فصل: تفسير الآية رقم (2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (2):

{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)}
الحق جلّ جلاله: {ما يَفْتَح اللهُ للناسِ من رحمة} أي: ما يطلق ويرسل من رحمة، كنعمة، ومطر، وأمن، وعافية، ورزق، وعلم، ومعرفة، ونبوة، وغيرها، {فلا مُمسِكَ لها} فلا أحد يقدر على إمساكها وردها، واستعير الفتح للإطلاق؛ لأنه مسبب عنه. ونكّر الرحمة للإشاعة والإبهام، كأنه قال: من أيّ رحمة كانت، فتشمل نعمة الدفع والجلب، كدفع المحن وجلب المنن. والاعترافُ بالمنعم من تمام النعمة، والأمران مدرجان في الفتح والإمساك، {وما يُمْسِكْ} أي: يمنع ويحبس من ذلك {فلا مُرسل له} فلا مُطلق له {من بعده} من بعد إمساكه. وأنث الضمير الراجع إلى الاسم المتضمِّن معنى الشرط على معنى الرحمة، وذكّره؛ حملاً على لفظ المرجوع إليه؛ إذ لا تأنيث فيه؛ لأن الأول فسّر بالرحمة، فحسن اتباع الضمير التفسير، ولم يفسر الثاني فتُرك على أصل التذكير.
وعن معاذ رضي الله عنه مرفوعاً: «لا تزال يدُ الله مبسوطة على هذه الأمة ما لم يرفُقْ خيارُهم بشرارهم، ويُعظّمْ بَرُّهُم فاجرَهم، وتعِنْ قراؤهم أمراءهم على معصية الله. فإذا فعلوا ذلك نزع الله يده عنهم» قال ابن عرفة: يُؤخذ من قوله تعالى: {وما يُمسك...} أن العدم السابق الإضافي متعلق للقدرة، وجعله بعض الأصوليين متعلقاً للإرادة أيضاً، وذلك لأن المصحح للتعلُّق الإمكان. اهـ. قال الأُبي: لا دليل في الآية؛ لاحتمال أن يكون التقدير: وما يريد إمساكه، فيكون من متعلقات الإرادة، ويحتمل: وما يُمسك عن الإرسال بعد وجوده، كإمساك الماء عن النزول بعد خلقه في السحاب. اهـ. {وهو العزيزُ} الغالب، القادر على الإرسال والإمساك. {الحكيمُ} الذي يُرسل ويُمسك، بما تقتضي الحكمة إرساله، أو إمساكه.
الإشارة: ما يفتح الله لقلوب عباده من نفحات، وواردات، وإلهامات، وعلوم لدنية، وحِكَم ربانية، وتعرفات جمالية وجلالية، فلا ممسك لها، بل الله يفتح على مَن يشاء، ويسد الباب في وجه مَن شاء. وسدُّ الباب في وجه العبد عن معرفته الخاصة، علامته: عدم إيصاله إلى أوليائه. فكل مَن وصله إليهم، وصَحِبهم، وعظَّمهم، وخدمهم، فقد فتح الله له الباب في وصوله إليه، وكل مَن نكبه عنهم، ولم يصحبهم، كما ذكر، فقد سُدّ الباب في وجهه عن معرفته العيانية. وفي الحكم: (سبحان مَن لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا مَن أراد أن يوصله إليه). وما يُمسك من ذلك فلا مرسل له من بعده، ولو صلّى وصام ألف عام. قال القشيري: ما يلوح لقلوب العارفين من أنوار التحقيق لا سحاب يستره، ولا ضباب يقهره. ويقال: ما يلزم قلوبَ أوليائه وأحوالهم من التيسير فلا مُمسك له، والذي يمنع من أعدائه بسبب ما يُلقيهم فيه من انغلاق الأمور واستصعابها فلا مُيَسِّرَ له من دونه. اهـ. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (3- 4):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)}
قلت: {غيرُ الله}: من رفعه فنعت للمحل، أي: هل خالق غير الله، ومن جره: فنعت للفظ. و{يرزقكم}: إما استئناف، أو: صفة ثانية لخالق، و{لا إله إلا هو}: مستأنفة، لا محل لها.
يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها الناس اذكروا نعمةَ اللهِ عليكم} باللسان والقلب، وهي التي تقدمت، من بسط الأرض كالمهاد، ورفع السماء بلا عماد، وإرسال الرسل للهداية والإرشاد، والزيادة في الخلق، وفتح أبواب الرزق. ثم نبَّه على أصل النعم، وهو توحيد المُنْعم، فقال: {هل من خالق غيرُ اللهِ يرزقكم من السماء} بالمطر {والأرض} بالنبات، بل لا خالق يرزق غيره، {لا إِله إِلا هو فأنى تُؤفكون} فمن أيِّ وجه تُصرفون عن التوحيد إِلى الشرك.
ثم سلَّى نبيه عن صدف قومه عن شكر المُنعم بقوله: {وإِن يُكذِّبوك فقد كُذِّبتْ رسلٌ مِن قبلك} فلك فيهم أُسوة، فاصبر كما صبروا. وتنكير {رسل} للتعظيم، المقتضي لزيادة التسلية، والحث على المصابرة، أي: فقد كُذِّبت رسل عظام، ذوو عدد كثير، وأولو آيات عديدة، وأهل أعمار طوال، وأصحاب صبر وعزم. وتقدير الكلام: وإن يكذبوك فتأسّ بتكذيب الرسل قبلك؛ لأن الجزاء يعقب الشرط، ولو أجري على الظاهر، لكان الجزاء مقدماً على الشرط؛ لأن تكذيب الرسل سابق، فَوضعَ {فقد كُذّبت رسل من قبلك} موضع فتأسّ، استغناءً بالسبب عن المسبب. {وإِلى الله تُرجع الأمورُ} وهو كلامٌ مشتمل على الوعد والوعيد، من رجوع الأمور إلى حكمه، ومجازاة المكذِّب والمكذَّب بكل ما يستحقه في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالنصر والعز لأهل الحق، وبالذل والإهانة لأهل التكذيب، وفي الآخرة معلوم، فالإطلاق أحسن من التقييد بالآخرة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ذكر النعمة هو أن ينظر العبد، ويتفكر في نفسه، فيجد نفسه مغروقة في النعم الظاهرة والباطنة. وقد تقدّم تعدادها في لقمان. وليتفكر في حالته الماضية، فقد كان جاهلاً، فعلَّمه الله، ضالاًّ، فهداه الله، غافلاً، فأيقظه الله، عاصياً، فوفقه الله، إلى غير ذلك من الأحوال السنية. ولينظر أيضاً إلى مَن تحته مِن العباد، فيجد كثيراً مَن هو أسوأ منه حالاً ومقاماً، فيحمد الله ويشكره. قال صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى مَن هو تحتكم ولا تنظروا إلى مَن فوقَكم فهو أَجْدَرُ ألا تَزْدَرُوا نعمةَ الله عليكم» وحمله المحققون على العموم في الدين والدنيا. ذكره ابن عباد في الرسائل وغيره.
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: تذاكروا النعم؛ فإن ذكرها شكر. اهـ. وقال القشيري: مَنْ ذَكَرَ نعمَته فصاحبُ عبادةٍ، ونائِلُ زيادة، ومَن ذَكَرَ المُنْعِمَ فصاحبُ إرادة، ونائل زيادة، ولكنْ فرقٌ بين زيادة وزيادةً، هذا زيادته في الدارين عطاؤه، وهذا زيادته لقاؤه، اليومَ سِرًّاً بِسِرٍّ، من حيث المشاهدة، وغداً جَهْراً بِجَهْرٍ، من حيث المعاينة. اهـ.
قلت: مَن تحقق بغاية الشهود لم يبقَ له فرق بين شهود الدارين؛ إذ المتجلي واحد. ثم قال: والنعمة على قسمين: ما دَفَعَ من المِحَن، وما وضع من المِنَن، فَذِكْرُه لما دَفَعَ عنه يوجب دوامَ العصمة، وذكره لما نَفَعَه به يوجب تمام النعمة، {هل من خالق غير الله...}؟ فائدة هذا التعريف بوحدانيته، فإذا عَرَفَ أنه لا رازق غيره؛ لم يُعلِّق قلبَه بأحدٍ في طلب شيءٍ. وتَوَهم شيء من أمثاله وأشكاله، ويستريح لشهود تقديره، ولا محالة يُخْلِصُ في توكله وتفويضه. اهـ.
ثم قال في قوله: {وإِن يُكذِّبوك...} الآية: وفي هذا إشارة للحكماء، وأرباب القلوب، مع العوامِّ والأجانب عن هذه الطريقة، فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل، وأهل الحقائق منهم أبداً في مقاساة الأذية، إلا بسَتْر حالهم عنهم، والعوام أقرب إلى هذه الطريقة من القُرَّاءِ المتعمقين، والعلماء المتجمدين، الذين هم لهذه الأصول منكرون. اهـ.

.تفسير الآيات (5- 7):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها الناسُ إِن وعدَ الله} بالبعث والجزاء {حق} أي: كائن لا محالة، فاستعدُّوا للقائه، {فلا تَغُرنَّكم الحياةُ الدنيا} لا تخدعنكم زخارف الدنيا الغرارة، ولا يُذهلنكم التمتُّع بها، والتلذُّذ بملاذها، والاشتغال بجمعها واحتكارها، عن التأهُّب للقاء الله، وطلب ما عنده. وفي الحديث: «فلا تخدعنكم زخارف دنيا دنية، عن مراتب جنات علية، فكأنْ قد كشف القناع، وارتفع الارتياب، ولاقى كل امرئ مستقره، وعرف مثواه ومنقلبه» {ولا يغرنكم بالله الغرورُ} أي: الشيطان، فإنه يُمنِّيكم الأماني الكاذبة، ويقول: إن الله غني عن عبادتك وعن تكذيبك. أو: إن الله غفور لمَن عصاه.
{إِنَّ الشيطانَ لكم عدوٌّ} ظاهر العداوة، فعل بأبيكم ما فعل، وأنتم تعاملونه معاملة الحبيب الناصح، {فاتخِذوه عدواً} فلا تقبلوا غروره في عقائدكم وأفعالكم، وكُونوا على حذر منه في جميع أحوالكم؛ إذ لا يوجد منه إلا ما يدل على عداوته في سركم وجهركم.
قال الورتجبي: إنه عدو؛ لأنه من عالم القهر خُلق، ونحن من عالم اللطف خُلقنا. والطبعان متخالفان أبداً، لأن القهر واللطف تسابقا في الأزل، فسبق اللطفُ القهر، فعداوته من جهة الطبع الأول، والجهل بالعصمة، وأنوار التأييد والنصرة، ومَن لا يعرفه بما وصفنا، كيف يتخذه عدواً؟ وهو لا يعرف مكائده، ولا يعرف مكائده إلا وليّ أو صدِّيق. اهـ.
ثم خطّأ مَن اتبعه؛ بأن غرضه أن يورد شيعَته موارد الهلاك، بقوله: {إِنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} فهو تقرير لعداوته، وبيان لغرضه في دعوى شيعته إلى اتباع الهوى، والركون إلى الدنيا، أي: إنما يدعوهم إلى الهوى، ليكونوا من أهل النار.
ثم بيَّن مآل مَن اتبعه ومَن عاداه، فقال: {الذين كفروا لهم عذاب شديد} أي: فمَن أجابه إلى ما دعي فله عذاب شديد؛ لأنه صار من حزبه وأتباعه، {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} ولم يجيبوه، ولم يصيروا من حزبه، بل عادوه، {لهم مغفرةٌ وأجر كبير} لكبر جهاده ودوامه.
الإشارة: وَعْد الله هنا عام، وكله حق، واجب الوقوع، لا يتخلّف، فيصدق بوعد الرزق، وكفاية مَن انقطع إليه عن الخلق، لقوله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] وتولى مَن أصلح حالَه لقوله: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196] ويصدق بإثابة المطيع، وعتاب المعاصي، أو حلمه عنه، وغير ذلك من المواعد كلها، فيجب على العبد كفه عن الاهتمام بالرزق، وخوف الخلق، والتشمير في الطاعة، والفرار من المعصية، إِنْ كان له ثقة بوعد ربه، وإلا فالخلل في إيمانه.
وقوله تعالى: {إِن الشيطان لكم عدو...} إلخ، قوم فهموا من الخطاب أنهم أُمروا بعداوة الشيطان، فاشتغلوا بعداوته ومحارتبه، فشغلهم ذلك عن محبة الحبيب، وقوم فهموا من سر الخطاب: إن الشيطان لكم عدو، وأنا لكم حبيب، فاشْتَغلُوا بمحبة الحبيب، فكفاهم عداوة العدو.
قيل لبعضهم: كيف صُنعك مع الشيطان؟ فقال: نحن قوم صرفنا هِممنا إلى الله، فكفانا مَن دونه. فالشيطان كالكلب إن اشتغلت بدفعه مزّق الثياب، أو قطع الإهاب، وإن رفعته إلى مولاه كفاك شره. وكذلك النفس إن اشتغلت بتصفيتها ومجاهدتها على الدوام شغلتك عن ذكر الله، والفناء فيه، ولكن الدواء هو الغيبة عنها، والاشتغال بالله دائماً، فإذا أظهرتْ رأسها بقيام شهوتها، دُقّه، بعكس مرادها، وغِبْ عنها في ذكر الله. ومن حِكم شيخنا البوزيدي رضي الله عنه: «انس نفسك بالله، واعتمد على فضل الله، وامتثل شيئاً ما، وينوب الله». وفي الحكم العطائية: «إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده». وقال أيضاً: «وحرّك عليك النفس ليدون إقبالك عليه». وقال: «لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك، ومحو دعاويك، لم تصل إليه أبداً. ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه، غطى وصفك بوصفه، ونعتك بنعته، فوصلك بما منه إليك، لا بما منك إليك».

.تفسير الآية رقم (8):

{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)}
قلت: {أفمن}: مبتدأ حُذف خبره، أي: كمن هداه الله، أو ذهبت نفسك عليه حسرات. و{حسرات}: مفعول له. وجَمعها لتضاعف اغتمامه، أو تعدُّد مساوئهم. و{عليهم}: صلة لتذهب، كما تقول: هلك عليه حُبًّا، ومات عليه حُزناً. ولا يتعلق بحسرات؛ لأن المصدر لا يتقدَّم عليه صلته، إلا أن يتسامح في الجار والمجرور.
يقول الحق جلّ جلاله: {أفمن زُيّن له سُوءُ عمله} بأنْ غلَب هواه على عقله، وجهله على علمه، حتى انعكس رأيه، {فرآه حَسَناً} فرأى الباطل حقًّا، والقبيح حسناً، كمَن هداه الله واستبصر، فرأى الحق حقًّا، والباطل باطلاً، فتبع الحق، وأعرض عن الباطل، ليس الأمر كذلك، {فإِن الله يُضِلُّ من يشاء ويهدي من يشاء} فمَن أضله رأى الباطل حقًّا، فتبعه، ومَن هداه رأى الباطل باطلاً، فاجتنبه، والحق حقًّا فاتبعه. {فلا تَذْهَبْ نفسُك عليهم حسرات} أي: فلا تهلك نفسك عليهم للحسرات على غيهم وإصرارهم على التكذيب، فإن أمرهم بيدي، وأنا أرحم بهم منك، فإنما عليك البلاغ، وعلينا الحساب. {إِن الله عليم بما يصنعون} فيجازيهم عليه، وهو وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم.
الإشارة: إذا أراد الله إبعاد قوم غطّى نور بصيرتهم بظلمة الهوى فيُزيّن في عينهم القبيح، ويستقبح المليح، فيرون القبيح حسناً، والحسن قبيحاً، كما قال الشاعر:
يُغمى على المرء في أيام مِحنته ** حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن

قال القشيري: ومعنى التزيين؛ كالكافر، يَتَوَهَّمُ أنَّ فعله حَسَنٌ، وهو عند الله من أقبح القبيح، ثم الراغب في الدنيا يجمع حلالها وحرامها، ويحوّش حُطَامها، لا يتفكر في زوالها، ولا في ارتحاله عنها من قبل كمالها، ولقد زيَّن له سوء عمله، والذي يتبع الشهوات يبيع مؤبد راحته في الجنة، بمتابعة شهوة ساعة، فلقد زُين له سُوءُ عمله، والذي يُؤيِرُ على ربِّه شيئاَ من المخلوقات، فهُو من جملتهم، والذي يتوهَّمُ أنه إذا وَجَدَ النجاة والدرجات في الجنة فقد اكتفى، فقد زُيِّن له سوءُ عمله، حيث تغافل عن حلاوة مناجاته. والذي هو في صحبة حظوظه، دون إيثار حقوق الله، فقد زُين له سوء عمله فرآه حسناً. اهـ.
قلت: وكذلك مَن وقف مع الكرامات والمقامات، وحلاوة الطاعات، دون درجة المشاهدة، فقد زُين له سوء عمله. والحاصل: كل مَن وقف مع شيء، دون تحقيق الفناء في الذات، فهو مُزيَّن له سوء عمله. وكل مَن لم يصحب الرجال فهو غالط، يظن أنه واصل، وهو منقطع في أول البدايات. وبالله التوفيق. وقوله تعالى: {فلا تَذهب نفسك عليهم حسرات}، كذلك يقال للواعظ، إذا رأى إدبار الخلق، وعدم تأثير الوعظ فيهم، فليكتفِ بعلم الله فيهم، ولا يتأسّف على أحد، فإن التوفيق بيد الله.

.تفسير الآية رقم (9):

{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)}
قلت: {كذلك}: خبر مقدّم، و{النشور}: مبتدأ.
يقول الحق جلّ جلاله: {واللهُ الذي أرسلَ الرياحَ} وفي قراءة بالإفراد، للجنس، {فتُثير سحاباً} أي: تزعجه، وعبَّر بالمضارع على حكاية الحال الماضية استحضاراً لتلك الصورة البديعة، التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب، الدالة على كمال القدرة وباهر الحكمة. {فسُقناه إِلى بلدٍ ميتٍ} لا نبات فيه، {فأحيينا به} أي: بالمطر النازل منه {الأرضَ بعد موتها} بعد يبسها. وعدل من الغيبة إلى التكلم؛ لأنه أدخل في الاختصاص؛ لِمَا فيه من مزيد بديع الصنع، {كذلك النشورُ} أي: مثل إحياء الموات نشور الأموات. وقيل: يحيي الله الخلق بماء يرسله من تحت العرش، كمنيّ الرجال، فتنبت به الأجسادُ في قبورها، ثم يرسل الأرواح فتدخل في أشباحها. قال أبو رزين: قلت: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ فقال: «هل مررت بواد أهلك مَحْلاً؟ أي جدباً» قلت: نعم، قال: «فكذلك يُحيي الله الموتى، وتلك آية الله في خلقه».
الإشارة: والله الذي أرسل رياح الهداية، فتزعج سحاب الغين عن قلوب أهل الهداية، فسقناه أي: ريح الهداية إلى قلب ميت بالغفلة والجهل بالله، فأحيينا بالوارد الناشئ عن ريح الهداية أرضَ النفوس، بالنشاط إلى العبادة، والذكر، والمعرفة، بعد موتها بالغفلة والقسوة، كذلك النشور. وذلك عِزها.