فصل: تفسير الآية رقم (45):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (45):

{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)}
يقول الحق جلَ جلاله: {ولو يُؤاخِذُ اللهُ الناسَ بما كسبوا} بما اقترفوا من المعاصي {ما ترك على ظهرها} على ظهر الأرض؛ لأنه جرى ذكرها في قوله: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ في السَّمَاواتِ وَلاَ في الأَرْضِ إِنَّهُ} [فاطر: 44]، {من دابةٍ} من نسمة تدبُّ عليها. قيل: أهل المعاصي فقط من الناس، وقيل: من الجن والإنس. والمشهور: أنه عام في كل ما يدب؛ لأن الكل خُلق للآدمي. وعن ابن مسعود: (إِن الجُعل ليُعذب في جحره بذنب ابن آدم)، يعني ما يصيبه من القحط، بشؤم معاصيه. وقال أبو هرير: إن الحبارى لتموت هزالاً في وكرها بظلم الظالم. اهـ.
قال القشيري: لو عَجَّل لهم ما يستوجبونه من الثواب والعقاب، لم تَفِ أعمارُهم القليلةُ، وما اتسعت أفهامُهم القصيرة له، فأخَّرَ ذلك ليوم الحَشْرِ، فإِنَّه طويل، والله على كل شيء قدير، بأمور عباده بصير، وإليه المصير ه وهذا معنى قوله: {ولكن يُؤخرهم إِلى أجَلٍ مسمىً} هو يوم القيامة، {فإِذا جاء أجَلُهُم} أجل جمعهم، {فإِن الله كان بعباده بصيراً} أي: لن يخفى عليه حقيقة أمرهم، وحكمة حكمهم، فيجازيهم على قدر أعمالهم.
الإشارة: تعجيل العقوبة في دار الدنيا للمؤمن إحسان، وتأخيرها لدار الدوام استدراج وخذلان. فكل مَن له عناية سابقة؛ عاتبه الله في الدنيا، بمصيبة في بدنه، أو ماله، أو في أهله، ومَن لا عناية له أُخرت عقوباته كلها لدار الجزاء. نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه، وبسيدنا محمد نبيه صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه.

.سورة يس:

.تفسير الآيات (1- 4):

{يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يس} أيها السيد المفخم، والمجيد المعظم، {و} حق {القرآن الحكيم} المحكم {إِنك لمن المرْسلين} وفي الحديث: «إن الله تعالى سمّاني في القرآن بسبعة أسماء: محمد، وأحمد، وطه، ويس، والمزّمّل، والمدّثر، وعبد الله»، قيل: ولا تصح الاسمية في يس؛ لإجماع القراء السبعة على قراءتها ساكنة، على أنها حروف هجاء محكية، ولو سمي بها لأعربت غير مصروفة، كهابيل وقابيل، ومثلها {طس} و{حم} كما قال الشاعر:
لما سمى بها السورة ** فهلا تلى حميمَ قبل التكلم

فدلَّ على أنها حروف حال التلاوة. نعم قد قرئ {يسُ} بضم النون، ونصبها، خارج السبعة، وعلى ذلك تخرج بأن اللفظ اسم للسورة، كأنه قال: اتل يس، على النصب، وعلى أنها اسم من أسمائه صلى الله عليه وسلم، وتوجه في قراءة الضم على النداء. اهـ. قلت والظاهر إنها حروف مختصرة من السيد، على طريق الرمز بين الأحباء، إخفاء عن الرقباء.
ثم أقسم على رسالته، ردّاً على مَن أنكره بقوله: {والقرآنِ الحكيمِ} أي: ذي الحكمة البالغة، أو: المحكم الذي لا ينسخه كتاب، أو: ذي كلام حكيم، فوصف بصفة المتكلم به، {إِنك لَمِنَ المرسلين} مِن أعظمهم وأجلِّهم. وهو ردٌّ على مَن قال من الكفار: {لَسْتَ مُرْسَلاً} [الرعد: 43]. {على صراطٍ مستقيمٍ} أي: كائناً على طريق مستقيم، يوصل مَن سلكه إلى جوار الكريم، فهو حال من المستكن في الجار والمجرور. وفائدته: وصف الشرع بالاستقامة صريحاً، وإن دلَّ عليه: {إِنك لمن المرسلين} التزاماً، أو: خبر ثان لإن. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال القشيري: يس، معناه: يا سيد رقَّاه أشرف المنازل، وإن لم يسم إليه بطرق التأميل، سُنَّة منه سبحانه أنه لا يضع أسراره إلا عند مَن تقاصرت الأوهام عن استحقاقه، ولذلك قَضوا بالعَجَب في استحقاقه، وقالوا: كيف آثر يتيم أبي طالب من بين البرية، ولقد كان صلوات الله عليه في سابق اختياره تعالى مقدّماً على الكافة من أشكاله وأضرابه، وفي معناه قيل:
هذا وإن أصبح في أطمار ** وكان في فقر من اليسار

آثرُ عندي من أخي وجاري ** وصاحب الدرهم والدينار

وصاحب الأمر مع الإكثار

قال الورتجبي: قيل: الياء: الياء تُشير إلى يوم الميثاق، والسين تُشير إلى سره مع الأحباب، فقال: بحق يوم الميثاق، وسرى مع الأحباب، وبالقرآن الحكيم، إنك لَمن المرسلين يا محمد. اهـ.
وجاء: «إن قلب القرآن يس، وقلبه: {سلام قولاً من رب رحيم}» قلت: وهو إشارة إلى سر القربة، الداعي إليه القرآن، وعليه مداره، وحاصله: تسليم الله على عباده كِفاحاً، لحياتهم به، وأنسهم بحديثه وسره. وقيل: لأن فيه تقرير أصول الدين. قاله في الحاشية الفاسية.

.تفسير الآيات (5- 11):

{تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)}
قلت: {تنزيل}: خبر، أي: هو تنزيل. ومَن نصبه فمصدر، أي: نُزل تنزيل، أو: اقرأ تنزيل، وقرئ بالجر، بدل من القرآن. و{ما أُنذر}: نعت لقوم. و{ما}: نفي، عند الجمهور، أو: موصولة مفعولاً ثانياً لتُنذر، أي: العذاب الذي أُنْذرَه آباؤهم، أو: مصدرية، أي: لتنذر قوماً إنذاراً مثل إنذار آبائهم.
يقول الحق جلّ جلاله: هذا أو هو {تنزيل العزيز} أي: الغالب القاهر بفصاحة نظم كتابه أوهامَ ذوي العناد، {الرحيم} الجاذب بلطافة معنى خطابه أفهامَ ذوي الرشاد. أنزلناه {لتُنذر} به {قوماً} أو: أرسلناك لتنذر قوماً غافلين، {وما أُنذر آباؤهم} أي: غير منذر آباؤهم، كقوله: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} [السجدة: 3] وقوله: {ومَآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ} [سبأ: 44] أو: لتُخوف قوماً العذاب الذي أُنذر به آباؤهم، لقوله: {إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} [النبأ: 40]. أو: لتنذر قوماً إنذار آبائهم، وهو ضعيف؛ إذ لم يتقدم لهم إنذار. {فهم غافلون} إن جعلت {ما} نافية فهو متعلق بالنفي، أي: لم ينذروا فهم غافلون، وإلا فهو متعلق بقوله: {إنك لمن المرسلين} لتنذر قوماً، كقولك: أرسلته إلى فلان لينذره فهو غافل.
{لقد حقَّ القولُ على أكثرهم فهم لا يؤمنون} يعني قوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةٍ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] أي: تعلق بهم هذا القول، وثبت عليهم ووجب؛ لأنه عَلِمَ أنهم يموتون على الكفر. قال ابن عرفة: إنذارهم مع إخباره بأنهم لا يُؤمنون ليس من تكليف ما لا يطاق عقلاً وعادة، وما لا يطاق من جهة السمع يصح التكليف به، اعتباراً بظاهر الأمر، وإلا لزم أن تكون التكاليف كلها لا تطاق، ولا فائدة فيها؛ لأنَّ المكلفين قسمان: فمَن عَلِمَ تعالى أنه لا يؤمن فلا فائدة في أمره بالإيمان؛ إذ لا يطيق عدمه. اهـ. قلت: الحكمة تقتضي تكليفهم؛ لتقوم الحجة عليهم أو لهم، والقدرة تقتضي عذرهم. والنظر في هذه الدار التي هي دار التكليف للحكمة لا للقدرة.
ثم مثّل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى ارْعوائهم، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، وكالحاصلين بين سدّين، لا ينظرون ما قدّامهم ولا ما خلفهم، بقوله: {إِنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقانِ} معناه: فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها، {فهم مُقمَحُون} مرفوعة رؤوسهم إلى فوق، يقال: قمح البعيرَ فهو قامح؛ إذا روي فرفع رأسه، وهذا لأنّ طوق الغلّ الذي في عُنُق المغلول، يكون في ملتقى طرفيه، تحت الذقن، حلقة، فلا تخليه يطأطئ رأسه، فلا يزال مقمحاً. والغل: ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتعذيب.
والأذقان والذقن: مجتمع اللحيين. وقيل: {فهي} أي: الأيدي. وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين. وفي مصحف أُبي: {إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً} وفي بعضها: {في أيديهم فهي إلى الأذقان فهم مقمحون}.
{وجعلنا من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا} بفتح السين وضمها قيل: ما كان من عمل الناس فبالفتح، وما كان من خلق الله، كالجبل ونحوه، فبالضمّ، أي: جعلنا الموانع والعوائق محيطة بهم، فهم محبوسون في مطمورة الجهالة، ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل، {فأغشيناهم} أي: فأغشينا أبصارهم، أي: غطيناها وجعلنا عليها غشاوة، {فهم لا يُبصرون} الحق والرشاد.
وقيل: نزلت في بني مخزوم، وذلك أن أبا جهل حلف: لئن رأى محمداً يصلّي ليرضخنَّ رأسه، فأتاه وهو يصلّي، ومعه حجر، فلما رفع يده انثنت إلى عنقه، ولزق الحجرُ بيده، حتى فكّوه عنها بجَهد، فرجع إلى قومه، فأخبرهم، فقال مخزوميّ: أنا أقتله بهذا الحجر، فذهب، فأعمى الله بصره، فلم يَر النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وسمع قوله، فرجع إلى أصحابه، ولم يرهم حتى نادوه. وقيل: هي ذكر حالهم في الآخرة، وحين يدخلون النار، فتكون حقيقة. فالأغلال في أعناقهم، والنار محيطة بهم. والأول أرجح وأنسب؛ لقوله: {وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} أي: الإنذار وتركه في حقهم سواء؛ إذ لا هادي لمَن أضلّه الله.
رُوي أن عمر بن عبد العزيز قرأ الآية في غيلان القدريّ، فقال غيلان: كأني لم أقرأها قط، أُشهِدك أني تائب عن قولي في القدر. فقال عمر: اللهم إِنْ صَدَقَ فتُبْ عليه، وإن كذب فسلّطْ عليه مَن لا يرحمه، فأخذه هشام بن عبد الملك من غده، فقطع يديه ورجليه، وصلبه على باب دمشق.
ثم ذكر مَن ينفعه الإنذار، فقال: {إِنما تُنْذِرُ مَن اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أي: إنما ينتفع بإنذارك مَن تبع القرآن {وخَشِيَ الرحمن بالغيب} وخاف عقاب الله قبل أن يراه، أو: تقول: نُزِّل وجود الإنذار لمَن لم ينتفع به منزلة العدم، فمَن لم يُؤمن كأنه لم يُنذر، وإنما الإنذار لمَن انتفع به. {فَبَشِّرْهُ بمغفرةٍ} وهو العفو عن ذنوبه، {وأجرٍ كريمٍ} الجنة وما فيها.
الإشارة: كل مَن تصدّى لوعظ الناس، وإنذارهم، على فترة من الأولياء، يقال له: لِتُنذر قوماً ما أُنذر آباؤهم فهم غافلون. ويقال في حق مَن سبق له الإبعاد عن طريق أهل الرشاد: لقد حقَّ القولُ على أكثرهم، فهم لا يؤمنون. إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً تمنعهم من حط رؤوسهم لأولياء زمانهم، وجعلنا من بين أيديهم سدًّا: موانع تمنعهم من النهوض إلى الله، ومن خلفهم سدّاً: علائق تردهم عن حضرة الله، فأغشيناهم: غطَّينا أعين بصيرتهم، فلا يرون خصوصية أحد ممن يدلّ على الله، فهم لا يُبصرون داعياً، ولا يُلبون منادياً، فالإنذار وعدمه في حقهم سواء، ومعالجة دائهم عناء. قال الورتجبي: سد ما خلفهم سد قهر الأزل، وسد ما بين أيديهم شقاوة الأبد، فبنفسه منعهم من نفسه. لا جرم أنهم في غشاوة القسوة، لا يبصرونه أبداً. اهـ. إنما ينتفع بتذكير الداعين إلى الله مَن خشع قلبه بذكر الله، واشتاقت رُوحه إلى لقاء الله، فبشِّره بمغفرة لذنوبه، وتغطية لعيوبه، وأجر كريم، وهو النظر إلى وجه الله العظيم.

.تفسير الآية رقم (12):

{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّا نحنُ نحيي الموتَى} أي: نبعثهم بعد مماتهم، أو: نُخرجهم من الشرك إلى الإيمان. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: لَمَّا أمر بالتبشير بالمغفرة، والأجر الكريم، لمَن انتفع بالإنذار، أعلم بحكم مَن لم يؤمن، ولم ينتفع بالإنذار، وأنه يبعثهم، وإليه حكمهم، كما قال: {إِنَّمَا يَستَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ} [الأنعام: 36]. اهـ.
{ونكتُبُ ما قدّموا} ما أسلفوا من الأعمال الصالحات وغيرها، {وآثارَهُمْ} ما تركوه، بعدهم من آثار حسنة، كعِلْم علَّموه، أو كتاب صنَّفوه، أو حبس حبسوه، أو رباط أو مسجد صنعوه. أو آثار سيئة، كبدعة ابتدعوها في الإسلام. ونحوه قوله تعالى: {يُنَبَّؤُاْ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13] أي: قدّم من عمله وأخّر من آثاره. وفي الحديث: «مَن سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً، فعمل بها من بعده، كان له أجرُها ومثل أجر مَن عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن يَنْقُص من أجورِهِمْ شيءٌ. ومَن سَنَّ في الإسلام سُنَّة سيئةً فعليه وزرها، ووزرُ مَن عمل بها، من غير أن يَنْقُص من أوزارهم شيءٌ» وفي خبر آخر: «سبع تجري على العبد بعد موته: مَن غرس غرساً، أو حفر بئراً، أو أجرى نهراً، أو علَّمَ علماً، أو بنى مسجداً، أو ورَّث مصحفاً، أو ولداً صالحاً» انظر المنذري. وهذا كله داخل في قوله تعالى: {وآثارهم} قيل: آثارهم: خطاهم إلى المساجد، للجمعة وغيرها.
{وكل شيءٍ أحصيناه} حفظناه، أو عددناه وبيَّنَّاه {في إِمامٍ} كتاب {مبينٍ} اللوح المحفوظ؛ لأنه أصل الكتب وإمامها، وقيل: صحف الأعمال. والمراد: تهديد العباد بإحصاء ما صنعوه من خير أو شر، لينزجروا عن معاصي الله، وينهضوا إلى طاعة الله.
الإشارة: إنّا نحن نُحيي القلوب الميتة بالغفلة والجهل، فنحييها بالعلم والمعرفة، ونكتب ما قدّموا من العلوم، والأسرار والمعارف، وآثارهم، أي: الأنوار المتعدية إلى الغير، ممن اقتبس منهم وأخذ عنهم. قال القشيري: نُحيي قلوباً ماتت بالقسوة، بما نُمطر عليها من صنوف الإقبال والزلفة، ونكتب ما قدموا {وآثارهم} خطاهم إلى المساجد، ووقوفهم على بساط المناجاة معنا، وما ترقرقَ من دموعهم على عَرَصات خدودهم، وتَصَاعُدَ أنفاسهم. اهـ.

.تفسير الآيات (13- 19):

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)}
قلت: {اضرب}: يكون بمعنى: اجعل، فيتعدى إلى مفعولين، و{مَثَلاً}: مفعول أول، و{أصحاب} مفعول ثان، أو: بمعنى: مثل، من قولهم: عندي من هذا الضرب كذا، أي: من هذا المثال. و{أصحاب}: بدل من مَثَلاً، وإذ: بجل من {أصحاب}. و{أَئِن ذُكِّرتُم}: شرط، حُذف جوابه.
يقول الحق جلّ جلاله: {وَاضْرِبْ لهم} أي: لقريش {مَثلاً أصحابَ القرية} أي: واضرب لهم مثل أصحاب لهم مثل أصحاب القرية أنطاكية أي: اذكر لهم قصة عجيبة؛ قصة أصحاب القرية، {إِذ جاءها} أي: حين جاءها {المرسلون} رُسل عيسى عليه السلام، بعثهم دعاةً إلى الحق، إلى أهل أنطاكية. وكانوا عبدة أوثان.
{إِذ أرسلنا}: بدل من {إذ} الأولى، أي: إذ بعثنا {إِليهم اثنين} بعثهما عيسى عليه السلام، وهما يوحنا وبولس، أو: صادقاً وصدوقاً، أو غيرهما. فلما قربا إلى المدينة، رأيا شيخاً يرعى غنيمات له، وهو حبيب النجار، فسأل عن حالهما، فقالا: نحن رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن؟ فقال: أمعكما آية؟ فقالا: نشفي المريض، ونُبرئ الأكمه والأبرص، وكان له ابن مريض منذ سنين، فمسحاه، فقام، فآمن حبيب، وفشا الخبر، فَشُفِي على أيديهما خلق كثير، فدعاهما الملك، وقال: ألنا إِلهٌ سوى آلهتنا؟ فقالا: نعم، مَن أوجدك وآلهتك، فقال: قُوما حتى أنظر في أمركما، فحبسهما.
ثم بعث عيسى عليه السلام شمعونَ، فدخل متنكراً، وعاشر حاشية الملك، حتى استأنسوا به، ورفعوا خبره إلى الملك، فاستأنس به. فقال له ذات يوم: بلغني أنك حبستَ رجلين، فهل سمعتَ قولهما؟ قال: لا، فدعاهما. فقال شمعون: مَن أرسلكما؟ فقالا: الله الذي خَلَق كل شيء، ورَزَق كل حيّ، وليس له شريك. فقال: صِفاه وأوجزا، فقالا: يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، قال: وما آيتكما؟ قالا: ما يتمنّى الملك، فدعا بغلام أكمه، فدعَوا الله، فأبصر الغلامُ، فقال شمعون للملك: أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا، فيكون لك وله الشرف؟ فقال: ليس لي عنك سرٌّ، إن إلهنا لا يُبصر ولا يَسمع، ولا يضر، ولا ينفع. فقال: إِنْ قدر إلاهكما على إحياء ميّت آمنا، فدعَوا بغلام مات منذ سبعة أيام، فقام، فقال: إني دخلت في سبعة أودية من النار لِمَا مت عليه من الشرك، وأنا أُحذّركم ما أنتم عليه! فآمِنوا. قال: وفُتحت أبواب السماء، فرأيت شابّاً حسن الوجه، يشفع لهؤلاء الثلاثة، قال الملك: مَن هم؟ قال: شمعون وهذان، فتعجّب الملك. فلمّا رأى شمعون أن قوله أثّر فيه، نصَحه وآمن، وآمن قوم، ومَن لم يؤمن صاح عليهم جبريل، فهلكوا.
كما سيذكره بقوله: {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون}.
وهذا معنى قوله هنا: {فَكذَّبُوهُما} أي: فكذّب أصحابُ القرية المرسلين، {فعَزَّزْنَا}: قويناهما. وقرأ شعبة بالتخفيف، من: عزّه: غلبه، أي: فغلبنا وقهرنا {بثالثٍ} وهو شمعون، وترك ذكر المفعول به؛ لأنَّ المراد ذكر المعزّز به، وهو شمعون، وما لطف به من التدبير حتى عزّ الحق، وذلّ الباطل. وإذا كان الكلامُ مُنصبًّا إلى غرض من الأغرض جُعل سياقه له وتوجُّهه إليه كأنما سواه مرفوض. {فقالوا} أي: الثلاثة لأهلِ القرية: {إِنا إِليكم مُرْسَلُونَ} من عند عيسى، الذي هو من عند الله. وقيل: كانوا أنبياء من عند الله عزّ وجل أرسلهم إلى قرية، ويرجحه قول الكفرة: {ما أنتم إِلا بشرٌ مثلُنا} إذ هذه محاورة إنما تقال لمَن ادعى الرسالة، أي: ما أنتم إلا بشر، ولا مزية لكم علينا، {وما أنزلَ الرحمنُ من شيءٍ} أي: وحياً، {إِن أنتم إِلا تكْذِبون} فيما تدعون من الرسالة. {قالوا ربُّنا يعلمُ إِنا إِليكم لمرسَلون} أكَّد الثاني باللام دون الأول؛ لأن الأول مجرد إخبار، والثاني جواب عن إنكار، فيحتاج إلى زيادة تأكيد. و{ربنا يعلم} جارٍ مجرى القسم في التأكيد، وكذلك قولهم: شَهِد الله، وعَلِمَ اللهُ. {وما علينا إِلا البلاغُ المبينُ} أي: التبليغ الظاهر، المكشوف بالآيات الظاهرة الشاهدة بصحته.
{قالوا إِنا تَطَيَّرْنا بكم} تشاءمنا بكم. وذلك أنهم كرهوا دينهم، ونفرت منه نفوسهم. وعادة الجهّال أن يتيمّنوا بكل شيء مالوا إليه، وَقَبِلَتْهُ طباعُهم، ويتشاءموا بما نفروا عنه، وكرهوه، فإن أصابهم بلاء، أو نعمة، قالوا: بشؤم هذا، وبركة ذلك. وقيل: حبس عنهم المطر، فقالوا ذلك. وقيل: ظهر فيهم الجذام، وقيل: اختلفت كلماتهم. ثم قالوا لهم: {لئن لم تَنْتَهوا} عن مقالتكم هذه {لَنَرْجُمَنَّكُم} لنقتلنكم بالحجارة، أو: لنطردنّكم، أو: لنشتمنكم، {وَلَيَمَسَّنكم منا عذابٌ أليم} وليصيبنّكم منا عذاب الحريق، وهو أشد العذاب.
{قالوا} أي: الرسل {طائِرُكُم} سبب شؤمكم {معكم} وهو الكفر، {أَئِن ذُكِّرتُم} أي: وُعظتم، ودُعيتم إلى الإسلام تطيّرتم، وقلتم ما قلتم، {بل أنتم قوم مُّسْرِفُون} مجاوزون الحد في العصيان، فمن ثَمَّ أتاكم الشؤم، لا من قِبَلِ الرسل. أو: بل أنتم قوم مسرفون في ضلالكم وغيّكم، حيث تتشاءمون بمَن يجب التبرُّك به من رسل الله عليهم الصلاة والسلام.
الإشارة: إذا أرسل الله إلى قلب وليٍّ وارداً أولاً، ثم شكّ فيه، وَدَفَعَهُ، ثم أرسل ثانياً وَدَفَعَه، ثم عزّزه بثالث، وجب تصديقه والعمل بما يقول، وإلا وقع في العنت وسوء الأدب؛ لأن القلب إذا صفى من الأكدار لا يتجلّى فيه إلا الحق، وإلا وجب اتهامه، حتى يتبين وجهه. وباقي الآية فيه تسلية لمن قُوبل بالتكذيب من الأولياء والصالحين. وبالله التوفيق.