فصل: تفسير الآيات (26- 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (26- 28):

{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يا داودُ إِنا جعلناك خليفةً في الأرض} أي: استخلفناك على المُلك فيها، والحُكم فيما بين أهلها، أو: جعلناك عمَّن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق، وفيه دليل على أن حاله عليه السلام بعد التوبة، كما كان قبلها، لم يتغير قط، خلاف ما نقله الثعلبي من تغيُّر حاله وصوته، ومنع الطيور من إجابته، فانظره.
{فاحكمْ بين الناس بالحق}؛ بحكم الله تعالى، إذ كنت خليفته، أو: بالعدل، {ولا تتبع الهوى} أي: هوى النفس في الحكومات، وغيرها من أمور الدين والدنيا، بل قِفْ عند ما حدّ لك. وفيه تنبيه على أن أقبح جنايات العبد متابعةُ هواه، {فيُضلك عن سبيل الله} أي: فيكون الهوى، أو اتباعه، سبباً لضلالك عن دلائله اللاتي نصبها على الحق، تكويناً وتشريعاً. ويُضلك: منصوب في جواب النهي، أو: مجزوم، فُتح؛ لالتقاء الساكنين. {إِن الذين يَضِلُّون عن سبيل الله}؛ عن طريقه الموصلة إليه. وأظهر {سبيلَ الله} في موضع الإضمار للإيذان بكمال شناعة الضلال عنه، {لهم عذاب شديد بما نَسُوا}؛ بسبب نسيانهم {يوم الحساب}؛ فإنَّ تذكره وترداده على القلب يقتضي ملازمة الحق ومباعدة الهوى.
{وما خلقنا السماء والأرضَ وما بينهما} من المخلوقات على هذا النظام البديع {باطلاً} أي: خلقاً باطلاً، عارياً عن الحكمة، أو: مبطلين عابثين، بل لحِكَم بالغة، وأسرارٍ باهرة، حيث خلقنا من بيْنها نفوساً، أودعناها العقل؛ لتميز بين الحق والباطل، والنافع والضار، ومكنَّاها من التصرفات العلمية والعملية، في استجلاب منافعها، واستدفاع مضارها، ونصبنا لها للحق دلائل آفاقية، ونفسية، ومنحناها القدرة على الاستشهاد بها، ثم لم نقتصر على ذلك المقدار من الألطاف، بل أرسلنا إليها رسلاً، وأنزلنا عليها كتباً، بيَّنَّا فيها كيفية الأدب معنا، وهيئة السير إلى حضرة قدسنا، وقيَّضنا لها جهابذة، غاصوا على جواهر معانيها، فاستخرجوا منها كيفية المعاملة معنا، ظاهراً وباطناً، وأوعدنا فيها بالعِقَاب لمَن أعرض عنها، ووعدنا بالثواب الجزيل لمَن تمسّك بها، ولم نخلق شيئاً باطلاً.
{ذلك ظنُّ الذين كفروا}، الإشارة إلى خلق العبث، والظن بمعنى المظنون، أي: خَلْقُها عبثاً هو مظنون الذين كفروا، وإنما جُعلوا ظانين أنه خلقها للعبث، وإن لم يصرحوا بذلك؛ لأنه لمّا كان إنكارهم للبعث، والثواب، والحساب، والعقاب، التي عليها يدور فلك تكوين العالم، مؤدياً إلى خلقها عبثاً، جُعِلوا كأنهم يظنون ذلك ويقولونه؛ لأن الجزاء هو الذي سيقت إليه الحكمة في خلق العالم، فمَن جحده فقد جحد الحكمة في خَلْق العالم.
{فويل للذين كفروا من النار}. الفاء سببية؛ لإفادة ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل، وأظهر في موضع الإضمار للإشعار بأن الكفر علة ثبوت الويل لهم، و{من النار}: تعليلية، كما في قوله: {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79] أي: فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم.
{أم نجعلُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض}، {أم}: منقطعة، والاستفهام فيها للإنكار، والمراد أنه لو بطل الجزاء كما تقول الكفَرة لاستوت أحوال أتقياء المؤمنين وأشقياء الكفرة، ومَن سوّى بينهما كان سفيهاً، ولم يكن حكيماً، أي: بل أنجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين في أقطار الأرض، كما يقتضيه عدم البعث وما يترتب عليه من الجزاء؛ لاستواء الفريقين في التمتُّع في الحياة الدينا، بل الكفرة أوفر حظًّا فيها من المؤمنين، مع صبر المؤمنين، وتعبهم في مشاق الطاعات، لكن ذلك الجعل محال، فتعيّن البعث والجزاء؛ لرفع الأولين إلى أعلى عليين، وخفض الآخرين إلى أسفل سافلين.
{أم نجعلُ المتقين كالفجارِ}؛ إنكار للتسوية بين الفريقين المذكورين، وحمل الفجار على فجرة المؤمنين مما لا يُساعده المقام، ويجوز أن يراد بهذين الفريقين عين الأولين، ويكون التكرير باعتبار وصفين آخرين، هما أدخل في إنكار التسوية من الوصفين الأولين. وقيل: قالت قريش للمؤمنين: إنا نُعْطَى من الخير يوم القيامة ميل ما تُعْطَونَ، فنزلت.
الإشارة: قال الورتجبي: ولَمَّا خرج داودُ من امتحان الحق وبلائه، كساه خلعة الربوبية، وألبسه لباسَ العزة والسلطنة، كآدم خرج من البلاء، وجلس في الأرض على بساط فلك الخلافة، وذلك بعد كونهما متخلقين بخلق الرحمن، مصوّرين بصورة الروح الأعظم، فإذا تمكن داود في العشق، والمحبة، والنبوة، والرسالة، والتخلٌّق، صار أمرُه أمرَ الحق، ونهيُه نهيَ الحق. اهـ. وقال ابن عطية: لا يُطلق خليفة الله إلا لنبي، وإطلاقه في غير الأنبياء تجوُّز وغلوٌّ. اهـ. قلت: يُطلق عند الأولياء على مَن تحققت حريته، ورسخت ولايته، وظهر تصرفه في الوجود بالهمة، حتى يكون أمره بأمر الله، غالباً، وهو مقام القطبانية، فالمراتب ثلاث: صلاح، وولاية، وخلافة، فالصلاح لِمن صلح ظاهره بالتقوى، والولاية لِمن تحقق شهوده، مع بقية من نفسه، بحيث تقل عثراته جدًّا، والخلافة لِمن تحققت حريته، وظهرت عصمته، بجذب العناية، والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: {ولا تتبع الهوى}، الهوى: ما تهواه النفس، وتميل إليه، من الحظوظ الفانية، قلبية كانت، كحب الجاه، والمال، وكالميل في الحُكم عن صريح الحق، أو: نفسانية، كالتأنُّق في المآكل، والمشارب، والمناكح. واتباعُ الهوى: طلبُه، والسعي في تحصيله، فإن كان حراماً قدح في الإيمان، وإن كان مباحاً قدح في نور مقام الإحسان، فإن تَيسَّرَ من غير طلب وتشوُّف، وكان موافقاً للسان الشرع، جاز تناول الكفاية منه، مع الشكر وشهود المنَّة. قال عمر بن عبد العزيز: إذا وافق الحقُّ الهوى، كان كالزبد بالبرسَام، أي: السكر. وفي الحِكَم: (لا يخاف أن تلتبس الطرق عليك، إنما يخاف من غلبة الهوى عليك) وغلبة الهوى: قهره وسلطنته، بحيث لا يملك نفسه عند هيجان شهوتها.
وقوله تعالى: {وما خلقنا السماء والأرضَ وما بينهما باطلاً} أي: بل خلقناهما لنُعرف بهما، فما نُصبت الكائنات لتراها، بل لترى فيها مولاها. وقد تقدّم هذا مراراً.

.تفسير الآية رقم (29):

{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)}
قلت: {كتابٌ}: خبر عن مضمر، أي: هذا، و{أنزلناه}: صفة له، و{مبارك}: خبر ثان، أو: صفة الكتاب، و{لِّيدبروا}: متعلق بأنزلناه.
قيل: لمَّا نفى التسوية بين الصالح المتقِّي، والمفسد الفاجر، بيَّن ما تحصل به لمتبعيه السعادة الأبدية، ويحصل به الصلاح التام، والتقوى الكاملة. وهو كتاب الله فقال جلّ جلاله: {كتابٌ}؛ وهو القرآن {أَنزلناه إليك مباركٌ}؛ كثير المنافع الدينية والدنيوية، أنزلناه {ليدَّبّروا آياته} أي: ليتفكروا في آياته، التي من جملتها هذه الآيات المعربة عن أسرار التكوين والتشريع، فيعرفوا ما في ظاهرها من المعاني الفائقة، والتأويلات اللائقة. وقرى: {لتدبروا} على الخطاب، أي: أنت وعلماء أمتك، بحذف إحدى التاءين. {وليتذكَّر أولوا الألباب} أي: وليتّعِظ به ذوو العقول الصافية، السليمة من الهوى، فيقفوا على ما فيه، ويعملوا به، فإنَّ الكتب الإلهية ما نزلت إلا ليُتدبر ما فيها، ويُعمَل به. وعن الحسن: قد قرأ هذا القرآن عبيدٌ وصبيان، لا علم لهم بتأويله، حفظوا حروفه وضيّعوا حدوده. اهـ.
الإشارة: كتاب الله العزيز بطاقة من عند الملك، والمراد من البطاقة فَهْمُ ما فيها، والعمل به، لا قراءة حروفها ورسومها فقط، فمَن فعل ذلك فهو مقصّر.
وذكر في الإحياء أن آداب القراءة عشرة، أي: الآداب الباطنية:
الأول: فَهْمُ عظمة الكلام وعُلوّه، وفضل الله سبحانه بخلقه، في نزوله عن عرش جلاله، إلى درجة أفهام خلقه، فلولا استتار كُنه جلال كلام الله تعالى، بكسوة الحروف، لما ثبت لكلام الله عرش ولا ثرى، ولَتَلاشى ما بينهما من عظمة سلطانه، ولولا تثبيت الله موسى عليه السلام ما أطاق سماع كلامه، كما لم يطق الجبل مبادر نوره.
الثاني: تعظيم المتكلم به، وهو الله سبحانه، فيخطر في قلبه عظمة المتكلم، ويعلم أن ما يقرأه ليس من كلام البشر، وأن في تلاوة كتابه غاية الخطر، ولهذا كان عكرمة إذا نشر المصحف غشي عليه.
الثالث: حضور القلب، وترك حديث النفس، فإذا قرأ آية غافلاً أعادها.
الرابع: التدبُّر، وهو وراء الحضور، فإنه قد لا يتفكّر في غير القرآن، ولكنه مقتصر على سماع القرآن من نفسه وهو لا يتدبّره. قال عليٌّ رضي الله عنه: لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا خير في قراءة لا تدبُّر فيها.
الخامس: التفهُّم، وهو أن يستوضح كل آية ما يليق بها؛ إذ القرآن مشتمل على ذكر صفات الله تعالى، وذكر أفعاله، وذكر أحوال أنبيائه عليهم السلام، وذكر أحوال المكذّبين، وكيف أُهلكوا، وذكر أوامره وزواجره، وذكر الجنة والنار، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: مَن أراد علم الأولين والآخرين فليثوّر القرآن أي: فإنه مشتمل على فعل الله، وصفاته، وكشف أسرار ذاته، لمَن تأمّله حق تأمله.
السادس: التخلي عن موانع الفهم، ومعظمها أربعة: أولها: صرف الهمة إلى إخراج الحروف من مخارجها، وهذا تولى حفظه شيطان وُكل بالقراء. وكذلك الاشتغال بضبط رواياته، فأنى تنكشف لهذا أسرار المعاني. ثانيها: أن يكون مقيَّداً بمذهب، أخذه بالتقليد، وجمد عليه، فهذا شخص قيَّده معتقدُه، فلا يمكن أن يخْطر بباله غير معتقده، فلا يتبجّر في معاني القرآن؛ لأنه مقيّد بما جمد عليه. ثالثها: أن يكون مصرًّا على ذنب، أو متصفاً بكبر، أو: مبتلى بهوى في الدنيا، وبهذا ابتلى كثير من الناس، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ في الأَرْضِ} [الأعراف: 146] أي: عن فهم آياتي. رابعها: أن يكون قد قرأ تفسيراً ظاهراً، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما يتناوله النقل عن ابن عباس وغيره، وأمَّا ما وراء ذلك تفسير بالرأي، فهذا أيضاً من أعظم الحُجب؛ فإن القرآن العظيم له ظاهر وباطن، وحدّ ومُطلع، فالفهم فيه لا ينقطع إلى الأبد، فهو بحر مبذول، يغرف منه كل واحد على قدر وسعه، إلى يوم القيامة.
السابع: التخصيص، وهو أن يعتقد أن المقصود بكل خطاب في القرآن، فإن سمع أمراً أو نهياً، قدر أنه المأمور والمنهي، وكذلك إن سمع وعداً ووعيداً، وإن سمع قصص الأولين عَلِمَ أن المقصود به الاعتبار، ليأخذ من تضاعيفه ما يحتاج إليه، ويتقوّى إيمانه، قال تعالى: {وَكُّلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بشهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] فالقرآن لم ينزل خاصّاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو شفاء ورحمة ونور للعالمين، فيثبت فؤاد كل مَن يسمعه.
الثامن: التأثير، وهو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة، بحسب اختلاف الآيات، فيكون له بحسب كل فهم حال ووجد، يتصف به قلبه؛ من الخوف، والرجاء، والقبض، والبسط، وغير ذلك.
التاسع: الترقي وهو أن يترقى إلى أن يسمع الكلام من الله سبحانه، لا من نفسه، ولا من غيره. فدرجات القرآن ثلاث: أدناها: أن يُقدر العبد كأنه يقرأ على الله تعالى، واقفاً بين يديه، فيكون حاله السؤال والتملُّق. ثانيها: أن يشهد بقلبه كأن الله تعالى يُخاطبه بألفاظه، ويُناجيه بإنعامه وإحسانه، فمقامه الحياء والتعظيم. الثالثة: أن يرى في الكلام المتكلِّم، فلا ينظر إلى نفسه، ولا إلى قراءته، بل يكون مقصور الهم على المتكلم، مستغرقاً في شهوده، وهذه درجة المقرَّبين، وما قبلها درجة أصحاب اليمين، وما خرج عن هذا فهو درجة الغافلين. وعن الدرجة العليا أخبر جعفر الصادق رضي الله عنه بقوله: والله لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكن لا يُبصرون. اهـ. وقال بعض الحكماء: كنتُ أقرأ القرآن ولا أجد حلاوة، حتى تلوته كأنه أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوه على أصحابه، ثم رُفعت إلى مقام، كأني أسمعه من جبريل، يلقيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء الله بمنزلة أخرى، فأنا الآن أسمعه من المتكلِّم به، فعندها وجدت له لذة ونعيماً لا أصبر عنه.
العاشر: التبري، وهو أن يتبرأ من حوله، وقوته، والالتفات إلى نفسه بعين الرضا. انظر بقية كلامه فقد اختصرناه غاية.

.تفسير الآيات (30- 33):

{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ووهبنا لداودَ سليمانَ نِعْمَ العبدُ} أي: سليمان، فهو المخصوص، {إِنه أوابٌ} أي: رجَّاع إلى الله تعالى في السرّاء والضراء، وفي كل أموره، {إِذ عُرِضَ عليه} أي: واذكر ما صدر عنه حين عُرض عليه {بالعشِيّ}؛ وهو ما بين الظهر إلى آخر النهار، {الصافناتُ الجياد} أي: الخيل الصافنات، وهي التي تقوم على طرف سنبك يدٍ أو رِجل. وهي من الصفات المحمودة، لا تكاد توجد إلا في الخيل العِراب، الخُلَّص. وقيل: هو الذي يجمع يديه ويستبق بهما، والجياد: جمع جواد، أو: جود، وهو الذي يسرع في جريه، أو: الذي يجود عند الركض، وقيل: وصفت بالصفون والجودة؛ لبيان جمعها بين الوصفين المحمودين، واقفة وجارية، أي: إذا وقفت كانت ساكنة، وإذا جرت كانت سِراعاً خفافاً في جريها.
رُوي أنه عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين، وأصاب ألف فرس، وقيل: أصابها أبوه من العمالقة، وورثها منه، وفيه نظر؛ فإن الأنبياء لا يورثون، إلا أن يكون تركها حبساً، فورث النظر فيها. ويكون عقرها بنية إبدالها. وقيل: خرجت من البحر لها أجنحة، فقعد يوماً بعدما صلّى الظهر على كرسيه، فاستعرضها، فلم تزل تُعرض عليه حتى غربت الشمس، وغفل عن العصر، أو: عن الوِرد، كان له من الذكْر وقتئذ، وهو أليق بالعصمة، فاغتم لِما فاته، فاستردها، فعقرها، تقرُّباً إلى الله تعالى، وبقي مائة، فما في أيدي الناس اليوم مِن الجياد فمِن نسلها.
وقيل: لَمَّا عقرها أبدل الله تعالى له خيراً منها، وهي الريح تجري بأمره، {فقال إِني أحببتُ حُبَّ الخيرِ عن ذكر ربي}، قاله عليه السلام عند غروب الشمس، اعترافاً بما صدر عنه من الاشتغال بها عن الصلاة أو الذكر، وغايته حينئذ: أن الأَوْلى استغراق الأوقات في ذكر الله من الاشتغال بالدنيا. فترَكَ الأَوْلى، وتحسّر لذلك، وأمر بالقطع. وأما حمله على الصلاة والاشتغال بها حتى يفوت الوقت، فذنب عظيم، تأباه العصمة. قاله شيخ شيوخنا الفاسي. وقد يُجاب بأنَّ تركه كان نسياناُ وذهولاً، لا عمداً، فلا معصية.
وعدّى {أحببتُ} ب {عن} دون على؛ لتضمنه معنى النيابة، أي: أَنَبْتُ حبَّ الخير، وهو المال الكثير، والمراد: الخيل التي شغلته عن ذكر ربه، {حتى توارتْ} أي: استترت {بالحجابِ} أي: غربت واحتجبت عن العيون، و{عن}: متعلق بأحببت، باعتبار استمرار المحبة ودوامها. حسب استمرار العَرض، أي: أنبتُ حب الخير عن ذكر ربي، واستمر ذلك حتى غربت الشمس. وإضمارها من غير تقدُّم ذكر لدلالة {العَشي} عليها.
{رُدُّوها عليَّ}، هو من مقالة سليمان، {فطَفِقَ مسْحاً}، الفاء فصيحة، مفصحة عن جملة حُذفت، لدلالة الكلام عليها، إيذاناً بسرعة الامتثال، أي: فَردُّوها عليه، فأخذ بمسح السيف مسحاً {بالسُّوقِ والأعناقِ} أي: بسوقها وأعناقها يقطعها، من قولهم: مسح عنقه بالسيف، وقيل: جعل يمسح بيده أعناقها وسوقها، حبّاً لها، وإعجاباً بها، وهو يُنافي سياق الكلام.
الإشارة: لم يذكر الحق تعالى لسليمان ترجمة مخصوصة، كما ذكر لغيره بقوله: {واذكر عبدنا داود}، {واذكر عبدنا أيوب}، بل خرطه في سلك ترجمة أبيه، وجعله هبة له؛ تنبيهاً على أن مقام أهل الجمال الدنيوي، لا يبلغ مقام أهل الجلال؛ ففيه تنبيه على أن الفقير الصابر أعظم من الغني الشاكر. قاله في القوت.
وقوله تعالى: {فَطَفِقَ مَسْحاً بالسُوق}، فيه: أن مَن ترك شيئاً عوَّضه الله خيراً منه، فمَن كان في الله تلفه، كان على الله خلفه، وفيه حجة للصوفية على إتلاف كل ما شغل القلب عن الله، كما فعل الشبلي من تمزيق الثياب الرفهة. والله تعالى أعلم.