فصل: تفسير الآية رقم (256):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (256):

{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)}
قلت: {الرُشْد}: مصدر رَشُد، بالكسر والضم، رشداً ورشاداً، و{الغي}: مصدر غَوَى، إذا ضلَّ مُعْتَقَدِه، و{الطاغوت}: فعلوت من الطغيان، وأصله: طغيوت، فقلبت لام الكلمة لعينها فصار طيغوت، ثم قلبت الياء ألفاً. وهو كل ما عُبد من دون الله راضياً بذلك، و{العروة}: ما تستمسك به اليد عند خوف الزلل كالحبل ونحوه، ووثوقها: متانتها، وانفصامها أن تنفك عن موضعها، وأصل الفصم في اللغة: أن ينفك الخلخال ونحوه ولا يَبِين، فإذا بان فهو القَصْم- بالقاف- وهو هنا استعارة للدّين الصحيح.
يقول الحقّ جلّ جلاله: في شأن رجلًٍ من الأنصار، تَنَصَّر ولدَاه قبل البَعْثَة فلما جاء الإسلامُ قَدِمَا إلى المدينة فدعاهما أبوهما إلى الإسلام فامتنعا، فَلزمَهُمَا أبوهُما وقال: والله لا أدِعكما حتى تُسلما، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: {لا إكراه في الدين}، فهو خبر بمعنى النهي، أي: لا تُكرهوا أحداً على الدخول في الدين. وهو خاص بأهل الكتاب.
قال البيضاوي: إذ الإكراه في الحقيقة هو: إلزام الغير فعلاً لا يرى فيه خيراً، ولكن {قد تبين الرشد من الغي} أي تميّز الإيمان من الكفر بالآيات الواضحة، ودلت الدلائل على أن الإيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية، والكفر غيّ يوصل إلى الشقاوة السرمدية. والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسُه إلى الإيمان طلباً للفوز بالسعادة والنجاة، ولم يحتج إلى الإكراه والإلجاء. اهـ.
{فمن يفكر بالطاغوت} أي: يبعد عنها ويجحد ربوبيتها {ويؤمن بالله} أي: يصدق بوحدانيته، ويقر برسله، {فقد استمسك بالعروة الوثقى} أي: فقد تسمك بالدين المتين، لا انقطاع له أبداً، {والله سميع} بالأقوال، {عليم} بالنيات، فإنَّ الدين مشتمل على قول باللسان وعقد بالجَنَان، فحسن التعبير بصفة السمع والعلم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال في الحكم: (لا يخاف عليك أن تلتبس الطرق، إنما يخاف عليك من غلبة الهوى عليك). وقال أحمد بن حضرويه: الطريق واضح، والحق لائح، والداعي قد أَسْمَع، ما التحير بعد هذا إلا من العمَى. اهـ. فطريق السير واضحة لمن سبقت له العناية، باقية إلى يوم القيامة، وكل ما سوى الله طاغوت، فمن أعرض عن السَّوَى، وعلق قلبه بمحبة المولى، فقد استمسك بالعروة الوثقى، التي لا انفصام لها على طول المدى، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

.تفسير الآية رقم (257):

{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)}
قلت: الولي: هو المحب الذي يتولى أمور محبوبه، أو الناصر الذي ينصر محبوبه، ولا يخذله بأن يكله إلى نفسه. وجملة {يخرجهم}: حال من الضمير المستتر في الخبر، أو من الموصول أو منها، أو خبر ثان.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {الله ولي الذين آمنوا} أي: محبهم ومتولي أمورهم، {يخرجهم من} ظلمات الكفر والجهل، ومتابعة الهوى وقبول الوسواس، والشبه المُشْكِلة في التوحيد- إلى نور الإيمان واليقين، وصحة التوحيد، ومتابعة الداعي إلى الله، {والذين كفروا أولياؤهم} أي: أحباؤهم {الطاغوت} أي: الشياطين، أو المضلات من الهوى والشيطان وغيرهما، {يُخرجونهم من النور} الذي مُنحوه بالفطرة الأصلية، أو يصدونهم من الدخول في الإيمان إلى ظلمات الكفر والجهل، والتقليد الرديء واتباع الهوى، {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} بسبب نِيَّاتهم البقاء على الكفر إلى الممات، ولم يذكر في جانب المؤمنين دخول الجنة؛ لتكون عبادتهم عبودية، لا خوفاً ولا طمعاً. والله تعالى أعلم.
الإشارة: {الله ولي الذين آمنوا}؛ حيث تولاهم بسابق العناية، وكلأهم بعين الرعاية، يخرجهم أولاً من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ثم من ظلمات الحس ورؤية الأكوان إلى نور المعاني بحصول الشهود والعيان، فافن عن الإحساس تر عبراً. الكون كله ظلمة، وإنما أناره ظهور الحق فيه. أو تقول: الكون كله ظلمة لأهل الحجاب، وأما عند أهل المعرفة فالكون عندهم كله نور، وإنما حجبه ظهور الحكمة فيه، فمن رأى الكون ولم يشهد النور فيه، أو قبله، أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار. والذين كفروا- وهم الذين سبق لهم الشقاء، وحكم عليهم بالبعد القدر والقضاء- أولياؤهم الطاغوت، وهم القواطع: من الهوى والشيطان والدنيا والناس، {يخرجونهم من النور إلى الظلمات} أي: يمنعونهم من شهود تلك الأنوار السابقة، إلى الوقوف مع تلك الظلمات المتقدمة، فهم متعاكسون مع من سبقت لهم العناية، فما خرج منه أهل العناية وقع فيه أهل الغواية. نسأل الله الحفظ والعافية في الدنيا والآخرة.

.تفسير الآية رقم (258):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)}
قلت: {أن آتاه}: على حذف لام العلة، و{إذ قال}: ظرف ل {حاجَّ}، أبو بدل من {آتاه الله}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: متعجباً من جهالة النمرود، والمراد تعجيب السامع: {ألم تر} يا محمد، {إلى} جهالة {الذي حاج إبراهيم} أي: خاصمه {في ربه} لأجْل {أن} أعطاه {الله الملك}، أي: حمله على ذلك بطر الملك. وذلك أنه لما كسَّر إبراهيم الأصنام، سجنه أياماً، وأخرجه من السجن، وقال له: من ربك الذي تعبد؟ {قال} له {إبراهيم} عليه السلام: {ربي الذي يحيي ويميت}، أي: يخلق الأرواح في الأجسام، ويخرجها عند انقضاء آجالها، {قال} نمرود: {أنا أحيي واميت}، فدعا برجلين فقتل أحدهما، وعفا عن الآخر، فلما رأى إبراهيم عليه السلام غلطه وتشغيبه عدل له إلى حجة أخرى، لا مقدور للبشر على الإتيان بمثلها، فال له: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها} أنت {من المغرب}؛ لأنك تدَّعي الربوبية، ومن شأن الربوبية أن تقدر على كل شيء، ولا يعجزها شيء، {فبُهت الذي كفر} أي: غُلب وصار مبهوتاً، {والله لا يهدي القوم الظالمين} إلى قبول الهداية، أو إلى طريق النجاة، أو إلى محجة الاحتجاج.
الإشارة: قال بعض الحكماء: للنفس سر، ظهر على فرعون والنمرود، حتى صرّحا بدعوى الربوبية: قلت: وهذا السر هو ثابت للروح في أصل نشأتها؛ لأنها جاءت من عالم العز والكبرياء. انظر قوله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} [الحِجر: 29]، وقال أيضاً: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} [الإسَراء: 85] أي: سر من أسراره، فلما رُكبت في هذا القلب الذي هو قالب العبودية- طلبت الرجوع إلى أصلها. فجعل لها الحقّ جلّ جلاله باباً تدخل منه فترجع إلى أصلها؛ وهو الذل والخضوع والانكسار والافتقار، فمن دخل من هذا الباب، واتصل بمن يعرّفه ربه، رجعت روحه إلى ذلك الأصل، وأدركت ذلك السر، فمنها من تتسع لذلك السر وتطيقه، ومنها من تضيق عن حمله وتبوح به، فتقتلها الشريعة، كالحلاج وأمثاله، ومن طلب الرجوع إلى ذلك الأصل من غير بابه، ورام إدراكه بالعز والتكبّر، طُرد وأُبعد، وهو الذي صدر من النمرود وفرعون وغيرهما ممن ادّعى الربوبية جهلاً. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الحقّ تعالى من أدركته العناية، وفي قصته برهان على إحياء الموتى الذي احتج إبراهيم- عليه السلام-.

.تفسير الآية رقم (259):

{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)}
قلت: {أو} عاطفة، و{كالذي}: معطوف على الموصول المجرور بإلى، أي: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه، وإلى مثل الذي مرّ على قرية. وإنما أدخل حرف التشبيه؛ لأن المُنكر للإحياء كثيرٌ، والجاهل بكيفيته أكثر، بخلاف مدعي الربوبية فإنه قليل. وقيل: الكاف مزيدة، والتقدير: ألم تر إلى الذي حاج وإلى الذي مرَّ، و{أنَّى}: ظرف ليُحيي، بمعنى: متى، أو حال بمعنى كيف، و{يتسنه} بمعنى يتغير، وأصله: يتسنن، فأبدلت النون الثالثة حرف علة. قال في الكافية:
وثَالِثَ الأمثَالِ أبدِلَنْه يا ** نحو تَظَنَّى خالدٌ تَظَنِّيَا

فصار تَسَنَّى ثم حُذفت للجازم، وأتى بهاء السَّكْت، وقفا ووصل، كالعِوض من المحذوف، وقيل: من السَّنة، وهو التغير، فالهاء أصلية، و{لنجعلنك}: معطوف على محذوف، أي: لتعتبر ولنجعلك آية للناس.
يقول الحقّ جلّ جلاله: ألم تر يا محمد أيضاً إلى مثل الذي {مرَّ على قرية}، وهو عُزَير، حَبْرُ بني إسرائيل- وقيل: غيره- مرَّ على بيت المقدس حين خربها بُختنصر {وهي خاوية} ساقطة حيطانها {على عروشها} أي: سقفها، وذلك بعد مائة سنة حتى سقطت العروش، ثم سقطت الحيطان عليها، فلما رآها خالية، وعظام الموتى فيها بالية، {قال} في نفسه: {أنَّى يحيي هذ الله بعد موتها} أي: متى يقع هذا. اعترافاً بالقصور عن معرفة طريق الإحياء، واستعظاماً لقدرة المحيي، إن كان القائل عزيراً، أو استبعاداً إن كان كافراً، {فأماته الله مائة عام} أي: ألبثه ميتاً مائة عام، {ثم بعثه} بالإحياء، فقال له على لسان الملك، أو بلا واسطة: {كم لبثت} ميتاً؟ {قال لبثت يوماً أو بعض يوم}، وذلك أنه مات ضحى وبعث بعد مائة عام قبل غروب الشمس، فقال قبل النظر إلى الشمس {يوماً}، ثم التفت فرأى بقية منها، فقال: {أو بعض يوم} على الإضراب، قال له الحقّ جلّ جلاله: {بل لبثت مائة عام}.
وذلك أن عزيراً ذهب ليخترف لأهله فجعل على حماره سَلة عنب وجَرَّة عصير. فلما مرَّ بتلك القرية ربط حماره، وجعل يتعجب من خرابها وخلائها بعد عمارتها، فقال في نفسه ما قال، فلطف الله به، وأراه كيفية الأحياء عياناً، فأماته مائة عام، حتى بليت عظام حماره وبقي العصير والعنب كأنه حين جنى وعصر فقال له جلّ جلاله: {فانظر إلى طعامك} وهو العنب، {وشرابك} وهو العصير، {لم يتسنه}، أي: لم يتغير بمرور الزمان وطول المدة، {وانظر إلى حمارك} كيف تفرقت أوصاله، وبليت عظامه، فعلنا ذلك بك لتشاهد قدرتنا، {ولنجعلك آية للناس} بعدك، {وانظر إلى العظام} أي: عظام حمارك، {كيف ننشرها}، أي: نحييها، من نَشَرَ الله الموتى: أحياها. أو: {كيف ننشزها} بالزاي- أي: نرفع بعضها، ونركبه عليه، {ثم نكسوها لحماً}.
فنظر إلى العظام، فقام كلُّ عَظْم إلى موضعه، ثم كسى لحماً وجلداً، وجعل ينهق، {فلما تبين له} ما كان استغربه وأُشكل عليه {قال أعلمُ} عليم اليقين {أن الله على كل شيء قدير}، أو فلما تبين له الحق، وهو قدرته تعالى على كل شيء، قال لنفسه: {أعلمُ أن الله على كل شيء قدير}.
رُوِيَ أنه أتى قومه على حماره، وقال أنا عزير، فكذبوه، فقرأ التوراة من حفظه، ولم يحفظها أحد قبله، فعرفوه بذلك، وقالوا: هو ابن الله- تعالى عن قولهم- وقيل: لما رجع إلى منزله- وكان شاباً- وجد أولاده شيوخاً، فإذا حدَّثهم بحديث قالوا: حديث مائة سنة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في هذه الآية والتي بعدها، الإشارة إلى الأمر بتربية اليقين والترقي فيه من علم اليقين إلى عين اليقين، فإن الروح ما دامت محجوبة بالوقوف مع الأسباب والعوائد، وبرؤية الحس والوقوف مع الوسائط، لم تخل من طوارق الشكوك وخواطر، فإذا انقطعت إلى ربها، وخرقت عوائد نفسها، كشف لها الحق تعالى عن أستار غيبه، وأطلعها على مكنونات سره، وكشف لها عن أسرار الملكوت، وأراها سنا الجبروت، فنظرت إلى قدرة الحي الذي لا يموت، وتمتعت بشهود الذات وأنوار الصفات، في هذه الحياة وبعد الممات، فحينئذٍ ينقطع عنها الشكوك والأوهام، وتتطهر من طوارق الخواطر، وتزول عنها الأمراض والأسقام.
قال في الحكم: (كيف تُخْرَق لك العوائد وأنت لم تخرِق من نفسك العوائد).
فانظر إلى عزير... ما أراه الحق قدرته عياناً حتى خرق له عوائده فأماته ثم أحياه، فكذلك أنت أيها المريد؛ لا تطمع أن تخرق لك العوائد، فتشاهد قدرة الحق أو ذاته عياناً، حتى تموت عن حظوظك وهواك، ثم تحيا روحك وسرك، فحينئذٍ تشاهد أسرار ربك، ويكشف الأستار عن عين قلبك. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم ذكر الحقّ تعالى قصة خليله عليه السلام في طلبه رؤية عين القدرة في إحياء الموتى، ليترقى من علم اليقين إلى عين اليقين.

.تفسير الآية رقم (260):

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}
قلت: رأى: البصرية، إنما تتعدى إلى مفعول واحد، فإذا أُدخلت عليها الهمزة تعدت إلى مفعولين. وعلقها هنا عن الثاني الاستفهام، {وصرهن} أي: أَمْلهُنَّ واضمُمْهن إليك. وفيه لغتان: صار يصير ويصور، ولذلك قرئ بكسر الصاد وضمها، {سعياً}: أي حال، أي: ساعيات.
يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكر يا محمد، أو أيها السامع، حين {قال إبراهيم} عيله السلام: يا {رب أني كيف تحيي الموتى} أي: أبصرني كيفية إحياء الموتى، حتى أرى ذلك عياناً، أراد عليه السلام أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، وقيل: لما قال للنمرود: {ربي الذي يحيي ويميت} قال له: هل عاينت ذلك؟ فلم يقدر أن يقول: نعم. وانتقل إلى حجة أخرى، ثم سأل ربه أن يريه ذلك؛ ليطمئن قلبه على الجواب، إن سئل مرة أخرى، فقال له الحقّ جلّ جلاله: {أولم تؤمن} بأني قادر على الإحياء بإعادة التركيب والحياة؟ وإنما قال له ذلك، مع علمه بتحقيق إيمانه؛ لجيبه بما أجاب فيعلم السامعون غرضه، {قال} إبراهيم عليه السلام: {بلى} آمنت أنك على كل شيء قدير، {ولكن} سألتك {ليطمئن قلبي}؛ إذ ليس الخبر كالعيان، وليس علم اليقين كعين اليقين، أراد أن يضم الشهود والعيان إلى الوحي والبرهان.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فخذ أربعة من الطير}؛ طاووساً وديكاً وغراباً وحمامة، ومنهم من ذكر النسر بدل الحمام، {فصرهن إليك} أي: اضممهن إليك لتتأملها وتعرف أشكالها، لئلا يلتبس عليك بعد الإحياء أشكالها، {ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً} أي: ثم جَزَّئهن، وفرق أجزاءهن على الجبال التي تحضرك. قيل: كانت أربعة وقيل: سبعة، {ثم ادعهن} وقل لهن: تعالين بإذن الله، {يأتينك سعياً} أي: ساعيات مسرعات، رُوِيَ أنه أمر أن يذبحها وينتف ريشها، ويقطعها ويخلط بعضها ببعض، ويوزعها على الجبال، ويمسك رؤوسها عنده، ثم يناديها، ففعل ذلك، فجَعَل كل جزء يطير إلى الآخر ويلتئم بصاحبه حتى صارت جثثاً، ثم أقبل إليه فأعطى كل طير رأسه فطار في الهواء. فسبحان من لا يعجزه شيء، ولا يغيب عن علمه شيء، ثم نبّه إلى التفكر في عجائب قدرته وحكمته فقال: {واعلم أن الله عزيز} لا يعجزه شيء، {حكيم} ذو حكمة بالغة فيما يفعل ويذر.
الإشارة: من أراد ان تحيا رُوحُه الحياة الأبدية، وينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، فلابد أن تموت نفسه أربع موتات:
الأولى: تموت عن حب الشهوات والزخارف الدينوية، التي هي صفة الطاووس.
الثانية: عن الصولة والقوى النفسانية، التي هي صفة الديك.
الثالثة: عن خسة النفس والدناءة وبعد الأمل، التي هي صفة الغراب.
الرابعة: عن الترفع والمسارعة إلى الهوى المتصف بها الحمام.
فإذا ذبح نفسه عن هذه الخصال حييتْ روحه، وتهذبت نفسه، فصارت طوع يده، كلما دعاها إلى طاعة أتت إليها مسرعة ساعية.
وإلى هذا المعنى أشار الشيخ أبو الحسن الشاذلي بقوله في حزبه الكبير: (واجعل لنا ظهيراً من عقولنا ومهيمناً من أرواحنا، ومسخراً من أنفسنا، كي نسبحك كثيراً، ونذكرك كثيراً، إنك كنت بنا بصيراً).
ولما كانت حياة الروح متوقفة على أمرين: بذل النفوس، ودفع الفلوس وقدم الإشارة إلى الأول بقوله: {وقاتلوا في سبيل الله}.