذا؟ قال: هذا وقار. وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: «يا داود، إني لأنظر الشيخ الكبير، مساء وصباحاً، فأقول له: عبدي، كَبِرَ سِنُّكَ، ورق جلدك، ووهن عظمك، وحان قدومك عليّ، فاستحي مني، فإني أستحيي أن أُعذب شَيْبَةًً بالنار». ومن المُسْتَمْلَحَات، مما يسلي عن رَوْعِ الشيب، ما أنشد القائل:
لاَ يَرُوعُكِ الشِّيبُ يَا بِنْتَ ** عَبْدِ الله فالشَّيبُ حُلْة وَوَقاَرُ

إِنَّمَا تَحْسُنُ الرِّيَاضُ إِذَا مَ ** ا ضَحِكَتْ في خِلاَلِهَا الأَزْهَارُ

ثم قال تعالى: {يخلق ما يشاء}؛ مِنْ ضعفٍ وقوةٍ، وشباب وشيبة، {وهو العليمُ} بأحوالهم، {القديرُ} على تدبيرهم؛ فيصيرهم إلى ذلك. والترديد في الأحوال أبين دليل على وجود الصانع العليم القدير. وفي الضعف: لغتان؛ الفتح والضم. وهو أقوى سنداً في القراءة، كما روي ابن عمر. قال: قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من ضَعف} فأقرأني: {من ضُعْفٍ}.
الإشارة: إذا كُثف الحجاب على الروح، وكثرت همومها، أسرع لها الضعف والهرم، وإذا رقّ حجابها وقلّت همومها؛ قويت ونشطت بعْد هرمها، ولا شك أن توالي الهموم والأحزان يهرم، وتوالي البسط والفرح ينشط، ويرد الشباب من غير إِبَّانِهِ والعارفون: فرحهم بالله دائم، وبسطهم لازم؛ إذ لا تنزل بساحتهم الهموم والأحزان وإنما تنزل بمن فقد الشهود والعيان، كما قال في الحكم.
قال القشيري: {خلقكم من ضعف}، أي: ضعف عن حال الخاصة، ثم جعل من بعد ضعف قوة؛ بالوصول إلى شهود الوجود القديم، ثم من بعد قوة ضعفاً؛ بالرجوع إلى المسكنة أي: في حال البقاء، قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين». اهـ.

.تفسير الآيات (55- 57):

{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)}
قلت: {لبثوا}: جواب القسم؛ على المعنى، وإلا لقيل: ما لبثنا.
يقول الحق جل جلاله: {ويوم تقوم الساعةُ}، أي: القيامة. وسميت بذلك؛ لأنها تقوم آخر ساعة من ساعات الدنيا، ولأنها تقوم في ساعة واحدة، وصارت عَلَماً لها بالغلبة، كالنجم للثريا فإذا قامت {يُقسم المجرمون}؛ يحلف الكافرون: {ما لبثوا} في قبورهم، أو: في الدنيا، {غيرَ ساعة}، استقلّوا مدّة لبثهم في القبور، أو: الدنيا، لشدة هول المطلع، أو: لطول مقامهم في أهوالها، أو: ينسون ما لبثوا، أو: يكذبون. {كذلك كانوا يُؤفكون}، أي: مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون في الدنيا عن الصدق والتصديق، أو: عن الحق حتى يروا الأشياء على غير ما هي عليه، ويقولون: ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين.
{وقال الذين أُوثوا العلم والإيمان}، أي: حَصَّلوا العلم بالله والإيمان بالبَعْثِ وهم الملائكة والأنبياء، والمؤمنون: {لقد لبثتمْ في كتاب الله}؛ في علم الله المثبت في اللوح، أو: في حكم الله وقضائه، أو: القرآن، وهو قوله تعالى: {ومن ورائهم برزخ} إلخ، أي: لقد مكثتم مُدَّةَ البرزخ {إلى يوم البعث}، ردّوا عليهم ما قالوه، وحلَّفُوهم عليه، وأطلعوهم على حقيقة الأَمر، ثم وَبَّخُوهُمْ على إنكار البعث بقولهم: {فهذا يَوْمُ البعث} الذي كنتم تنكرونه، {ولكنكم كنتم لا تعلمون} في الدنيا أنه حق؛ لتفريطكم في طلب الحق، واتباعه. والفاء جواب شرط مقدر، ينساق إليه الكلام، أي: إن كنتم منكرين للبعث؛ فهذا يومه.
{فيومئذٍ لا تنفع الذين ظلموا} كفروا {مَعْذِرَتُهُم}: اعتذارهم، والمعذرة: تأنيثها مجازي، فيجوز التذكير والتأنيث، {ولا هم يُسْتَعْتَبُونَ} أي: لا يقال لهم: أَرْضُوا رَبَّكُمْ بالتوبة، ولا يُدْعَوْنَ إلى استرضائه، يقال: استعتبني فلان فأعْتَبْتُهُ، أي: استرضاني فأرضيته.
الإشارة: كل من قصر في هذه الدار، وصرف أيام عمره في البطالة، يقصر عليه الزمان عند موته، ويرجع عنده كأنه يوم واحد فحينئذٍ يستعتب؛ فلا يُعتب، ويطلب الرجعى؛ فلا يُجاب، فلا تسأل عن حسرته وخسارته، والعياذ بالله، وهذا كله مبين في القرآن.

.تفسير الآيات (58- 60):

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)}
يقول الحق جل جلاله: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مَثَلٍ} أي: بيَّنا لهم فيه من كل مثل، ينبؤهم عن التوحيد والمعاد، وصدق الرسل، وغير ذلك، مما يحتاجون إلى بيانه، {ولئن جئْتَهم بآيةٍ} من الآيات الدالة على صدقك، أو: القرآن. {ليقُولَنَّ الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون}؛ مزورون. وإسناد الإبطال إلى الجميع، مع أن المجيء بالحق واحد؛ مراعاة لمن شايعه معه من المؤمنين، أو: ولقد وصفنا كلّ صفة، كأنها مثل؛ في غرابتها، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن كقصة المبعوثين يقوم القيامة. وما يقولون، وما يُقال لهم، وما لا ينفع من اعتذارهم، ولا يُسمع من استعتابهم، ولكنهم؛ لقسوة قلوبهم، إذا جِئْتَهُمْ بآية من آيات القرآن، قالوا: جئتنا بزور باطل. {كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون}، أي: مثل ذلك الطبع- وهو الختم- يطبع الله على قلوب الجهلة؛ الذين عِلَمَ اللهُ منهم اختيارَ الضلال حتى سمّوا المحققين مبطلين، وهم أغرقُ خلق الله في تلك الصفة.
{فاصبرْ} على أذاهم وعدواتهم، {إن وعْدَ الله} بنصرتك، وإظهار دين الإسلام على كل دينٍ، {حقٌ} لابد من إنجازه والوفاء به، {ولا يستخفَّنَّك الذين لا يُوقنون}؛ لا يحملَنَّك هؤلاء الذين لا يوقنون بالآخرة على الخفّة والعجلة في الرد عليهم، أو: لا يحملنَّك على الخفة والقلق؛ فزعاً مما يقولون؛ فإنهم ضُلاَّل، شاكّون، لا يستغرب منهم ذلك. وقرأ يعقوب: بسكون النون؛ على أنه نون التوكيد الخفيفة.
الإشارة: فقد بين الله في القرآن ما يحتاج السائرون إليه، من علم الشريعة والطريقة والحقيقة، لمن خاض بحر معانيه وأسراره. ولئن جئتهم بآية، من غوامض أسراره؛ ليقول أهل الجمود. هذا إلْحَاد وباطل. فاصبر؛ إن وعد الله بالنصر لأوليائه حق، ولا يحملنك على العجلة من لا يقين عنده. وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلَّم.

.سورة لقمان:

.تفسير الآيات (1- 5):

{الم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}
قلت: {هُدىً ورحمةً}: حالان من الآيات، والعامل: معنى الإشارة. ورفعمها حمزة على الخبر لتلك بعد حبر، أو: خبر عن محذوف، أي: هو، أو: هي هُدى. والموصول: نعت للمحسنين؛ تفسير لإحسانهم، و{هم}: مبتدأ، و{يُوقنون}: خبر. وتكريره الضمير؛ للتوكيد، ولِمَا حيل بينه وبين خبره.
يقول الحق جل جلاله: {الام}؛ أيها المصطفى المقرب، {تلك} الآيات التي تتلوها هي {آياتُ الكتابِ الحكيم} أي: ذي الحكمة البالغة، أو: الذي أُحكمت آياته وأُتقنت، أو: المحكَم الذي لا ينسخه كتاب. أو: المصون من التغيير والتبديل. حال كونه {هُدىً ورحمةً}؛ هادياً لظواهرهم بتبيين الشرائع، ورحمة لقلوبهم بتبين حقائق الإيمان، ولأرواحهم بإظهار حقائق الإحسان. وقد تقدم هذا البيان في قوله: {إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ} [المائدة: 93] الآية. ولذلك خصه بقوله: {للمحسنين}، فإنما يكون هدى ورحمة لأهل الإحسان؛ لأنهم هم الذين يغوصون على أسراره ومعانيه. وهم {الذين يقيمون الصلاة}؛ يتقنونها، {ويؤتون الزكاة} على الوجه المشروع، ويدفعونها لمن يستحقها، لا جزاءً ولا شكوراً، ولا لجلب نفع أو دفع شر، {وهم بالآخرة هم يوقنون}، كأنها نُصْبَ أعينهم. وخص بالذكر هذه الثلاثة؛ لفضلها؛ فإن الصلاة عماد الدين، والزكاة قرينتها؛ لأن الأولى عبادة بدنية، والثانية مالية، والآخرة هي دار الجزاء، فلولا وقوعها لكان وجود هذا الخلق عبثاً، وتعالى الله عنه علواً كبيراً.
ثم مدح المتصف بتلك الخصال فقال: {أولئك على هُدىً من ربهم} أي: راكبون على متن الهداية، متمكنون منها، {وأولئك هم المفلحون}، الفائزون بكل مطلوب.
الإشارة: قال القشيري: {الام}، الألف إشارة إلى آلائه، واللام إلى لطفه، والميم إل مجده وسنائه، فبآلائه دفع الجَحْدَ عن قلوب أوليائه، وبلطف عطائه أثبت المحبةَ في أسرار أصفيائه، وبمجده وسنائه هو مستغنٍ عن جميع خَلْقِه بوصف كبريائه. اهـ.
ثم وصف كتابه بأنه هاد للسائرين، رحمة للواصلين؛ إذ لاتكمل الرحمة إلا بشهود الحبيب، يكلمك ويناجيك، وهذه حالة أهل مقام الإحسان. قال القشيري: وشَرْطُ المحْسِنِ أن يكون محسناً إلى عباد الله: دانيهم وقاصيهم، مطيعِهم وعاصيهم. ثم قال: {الذين يُقيمون الصلاة}؛ يأتون بشرائطها في الظاهر- ثم ذكرها-، وفي الباطن يأتون بشروطها؛ من طهارة السَّرَّ عن العلائق، وسَتْرِ عورة الباطن، بتنقيته من العيوب؛ لأن ما كان فيه فالله يراه. فإذا أرَدْتَ أن لا يرى اللهُ عيوبَك فاحْذَرْها حتى لا تكون. والوقوف على مكان طاهر: هو وقوف القلب على الحدِّ الذي أُذن فيه، مما لا يكون فيه دعوى بلا تحقيق، بل رَحِمَ الله مَن وقف عند حدِّه بالمعرفة بالوقت، فيعلم وقت التذلُّل والاستكانة ويميز بينه وبين وقت السرور والبسط، ويستقبل القبلة بَنْفسِه، ويعلق قلبه بالله، من غير تخصيص بقطْرِِ أو مكان {أولئك على هدى من ربهم}؛ وهم الذين اهتدوا في الدنيا، وسَلِموا ونَجوْا في العُقْبَى. اهـ.

.تفسير الآيات (6- 7):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)}
يقول الحق جل جلاله: {ومن الناس من يشتري لَهْوَ الحديث} أي: ما يلهى به عما يقرب إلى الله؛ كالأحاديث التي لا أصل لها، والخرافات التي لا حقيقة لها، والمضاحك، وفضول الكلام. قيل: نزلت في النَّضر بن الحارث، كان يخرج إلى فارس للتجارة، فيشتري أخبار الأعاجم، ثم يُحدث قريشاً بها، ويقول: إن محمداً يُحدثكم بأخبار عاد وثمود، وأنا أحدثكم بحديث رُسْتُم، وأخبار الأكاسرة، فيستملحُون حديثه ولا يسمعون القرآن. وقيل: كان يشتري القيان، ويحملهن على معاشرة من أراد الإسلام؛ ليصده عنه.
والإشتراء من الشراء، كما تقدم عن النضر، ومن البدل، كقوله: {اشتروا الكفر بالإيمان} [آل عمران: 177]. استبدلوه واختاروه، أي: يختار حديث الباطل على حديث الحق. وإضافة اللهو إلى الحديث، للتبيين بمعنى من؛ لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره، فيبين بالحديث، والمراد بالحديث: الحديث المكروه، كما جاء في الحديث: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات، كما تأكل البهيمة الحشيش»، أو: للتبعيض، كأنه قيل: ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي فيه اللهو. وقال مجاهد: يعني: شراء المغنيات والمغنيين، أي: يشتري ذات لهو، أو ذا لهو الحديث. وقال أبو أمامة: قال عليه الصلاة والسلام: «لا يحل تعليم المغنيات، ولا بيعهن، وأثْمانُهنَّ حرام» وفي مثل هذا نزلت هذه الآية، ثم قال: «وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين: أحدهما على هذا المنكب، والآخر على هذا المنكب، فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يسكت».
قلت: هذا مقيد بِشِعْرِ الهوى لأهل الهوى، وأما أهل الحق الذين يسمعون من الحق، فلا يتوجه الحديث لهم، وسيأتي في الإشارة تحقيقه إن شاء الله. ثم قال أبو أمامة رضي الله عنه عَنْهُ صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى بعثني هدةى ورحمة للعالمين، وأمرني ربي بمحو المعازف والمزامير والأوثان، والصلب وأمر الجاهلية، وحلف ربي بعزته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة خمر متعمداً إلا سقيته مثلها من الصديد يوم القيامة، مغفوراً له أو معذباً، ولا سقاها غيره إلا فعلت به مثل ذلك، لا يتركها عبد من مخافتي إلا سقيته من حياض القدس يوم القيامة» انظر الثعلبي.
ثم قال تعالى: {ليضل عن سبيل الله} أي: فعل ذلك لِيَضل هو عن طريق الله ودينه، أو ليُضل غيره عنه، أو عن القرآن، {بغير علم} أي: جهلاً منه بما عليه من الوزر. {ويتخذها} أي: السبيل {هُزُواً} وسخرية. فمن رفع: استأنف، ومن نصب، عطفها على {ليضل}، {أولئك لهم عذاب مهين} يُهِينُهم ويخزيهم، و{مَنْ}، لإبهامه، يقع على الواحد والجمع، والمراد: النضر ومن تبعه.
{وإذا تُتلى عليه آياتنا وَلَّى مُستكبراً}؛ أعرض عن تدبرها متكبراً رافعاً نفسه عن الإصغاء إلى القرآن، {كأن لم يَسْمَعْهَا}؛ كأنه لم يسمعها، ولا ذُكرت على سمعه. شبَّه حاله بحال من لم يسمعها قط، {كأنَّ في أذنيه وقراً}؛ ثَِقَلاً وصمماً، {فبشره بعذابٍ أليم}؛ أَخْبِرْه بأن العذاب يُوجعه لا محالة. وذكر البشارة على سبيل التهكم. وهذا في مقابلة مدح المحسنين المقيمين المزكين. فكما قال في المحسنين: {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون}، قال في هؤلاء: {أولئك لهم عذاب مهين}، بعد أن وصفهم بالضلال والإضلال، في مقابلة المحسنين بالهداية والفلاح. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لهو الحديث هو كل ما يشغل عن الله، ويصد عن حضرة الله، كائناً ما كان، سواء كان غناء أو غيره، وإذا كان الغناء يهيج لذكر الله، ويحرك الروح إلى حضرة الله، كان حقاً، وإذا كان يحرك إلى الهوى النفساني كان باطلاً. والحاصل: أن السماع عند الصوفية ركن من أركان الطريقة، بشروط الثلاثة: الزمان والمكان والإخوان. وقد ألف الغزالي تأليفاً في تكفير من أطلق تحريم السماع. وقال في الإحياء، في جملة من احتج به المُحَرِّمُ للسماع: احتج بقوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لَهْوَ الحديث}، وقد قال ابن مسعود والنخَعي والحسن: إنه الغناء. وأجاب ما حاصله: أنه إنما يحرم إذا كان استبدالاً بالدين، وليس كل غناء بدلاً عن الدين، مُشْتَرَى به، ومضلاً عن سبيل الله، ولو قرأ القرآن ليضل عن سبيل الله كان حراماً. كما حكي عن بعض المنافقين؛ أنه كان يؤم الناس ولا يقرأ إلا بسورة عبس، لما فيها من العتاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهَمَّ عمرُ بقتله. فالإضلال بالشعر والغناء أولى بالتحريم. اهـ. وأما إن لم يكن شيء من ذلك، فلا يحرم.
وقال في القوت، في كتاب المحبة: ولم يزل الحجازيون، عندنا بمكة، يسمعون السماع في أفضل أيام السنة، وهي الأيام المعدودات، التي أمر الله عز وجل عبادَه فيها بذكره، أيام التشريق، من وقت عطاء بن أبي رباح، إلى وقتنا هذا، ما أنكره عالم، وكان لعطاء جاريتان تُلَحِّنانِ، فكان إخوانه يستمعون إليهما، ولم يزل أهل المدينة مواطئين لأهل مكة على السماع إلى زماننا هذا. وأدركنا أبا مروان القاضي، له جوار يسمعن التلحين، قد أعدهن للطوافين. فكان يجمعهن لهم، ويأمرهن بالإنشاد، وكان فاضلاً. وسئل شيخنا أبو الحسن بن سالم، فقيل له: إنك تنكر السماع، وقد كان الجنيد وسري السقطي وذو النون يسمعون؟ فقال: كيف أنكر السماع وقد أجازه وسمعه من هو خير مني. اهـ.
وقال ابن ليون التجيبي في الإنالة: رُوي عن مصعب بن الزبير، قال حضرت مجلس مالك، فسأله أبو مصعب عن السماع، فقال: ما أدري، إلا أن أهل العلم ببلدنا لا ينكرون ذلك، ولا يقعدون عنه، ولا ينكره إلا غبي جاهل، أو ناسك عراقي غليظ الطبع.
قال التجيبي: وعن أنس؛ كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ نزل عليه جبريل، فقال: يا رسول الله فقراء أمتك يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، وهو نصف يوم، ففرح فقال: أفيكم من ينشدنا؟ فقال بدوي: نعم، يارسول الله، فقال: هات، هات، فأنشد البدوي يقول:
قَدْ لَسَعَتْ حَيَّةُ الهَوى كَبِدِي ** فَلاَ طَبِيبٌ لَهُ وَلاَ رَاقِي

إلاَّ الحَبِيبُ الَّذِي شُغِفْتُ بِهِ ** فَعِنْدَهُ رُقْيَتِي وتِرْيَا قِي

فتواجد عليه السلام، وتواجد أصحابه معه، حتى سقط رداؤه عن مَنْكِبَيْهِ، فلما خرجوا أوى كل واحد إلى مكانه، فقال معاوية: ما أحسن لَعِبَكُمْ يا رسول الله! فقال: «مَهْ، مَهْ، يا معاوية، ليس بكريم من لم يهتز عند ذكر الحبيب» ثم اقتسم رداءه من حضرهم بأربعمائة قطعة. وذكر المقدسي هكذا، والسهروردي في عوارفه، وتكلم الناس في هذا الحديث.
وقد تخلف الحسن البصري ذات يوم عن أصحابه، وسئل عن تخلفه، فقال: كان في جيراننا سماع. وقال الشبلي: السماع ظاهرة فتنة وباطنه عبرة. فمن عرف الإشارة حلَّ له سماع العبرة وإلا فقد استدعى الفتنة. اهـ. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {وإذا تُتلى عليه...} إلخ، هذا مثال لمن يَقبل الوعظ؛ لقسوة قلبه وحُكم المشيئة يُبعده، فلا يزيده كثرة الوعظ إلا نفورً، فسماعه كلا سماع، ومعالجته عنى وضياع، كما قال القائل:
إذَا أَنَا عَاتبتُ المُلولَ فإِنَّمَا ** أخُط بأفلك على الماء أَحرُفَا