فصل: تفسير الآية رقم (46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (46):

{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)}
قلت: {أن تقوموا}: بدل من واحدة، أو خبر عن مضمر.
يقول الحق جلّ جلاله: {قلْ} لهم: {إِنما أَعِظُكُم بواحدةٍ} بخصلة واحدة، وهي: {أن تقوموا لله} أي: لوجه الله خالصاً، لا لحمية، ولا عصبية، بل لطلب الحق والاسترشاد. فالقيام على هذا معنوي، وهو القصد والتوجُّه بالقلب، وقيل: حسي، وهو قيامهم وتفرقهم عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقوم كل واحد منفرداً بنفسه، يتفكر، أو مع صاحبه. وهذا معنى قوله: {مَثْنَى وفُرَادَى} أي: اثنين اثنين، أو فرداً فرداً. والمعنى: أعظكم بواحدة أن تعملوا ما أصبتم الحق، وتخلصتم من الجهل. وهي أن تقوموا فرداً. والمعنى: أعظكم بواحدة أن تعملوا ما أصبتم الحق، وتخلصتم من الجهل. وهي أن تقوموا وتنهضوا لله، معرضين عن المِراء والتقليد، متفرقين اثنين اثنين، أو واحداً واحداً؛ فإنَّ الازدحام يُشوّش الخاطر، ويخلط القول، ويمنع من الرويّة، ويقلّ فيه الإنصاف، ويكثر الاعتساف.
{ثم تتفكروا} في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به، حتى تعلموا أنه حق، أما الاثنان فيتفكران ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه، وينظران فيه نظر الصدق والإنصاف، حتى يؤديهما النظرُ الصحيح إلى الحق، وكذلك المفرد، يتفكر في نفسه ويعرض فكره على عقله. فإذا تفكرتم بالإنصاف عرفتم أن {ما بصَاحِبِكم} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {مِن جِنَّةٍ} من جنون، وهذا كقوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ} [الأعراف: 184]. ومنهم مَن يقف على {تتفكروا} ثم يستأنف النفي. قال القشيري: يقول: إذا سَوَّلَتْ لكم أنفسكم تكذيبَ الرسل، فأمعنوا النظرَ، هل تَرَوْنَ فيهم آثار ما رميتموهم به هذا محمد صلى الله عليه وسلم قُلْتُم ساحر، فأين آثار السحر في أحواله وأفعاله وأقواله؟ قلتم: فأيّ قسم من أقسام الشعر كلامه؟ قُلْتُم مجنون، فأيُّ جنون ظهر منه؟ وإذا عجزتم فهلاَّ اعترفتم به أنه صادق؟!. اهـ.
{إِن هو إِلا نذير لكم بين يَديْ عذابٍ شديدٍ} أي: قُدَّام عذاب شديد، وهو عذاب الآخرة، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم: «بُعثتُ بين يَديِ الساعة».
الإشارة: فكرة الاعتبار تشد عروة الإيمان، وفكرة الاستبصار تشد عروة الإحسان، فأول ما يتفكر فيه الإنسان في أمره صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، مع ما أخبر به من قصص القرون الماضية، والشرائع المتباينة، مع كونه أُميًّا، لم يقرأ، ولم يطالع كتاباً قط، وما أخبر به من أمر الغيب، فوقع كما أخبر، وما ظهر على يديه من المعجزات، وما اتصف به عليه الصلاة والسلام؛ من الأخلاق الحسنة، والشيم الزكية، وما كان عليه من سياسة الخلق، مع مشاهدة الحق. وهذا لا يطاق إلا بأمر رباني، وتأييد إلهي. فإذا أشرقت على قلبه أنوار النبوة، ترقى بها إلى أنوار الربوبية، فيتفكر في عجائب السموات والأرض، فيعرف عظمة صانعها، فإذا سقط على شيخ عارف بالله أدخله فكرة العيان، فيغيب عن نظرة الأكوان، ويبقى المُكوّن وحده. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان.

.تفسير الآية رقم (47):

{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)}
يقول الحق جلّ جلاله: {قل ما سألتكم عليه} أي: على إنذاري وتبليغ الرسالة {من أَجْرٍ} إذ لو كنتُ كذلك لاتهمتموني أني أطمع في أموالكم. وما طلبتُ من ذلك {فهو لكم} ومعناه: نفي سؤاله الأجر رأساً. نحو: ما لي في هذا فهو لك، وما تعطني تصدق به على نفسك. {إِنْ أَجْريَ} في ذلك {إِلا على الله وهو على كل شيءٍ شهيدٌ} فيعلم أني لا أطلب الأجر في نصيحتكم، ودعائكم إليه، إلا منه تعالى.
الإشارة: تقدم مراراً أن الدعاة إلى الله ينبغي لهم أن يتنزّهوا عن الطمع في الناس جهدهم، ولو اضطروا إلى ذلك؛ إذ لا يقع النفع العام على أيديهم إلا بعد الزهد التام، والتعفُّف التام عما في أيدي الناس، فإذا تحققوا بهذا الأمر جعلهم الله حُجةً، يدمغ بهم على الباطل.

.تفسير الآيات (48- 50):

{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)}
يقول الحق جلّ جلاله: {قُلْ إِنَّ ربي يَقْذِفُ بالحق} أي: بالوحي، فيرمي به على الباطل، من الكفر وشبهه، فيدمغه، أو: يرمي به إلى أقطار الآفاق، فيكون وعداً بإظهار الإسلام، أو: يلقيه وينزله إلى أنبيائه. والقذف: رمي السهم ونحوه بدفع واعتمادٍ، ويستعار لمطلق الإلقاء، ومنه: {وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب: 26]. تمّ وصف الرب بقوله: {علاّمُ الغيوب} أي: هو علام الغيوب.
{قل جاء الحقُّ} أي: الإسلام: أو: القرآن، {وما يُبْدِئُ الباطلُ وما يُعيدُ} أي: زال الباطل وهلك، لأن الإبداء والإعادة من صفات الحي، فعدمهما عين الهلاك، والمعنى: جاء الحق وهلك الباطل، كقوله: {جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] قال الكواشي: المعنى: ذهب الباطل لمجيء الحق، فلم يبقَ له بقية حتى يبدئ شيئاً أو يعيده. ثم قال: وهذا مثلٌ، يقال: فلان لا يبدئ ولا يعيد، إذا كان لا يلتفت إليه ولا يعتمد عليه. وقال الهروي: الباطل: إبليس، ما يبدئ ولا يعيد: لا يخلق ولا يبعث، والله تعالى هو المبدئ المعيد، ومعناهما: الخالق الباعث. وقال في الصحاح: وفلان ما يبدئ وما يعيد، أي: ما يتكلم ببادية ولا عائدة، ومثله في القاموس.
والحاصل: أنه عبارة عن زهوق الباطل، حتى لا يبقى له ظهور. وعن ابن مسعود رضي الله عنه دخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكةَ يوم الفتح، وحول الكعبة أصنام، فجعل يطعنُها بعودٍ، فتقطع لقفاها، ويقول: «{جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81] قل جاء الحق وما يُبدئُ الباطلُ وما يُعيد».
ولما قالوا له صلى الله عليه وسلم: قد ضللت بترك دين آبائك قال الله تعالى: {قل إِن ضللتُ} عن الحق {فإِنما أَضلُّ على نفسي} فإن وبال ضلالي عليها، {وإِن اهتديتُ فبما يُوحي إِليّ ربي} أي: فبتسديده بالوحي إِليّ. وكان قياس المقابلة أن يقال: وإن اهتديتُ فإنما أهتدي لها، كقوله: {فَمِنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الزمر: 41]، ولكن هما متقابلان معنًى؛ لأنّ النفس كلّ ما يضرها فهو بسببها، وما لها مما ينفعها، فهو بهداية ربها وتوفيقه، وهذا حكم عمل لكل مكلّف. وإنما أمر رسولَه أن ينسبه إلى نفسه؛ تشريعاً لغيره؛ لأنه إذا كان هذا له مع جلالة قدره فما باله بغيره؟. {إِنه سميع} لما أقوله لكم، {قريبٌ} مني ومنكم، فيجازيني ويجازيكم على ما أخفيتم وما أعلنتم.
الإشارة: الحق هو العلم بالله، والباطل الجهل بالله، أو: ما سوى الله، فإذا حصل للعبد العلم بالله غاب عنه كل ما سواه، وما بقي في الوجود إلا الله، وفي ذلك يقول الشاعر:
فلم يبقَ إلا الله لم يبق كائن ** فما ثم موصول ولا ثم بائن

بذا جاء برهان العيان فما أرى ** بعيني إلا عينه إذ أعاين

وفي القوت في تفسير الآية: أي: لما جاء الحق أبطل الباطل وأعاده، فأظهر حقيقة الأمر بدءاً وعوداً، أي: كشف ما يبدئ الباطل للابتداء، وما يعيد على العبد من الأحكام، يعني: أن نور الحق يكشف حقيقةَ الباطل وضررَ عاقبته، وقُبحه في ذاته. والله أعلم. اهـ. ومَن رُمي بباطل أو بدعة، وهو محقق بالحق، متمسك بالسنة النبوية، فليقل لمَن رماه: {إِن ضللتُ فإنما أضل على نفسي..} الآية.

.تفسير الآيات (51- 54):

{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)}
قلت: {مُرِيب}: اسم فاعل، من أراب، أي: أتى بريبة، وأربته: أوقعته في الريبة. ونسبة الإرابة إلى الشك مجاز. والمراد: وصفه بالشدة والإظلام، بحيث إنه يوقع في شك آخر.
يقول الحق جلّ جلاله: {ولو ترى} يا محمد، أو: يا مَن تصح منه الرؤية، الكفرةَ. {إِذ فَزِعُوا} حين فزعوا عند صيحة البعث، لرأيت أمراً فظيعاً هائلاً، {فلا فَوْتَ} أي: لا مهرب لهم، أو: فلا يفوتون الله ولا يسبقونه. {وأُخذوا} إلى النار {من مكان قريبٍ} من المحشر إلى قعر جنهم. أو: ولو ترى إذ فزعوا عند الموت فلا فوت منه، وأُخذوا من ظهر الأرض إلى بطنها، أو: إذا فزعوا يوم بدر، وأُخذوا من صحراء بدر إلى القليب.
{وقالوا} حين عاينوا العذاب: {آمنَّا به} أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لمرور ذكره في قوله: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّنْ جِنَّةٍ} [سبأ: 46] أو: بالله، أو: بالقرآن المذكور في قوله: {فبما يُوحي إليَّ ربي} {وأَنَّى لهم التناوشُ} أي: التناول. من قرأه بالواو فوجهه: أنه مصدر: ناش، ينوش، نوشاً، أي: تناول، وهي لغة حجازية، ومنه: تناوش القوم في الحرب: إذا تدانوا، وتناول بعضهم بعضاً، أي: ومن أين لهم تناول التوبة وقد بَعدت عنهم، يعني أن التوبة كانت منهم قريبة، تُقبل منهم في الدنيا، وقد ذهبت الدنيا وبَعُدت عن الآخرة. وقيل: هو تمثيل لطلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، كما نفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا، فمُثِّلت حالهم بحال مَن يريد أن يتناول الشيء من غَلْوة كما يتناوله الآخر من ألف ذراع. ووجه مَن قرأه بالهمز: أنه مصدر: تناءش، بمعنى أبطأ، أو: بعُد، يقال: تناءشت الشيء: أخذته من بُعْدٍ. النئيش: الشيء البطيء، كما قال الشاعر:
وجئْتَ نئيشاً بَعْدَما فَاتَكَ الخير

أي: جئت بطيئاً. وقيل: الهمز بدل الواو، كالصائم، والقائم، وأقتت. والمعنى: ومن أين لهم حصول الإيمان المتعذر بعد حصول البعد عن وقته.
{وقد كفروا به من قبل} حصول العذاب، أو: قبل الموت في الدنيا، {ويُقْذَفُون بالغيب من مكان بعيدٍ} هو عطف على {كفروا} على حكاية الحال الماضية، أي: وقد كفروا في الدنيا، ورَموا بظنونهم في الأمور المغيبة، فقالوا: لا بعث ولا حساب، ولا جنة ولا نار. {من مكان بعيد} عن الحق والصواب، أو: هو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، شاعر، ساحر، كذاب، وهو رجم بالغيب؛ إذ لم يشاهدوا منه سحراً ولا شعراً ولا كذباً. وقد أتوا بهذا الأمر من جهة بعيدة من حاله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يعرفوه إلا بالصدق، والأمانة، ورجاحة العقل.
{وحِيلَ بينهم وبين ما يشتهون} من نفع الإيمان يومئذ، والنجاة به من النيران، والفوز بنعيم الجنان، أو بين الرد إلى الدنيا، كما حُكِيَ عنهم بقوله: {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً} [السجدة: 12] {كما فُعل بأشياعهم من قبلُ} أي: بأشباههم من الكفرة الدارجة مِن قبلهم، فإنه قد حيل بينهم وبين ما يشتهون من الإيمان والعمل الصالح بالموت، وهذه الأفعال كلها تقع في المستقبل، عبَّر عنها بالماضي لتحقُّق وقوعها. {إِنهم كانوا في شكٍّ} في أمر الرسول والبعث، {مُريب} موقع للريبة، أو: ذي ريبة، نعت به للمبالغة. وفيه رد على مَن زعم أن الله لا يُعذّب على الشك، قاله النسفي.
الإشارة: قوم غفلوا عن تحقيق الإيمان، وتربيته، بصحبة أهل الإيقان، حتى إذا كُشف بعد الموت عن مقامهم القصير، ومكانهم البعيد، قالوا: آمنا وتيقَّنَّا، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد. وقوم اشتغلوا بالبطالة والتقصير، وصرفوا في الشهوات والحظوظ عمرهم القصير، وتوغلوا في أشغال الدنيا وزخارفها، فذهلوا عن الجد والتشمير، فإذا انقضت عنهم أيام الدنيا حيل بينهم وبين ما يشتهون، من اغتنام الأوقات، وتعمير الساعات، لنيل المراتب والدرجات، وهنالك يقع الندم حين لم ينفع، ويُطلب الرجوع فلا يُسْمَع.
قال القشيري: إذا تابوا وقد أُغْلِقَت الأبواب، وندمُوا وقد تقطعت بهم الأسباب، فليس إلا الحسرات مع الندم، ولات حين ندامة! كذلك مَن استهان بتفاصيل فترته، ولم يَسْتَفِقْ من غَفْلَتِه فتجاوز حده، ويُعْفَى عنه كَرَّه. فإذا استمكن في القسوة، وتجاوز في سوء الأدب حدَّ القلة، وزاد على مقدار الكثرة، فيحصل لهم من الحق رَدّ، ويستقبلهم حجاب البُعد. فعند ذلك لا يُسمع لهم دعاء، ولا يُرْحَمُ لهم بكاء، كما قيل، وأنشد:
سبيلَ العينِ بعدك للبُكَا ** فليس لأيام الصفاءِ رجوعُ

. اهـ.
وقوم شمروا عن سابق الجد والتشمير، ولم يقنعوا من مولاهم بقليل ولا كثير، قد انتهزوا فرصة الأعمار، ولم يشغلهم عن الله ربع ولا ديار، عمّروا أوقاتهم بالذكر والتذكار، وفكرة الاعتبار والاستبصار، حتى وردوا دار القرار، أولئك المصطفون الأخيار، يدفع الله تعالى بهم عن أهل الدنيا الأنكاد والأغيار، ويكشف عن قلوبهم الحُجب والأستار. وقوم حققوا مقام الإيمان، واشتغلوا بتربيته، بصحبة أهل الإيقان، حتى أفضوا إلى مقام العيان، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين. جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه، وبمحمد نبيه وحبه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.

.سورة فاطر:

.تفسير الآية رقم (1):

{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}
قلت: {أولِي}: اسم جمع، كذُو، وهو بدل من {رسلاً}، أو نعت له، و{مثْنَى وثُلاثَ ورُباع}: نعوت لأجنحة، وهو غير منصرف؛ لأنه معدول عن اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وهو باعتبار الأشخاص، أي: منهم مَن له اثنان، ومنهم مَن له ثلاثة، هذا ظاهر الكشاف.
يقول الحق جلّ جلاله: {الحمدُ لله}، حمد نفسه؛ تعليماً وتعظيماً، {فاطرِ السماواتِ والأرض} مبديهما ومبدعهما. قال ابن عباس رضي الله عنه: «ما كنت أدري معنى فاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: ابتدأتها». قال البيضاوي: من الفطر، بمعنى الشق، كأنه شق العدم بإخراجهما منه. قلت: وكأنه شق النور الكثيف من النور اللطيف، فنور السموات والأرض من نوره الأزلي، وسره الخفي. {جاعلِ الملائكةِ رسلاً} إلى عباده، أي: وسائط بين الله وبين أنبيائه والصالحين من عباده، فيُبلغون إليهم رسالاته بالوحي، والإلهام، والرؤيا الصادقة. {أُولي أجنحةٍ} متعددة {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاع} أي: منهم ملائكة لهم اثنان؛ لكل واحد جناحان، ومنهم مَن له ثلاثة، ومنهم مَن له أربعة، بتفاوت ما لهم من المراتب، ينزلون بها، ويعرجون، أو: يُسرعون نحو ما وكلهم الله عليه، يتصرفون فيه على ما أمرهم به، ولعله تعالى لم يرد الحصر ونفى ما زاد عليها، لِمَا رُوي أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل ليلة المعراج، وله ستمائة جناح. وَرُويَ أنه طلب منه أن يريه صورته التي خلقه اللهُ عليها، فلما رآه كذلك خرّ مغشِياً عليه. وقال: ما كنت أرى شيئاً من الخلق هكذا. فقال له: لو رأيت إسرافيل، إِنَّ له لاثني عشر جناحاً بالمشرق، واثني عشر جناحاً بالمغرب، وإنَّ العرش لعلى كاهله، وإنه ليتضاءل لعظمة الله تعالى. اهـ.
{يَزيدُ في الخلق ما يشاء} أي: يزيد في خَلْق الأجنحة وغيره ما يريد. وقيل: هو الوجه الحسن، والشَعْر الحسن، والصوت الحسن، والحظّ الحسن. والملاحة في العينين. والآية مطلقة تتناول كلَّ زيادة في الخلق، من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء، وقوة في البطش، وحصافة العقل، وجزالة في الرأي، وفصاحة في اللسان، وحُسن خلق في المعاشرة، ومحبة في قلوب المؤمنين وغير ذلك. {إِن الله على كل شيءٍ قدير} فيقدر على ما يشاء، من زيادةٍ في الخلق، ونقصان فيها، على حسب المشيئة السابقة.
الإشارة: الحمدُ في القرآن وقع على أربعة أقسام: حمد مطلق، وهو الواقع على عظمة ذاته، من غير أن يكون في مقابلة شيء، وهو قوله: {قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]، {الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النحل: 75] وحمدٌ وقع في مقابلة تنزيه ذاته عن النقائص، وهو قوله: {وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً...} [الإسراء: 111] الآية. وحمدٌ وقع في مقابلة نعمة الإيجاد، وهو قوله: {الْحَمْدُ للهِ الذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ...} [الأنعام: 1]، وحمدٌ وقع في مقابلة نعمة الإمداد الحسي، كقوله: {الحمد لله رب العالمين}، {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاواتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 36]، فإن التربية تقتضي وصول ما يحتاج إليه المربّي، أو الإمداد المعنوي، وهو إمداد القلوب والأرواح بالهداية، وهو قوله: {الْحَمْدُ للهِ الذي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1] {الْحَمْدُ للهِ الذي هَدَانَا لِهَذَا...} [الأعراف: 43] فهذه أربعة: حمد مطلق، أو مقيد بشأن التنزيه، أو بنعمة الإيجاد، أو الإمداد، وما وقع هنا في إظهار تجلياته، من أرضه وسماواته، ولطائف ملائكته، فإن ذلك كله من نور جبروته.
وقوله تعالى: {يَزِيدُ في الخلق ما يشاء} قال القشيري: يقال: هو الفهم عن الله، أو السخاء والجود، أو: الرضا بالتقدير، أو: علو الهمة، أو: التواضع في الشرف، أو: العفة في الفقر، أو: الظَرفُ أي: الظرافة في الشمائل، أو: أن يكون مُحَبباً في القلوب، أو: خفة الروح، أو: تحرُّر القلب عن رِقِّ الحرمان أي بالوقوف مع الأكوان أو: ألا يطْلُب لنفسه منزلةً في الدارين أي: بأن يكون عبد الله حقيقة. اهـ. ملخصاً.