فصل: تفسير الآيات (35- 39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (35- 39):

{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِنهم} أي: المشركين {كانوا إِذا قيلَ لهم لا إِله إِلا الله} هو أعم من إذا قيل لهم: قولوها، أو: ذكرت بمحضرهم، {يستكبرون} أي: يتعاظمون عن قولها، أي: كانوا في الدنيا إذا سمعوا كلمة التوحيد استكبروا عنها، وأَبَوا إلا الشرك، {ويقولون أئِنَّا لَتَارِكوا آلهتَنا لشاعرٍ مجنونٍ} يعنون نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، {بل جاء بالحق وصَدَّقَ المرسلين} لكونه مصدِّقاً لما بين يديه من الرسل. وهو ردٌّ عليهم بأن ما جاء به الحق من التوحيد قد قام عليه البرهان، وتطابق عليه المرسلون. فقوله تعالى: {بل جاء بالحق} مقابل لقولهم: {شاعر}؛ لأن الشاعر في الغالب كَذُوبٌ، وتصديق المرسلين في مقابلة مجنون؛ لأنه لا يكون إلا من العاقل. قال تعالى لهم: {إِنكم لَذائِقو العذابِ الأليم} بالإشراك وتكذيب الرسول {وما تُجْزَون إِلا ما كنتم تعملون} إلا مثل ما عملتم بلا زيادة ولا نقصان، فعذبتم، على الكفر والتكذيب، وخلدتم، على نيتكم الدوام عليه.
الإشارة: ينبغي للمؤمن إذا سمع كلمة التوحيد، وهي لا إله إلا الله أن يخشع قلبه، وتهتز جوارحه، فرحاً بها، ويخضع لمَن جاء بها، ودلَّ عليها، حتى يُدخله في بحار معانيها، وهو التوحيد الخاص، أعني: توحيد أهل العيان، وهم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في التربية النبوية. قال القشيري: {كانوا إِذا قيل لا إِله إِلا الله يستكبرون...} إلخ. احتجابُهم بقلوبهم أوقعهمْ في وهْدة عذابهم، وذلك أنهم استكبروا عن الإقرار بربوبيته، ولو عرفوا لافتخروا بعبوديته؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف: 206] وقال: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للهِ...} [النساء: 173]، فمَن عرف الله فلا لذة له إلا في طاعته وعبوديته، قال قائلهم:
ويظهرُ في الورى عزُّ الموالي ** فيلزمني له ذُلُّ العبيد

ولمَّا لم يحتشموا من وصفه سبحانه بما لا يليق بجلاله، لم يُبالوا بها أطلقوا من المثالب في جانب أنبيائه. اهـ.

.تفسير الآيات (40- 50):

{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِلا عبادَ الله المخلصين} بفتح اللام، وكسرها أي: لكن عباد الله المخلصين في أعمالهم، أو: الذين أخلصهم الله ونجاهم من الشرك، فليسوا مع أولئك المعذّبين، بل {أولئك} المخلصون {لهم رزق معلومٌ} يأتيهم بكرة وعشياً، كحال المياسير في الدنيا، فهو معلوم الوقت؛ لأن النفس إليه أسكن. قال القشيري: قد كان في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم مَن له رزقٌ معلومٌ، فهو من جملة المياسير، وهذه صفة أهل الجنة، لهم في الآخرة رزقٌ معلوم لأبشارهم وأسرارهم، فالأغنياء اليوم لهم رزق معلوم لأبشارهم، والفقراء لهم رزق معلوم لقلوبهم وأسرارهم. اهـ.
ثم فسّره بقوله: {فواكِهُ}: جمع فاكهة، وهي كل ما يتلذّذ به، فليس قوتهم لحفظ الصحة، بل رزقهم كله فواكه؛ لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات؛ لأن أجسامهم نورانية مخلوقة للأبد، فما يأكلونه إنما هو للتلذُّذ. أو: معلوم، أي: منعوت بخصائص خلق عليها من طيب طعم، ورائحة، ولذّة، وحسن منظر، {وهم مكرَمُون}: معظَّمون. قال القشيري: من ذلك: ورود الرسُل عليهم من قِبَلِ الله عزّ وجل في كل وقت، وكذلك اليومَ الخطابُ وارد على قلوب الخواص في كل وقتٍ بكلِّ أمر. اهـ.
وقوله: {في جناتِ النعيم} إما ظرف لمكرمون، أو: حال، أو: خبر، أي: في جنةٍ ليس فيها إلا النعيم المقيم. وكذا {على سُرُرٍ متقابلينَ}: يُقابل بعضها بعضاً، إن استوت درجتهم، فالتقابل أتم للسرور. وآنس.
{يُطاف عليهم بكأسٍ} إناء من زجاج فيه شراب، ولا يكون كأساً حتى يكون فيه شراب، وإلا فهو إناء. وقد تسمّى الخمر كأساً. قال الأخفش: كل كأس في القرآن فهو خمر. ومثل لابن عباس. {من مَّعِين} من خمر معين، أي: جارية في أنهار ظاهرة للعيون، وصف بما وصف به الماء؛ لأنه يجري في الجنة أنهاراً، كما يجري الماء، قال تعالى: {وأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ} [محمد: 15]. وقوله: {بيضاءَ} صفة للكأس، أي: صافية في نهاية اللطافة. {لذةٍ للشاربين} أي: لذيذة للشاربين، وصفت باللذة، كأنها نفس اللذَة وعينُها. أو: ذات لذة. {لا فيها غَوْلٌ} أي: لا تغتال عقولَهم فتذهب بها، كخمر الدنيا، وهو من: غاله يغوله: إذا أهلكه وأفسده. أو: لا فيها غول: إثم، أو وجع بطن أو صداع، وهو وجع الرأس، أي: لا ينشأ عنها شيء مما ذكر. {ولا هم عنها يُنْزَفُون} يسكرون، من: نُزِف الشارب: إذا ذهب عقله. ويقال للسكران: نزيف، ومنزوف. ومَن قرأ بكسر الزاي فمعناه: لا يَنْفَد شرابهم، يقال: أنزف الرجل فهو مُنزف: إذا فنيت خمرته.
{وعندهم قَاصِرَاتُ الطرْفِ} أي: حور قصرت أبصارهنّ على أزواجهن، لا يمددن طرفاً إلى غيرهم {عِينٌ}: جمع عيناء، أي: نجلاء، واسعة العين.
يقال: رجل أعين، وامرأة عيناء، ورجال ونساءٌ عينٌ. {كأنهنَّ بَيْضٌ مكنونٌ} مصون مستور. شبههنّ ببيض النعام المكنون من الريح والغبار، في الصفاء والبياض.
{فأقبل بعضُهم على بعضٍ يتساءلون} في الجنة، تساؤل راحة وتنعُّم. والمعنى: أنهم يشربون ويتحادثون على الشرب، كعادة الشَّرْب. قال الشاعر:
ومَا بَقيتُ من اللَّذَّاتِ إِلاَّ ** أحاديثُ الكِرَامِ عَلَى المُدَامِ

أو: أقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى عليهم في الدنيا. وجيء به ماضياً على ما عرف في أخباره المحققة الوقوع.
الإشارة: المخلَصين بالفتح أبلغ من المخلِصين بالكسر المخلَصين: أخلصهم الله واصطفاهم، والمخلِصين: طالبين الإخلاص، مجتهدين فيه، الأولون مجذوبون، والآخرون سالكون، الأولون محبوبون، والآخرون مُحبون، الأولون واصلون، والآخرون سائرون. قال القشيري: والإخلاص: إفرادُ الحقِّ سبحانه بالعبودية، فالذي يشوبُ عمله برياء ليس بمخلص. ويقال: الإخلاص: تصفية العمل، لا توفيقه، وفي الخبر: «يا معاذ، أخلص العملَ، يكفك القليل منه» ويقال: الإخلاص: فقد رؤية الأشخاص. اهـ.
{أولئك لهم رزق معلوم} للمخلَصين بالفتح رزق أرواحهم وأسرارهم، من النظر إلى وجه الحبيب في كل ساعة. وللمخلصين، رزق أشباحهم مما يشتهون. وقد يجتمع لهما، ويغلب لكل واحد ما كان الغالب على همته في الدنيا. وهم مكرمون بالتقريب والمشاهدة، على قدر سعيهم هنا، ويشربون كأس المحبة والاصطفاء على قدر شربهم هنا خمرة المعاني، وشرب المعاني على قدر الغيبة عن حس الأواني والزهد في بهجتها.
وقوله تعالى: {فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} كان من تمام نعيمهم في الشرب: التحادث عليها بما يُناسب حالها، ومدحها، كما قال الشاعر:
وإذا جلست إلى المُدام وشُربه ** فاجعل حديثك كله في الكاس

كذلك العارف إذا جلس مجلس الفكرة، وغاب في الشهود والنظرة، لا يجول إلا في عظمة الذات، وأسرارها، وبهائها، وجمالها، لا يخطر على باله غيرها، فحديث روحه وسره كله في الخمرة الأزلية. هذه هي الفكرة الصافية، والنظرة الشافية، متعنا الله بها على الدوام. آمين.

.تفسير الآيات (51- 61):

{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)}
يقول الحق جلّ جلاله: {قال قائِلٌ منهم} أي: من أهل الجنة {إِني كان لي قَرِينٌ} في الدنيا، قيل: كان شيطاناً، وقيل: من الإنس، ففيه التحفُّظ من قرناء السوء، وقيل: كانا شريكين بثمانية آلاف دينار، أحدهما: قطروس، وهو الكافر، والآخر: يهوذا، المؤمن، فكان أحدهما مشغولاً بعبادة الله، وكان الآخر مُقبلاً على ماله، فحلَّ الشركة مع المؤمن، وبقي وحده؛ لتقصير المؤمن في التجارة، وجعل الكافر كلما اشترى شيئاً من دار، أو جارية، أو بستان، عرضه على المؤمن، وفخر عليه، فيمضي المؤمن، ويتصدّق بنحو ذلك، ليشتري به من الله تعالى في الجنة. فكان من أمرهما في الجنة ما قصّه اللهُ تعالى في هذه الآية. قال السهيلي: هما المذكوران في سورة الكهف بقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ...} [الكهف: 32] إلخ.
{يقول} أي: قرين السوء، لقرينه المؤمن في الدنيا: {أَئِنَّك لمِنَ المُصدِّقين} بالبعث؟ {أَئِذَا مِتْنا وكنا تراباً وعظاماً أَئِنا لمدينون} لمحاسبون ومجزيون بأعمالنا؟ من: الدين، وهو الجزاء.
{قال} ذلك القائل لمَن معه في الجنة: {هل أنتم مُطَّلِعُون} معي إلى النار، لأريكم حال ذلك القرين. قيل: إن في الجنة كُوىً ينظر أهلُها منها إلى أهل النار. قلت: حال الجنة كله خوارق، فيُكشف لهم عن حال أهل النار كيف شاء. وقيل: القائل: هو الله، أو: بعض الملائكة. يقول لهم: هل تُحبون أن تطلعوا على أهل النار، لأريكم ذلك القرين، أو: لتعلموا منزلتكم من منزلتهم. قال الكواشي: أو: إن المؤمن يقول لإخوانه من أهل الجنة: هل أنتم ناظرون أخي في النار؟ فيقولون له: أنت أعرف به منا، فانظر إليه. {فاطَّلَع} على أهل النار {فرآه} أي: قرينه {في سواءِ الجحيم} في وسطها.
{قال تالله إِنْ كِدتَّ لتُردِينِ} لتُهلكني بإغوائك. و{إن} مخففة، واللام: فارقة، أي: إنه قربت لتهلكني، {ولولا نعمةُ ربي} عليَّ بالهداية، والعصمة، والتوفيق للتمسُّك بعروة الإسلام، {لكنتُ من المحْضَرين} معك، أو: من الذين أُحضروا العذاب، كما أُحْضِرْتَه أنت وأمثالك.
{أفما نحن بميتين إِلا مَوْتتنا الأولى وما نحن بمعذَّبين} الفاء للعطف على محذوف، أي: أنحن مخلّدون فما نحن بميتين ولا معذّبين. وعلى هذا يكون الخطاب لرفقائه في الجنة، لما رأى ما نزل بقرينه، ونظر إلى حاله وحال رفقائه في الجنة، تحدُّثاً بنعمة الله. أو: قاله بمرأى من قرينه ومسمع؛ ليكون توبيخاً له، وزيادة تعذيب، ويحتمل أن يكون الخطاب لقرينه، كأنه يقول: أين الّذي كنت تقول في الدنيا من أنَّا نموت، وليس بعد الموت عقاب ولا عذاب؟ كقوله: {إِنْ هي إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُولَى} [الدخان: 35] والتقدير: أكما كنت تزعم هو ما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى، وما نحن بمعذَّبين، بل الأمر وقع خلافَه، وكان يقال له: نحن نموت ونُسأل في القبر، ثم نموت ونحيا، فيقول: ما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذَّبين.
وقوله تعالى: {إِنَّ هذا لهو الفوزُ العظيمُ...} إلخ، يحتمل أن يكون من خطاب المؤمن لقرينه، وأن يكون من خطاب الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام، أي: إن هذا النعيم الذي نحن فيه لهو الفوز العظيم. ثم قال الله عزّ وجل: {لمِثْلِ هذا فليعملِ العاملون} أي: لنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون، لا للحظوظ الدنيوية، المشوبة بالآلام، السريعة الانصرام. أو: لمثل هذا فليجتهد المجتهدون، ما دام يُمكنهم الاجتهاد، فإنَّ الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، فبقدر ما يزرع هذا يحصد ثَمَّ، وسيندم المفرط إذا حان وقت الحصاد.
الإشارة: تنسحب الآية من طريق الإشارة على مَن رام النهوض إلى الله، بصحبة الرجال في طريق التجريد، فينهاه رفقاؤه، فيخالفهم، وينهض إلى الله، فإذا كان يوم القيامة رُفع مع المقربين، فيقول لهم: إني كان قرين يُنكر طريقَ الخصوص، وينهاني عن صحبتهم، فيطلع عليه، فيراه في أسفل الجنة، مع عامة أهل اليمين، فيحمد الله على مخالفته، ويقول: لولا نعمةُ ربي لكنتُ من المحضَرِينَ معك. قال القشيري: فيقول الوليُّ له: إن كدتَّ لتُردين، لولا نعمةُ ربي. نطقوا بالحق، ولكنهم لم يُصَرِّحوا بعين التوحيد؛ إذ جَعَلوا الفضلَ واسطة، والأَوْلى أن يقول: ولولا ربي لكنتُ من المحضَرين. ثم يقول: لمثل هذا فليعملِ العاملون. ثم قال: فإذا بدت شظيةٌ، من الحقائق، أو ذَرةٌ من نسيم القربة، فبالحريِّ أَن يقول القائل: لمِثل هذا الحال تُبذلُ الأرواحُ، وأنشدوا:
على مِثْلِ ليلى يَقْتُلُ المرءُ نَفْسَه ** وإِن بات من ليلى على اليأس طاويا

.تفسير الآيات (62- 74):

{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)}
يقول الحق جلّ جلاله: {أَذَلِكَ خيرٌ نُّزلاً أم شجرةُ الزقوم} أي: أنعيم الجنة وما فيها من اللذات، والطعام، والشراب، خيرٌ نُزُلاً أم شجرة الزقوم؟ النُزل: ما يُقَدم للنازل من الرزق. و{نزلاً}: تمييز، وفي ذكره: تنبيه على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يُقدم للنازل، ولهم من وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام، وكذلك الزقوم لأهل النار. قال ابن عطية: في البلاد الجدبة المجاورة للصحارى شجرةٌ، مُرَّة، مسمومة، لها لبنٌ، إن مسَّ جسم أحد تورَّم ومات منه، في غالب الأمر، تُسَمَّى شجرة الزقوم. والتزقُّم: البلعُ على شدة وجهد. اهـ. وفي الحديث: «لو أن قطرةً من الزقوم قُطرَتْ في بحار الدنيا لأفسدتْ على أهل الأرض معايشهم. فكيف بمَن يكون الزقومُ طعامُه» وقال ابن عرفة: هذه الشجرة يحتمل أن تكون واحدة بالنوع، فيكون كل جهة من جهات جهنم فيها شجرة، أو: تكون واحدة بالشخص. اهـ.
{إِنا جعلناها فتنةً للظالمين} محنةً وعذاباً لهم في الآخرة، وابتلاء لهم في الدنيا. وذلك أنهم قالوا: كيف تكون في النار شجرة، والنار تحرق الشجر؟ ولم يعلموا أنَّ مَنْ قدر على خلق حيوان يعيش في النار ويتلذّذ بها وهو السمندل كيف لا يقدر على خلق شجر في النار، وحفظه من الإحراق؟ {إِنها شجرةٌ تخرجُ في أصل الجحيمِ}، قيل: منبتها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها، وهذا يؤيد أنها واحدة بالشخص.
{طَلْعُها} أي: حملها {كأنه رؤوس الشياطين} الطلع للنخلة، فاستعير لما يطلع من شجرة الزقوم من حملها، وشُبِّه برؤوس الشياطين للدلالة على تناهيه في الكراهة، وقُبح المنظر؛ لأن الشيطان مكروه مستقبَح في طباع الناس؛ لاعتقادهم أنه شرّ محض. وقيل: الشياطين: حيَّات هائلة، قبيحة المنظر، لها أعراف يقال لها شياطين. وقيل: شبه بما استقر في النفوس من كراهة رؤوس الشياطين وقُبحها، وإن كانت لا ترى، كما شبهوا سنان الرماح بأنياب أغوال، كما قال امرؤ القيس:
أَيَقتُلُني والمشْرَفيُّ مُضَاجِعي ** ومَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كأنيابِ أغْوَالِ

{فإِنهم لآكلونَ منها} أي: من طلع تلك الشجرة، {فمالِئُون منها البطونَ} مما يبلغهم من الجوع الشديد، فيملؤون بطونهم منها مع تناهي بشاعتها، {ثم إِنَّ لهم عليها} على أكلها، أي: بعدما شَبِعوا منها، وغلبهم العطش، وطال استقاؤهم، {لَشَوْباً من حميم} أي: لشراباً من غساق، أو: حديد، مشوباً بماء حار، يشوي وجوههم، ويقطع أمعاءهم، في مقابلة ما قال في شراب أهل الجنة: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} [المطففين: 27] وأتى ب ثم؛ لما في شرابهم من مزيد البشاعة والكراهة؛ فإِنَّ الزقوم حار محرق، وشرابهم أشد حرًّا وإحراقاً.
{ثم إِن مرجِعَهُم لإِلى الجحيم} أي: إنهم يُخرجون من مقارهم في الجحيم وهو الدركات التي أُسْكِنُوها إلى شجرةَ الزقوم، فيأكلون منها إلى أن يتملَّوا.
ويشربون بعد ذلك، ثم يرجعون إلى دركاتهم، كما تورد الإبل، ثم ترد إلى وطنها. ومعنى التراخي في ذلك ظاهر.
ثم ذكر سبب عذابهم، فقال: {إِنهم أَلْفَوا آباءَهُم ضالِّينَ فهم على آثارهم يُهْرَعُون} علّل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد بتقليد آبائهم في الضلال، وترك اتباع الدليل. والإهراع: الإسراع الشديد. كأنهم يزعجون ويُحثّون حثّاً. وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى اتباعهم من غير توقف ولا نظر. {ولقد ضلَّ قبلهم} قبل قومك قريش {أكثرُ الأولين} يعني الأمم الماضية، بالتقليد وترك النظر. {ولقد أرسلنا فيهم مُّنذِرِين} أنبياء، حذّروهم العواقب. {فانظر كيف كان عاقبة المنذَرِين} الذين أنذروا، وحذّروا، فقد أُهلكوا جميعاً، {إِلا عبادَ اللهِ المخلصين} أي: إلا الذين آمنوا، وأخلصوا دينهم لله، أو: أخلصهم الله لدينه، على القراءتين.
الإشارة: إذا قامت القيامة انحاز الجمال كله إلى أهل الإيمان والإحسان، وانحاز الجلال كله إلى أهل الكفر والعصيان، فيرى المؤمنُ من جماله تعالى وبره وإحسانه ما لا تفي به العبارة، ويرى الكافر من جلاله تعالى وقهره ما لا يكيف. وأما في دار الدنيا فالجمال والجلال يجريان على كل أحد، مؤمناً أو كافراً، كان من الخاصة أو العامة، غير أن الخاصة يزيدون إلى الله تعالى في الجلال والجمال؛ لمعرفتهم في الحالتين. وأما العامة فلا يزيدون إلا بالجمال؛ لإنكارهم في الجلال. والمراد بالجلال: كل ما يقهر النفس ويذلها. والله تعالى أعلم.