فصل: تفسير الآيات (16- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (16- 19):

{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)}
قلت: الضمير في {إنها}: للقصة، ومن قرأ {مثقال}: بالرفع؛ ففاعِلُ كَانَ التامة ومن قرأ بالنصب؛ فخبرها، والضمير: للخطيئة أو الهيئة. وأنث المثقال؛ لإضافته إلى الحبة.
يقول الحق جل جلاله: وقال لقمان لابنه، حين قال له: يا أبت: إن عَمِلْتُ بالخطيئة، حين لا يراني أحد، كيف يعلمها الله؟ فقال: {يا بُنيَّ إنها}، أي: القصة أو الخطيئة {إن تكُ مثقال حبةٍ من خَرْدَلٍ} أي: إن تك المعصية؛ في الصغر والحقارة، مثالَ حَبَّةٍ من خردل، أو: إن تقع مثقالُ حَبَّةٍ من المعاصي {فتكن في صخرةٍ}، أي: فتكن، مع صغرها، في أخفى مكان، أو في جبل. وقال ابن عباس: هي صخرة تحت الأَرَضين السبع، وهي التي يكتب فيها أعمال الفجار، وخضرة الماء منها. اهـ. قال السدي: خلق الله تعالى الأرض على حوت، والحوت في الماء، والماء على ظهر صَفَاةٍ- أي: صخرة- والصفاة على ظهر ملَكَ، والملك على صَخْرَة. وهي الصخرة التي ذكر لقمان. ليست في السماء ولا في الأرض، والصخرة على الريح. اهـ.
أي: إن تقع المعصية في أخفى مكان {يأتِ بها اللهُ} يوم القيامة؛ فيحاسب عليها عاملها. {إن الله لطيفٌ}: يتوصل علمه إلى كل خفي، {خبير}: عالم بكنهه، أو: لطيف باستخراجها خبير بمستقرها.
{يا بُني أقم الصلاةَ}: أتقنها، وحافظ عليها؛ تكميلاً لنفسك، {وأْمُر بالمعروف وَانْهَ عن المنكر}؛ تكميلاً لغيرك، {واصبرْ على ما أصابك} في ذات الله تعالى، إذا أمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر؛ فإن فعل ذلك تعرض للأذى، أو: على ما أصابك من الشدائد والمحن؛ فإنها تورث المنح والمنن. {إِن ذلك}؛ الذي وصيتك به، {من عزم الأمور} أي: مما عزمه الله من الأمور، أي: قَطَعَه قطع إيجاب وإلزام، أي: أمر به أمراً حتماً. وهو مصدر بمعنى المفعول، أي: من معزومات الأمور، أي: مقطوعاتها ومفروضاتها. وفيه دليل على أن هذه الطاعات كانت مأموراً بها في سائر الأمم.
{ولا تُصَعِّر خَدكَ للناس} أي: تُمله عنهم، ولا تولهم صفَحة خدك، كما يفعله المتكبرون. والتصعير: داء يصيب العير، فيلوى عُنُقَهُ منه. والمعنى: أَقْبِل على الناس بوجهك؛ تواضعاً، ولا تُولهم شق وجهك وصفحته؛ {ولا تمشِ في الأرض مرحاً}؛ خُيَلاَءَ؛ متبختراً، فهو مصدر في موضع الحال، أي: مَرِحاً، أو تمرح مرحاً، أو: لأجل المرح، {إن الله لا يحب كل مختالٍ فخورٍ}، علة النهي. والمختال هو المرِحُ الذي يمشي خيلاء، والفخور هو المُصَعِّرُ خَدَّهُ؛ تكبراً. وتأخير الفخور، مع تقدمه؛ لرؤوس الآي.
{واقصِدْ في مشيك}؛ توسط فيه بين الدبيب والإسراع، فلا تدب دبيب المتماوتين، ولا تثب وثوب الشطارين، قال عليه الصلاة والسلام: «إنَّ سُرْعَةَ المَشي تُذْهِبُ بَهَاءِ المُؤْمِنِ»
وأما قول عائشة رضي الله عنها: (كان إذا مَشَى أسْرَع)؛ فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب التماوت. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: كانوا ينهون عن خَبَبِ اليهود ودبيب النصارى، ولكن مشياً بين ذلك. وقيل: {واقصد في مشيك}: انظر موضع قدميك، أو: اقصد: تَوَسَّطْ بين العلو والتقصير.
{واغضض من صوتك}؛ وانقص منه، أي: اخفض صوتك. كانت العرب تفخر بمجاهرة الصوت، فنهى الله عن خُلُق الجاهلية، فذكره لوصية لقمان، وأنه لو كان شيء يُهَابْ، لرفع صوته لكان الحمار، فجعلهم في المثل سواء. وهو قوله: {إِن أنكَرَ الأصواتِ}؛ أوحشها وأقبحها {لصوتُ الحمير}؛ لأن أوله زفير، وآخره شهيق، كصوت أهل النار. وعن الثوري: صياح كل شيء تسبيح إلا الحمار، فإنه يصيح لرؤية الشيطان، وقد سماه الله منكراً، وفي تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير؛ تنبيه على أن رفع الصوت في غاية البشاعة، ويؤيده: ما رُوِيَ أنه: عليه الصلاة والسلام- كان يعجبه أن يكون الرجل خفيض الصوت، ويكره أن يكون مجهور الصوت.
وقال بعضهم: رفع الصوت محمود في مواطن؛ منها: الأذان والتلبية. وقال في الحاشية الفاسية: بل ينبغي الاقتصاد في ذلك، كما قال عمر بن عبد العزيز: أَذِّن أذاناً سنِّياً، وإلا اعتزلنا. اهـ. وقال عليه الصلاة والسلام: «ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لاَ تَدْعُون أصمَّ ولا غَائباً» وإنما وحّد صوت الحمير ولم يجمع؛ لأنه لم يرد أن يذكر صوت كل واحد من هذا الجنس حتى يجمع، بل المراد أن كل جنس من الحيوان له صوت، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس، فوجب توحيده.
الإشارة: قد اشتملت وصية لقمان على خصال صوفية، تدل على كمال صاحبها، منها: استحضار مراقبة الحق ومشاهدته، في السر والعلانية، في الجلاء والخفاء. وهو قوله: {يا بُني إنها تلك مثقالَ حبة...} إلخ. ومنها: القيام بوظائف العبودية، بدنية ولسانية، وهو قوله: {يا بُني أقم الصلاة...} إلخ، ويقاس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سائر عبادات اللسان، ومنها الصبر على النوائب، سواء كانت من جهة الخلق، أو من قهرية الحق، وهو ركن في الطريق. وتقدم تفصيله في آخر النحل. ومنها: التواضع والليونة، وهما مصيدة الشرف، ومن شأن أهل السياسة. ومن تواضع دون قدره رفعه الله فوق قدره. وهو قوله: {ولا تُصعر خدَّك للناس ولا تمش في الأرض مرحا}. ومنها: السكينة والوقار والرزانة، وهي نتيجة عمارة القلب بالهيبة والإجلال. وهو قوله: {واقصد في مشيك}. ومنها: خفض الصوت في سائر الكلام، وهو من علامة وجدان هيبة الحضرة، والقرب من الحق، قال تعالى: {وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} [طه: 108]، وهو من آكد الآداب مع الأشياخ والفقراء.
قال القشيري: قوله تعالى: {وأْمُر بالمعروف...}، الأمر بالمعروف يكون بالقول، وأبلغُهُ أن تمنع نفسك عما تنهى عنه، واشتغالك، واتصاف نفسك، بما تأمر به غيرك، ومنْ لا حُكْم له على نفسه؛ لا حُكْم له على غيره.
والمعروف الذي يجب الأمر به: ما يُوَصِّلُ العبدَ إلى مولاه، والمنكر الذي يجب النهي عنه: ما يشغل العبد عن الله. ثم قال: وقوله تعالى: {واصبر على ما أصباك}: تنبيه على أنَّ مَنْ قام لله بحقِّ امْتُحِنَ في الله، فسبيله أن يصبرَ في الله، فإنَّ من صبر لله لم يخسر على الله.
ثم قال: قوله تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ}؛ لا تتكبرْ عليهم، وطالِعْهم مِنْ حَيْثُ النسبة، وتحقق بأنكَ بمشهدٍ من مولاك. ومن عَلِمَ أن مولاه ينظر إليه؛ لا يتكبرُ ولا يتطاول، بل يتخاضع ويتضاءل. قوله تعالى: {واقصد في مشيك..} الآية، أي: كُنْ فانياً عن شواهدك، مُصْطَلَماً عن صَوْلَتِك، مأخوذاً عن حَوْلِكَ وقوتك، متشبهاً بما استولى عليك من كشوفات سِرِّك. وانظر مَنِ الذي يسمع صوتك حين تستفيق من خُمَارِ غفلتك، {إن أنكر الأصوات لصوت الحمير}: في الإشارة: أنه الذي يتكلم بلسان المعرفة بغير إذنٍ من الحق. وقالوا: هو الصوفي يتكلم قبل أوانه. اهـ. أي يتكلم على الناس، قبل أن يأذن له شيخه في التذكير. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (20- 21):

{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)}
يقول الحق جل جلاله: {أَلَمْ تَرَوْا أن الله سخر لكم ما في السماوات والأرض}، يعني: الشمس، والقمر، والنجوم، والسحاب، والمطر، وغير ذلك، {وما في الأرض}، يعني: البحار والأنهار، والأشجار، والثمار، والدواب، والمعادن، وغير ذلك، {وأسْبَغَ}: أتم {عليكم نِعَمَه}، بالجمع، والإفراد؛ إرادة الجنس. والنعمة: ما يسر به الإنسان ويتلذذ به، حال كونها {ظاهرةً}؛ ما تدرك بالحس، {وباطنة}؛ ما تدرك بالعلم والوجدان. فقيل: الظاهرة. السمع، والبصر، واللسان، وسائر الجوارح الظاهرة، والباطنة: القلب، والعقل، والفهم، وما أشبه ذلك. أو: الظاهرة: الصحة والعافية، والكفاية؛ والباطنة: الإيمان، واليقين، والعلم والمعرفة بالله، وسيأتي في الإشارة بقيتها.
رُوي أن موسى عليه السلام قال: دُلني على أخفى نعمتك على عبادك، فقال: أخفى نعمتي عليهم: النَّفسُ. اهـ. قلت: إذ بمجاهدتها تحصل السعادة العظمى، ولا وصول إليه إلا بمجاهدتها والغيبة عنها. وفي هذا المعنى كان شيخ شيخنا يقول: جزاها الله عنا خيراً؛ ما ربحنا إلا منها. اهـ. وقيل: الظاهرة: تحسين الخلْق، والباطنة: حُسْنُ الخلقُ. وقال ابن عباس: الظاهرة: ما سوى من خلقك، والباطنة: ما ستر من عيوبك.
{ومن الناس من يُجادل في الله} بعد هذه النعم المتواترة، أي: في توحيده وصفاته ودينه، {بغير علم} مستفاد من دليل ولا برهان، {ولا هُدىً} اي: هداية رسول، {ولا كتاب منير} أنزله الله، بل بمجرد التقليد الردي. نزلت في النضر بن الحارث. وقد تقدمت في الحج.
{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله} على رسوله؛ من التوحيد، والشرائع، {قالوا بل نتبعُ ما وجدنا عليه آباءنا} من عبادة الأصنام. وهو دليل منع التقليد في الأصول. قاله البيضاوي قلت: والمشهور أن إيمان المقلِّد صحيح. وأما من قلَّد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم ينظر، فهو مؤمن، اتفاقاً. قال تعالى: {أَوَ لَو}؛ أيتبعونهم، ولو {كان الشيطانُ يدعوهم إلى عذاب السعير}، يحتمل أن يكون الضمير لهم، أي: أيقلدونهم، ولو كان يدعوهم بذلك التقليد إلى العذاب، أو: لآبائهم، أي: أيتبعون آباءهم، ولو كان الشيطان في زمانهم يدعوهم إلى عذاب السعير.
الإشارة: الأكوان كلها خُلِقَتْ لك أيها الإنسان، وأنت خُلِقْتَ للحضرة، فاعرف قَدْرَكَ، ولاتتعدَّ طَوْرَكَ، واشكر النعم لتي أسبغ عليك؛ ظاهرة وباطنة. الظاهرة: استقامة الظواهر في عمل الشرائع، والباطنة: تصفية البواطن؛ لتتهيأ لأنوار الحقائق، أو: الظاهرة: المنن، والباطنة: المحن. قال القشيري: قد تكلموا في الظاهرة واباطنة وأكثروا.
فالظاهرةُ: وجودُ النعمة، والباطنةُ: شهودُ المنعِم، أو: الظاهرةُ: الدنيويةُ، والباطنة: الدينية. أو: الخلْق والخُلق، أو: نَفْس بلا زَلَّة، وقلبٌ بلا غفلة، أو: عطاء ورضى. أو: الظاهرة: في الأموال ونمائها، والباطنة: في الأحوال وصفائها، أو: الظاهرة: النعمةُ، والباطنة: العصمةُ، أو: الظاهرةُ: توفيقُ الطاعات، والباطنة: قبولُها، أو: الظاهرة: صحبة العارفين، والباطنةُ: حِفْظُ حُرْمَتِهم وتعظيمهم.
أو: الظاهرة: الزهدُ في الدنيا، والباطنة: الاكتفاءُ بالله من الدنيا والعُقبى. أو: الظاهرة: الزهد، والباطنة: الوَجْدُ. أو: الظاهرة: توفيق المجاهدة، والباطنة: تحقيقُ المشاهدة، أو: الظاهرة: وظائف النَّفْس، والباطنة: لطائف القلب، أو: الظاهرة: اشتغالُك بنفسك عن الخلق، والباطنة: اشتغالك بربَّك عن نفسك، أو: الظاهرة: طَلَبَهُ، والباطنة: وجودُه، أو: الظاهرةُ: أنْ تَصِلَ إليه، والباطنة: أن تبقى معه. اهـ. ببعض المعنى.
ثم قال القشيري: {وإذا قيل لهم أتبعوا ما أنزل الله...} الآية: لم يتخطوا أمثالَهم، ولم يهتدوا إلى تحوِّل أحوالهم. اهـ. يعني: قلدوا أسلافكم في الإقامة مع الرسوم والأشكال، والانهماك في الحظوظ، فعاقبهم ذلك عن السير والوصول. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

.تفسير الآيات (22- 24):

{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)}
قلت: قال في الحاشية: لّمَّا ذكر حال الكافر المجادل ذكر حال المسلم، وعدّاه هنا بإلى، وفي قوله: {بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112]، باللام؛ لأنه لَمَّا كان المجادل غير مُعين، ولم يخص له واحداً بعينه، عقَّبه بحال من حصل منه مطلق الاستسلام، ومَدْحُهُ يتناول مَدْحَ مَنِ اتصف بأخص الاستسلام. أو: في الآية الأخرى أتى به خاصاً، لما رتب عليه من الثواب الجزيل بقوله: {فله أجره...} إلخ، الذي لم يذكر هنا إلا بعضه، فإن اللام تقتضي الاختصاص والقصد إلى الشيء، وإلى: لا تقتضي ذلك. انظر ابن عرفة.
وقال النسفي: عدّاه هنا بإلى وهناك باللام؛ لأن معناه، مع اللام: أنه جعل وجهه- وهو ذاته ونفسه- سالماً لله، أي: خالصاً له، ومعناه، مع إلى: أنه سلّم نفسه كما يُسلم المتاع إلى الرجل، إذا دفع إليه. والمراد: التوكل عليه والتفويض إليه. اهـ. أي: فهو أبلغ من اللام، ومثله البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله: {ومن يُسْلِمْ وَجْهَه إلى الله} أي: ينقد إليه بكليته، وينقطع إليه بجميع شراشره، بأن فوض أمره إليه، وأقبل بكُلِّيَّتِهِ عليه، {وهو محسن} في أعماله. قال القشيري: من أَسْلَمَ نَفْسُه، وأخلص في الله قَصْدَهُ، فقد استمسك بالعروة الوثقى. اهـ. فالاستسلام قد يكون بغير إخلاص، فلذلك قال: {وهو محسن}. قاله المحشي. وقلت: وفيه نظر؛ فإن الحق تعالى إنما عبَّر بالإسلام لا بالاستسلام، وإنما المعنى: أسلم وجهه في الباطن، وهو محسن بالعمل في الظاهر، {فقد استمسك بالعُرْوَةِ الوُثْقَى}، أي: تعلق بأوثق ما يتعلق به؛ فالعروة: ما يستمسك به. والوثقى: تأنيث الأوثق. مثّلَ حال المسلم المتوكل بحال من أراد أن يَتَدَلَّى من شاهق جبل، فاحتاط لنفسه، بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين، مأمونٍ انقطاعُهُ. قال الهروي: أي: تمسك بالعقد الوثيق. وقال الأزهري: أصله: من عروة الكلأ، وهو: ماله أصل ثابت في الأرض، من الشيح وغيره من الشجر المستأصل في الأرض. ضُربَتْ مثلاً لكل ما يُعْتَصَمُ به ويُلْجأُ إليه. اهـ.
وهو إشارة لكون التوحيد سبباً وأصلاً، والآخِذُ به، مُّتصلاً بالله، لا يخشى انقطاعاً ولا هلاكاً، بخلاف الشرك، فإنه على الضد، كما يرشد إليه قوله تعالى: {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ...} [إبراهيم: 26] الآية. وقوله تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء} [الحج: 31] الآية.
{وإلى الله عاقبة الامور} أي: صائرة إليه فيُجازى عليها.
{ومن كَفَرَ}؛ ولم يسلم وجهه لله، {فلا يَحْزُنك كُفْرُه}؛ فلا يهمك شأنه، فَسَيَقْدِمُ علينا ونجازيه، {إلينا مرجعُهم فننبئهم بما عملوا}، أي: فنعاقبهم على أعمالهم، {إن الله عليم بذات الصور}، أي: عالم بحقائق الصدور، وما فيها، فيجازى على حسبها، فضلاً عما في الظواهر، {نُمتعهم قليلاً}، أي: نمتعهم زماناً قليلاً بدنياهم، {ثم نضطرهم}، نلجئهم {إلى عذابٍ غليظٍ} شديد.
شبَّه إلزامهم التعذيب، وإرهاقهم إليه، باضطرار المضطر إلى الشيء. والغِلظ: مستعار من الأجرام الغليظة، والمراد: الشدة والثَّقَلُ على المُعَذِّبِ. عائذاً بالله من موجبات غضبه.
الإشارة: ومن يَنْقَدْ بكليته إلى مولاه، وغاب عن كل ما سواه، وهو من أهل مقام الإحسان، بأن أشرقت عليه شمس العيان، فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها أبداً. ومن أمارات الانقياد: ترك التدبير والاختيار، والرضا والتسليم لكل ما يبرز من عنصر الاقتدار، وترك الشكوى بأحكام الواحد القهار. {وإلى الله عاقبة الأمور}؛ فيوصل من يشاء برحمته، ويقطع من يشاء بعدله. ومن يجحد طريق الخصوص من أهل زمانه؛ فلا يحزنك، أيها العارف، فعله، إلينا إيابهم، وعلينا حسابهم، فَسَنُمَتَّعهُمْ بحظوظهم، والوقوف مع عوائدهم، زماناً قليلاً، ثم نضطرهم إلى غم الحجاب وسوء الحساب. والعياذ بالله.