فصل: تفسير الآيات (41- 44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (41- 44):

{وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وآية لهم أنَّا حَمَلْنا ذُريتَهُم} أولادهم، الذين يبعثونهم إلى تجاراتهم، أو صبيانهم ونسائهم الذين يستصحبونهم؛ فإن الذرية تقع عليهن؛ لأنهن مزارعها. وتخصيصهم؛ لأن استقرارهم في السفن أشق، وتماسكهم فيها أعجب، أو خصهم؛ لضعفهم عن السفر، فالنعمة فيهم أظهر. فحملناهم {في الفلك المشحونِ}: المملوء، والظاهر: أن الضمير في {ذريتهم} للجنس. كأنه قال: ذُريات جنسهم ونوعهم. قال ابن عباس وجماعة: يريد بالذُريَّات المحمولين: أصحابَ نوح في السفينة، ويريد بقوله: {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون}: السفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة، وإياها عنى بقوله: {وإن نشأ نُغرقهم...} إلخ. وأما إطلاق الذرية على الآباء، فقال ابن عطية: لا يُعرف لغة، وإنما المراد بالذرية الجنس، أو حقيقة ما تقدّم. وعليه يكون قوله: {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} يراد به الإبل؛ فإنها سفن العرب.
{وإِن نشأ نُغْرِقُهم} إذا ركبوا سفن البحر، {فلا صَرِيخَ لهم} فلا مغيث، أو: لا مستغيث لهم، وهو أبلغ، أي: لم تبقَ لهم قدرة على الاستغاثة. {ولا هم يُنْقَذُونَ} ينجون من الموت، {إِلا رحمةً منا ومتاعاً إلى حينٍ} أي: لا ينقذون إلا لرحمة منا، لتمتيع بالحياة إلى انقضاء الأجل. فهما مفعولان له. وقال بعضهم: الاستثناء راجع لثلاث جمل: {نغرقهم}، {فلا صريخ لهم}، {ولا هم يُنقذون}.
الإشارة: إذا عامت أفكار العارفين، في بحار التوحيد، وأسرار التفريد، تلاطمت عليها أمواج الدهش من كبرياء الله، فإن سبق لها سابق عناية الاعتدال؛ أوت إلى سفينة الشريعة، بعد ركوبها في فلك الحقيقة، وإليه الإشارة في قوله: {حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون}. وإن لم تسبق له عناية، غَرِقَ في بحر الزندقة والإلحاد، كما قال تعالى: {وإن نشأ نُغرقهم فلا صريخ لهم} من شيخ كامل، ولا هم يُنقذون إلا رحمة منا ومتاعاً إلى حين الكمال، فيعتدل. قال القشيري: الآية إشارة إلى حَمْلِ الخَلْقِ في سفينة السلامة، في بحار التقدير، عند تلاطم أمواجها، بفنونٍ من التغيير والتأثير، وكم من عبدٍ غرق في أشغاله، في ليله ونهاره، لا يستريح لحظةً في كَدِّ أفعاله، ومقاساة التعب من أعماله، وجَمْعِ ماله، بنسيان عاقبته ومآلِه. ثم قال في قوله تعالى: {وإِن نشأ نُغرقهم}: لولا صفة جُوده وفَضْله؛ لَحَلَّ بهم من البلاء ما حَلَّ بأمثالهم، لكنه لحُسْنِ إفضاله، حفظهم في جميع أحوالهم. اهـ.

.تفسير الآيات (45- 47):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)}
قلت: جواب {إذا} محذوف، أي: أعرضوا، فدلّ عليه قوله: {معرضين}.
يقول الحق جلّ جلاله: {وإِذا قيل لهم} أي: كفار قريش: {اتقوا ما بين أيديكُم وما خلفَكُم} أي: ما تقدّم من ذنوبكم، وما تأخّر مما أنتم تعملونه بعدُ، أو: ما بين أيديكم: ما سلف من مثل الوقائع التي حلَّت بالأمم المكذبة قبلكم، وما خلفكم من أمر الساعة، أو: ما بين أيديكم من فتنة الدينا، وما خلفكم من عذاب الآخرة. {لعلكم تُرحمون} لتكونوا في رجاء رحمة الله، فإذا قيل لهم ذلك أعرضوا.
قال تعالى: {وما تَأتيهم من آيةٍ من آيات ربهم} الدالة على وحدانيته تعالى، وصدق رسوله، {إِلا كانوا عنها معرضين} لا يلتفتون إليها، ولا يرفعون لها رأساً، فـ من الأولى لتأكيد النفي، والثاني للتبعيض، أي: دأبهم الإعراض عن كل آية وموعظة.
{وإذا قيل لهم أَنفقوا مما رزقكم اللهُ} أي: تصدّقوا على الفقراء، {قال الذين كفروا} من مشركي مكة {للذين آمنوا أَنُطْعِمُ من لو يشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ} عن ابن عباس رضي الله عنه: كان بمكة زنادقة، فإذا أُمروا بالصدقة على المساكين، قالوا: لا والله، أيُفقره الله ونُطعمه نحن؟!. قيل: سبب الآية: أن قريشاً لَمّا أسلم ضعفاؤهم، قطعوا عنهم صِلاتهم، فندبهم بعضُ المؤمنين إلى ذلك، فقالوا تلك المقالة.
وقيل: إن قريشاً شَحَّتْ بسبب أزمة نزلت بهم على المساكين، مؤمِنهم وكافرهم، فندبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفقة على المساكين، فقالوا على سبيل الجهل: أَنُطعم قوماً أراد الله فقرهم وتعذيبهم. ومن أمثالهم: كن مع الله على المدبر، حتى كان الرجل يرعى إبله، فيجعل السِمَان في الخصب، والمهازيل في الجدب، فإذا قيل له في ذلك، قال: أُكرم ما أَكرم الله، وأُهين ما أهان الله. ويحتمل أن يكون قولهم ذلك استهزاءً، فكأنهم قالوا: لِمَ لا يرزقهم إلهك الذي تزعم.
قال الكواشي: قد يتمسّك بهذه الآية بعضُ البخلاء، فيقول: لا أُعطي مَن حرمه الله. وليس هذا بصحيح؛ لأن الله تعالى أغنى وأفقر، وجعل للفقير جزءاً من مال الغني كما يشاء. وفي الإحياء: أن المراد بالصدقة وشرعها: التخلُّص من رذيلة البخل، وذكل نفع يعود على المتصدق، بإخراجه عن حب الدنيا، وتعلُّق قلبه بها، الصادّ عن الله، وهؤلاء لم يفهموا حكمة الله، فقالوا ما قالوا. اهـ. ثم قال: {إِن أنتم إِلا في ضلال مبين} في أمركم لنا بالنفقة، أو في غير ذلك من دينكم، أو: يكون من قول الله تعالى للكفرة.
الإشارة: وإذا قيل للعامة: اتقوا ما بين أيديكم، من شدائد الدنيا، وما خلفكم، من أهوال الآخرة، لعلكم تُرحمون فيهما؛ فإن التقوى الكاملة تحفظ الرجل في حياته وبعد مماته، وربما يسري الحفظ إلى عقبه، كما هو مشاهد في عقب أولياء الله.
أو: إذا قيل لهم: اتقوا خواطر التدبير فيما بين أيديكم؛ إذ ليس أمره بيدكم، فجُل ما تبنيه من التدبير تهدمه رياح التقدير، وخواطر التدبير، فيما سلف قبلكم، إذ فيه تحصيل الحاصل، وتعطيل الوقت بلا فائدة. {لعلكم تُرحمون} بمقام الرضا، وسكون القلب وراحته تحت مجاري القضاء، أعرضوا وانهمكوا في أودية الغفلة والخواطر. وما تأتيهم من آية دالة على وحدانيته تعالى، وانفراده بالخلق والتدبير، إلا كانوا عنها معرضين.
قال القشيري: هذه صفة مَن سَيَّبَهم في أودية الخذلان، ووَسَمَهم بسِمَة الحرمان، وأصَمَّهم عن سماع الرُّشْد، وصَدَّهم بالخذلان عن سلوك القصد، فلا تأتيهم آيةٌ في الزَّجْرِ إلا قابلوها بإعراضهم، وتجافوا عن الاعتبار بها، على دوام انقباضهم، وإذا أُمِرُوا بالإنفاق والإطعام عارضوا بأنَّ الله رازقُ الأنام، وإذا شاءَ نَظَرَ إليهم بالإِنعام. اهـ.

.تفسير الآيات (48- 54):

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ويقولون} استهزاء: {متى هذا الوعْدُ} أي: وعد البعث والقيامة {إِن كنتم صادقين} فيما تقولون. خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قال تعالى: {ما ينظرون} ينتظرون {إِلا صيحةً واحدةً} هي: النفخة الأولى، {تأخذُهُم وهم يَخِصِّمُون} يختصمون، يخصم بعضهم بعضاً في المعاملات، لا يخطر ببالهم أمرها، فتأتيهم بغتة. وقرأ حمزة بسكون الخاء من: خصمه: إذا غلبه في الخصومة. وفتح الباقون، مع الاختلاس والنقل وعدمهما. {فلا يستطيعُون توصيةً} فلا يستطيعون أن يوصوا في أمورهم بشيء، {ولا إِلى أهلِهِم يَرجِعُون} ولا يقدرون على الرجوع إلى منازلهم، بل يموتون حيث يسمعون الصيحة.
{ونُفِخَ في الصُّور} النفخة الثانية، بعد خُلو الأرض أربعين سنة. والصور: القرن، أو: جمع صورة. {فإِذا هم من الأَجْدَاثِ} القبور {إِلى ربهم يَنْسِلُون} يُسرعون في المشي إلى المحشر.
{قالوا يا ويلنا مَن بَعَثَنَا} مَن أنشرنا {من مَّرْقَدِنا} مضجعنا؟ قال مجاهد وأُبيّ بن كعب: للكفار هجعة يجدون فيها طعم النوم، فإذا صيح بأهل القبور، قالوا يا ويلنا مَن بعثنا؟ وأنكره ابن عطية، وقال: إنما هو استعارة، كما تقول في قتيل: هذا مرقده إلى يوم القيامة. فتقول الملائكة في جوابهم: {هذا ما وَعَدَ الرحمنُ وَصَدَقَ المرسلون} أو يقوله المؤمنون، أو: الكفار، يتذكرون ما سمعوه من الرسل، فيُجيبون به أنفسهم، أو بعضهم بعضاً. و{ما}: مصدرية، أي: هذا وَعْدُ الرحمن وصِدق المرسلين، على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدْق. أو: موصولة، أي: هذا الذي وعده الرحمن والذي صَدَقه المرسلون، أي: والذي صدق فيه المرسلون.
{إِن كانت} النفخة الأخيرة {إِلا صيحةً واحدةً فإِذا هم جميع لدينا مُحضَرُون} للحساب، ثم يقال لهم في ذلك اليوم: {فاليوم لا تُظلمُ نفسٌ شيئاً ولا تُجْزَونَ إِلا ما كنتم تعملون} من خير أو شر.
الإشارة: إذا كبر يقين العبد صارت عنده الأمور المستقبلة واقعة، والآجلة عاجلة، فيستعد لها قبل هجومها، ويتأهّب للقائها قبل وقوعها، أولئك الأكياس، الذين نظروا إلى باطن الدنيا، حين نظر الناس إلى ظاهرها، واهتمُّوا بآجالها، حين اغترّ الناس بعاجلها، كما في الحديث في صفة أولياء الله.

.تفسير الآيات (55- 59):

{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)}
قلت: {سلام}: بدل من ما أو: خبر عن مضمر، أو: مبتدأ حُذف خبره، أي: من ذلك سلام، وهو أظهر؛ ليكون عاماً، أي: ولهم كل ما يتمنون، كقوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 31] ومن جملة ذلك: {سلام قولاً من رب رحيم} فيوقف على {ما يدَّعون}. و{قولاً}: منصوب على المصدر المحذوف، أي: يقال لهم {قولاً}، وقيل: على الاختصاص.
يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّ أَصحابَ الجنةِ اليومَ في شُغلٍ} بضم الغين وسكونها أي: في شغل لا يوصف؛ لِعظم بهجته وجماله. فالتنكير للتعظيم، وهو افتضاض الأبكار، على شط الأنهار، تحت الأشجار، أو سماع الأوتار في ضيافة الجبار. وعن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما قيل: يا رسول الله أَنُفْضِي إلى نسائنا في الجنة، كما نُفضي إليهن في الدنيا؟ قال: «نعم، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليُفضي في الغداة الواحدة إلى مائة عذراء» وعن أبي أمامة: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يتناكح أهل الجنة؟ فقال: «نعم، بِذَكَرٍ لا يمَلُّ، وشهوة لا تنقطع، دحْماً دحْماً» قال في القاموس: دحمه كمنعه: دفعُه شديداً. وعن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عادوا أبكاراً»، وفي رواية أبي الدرداء: «ليس في الجنة مَنِّي» وفي رواية: «بول أهل الجنة عرق يسيل تحت أقدامهم مِسكاً» وعن إبراهيم النخعي: جماع ما شئت، ولا ولد. اهـ. فإذا اشتهى الولد كان بلا وجع، فقد روى الحاكم والبيهقي عنه عليه الصلاة والسلام: «إن الرجل من أهل الجنة ليولد له الولد، كما يشتهي، فيكون حمله وفصاله وشبابه في ساعة واحدة» انظر البدور السافرة.
قلت: والتحقيق أن شغل أهل الجنة مختلف، فمنهم مَن هو مشتغل بنعيم الأشباح، من حور، وولدان، وأطعمة، وأشربة، على ما يشتهي، ومنهم مَن هو مشتغل بنعيم الأرواح، كالنظر لوجه الله العظيم، ومشاهدة الحبيب، ومناجاة، ومكالمات، ومكاشفات، وترقيات في معاريج الأسرار كل ساعة. ومنهم مَن يُجمع له بين النعيمين، وسيأتي في الإشارة. وقوله تعالى: {فَاكِهُون} أي: متلذذون في النعمة، والفاكه والفكه: المتنعم، ومنه: الفكاهة؛ لأنه مما يتلذّذ به، وكذا الفاكهة.
ثم قال تعالى: {هُمْ وأَزواجُهم في ظِلالٍ} جمع ظِل، وهو: الموضع الذي لا تقع عليه الشمس. وفي قراءة {ظُلَل} بالضم، جمع ظُلة، كبُرمة وبرام، وهو ما يسترك عن الشمس، وظل أهل الجنة لا تنسخه شمس، قال تعالى: {وَظِلًٍّ مَّمْدُودٍ} [الواقعة: 30] {عَلَى الأَرَآئِكِ}: جمع أريكة، وهي السرير في الحَجَلة.
فالأرائك: السرر المفروشة، بشرط أن تكون عليها الحَجلة، وإلا فليست بأريكة، والحَجَلة: ما يستر السرير من ثوب الحرير. وهم {متكئون} عليها كالملوك على الأسرّة. {لهم فيها فاكهة} كثيرة مما يشتهون. {ولهم ما يَدَّعُون} أي: كل ما يَدعونه يأتيهم فوراً، فوزنه: يفتعلون، من الدعاء، أو: ما يتمنون من نعيم الأشباح والأرواح، من قولهم: ادَّع عليّ ما شئت، أي: تمنّه. وقال الفراء: هو من الدعوى، ولا يدّعون إلا ما يستَحقون.
{سلام قولاً من ربٍّ رحيم} أي: من أهم ما يدعون: سلام يقال لهم قولاً من رب رحيم، بلا واسطة؛ مبالغة في تعظيمهم، وذلك غاية متمناهم، مضافاً لرؤيته، ومن مقتضى الرحمة: الإبقاء عليهم مع ذلك. قال القشيري: يسمعون كلامه وسلامَه بلا واسطة، وأكَّد بقوله: {قولاً}. وبقوله: {من ربٍّ رحيم} ليُعلم أنه ليس على لسان سفير، والرحمة في تلك الحالة أن يرزقهم الرؤية في حال التسليم عليهم، ليكمل لهم النعمة. اهـ. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذْ سطع لهم نورٌ، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربُّ قد أشرف عليهم من فوقهم، فيقول: السلام عليكم يا أهل الجنة، فينظر إليهم، وينظرون إليه».
ثم ذكر أهل البُعد والحجاب، فقال: {وامتازوا اليومَ أيها المجرمون} أي: انفردوا عن المؤمنين وكونوا على حِدة، وذلك حين يُحشر المؤمنون، ويُساق بهم إلى الجنة. وقال قتادة: عزلوا عن كل خير. وعن الضحاك: لكل كافر بيت من النار، يكون فيه، لا يَرى ولا يُرى أبداً. اهـ.
الإشارة: إِنَّ أصحاب الجنة المعجَّلة لأوليائه، اليوم، في شُغُل كبير، لا تجدهم إلا مشتغلين بالله، بين شهود واستبصار، وتفكُّر واعتبار، في محل المشاهدة والمكالمة، والمناجاة والمساررة، أوقاتهم محفوظة، وحركاتهم وسكناتهم بالإخلاص ملحوظة، فهم في شغل شاغل عن الدنيا وأهلها، هم ومَن تعلّق بهم في ظلال الرضا، وبرد التسليم يرتادون، وفي مشاهدة وجه الحبيب يتنعّمون. قال القشيري: إن أصحاب الجنة اليوم، أي: طلابها، والساعون لها، والعاملون لنيلها، ولمثل ذلك فليعمل العاملون، فهم في الدنيا في طلب الجنة عن المنعِم بها، كما جاء في الحديث: «أكثر أهل الجنة البُلْه»، ومَن كان في الدنيا عن الدنيا حُرًّا، فلا يبعد أن يكون في الجنة عن الجنة حُرًّا، {يختص برحمته من يشاء} قلت: فالبله هم أهل الحجاب، الذين يعبدون الله لطلب الجزاء، ويقنعون بالنعيم الحسي ثم قال: ويقال: الحقُّ تعالى لا يتعلَّق به حقٌّ ولا باطل، فلا تَنَافِيَ بين اشتغالهم بلذاتهم مع أهليهم، وبين شهودهم مولاهم، كما أنهم اليوم مستديمون لمعرفته، بأي حالةٍ كانت. ولا يَقْدَحُ اشتغالهم باستيفاء حُظُوظِهم، في معارفهم. اهـ. مختصراً.
قلت: وما في سورة الواقعة، من ذكر نعيم السابقين، يدلّ على أنهم يجتمع لهم نعيم الحُور والولدان، مع نعيم العيان والرضوان؛ لأنهم في الدنيا جمعوا بين القيام بوظائف الشريعة، ومعاينة أسرار الحقيقة.
والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {سلام قولاً من ربٍّ رحيم} قال ابن عطاء: السلام جليل عظيم الخطر، وأجّله خطراً ما كان وقت المشاهدة والمصافحة، حين يقول: سلام قولاً من رب رحيم. قال القشيري: الرحمة في ذلك الوقت أن يُبقهم في حال سماع السلام، أو حال اللقاء، لئلا تصحبهم دهشة، ولا تلحقهم حيرة. اهـ. وقال الورتجبي: سلام الله أزلي الأبد، غير منقطع عن عباده الصالحين، في الدنيا والآخرة، لكن في الجنة تُرفع عن آذانهم جميع الحجب، فسَمِعُوا كلامه، ونظروا إلى وجهه كفاحاً. اهـ. قلت: وقد يُرفع في دار الدنيا، فيسمع سلام الله على عباده، كما وقع لبعض الأولياء. قيل: وفي قوله: {رحيم} إشارة إلى عدم حجبهم عن جماله أبداً، مع الإبقاء عليهم في حال السلام واللقاء، فلا تصحبهم دهشة، كما تقدّم. وقيل: الإشارة في الرحيمية: أن ذلك الوصول ليس باستحقاق ولا سبب من فعل العبد، وإنما هو بالرحمة، فيكون للعاصي فيه نَفَسٌ ومساغ للرجاء. قاله المحشي.
وقوله: {وامتازوا اليوم} إشارة إلى أن غيبة الرقيب من أتم النعمة، وإبعادَ العدوِّ من أجَلِّ العوارف، فالأولياءُ في إيجاب القربة، والأعداد في العذاب والحجبة. انظر القشيري.