فصل: تفسير الآيات (8- 9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (8- 9):

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)}
يقول الحق جل جلاله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحت لهم جناتُ النعيم}، قيل: معكوس، أي: لهم نعيم الجنات، أو: لهم بساتين، أو: ديار النعيم. {خالدين فيها}: حال من ضمير لهم. والعامل: الاستقرار. {وَعْدَ الله حقاً} أي: وعدهم ذلك وعداً، وثبت لهم حقاً مُهماً، مصدران مؤكدان، الأول لنفسه، والثاني لغيره، إذ قوله: {لهم جنات النعيم}؛ في معنى: وعدهم الله جنات النعيم: {وحقا}: يدل على معنى الثبات المفهوم من انجاز الوعد. {وهو العزيزُ} الغالب، الذي لا يُعارَض في حكمه، فينفذ وعده لا محالة. {الحكيمُ} الذي لا يفعل إلا ما استدعته حكمته.
الإشارة: إن الذين آمنوا في البواطن، وحققوا ذلك بالعمل الصالح في الظواهر، لهم جنات المعارف معجلة، وجنات الزخارف مؤجلة، وعداً حقاً وقولاً صدقاً، فما كَمُنَ في السرائر ظهر في شهادة الظواهر، وإلا كان دعوى ونفاقاً، والعياذُ بالله.

.تفسير الآيات (10- 11):

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)}
قلت: {بغير عمد}: يتعلق بحال محذوفه، أي: مُمْسَكَةً أو مرفوعة بغير عمد، و{عمد}: اسمع جمع على المشهور، وقيل: جمع عماد أو عامد. وجملة {ترونها}: إما استئنافية، لا محل لها، أو صفة لعمد.
يقول الحق جل جلاله: {خلق السماواتِ} ورفعها {بغير عَمَدٍ ترونها}، الضمير: إما للسموات، أي: خلقها، ظاهرة ترونها، أو لعمد، أي: بغير عمد مرئية بل بعمد خفية، وهي إمساكها بقدرته تعالى. {وألقى في الأرض رواسي} أي: جبالاً ثوابت، كراهة {أن تميد بكم} أي: لئلا تضطرب بكم، {وبثَّ}: نشر {فيها من كل دابةٍ وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوجٍ كريمٍ}؛ صنف من أصناف النبات، {كريم}: حسن بهيج، أو كثير المنفعة. وكأنه استدل بذلك على عزته، التي هي كمال القدرة، وحكمته التي هي كمال العلم، فهي مقررة لقوله: {العزيز الحكيم}.
ثم أمر بالتفكر في هذه المصنوعات؛ استدلالاً على توحيده بقوله: {هذا خلقُ الله} أي: هذا الذي تُعاينونه من جملة مخلوقاته، {فأَرُوني ماذا خلقَ الذين من دونه}، يعني: آلهتهم. بكَّتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلق الله، فأروني ماذا خلق آلهتكم حتى استوحبوا عندكم العبادة؟ {بل الظالمون في ضلال مبين}، أضرب عن تبكيتهم؛ إلى التسجيل عليهم بالظلم والتورط في ضلال ليس بعده ضلال.
الإشارة: خلق سموات الأرواح- وهو عالم الملكوت- مرفوعاً غنياً عن الاحتياج إلى شيء، وألقى في أرض النفوس- وهو عالم الأشباح- من العقول الراسخة، لئلا تميل إلى جهة الانحراف، إما إلى الحقيقة المحضة، أو الشريعة. ونشر في أرض النفوس دواب الخواطَر والوساوس، وأنبتنا فيها من علوم الحكمة والقدرة، من كل صنف بهيج قال القشيري: {وألقى في الأرض رواسي}؛ في الظاهر: الجبال، وفي الحقيقة: الأبدال، الذين هم أوتاد، بهم يقيهم، وبهم يَصرِف عن قريبهم وقاصيهم، {وأنزلنا من السماء ماء..}؛ المطر من سماء الظاهر في رياض الخُضْرَةَ، ومن سماء الباطن في رياض أهل الدنوِّ والحَضْرَة. هذا خلق الله العزيز في كبريائه، فأروني ماذا خَلَقَ الذين عَبَدْتم من دونه في أرضه وسمائه؟ اهـ.

.تفسير الآيات (12- 13):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)}
قلت: {يا بُني}؛ فيه ثلاث قراءات؛ كسر الياء، وفتحها؛ مُشَدَّدةً، وإسكانها. وقد تتبعنا توجيهاتها في كتابنا الدرر الناثرة فيه توجيه القراءات المتواترة.
يقول الحق جل جلاله: {ولقد آتينا لقمان الحكمةَ} وهو لقمان بن باعوراء ابن أخت أيوب، أو ابن خالته، وقيل: كان من أولاد آزر، وقيل: أخو شداد بن عاد، أُعطى شداد القوة، وأُعطى لقمان الحكمة، وعاش ألف سنة، وقيل: أكثر، وسيأتي. وأدرك داود عليه السلام، وأخذ منه العلم. وكان يُفتي قبل مبعث داود، فلما بُعث قطع الفتوى، فقيل له في ذلك؟ فقال: ألا أكتفي إذا كُفيت. وقيل: كان خياطاً، وقيل: نجاراً، وقيل: راعياً. وقيل: كان قاضياً في بني إسرائيل. وقال عكرمة والشعبي: كان نبياً، والجمهور على أنه كان حكيماً فقط. وقد خُير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة، وهي الإصابة في القول والعمل. وقيل: تتلمذ لألف نبي وتتلمذ له ألف نبي. قاله النسفي.
قال ابن عمر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لم يكن لقمان نبياً ولكن كان عبداً كثير التفكر، حسن اليقين، أحب الله فأحبه، فمنَّ عليه بالحكمة. كان قائماً فجاءه نداء: يا لقمان، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض، تحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت، فقال: إن خيرني ربي قبلت العافية، وإن عزم عليّ فسمعاً وطاعة، فإني أعلم إن فعل ذلك بي عصمني وأعانني. قالت الملائكة بصوت ولا يراهم: لِمَ يا لقمان؟ فقال: لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها، يغشاه الظلم من كل مكان، إن يُعَن، فالبحري أن ينجو، وإن أخطأ؛ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلاً، خير من أن يكون شريفاً، ومن يختر الدنيا على الآخرة؛ تفُته الدنيا، ولا يصيب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة فأُعطى الحكمة، فانتبه وتكلم بها». اهـ.
قال مجاهد: كان لقمان عبداً أسود، عظيم الشفتين، مُشققَّ القدمين. زاد في اللباب: وكانت زوجته من أجمل أهل زمانها. قيل: لم يزل لقمان، ومن زمن داود مظهراً للحكمة والزهد، إلى أيام يونس بن متى. وكان قد عَمَّرَ عُمر سبعة أنسر، فكان آخر نسوره لبذ. رُوي أنه أخذ نسراً صغيراً فربّاه، وكان يصرفه في حوائجه، فعاش ذلك النسر ألف سنة ومات، قم أخذ نسراً آخر، فعاش خمسمائة سنة، ثم أخذ آخر، فعاش مثل ذلك، إلى السابع، عاش خمسمائة سنة، واسمه لبذ، فقال له لقمان يوماً: يا لبذ انهض إلى كذا، فأراد النهوض فلم يستطع، وإذا بوتر لقمان قد اختلج، وكان لم يألم قط، فنادى بأهله وعشيرته، وعلم أن أجله قد قرب، وقال: إن أجلي قد حضر بموت هذا النسر، كما أعلمني ربي، فإذا مت فلا تدفنوني في الكهوف والمقابر، كما تدفنون الجبابرة، ولكن ادفنوني في ضريح الارض، فدفنوه كما أوصاهم، فقال ابن ثعلبة:
رَأَيْتُ الْفَتَى يَنْسَى مِنَ الْمَوتِ حَتْفَهُ ** حَذُوراً لِرَيْبِ الدَّهْرِ والدَّهْرُ آكِلُهْ

فَلَوْ عَاشَ مَا عَاشَت بِلُقْمَانَ أَنْسُرٌ ** لَصَرْفْ المَنَايَا بعد ذلك حَافِلْهُ

قال البيضاوي: والحكمة في عرف العلماء: استكمال النفس الإنسانية؛ باقتباس العلوم النظرية واكتساب الْمَلَكَةِ التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها. ومن حكمته أنه صحب داود شهوراً، وكان يسرد الدرع، فلم يسأله عنها، فلما أتمها لبسها، فقال: نِعْمَ لبوسُ الحرب أنتِ، فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله، وأن داود قال له يوماً: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت في يَدَيْ غيري. وأنه أمر لقمان بأن يذبح شاة ويأتيه بأطيب مُضْغَتين منها، فأتى باللسان والقلب، ثم بعد أيام أمر بأن يأتي بأخبث مضغتين منها فأتى بهما أيضاً فسأله عن ذلك فقال: هما أطيب شيء؛ إذا طابا وأخبث شيء؛ إذا خبثا. والذي عند الثعلبي: أن الآمر له بإتيان المضغتين سيدهُ، لا داود عليه السلام قيل له: بِمَ نلت هذه الحكم، وقد كنت راعياً؟ فقال بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني. اهـ.
قال صلى الله عليه وسلم: «أول ما رؤى من حكمة لقمان: أن مولاه أطال الجلوس في المخرج، فناداه لقمان: إن الجلوس على الحاجة ينخلع منه الكبد، ويورث الباسور، ويُصعد الحرارة إلى الرأس، فاجلس هويناً، وقم هويناً» وروي أنه قَدِمَ من سفر، فقيل له: مات أبوك، فقال: الحمد لله، ملكتُ أمري، فقيل له: ماتت امرأتك، فقال: الحمد لله؛ جُدِّدَ فراشي، فقيل له: ماتت أختك، فقال: سُترت عورتي، فقيل له: مات أخوك، فقال: انقطع ظهري. اهـ.
و{أَنْ}- في قوله: {أن أشكر}: مفسرة؛ لأنَّ إيتاء الحكمة في معنى القول، أي: وقلنا له اشكر الله على ما أعطاك من الحكمة، وفيه تنبيه على أن الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي هو العمل بهما، وعبادةُ الله والشكر له، حيث فسر الحكمة بالحث على الشكر. وقيل: لا يكون الرجل حكيماً حتى يكون حليماً في قوله وفعله ومعاشرته وصُحبته.
وقال الجنيد: الشكر: ألا يُعْصَى اللهُ بنعمه. وقال أيضاً: ألا ترى مع الله شريكاً في نعمه. وقيل: هو الإقرار بالعجز عن الشكر. والحاصل: أن شكر القلب: المعرفة، وشكر اللسان: الحمد، وشكر الأركان: الطاعة. ورؤية العجز في الكل دليل القبول. {ومن يشكرْ فإنما يشكر لنفسه}؛ لأن منفعته تعود عليه، لأنه يريد المزيد، {ومن كفرَ فإِنَّ الله غنيٌّ}؛ غير محتاج إلى شكر أحد، {حميد}؛ حقيق بأن يُحمد، وإن لم يَحْمَدْهُ أحد. {و} اذكر {اذ قال لقمان لابنه}، واسمه: أنعم، أو أشكم، أو ناران، {وهو يَعِظُهُ يا بُنَي}، تصغير ابن، لا تُشرك بالله؛ {إن الشرك لظلم عظيم}؛ لأنه تسوية بين مَنْ لاَ نِعْمَةَ إلا منه، ومن لا نعمة منه أصلاً.
وبالله التوفيق.
الإشارة: قال القشيري: الحكمة: الإصابة في الفعل والعقد والنطق. ويقال: الحكمة: متابعة الطريق، مِنْ حَيْثُ توفيق الحق، لا من حيث هِمة النفس. ويقال: الحكمة: ألا يكون تحت سلطان الهوى. ويقال: هي معرفةُ قدْر نَفسك حتى لا تمدّ رجليك خارجاً عن كسائك. ويقال: ألا تستعصي على منْ تعلم أنك لا تقاومه. وحقيقة الشكر: انفتاح عين القلب لشهود ملاطفات الحق. ويقال: الشكرُ: تَحَقُّقُكَ بعجزك عن شكره. ويقال: ما به يَحْصُلُ كَمَالُ استلذاذِ النعمة. ويقال: هو فضلةٌ تظهر على اللسان من امتلاء القلب من السرور، فينطق بمدح المشكور. ويقال: الشكر: نعتُ كُلّ غنيٍّ، كما أن الكفران وصف كلِّ لئيم. ويقال: الشكر: قرعُ باب الزيادة. اهـ. قلت: والأحسن: أنه فرح القلب بإقبال المنعم، فيسري ذلك في الجوارح.
ثم قال في قوله: {لا تُشرك بالله}: الشركُ على ضربين: جَليّ وخفيّ، فالجليُّ؛ عبادة الأصنام، والخفيّ: حسبان شيء من الحدثان من الأنام- أي: أن تظن شيئاً مما يحدث في الوجود أنه من الأنام- ويقال: الشرك: إثباتُ غَيْنٍ مع شهود العين، ويقال: الشرك ظلمٌ عَلَى القلب، والمعاصي ظلمٌ على النفس، فظلم النفس مُعَرَّضٌ للغفران، وظلم القلب لا سبيل للغفران إليه. اهـ.

.تفسير الآيات (14- 15):

{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)}
قلت: الجملتان معترضتان بين أجزاء توصية لقمان لابنه. و{وَهْناً}: حال من {أمه}، أي: حملته حال كونها ذَاتَ وَهْنٍ، أو من الضمير المنصوب، أي: حملته نُطْفَةً، ثم علقة... إلخ، أو مصدر، أي: تهن وهناً.
يقول الحق جل جلاله: {ووصينا الإنسانَ بوالديه}؛ أن يَبَرَّهُمَا ويُطِيعَهُمَا، ثم ذكر الحامل على البر فقال: {حَمَلَتْهُ أُمُّه وَهْناً على وَهْنٍ} أي: تضعف ضعفاً فوق ضعف، أي: يتزايد ضعفها ويتضاعف؛ لأن الحمل، كلما ازداد وعظم، ازدادت ثِقلاً. {وفِصَالهُ في عامين} أي: فطامه لتمام عامين. وهذا أيضاً مما يهيج الولد على بر والديه، فيتذكر مَرْقده في بطن أمه، وتعبَها معه في مدة حَمْلِةِ، ثم ما قاست من وجع الطلق عند خروجه، ثم ما عالجته في أيام رضاعه؛ من تربيته، وغسل ثيابه، وسهر الليل في بكائه، إلى غير ذلك.
{أن اشكر لي ولوالديك}، هو تفسير لِوَصَّينَا، أو على حذف الجار، أي: وصيناه بشكرنا وبشكر والديه. وقوله: {حملته أمه..} إلخ: اعتراض بين المفسَّر والمفسِّر، لأنه لَمَّا وصى بالوالدين، ذكر ما تُكابده وتُعاينه من المشاق في حمله وفصاله، هذه المدة الطويلة؛ تذكيراً لحقها، مفرداً.
وعن ابن عُيَيْبَةَ: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا للوالدين، في أدبار الصلوات الخمس، فقد شكرهما. اهـ. وقال القشيري: والإجماع على أن شكر الوالدين بدوام طاعتهما. ثم قال: فشكرُ الحقِّ بالتعظيم والتكبير، وشكرُ الوالدين بالإشفاق والتوقير. اهـ.
ثم قال تعالى: {إليَّ المصيرُ} فأحاسبك على شكرك، أو كفرك. {وإن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس لك به عِلْمٌ}، أراد بنفي العلم به نفيَه من أصله، أي: أن تشرك بي ما ليس بشيء. أو: ما ليس لك به علم باستحقاقه الإشراك مع الله، بل تقليداً لهما، {فلا تُطِعْهُما} في ذلك الشرك. {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} أي: صِحَاباً معروفاً يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم، وهو الخُلُقُ الجميل، بِحِلْمٍ، واحتفالٍ، وبر، وصلة. وقد تقدم تفسيره في الإسراء.
{واتبع سبيل من أناب إلي} أي: اتبع طريق مَنْ رَجَعَ إليَّ بالتوحيد والإخلاص، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، ولاتتبع سبيلهما، وإن كنت مأموراً بحسن مصاحبتهما في الدنيا، وقال ابن عطاء: اتبع سبيل من ترى عليه أنوار خدمتي. اهـ. {ثم إليَّ مرجِعكُم} أي: مرجعك ومرجعهما، {فأُنَبِئُكم بما كنتم تعملون}؛ فأجازيك على إيمانك وَبِرِّكَ وأجازيهما على كفرهما. وَاعْتَرَضَ بهاتين الآيتين، على سبيل الاستطراد؛ تأكيداً لِمَا في وصية لقمان من النهي عن الشرك، يعني: إنما وصيناه بوالديه، وأمرناه ألا يطيعَهُمَا في الشرك، وإن جاهدا كل الجهد؛ لقبح الشرك.
وتقدم أن الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص، وأنه مضت لأمه ثلاث ليال لم تَطْعم فيها شيئاً، فشكى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، وقيل: من أناب: أبو بكر؛ لأن سعداً أسلم بدعوته.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: بر الوالدين واجب، لاسيما في حق الخصوص، فيطيعهما في كل شيء، إلا إذا منعاه من صحبة شيخ التربية، الذي يُطهر من الشرك الخفي، الذي لا ينجو منه أحد، فإن الآية تشمله بطريق العموم والإشارة. أي: وإن جاهداك على أن تشرك بي متابعة هواك وحظوظك ومحبتهن، فلا تُطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفاً، واتبع سبيل من أناب إليَّ، هو شيخ التربية في علم الإشارة. وقد تقدم قول الجنيد: أمرني أبي بشيء، وأمرني السّري بشيء، فقدمت أمر السّري، فرأيت سراً كبيراً. وكان شيخ شيوخنا الولي الشهير، سيدي يوسف الفاسي، يأتيه شاب من أولاد كبراء فاس، وكان أبوه ينهاه ويزجره عن صحبته، وربما بلغ لمجلس الشيخ فيؤذيه، فكان الشيخ يقول للشاب: أطع أباك في كل شيء إلا في الإتيان إلينا. اهـ. وكان بعض المشايخ يقول: ائتوني ولو بسخط الوالدين، إذ لا يضره ذلك، حيث قصد إصلاح نفسه ودواءها.
وقال الشيخ السنوسي، في شرح عقائد الجزائري، ما نصه: وحاصل الأمر في النفس: أنها شبيهة، في حالها، بحال الكافر الحَرْبِيّ، الذي يريد أن تكون كلمة الكفر هي العليا، وكلمة التوحيد السفلى، وكذلك النفس؛ تريد أن تكون كلمة باطلها من الدعاوى للحظوظ العاجلة، المُشْغِلة عن إخلاص العبودية لمولانا جل وعلا، وعن القيام بوظائف تكاليفه، على الوجه الذي أمر به، هي العليا، النافذ أمرها ونهيها في مُدُنِ الأجسام وما تعلق بها، بعد أن نزلت ساحة الأبدان، واتصلت اتصالاً عظيماً لا انفكاك له إلا بالموت، فوجب، لذلك، على كل مؤمن يُعظّم حرمات الله تعالى أن ينهض كل النهوض، بغاية قواه العِلمية والعملية، لجهادها وقتالها. وفي مثل هذا القتال الذي نزل العدو فيه بساحة الأبدان، وهو فرض عين على كل مؤمن، يسقط فيه استئذان الأبوين وغيرهما. اهـ. فأنت ترى كيف جعل قيام النفس على العبد، وحجابها له عن ربه، كعدو يجب جهاده ولو خالف الوالدين، وهو كذلك؛ إذ طاعة الوالدين لا تكون في ترك فرض، ولا في ارتكاب معصية، ومن جملة المعاصي، عند الخواص، رؤية النفس والوقوف معها، وفي ذلك يقول الشاعر:
فَقلتُ ومَا ذنبي فَقَالَتْ مُجِيبَةً ** وُجُودُكَ ذَنْبٌ لا يُقاس بِهِ ذَنْبُ

وتطهير النفس فرض عين، ولا طاعة للوالدين في فرض العين. وقوله تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} قال الورتجبي: المعروف، ها هنا، أن تُعرفهما مكان الخطأ والغلط في الدين عند جهالتهما بالله. {واتبع سبيل من أناب إليَّ}، نهاه عن متابعة المخلَّطِين، وحثه على متابعة المنيبين. اهـ. وبالله التوفيق.