فصل: تفسير الآيات (49- 51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (49- 51):

{فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)}
يقول الحق جلّ جلاله: {فإِذا مَسَّ الإِنسانَ} أي: جنسه {ضُرٌّ}: فقر أو غيره {دعانا} معرضاً عما سوانا. والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، من ذكر حالتي أهل الشرك القبيحتين، وما بينهما اعتراض مؤكد للإنكار عليهم، أي: إنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده، ويستبشرون بذكر الآلهة، فإذا مسّهم الضر دعوا مَن اشمأزوا عن ذكره، دون مَن استبشروا بذكره، فناقضوا فعلهم.
فإن قلت: حق الاعتراض أن يؤكّد المعترَض بينه وبينه؟ قلت: ما في الاعتراض من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ربه، بأمر من الله، وقوله: {أنت تحكم بين عبادك}، ثم ما عقّبه من الوعد العظيم، تأكيد لإنكار اشمئزازهم، واستبشارهم، ورجوعهم إلى الله في الشدائد، دون آلهتهم، كأنه قيل: قل: يا ربّ لا يحكم بيني وبين هؤلاء، الذين يجترئون عليك مثل هذه الجراءة، إلا أنت، ثم هددهم بقوله: ولو أن لهؤلاء الظلمة ما في الأرض جميعاً لافتدوا به. انظر النسفي.
{ثم إِذا خوَّلناه نعمةً منا}: أعطيناه إياها، تفضُّلاً؛ فإن التخويل مختص به، لا يطلق على ما أعطى جزاء، فإذا أعطيناه ذلك {قال إِنما أُوتيته} أي: ذلك التخويل أو الإنعام {على عِلْم} مني بوجوه كسبه، كما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى} [القصص: 78] أو: على علم مني بأني سأُعطاه، لِما فيّ من فضل واستحقاق، أو: على علم من الله تعالى باستحقاقي لذلك المال، فتذكير الضمير إما لعوده على التخويل المأخوذ من {خولناه}، أو: بتأويل النعمة بمعنى الإنعام، أو: المراد بشيء من النعمة، أو: يعود على ما إذا قلنا: موصولة، لا كافة، أي: إن الذي أوتيته على علم مني.
قال تعالى: {بل هي فتنةٌ} أي: ليس ما خوَّلناه نعمة؛ بل هي محنة وابتلاء له؛ ليظهر كفره أو شكره. ولما كان الخبر مؤنثاً ساغ تأنيث المبتدأ لأجله، وقرئ: {بل هم فتنة}. {ولكنَّ أكْثَرَهُم لا يعلمون} أنَّ الأمر كذلك، وأنَّ التخويل إنما كان فتنة، وفيه دلالة على أن المراد بالإنسان الجنس.
{قد قالها الذين مِن قبلهم} أي: قد قال هذه المقالة، وهي: {إنما أوتيته على علم} من قبلهم، كقارون وقومه، قال قارون: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 78] وقومه راضون بمقالته، فكأنهم قالوها معه. ويجوز أن يكون في الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها. {فما أَغنى عنهم ما كانوا يكسبون} من متاع الدنيا، وما جمعوا منها شيئاً حتى ينزل بهم العذاب، {فأصابهم سيئاتُ ما كَسَبُوا} أي: جزاء سيئات ما كسبوا، وهو العذاب في الدنيا والآخرة، أو: سمّي جزاء السيئة سيئة؛ للازدواج، كقوله: {وَجَزآؤُاْ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] أي: فأصابهم وبال ما كسبوا، {والذين ظلموا من هؤلاء}: المشركين، يعني قريشاً، {سيُصِيبهُم سيئاتُ ما كسبوا} من الكفر والمعاصي، كما أصاب أولئك.
والسين للتأكيد. وقد أصابهم ذلك، حيث قحطوا سبع سنين، وقتل صناديدهم يوم بدر. {وما هم بمُعْجزين}: بفائتين من عذاب الله.
الإشارة: هذه الخصال الذميمة تُوجد في كثير من هذه الأمة، إذا أصابت العبد شدة أو قهرية رجع إلى الله، فإذا فرّج عنه بسب عادي كما هو دأب عالم الحكمة، أسند الفرج إلى ذلك السبب، فيقول: فلان فرّج عني، أو الدواء الفلاني شفاني، وهو شرك، كاد أن يكون جليّاً. والواجب: النظر إلى فعل الله وقدرته، وإسقاط الوسائط من نظره، ولو وجدت حكمةً، فالكمال فعلها وجوداً، والغيبة عنها شهوداً. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (52):

{أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}
يقول الحق جلّ جلاله: {أَوَلَمْ يعلموا} أي: أقالوا ذلك ولم يعلموا، أو أَغفلوا ولم يعلموا {أَنَّ الله يبسُطُ الرِّزقَ} أي: يوسعه {لمَن يشاءُ ويقدرُ} أي: يضيق لمَن يشاء بلا سبب ولا علة، أو: يجعله على قدر القوت من غير زيادة ولا نقصان، وهو من إتمام النعمة. وفي الحِكَم: (من تمام النعمة عليك أن يعطيك ما يكفيك، ويمنعك ما يطغيك) {إِن في ذلك}: البسط والقبض {لآياتٍ} دالة على أن الحوادث كلها من الله بلا واسطة، {لقوم يؤمنون}، إذ هم المستدلُّون بها على أن القابض والباسط هو الله، دون غيره.
الإشارة: قد يبسط الله الرزق لمَن لا خلاق له عنده، ويقبضه عن أحب الخلق إليه، وهو الغالب، فرزق المتقين كفاف، ورزق المترفين جزاف.

.تفسير الآيات (53- 54):

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)}
يقول الحق جلّ جلاله: {قل} يا محمد {يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم} أي: أفرطوا في الجناية عليها، بالإسراف في المعاصي، والغلو فيها، {لا تقنطوا من رحمة الله}: لا تيأسوا من مغفرته أولاً، وتفضُّله بالرحمة ثانياً، {إِن الله يغفرُ الذنوبَ جميعاً}، بالعفو عنها، إلا الشرك. وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: «يغفر الذنوب جميعاً ولا يُبالي» لكنها لم تتواتر عنه.
والمغفرة تصدق بعد التعذيب وقبله، وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر، كيف، وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] ظاهر في الإطلاق مما عدا الشرك؟ وَلِمَا يدل عليه التعليل بقوله: {إِنه هو الغفور الرحيم} على المبالغة، وإفادة الحصر، والوعد بالرحمة بعد المغفرة. وما في {عبادي} من الدلالة على الذلة والاختصاص، المقتضييْن للترحُّم. {إِنه هو الغفورُ}؛ يستر عظام الذنوب {الرحيمُ} يكشف فظائع الكروب. والآية، وإن نزلت في وحشي، قاتل حمزة، أو في غيره، لا تقتضي التخصيص بهم، فإن أسباب النزول لا تخصص. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية».
ولما نزلت في شأن وحشي، وأسلم، قال المسلمون: هذه له خاصة، أو للمسلمين عامة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل هي للمسلمين عامة» وقال قتادة إن ناساً أصابوا ذنوباً عظاماً، فلما جاء الإسلام أشفقوا ألا يتاب عليهم، فدعاهم الله تعالى بهذه الآية. وقال ابن عمر: نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، ونفر كانوا قد أسلموا ثم فُتنوا، فكنا نقول: لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً، فنزلت الآية، وكان عمر بن الخطاب كاتباً، فكتبها بيده، ثم بعث بها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد، وإلى أولئك النفر، فأسلموا، وهاجروا.
قال علي رضي الله عنه: «ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية». فما يُقنط الناس ويشدد عليهم بعد هذه الآية إلا جهول، أو جامد، قال زيد بن أسلم: إنَّ رجلاً كان في الأمم الماضية مجتهداً في العبادة، فيشدد على نفسه، ويقنط الناس من رحمة الله، فمات، فقال: أيّ ربّ؛ ما لي عندك؟ فقال: النار. فقال: يا رب؛ أين عبادتي؟ فقال: إنك كنت تُقنط الناس من رحمتي في الدنيا، فاليوم أقنطك من رحمتي. وعن عليّ كرّم الله وجهه قال: الفقيه كل الفقيه الذي لا يقنط الناس من رحمة الله، ولا يؤمنهم من عذاب الله، ولا يرخص لهم في معاصي الله. اهـ.
ثم حضَّ على التوبة لتتحقق المغفرة، فقال: {وأَنِيبوا إِلى ربكم} أي: ارجعوا إليه بالتوبة والإخلاص.
فالإنابة أخص من التوبة؛ لأن التوبة: مطلق الندم على الزلة، والإنابة: تحقيق التوبة والنهوض إلى الله بإخلاص التوجه. قال صلى الله عليه وسلم: «من السعادة أن يطول عمر الرجل ويرزقه الله الإنابة» قال القشيري: وقيل الفرق بين الإنابة والتوبة: أن التائب يرجع خوفاً من العقوبة، والمنيب يرجع حياءً منه تعالى. اهـ.
والأمر بالتوبة لا يدل على تقييد المغفرة في الآية بها، كما تقدّم؛ إذ ليس المدعَى: أن الآية تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبْق تعذيب، حتى يغني عن الأمر بها، وإنما المراد: الإخبار بسعة غفرانه، سواء كان مع التوبة أم لا. قال ابن عرفة: واعلم أن التوبة من الكفر مقطوع بها، ومن المعاصي، قيل: مظنونة، وقيل: مقطوع بها، هذا في الجملة، وأما في التعيين، كتوبة زيد بن عَمْرو، فلا خلاف أنها مظنونة. اهـ. قلت: قد اقترن بتوبة زيد من الأخبار ما يقطع بصحتها.
ثم قال: وأما العاصي إذا لم يتب فهو في المشيئة، مع تغليب جانب الخوف والعقوبة، واعتقاد أن العذاب أرجح، وأما العصيان بالقتل، ففيه خلاف بين أهل السُّنة، فقيل: يخلد في النار، وقيل: في المشيئة. اهـ. وقال أبو الحجاج الضرير رحمه الله:
وتوبةُ الكافرِ تمحُو اِثْمَه ** لا خلافَ فيه بين الأُمَّهْ

وتوبةُ العاصي على الإِرجاءِ ** وقيلَ كالأول بالسواءِ

إذ لا يكونُ دونه في الحالِ ** وَهُوَ عندي أحسنُ الأقوالِ

دليلُه تتابعُ الظواهِرْ ** شاملةٌ مسلمٌ وكافرْ

{وأَسْلِمُوا له} أي: اخضعوا له، وانقادوا لأمره. قال القشيري: أي: أَخلصوا في طاعتكم، والإسلامُ الذي هو الإخلاص بعد الإنابة: هو أن يعلم نجاته بفضلِه، لا بإنابته؛ فبفضله يصل إلى إثابته، لا بإنابته يصل إلى فضله. اهـ. {من قبل أن يأتيكم العذابُ} في الدنيا، أو في الآخرة، إن لم تتوبوا قبل نزول العقاب. قال القشيري: العذاب هنا، قيل: الفراق، وقيل: هو أن يفوتَه وقت الرجوعِ بسوء الإياس. اهـ. {ثم لا تُنصرون}: لا تُمنعون منه أبداً.
الإشارة: لا يعظم عندك الذنب عظمة تصدك عن حسن الظن بالله، فإن مَن استحضر عظمة ربه صغر في عينه كل شيء. وتذكر قضية الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، ثم سأل راهباً: هل له توبة؟ فقال: لا، فكمل به المائة، ثم سأل عارفاً، فقال له: ومَن يحول بينك وبينها؟ لكن اخرج من القرية التي كنت تعصي فيها، واذهب إلى قوم يعبدون الله في مكان، فذهب، فأدركه الموت في الطريق، فلما أحسّ بالموت انحاز بصدره إلى القرية التي قصدها، ثم مات، فاختصمت فيه ملائكة العذاب وملائكة الرحمة فقال لهم الحق تعالى: قيسوا من القرية التي خرج منها، إلى القرية التي قصدها، فإلى أيهما هو أقرب هو منها؟ فوجدوه أقرب إلى القرية التي قصدها بشبر، فأخذته ملائكة الرحمة.
إلى غير ذلك من الحكايات التي لا تحصى في هذا المعنى.
وتأمل قضية الشاب الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يبكي، فقال: «ما يبكيك؟» قال: ذنوبي. فقال له عليه السلام: «إن الله يغفر ذنوبك، ولو كانت مثل السماوات السبع، والأرضين السبع، والجبال الرواسي»، فقال: يا رسول الله، ذنب من ذنوبي أعظم من السماوات السبع والأرضين السبع، فقال له: «ذنوبك أعظم أو العرش؟» قال: ذنوبي، فقال له: «ذنوبك أعظم أو الكرسي؟» قال: ذنوبي، فقال: «ذنوبك أعظم أو إلهك؟» فقال: الله أعظم، فقال: «فأخبرني عن ذنبك» قال: إني أستحيي، فقال: «فأخبرني»، فقال: إني كنت نبّاشاً أنبش القبور منذ سبع سنين، حتى ماتت جارية من بنات الأنصار، فنبشتها، وأخرجتها من كفنها، فمضيت، ثم غلبني الشيطان، فرجعت، فجامعتها، فقامت الجارية، وقالت: الويل لك يا شاب من دَيّان يوم الدين، يوم يضع كرسيه للقضاء، يأخذ من الظالم للمظلوم، تركتني عريانة في عساكر الموتى، وأوقفتني جُنباً بين يدي الله، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب في قفاه، وهو يقول: «يا فاسق، اخرج، ما أقربك من النار»، فخرج الشاب تائباً إلى الله تعالى، حتى أتى عليه ما شاء الله، ثم قال: يا إله محمد وآدم وحواء، إن كنت غفرت لي فأَعْلِم محمداً وأصحابه، وإلا فأرسل عليَّ ناراً من السماء فأحرقني بها، ونجِّني من عذاب الآخرة، فجاء جبريل: فقال: السلام يقرئك السلام، فقال: «هو السلام وإليه يعود السلام»، قال: يقول أأنت خلقت خلقي؟ قال: «بل هو الذي خلقهم» قال: يقول: ترزقهم؟ قال: «بل هو الذي يرزقهم»، قال: يقول: أأنت تتوب عليهم؟ قال: «بل هو الذي يتوب عليهم» قال: فتب على عبدي، فإني تبتُ عليه، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الشاب، وتاب عليه، وقال: «إن الله هو التوّاب الرحيم». اهـ. ذكره السمرقندي والثعلبي.

.تفسير الآيات (55- 59):

{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)}
يقول الحق جلّ جلاله: {واتَّبِعُوا أحسنَ ما أُنزل إليكم من ربكم} أي: القرآن، فإنه أحسن الحديث، ولا أحسن منه لفظاً ومعنى، أو: المأمور به دون المنهي، أو: العزائم دون الرُخص، كقوله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]، أو: الناسخ دون المنسوخ، ولعله ما هو أعم، فيصدق بكل ما يقرب إلى الله، كالإنابة، والطاعة، ونحوهما، {من قبل أن يأتيكم العذابُ بغتةً}: فجأة، {وأنتم لا تشعرون} بمجيئه؛ لتداركوا وتتأهبوا.
أمرتكم بذلك كراهة {أن تقول نفس}، والتنكير للتكثير، كما في قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14]، أو: يراد به بعض الأنفس، وهي نفس الكافر، أو: يُراد نفس متميزة إما بلجاج في الكفر شديد أو بعقاب عظيم: {يا حسرتا}، بألف بدل من ياء الإضافة؛ لأن العرب تقلب ياء المتكلم ألفاً في الاستغاثة، فيقولون: يا ويلتا، يا ندامتا، فيخرجون ذلك على لفظ الدعاء، وربما ألحَقوا بها الهاء، فيقال: يا رباهُ، يا مولاهُ، وربما ألحقوا ياء المتكلم، جمعاً بين العوض والمعوض، وبذلك قرأ أبو جعفر: {يا حسرتاي} أي: يا ندامتاه ويا حزناه. {على ما فَرَّطتُ}: قصَّرت. و{ما}: مصدرية، أي: على تقصيري وتفريطي {في جَنبِ اللهِ} أي: جانبه وحقه وطاعته، أو: في ذاته، أي: معرفة ذاته، أو في قربه، من قوله: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ} [النساء: 36]، أو: في سبيل الله ودينه، والعرب تسمي السبب الموصل إلى الشيء جنباً، تقول: تجرّعت في جنبك غُصَصاً، أي: لأجلك، أو: في الجانب الذي يؤدي إلى رضوانه، وهو توحيده والإقرار بنبوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وقرئ {في ذكر الله}. {وإِن كُنتُ لمن الساخرين} أي: المستهزئين بدين الله. قال قتادة: لم يكفهِ أن ضيّع طاعة الله حتى سخر بأهلها. و{إن}: مخففة، والجملة: حالية، أي: فرطت وأنا ساخر.
{أَوْ تقولَ لو أنَّ الله هداني}: أعطاني الهداية، {لكنتُ من المتقين}: من الذين يتقون الشرك. قال الإمام أبو منصور: هذا الكافر أعرفُ بهداية الله من المعتزلة. وكذلك أولئك الكفرة، الذين قالوا لأتباعهم: {لَّوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} [إبراهيم: 21] يقولون: لو وفقنا الله للهداية، وأعطانا الهدى لدعوناكم إليه، ولكن عَلِمَ منا اختيار الضلالة والغواية فخذلنا ولم يوفقنا. والمعتزلة يقولون: بل هداهم وأعطاهم التوفيق؛ لكنهم لم يهتدوا. انظر النسفي.
{أو تقولَ حين ترى العذابَ لو أن لي كرةً} أي: رجعة للدنيا، {فأكونَ من المحسنين}: الموحِّدين الطائعين. و{أو} للدلالة على أنها لا تخلو من هذه الأقوال، تحيُّراً وتحسُّراً، وتعليلاً بما لا طائل تحته.
فردَّ الله عليهم بقوله: {بلى قد جاءتك آياتي فكذَّبتَ بها واستكبرتَ وكنتَ من الكافرين} أي: قد جاءتك آياتي، وبيّنت لك الهدايةَ من الغواية، وسبيلَ الحق من الباطل، فتركت ذلك، وضيعت، واستكبرت عن قبوله، وآثرت الضلالة على الهدى، واشتغلت بضد ما أمرت به، وإنما جاء التضييع من قِبلك، فلا عذر لك.
و{بلى}: جواب لنفي مقدر، وهو نتيجة القياس الاستثنائي، أي: لو أن الله هداني لاهتديتُ وكنت متقياً، لكنه لم يهدني، وإنما أخّره؛ لأنه لابد من حكاية أقوال النفس عى ترتيبها، ثم يذكر الجواب في الجملة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: واتبعوا أحسن ما أُنزل إليكم، أي: خذوا في الجد والاجتهاد في اتباع الأحسن والأرجح، في الأفعال، والأقوال، والعقائد، من قبل أن ينزل بكم العذاب. ولا عذاب أشد من الحجاب، والتخلُّف عن مقامات الأحباب، في وقت لا ينفع التأسُّف ولا التحسُّر. قال القشيري: هذا في أقوامٍ يَرَوْن أمثالَهم وأشكالهم، تقدّموا عليهم في أحوالهم، فشكوا ما سَلَفَ من تقصيرهم، ويَرَوْن ما وُفِّقَ أولئك إليه من أعالي الرتب، فيعضُّون بنواجذ الحسرة على أنامل الخيبة. اهـ. وفي ذلك قيل وأنشد:
السِّباق السِّبَاقَ قَوْلاً وفِعلاً ** حَذِرِ النفسَ حَسْرَةَ المسْبُوقِ

وهو معنى قوله: {أن تقول نفس} كانت مُقصِّرة في الدنيا: {يا حسرتا على ما فرطتُ في جنب الله} أي: في السير إلى معرفة ذاته، {وإِن كنت لمن الساخرين} ممن يتعاطى ذلك، ويخرب ظاهره لتعمير باطنه، فكنت أسخر منه وأضحك عليه، أو تحتج بالقدر، فتقول: لو أن الله هداني لسلوك طريقه لكنت من المتقين الكاملين في التقوى. ولا ينفع الاحتجاج بالقدر في دار التكليف مع بيان الطريق. أو تقول حين ترى العذاب، وهو فراق الأحباب والتخلُّف عنهم: لو أن لي كرة إلى الدنيا، فأجهد نفسي حتى أكون من أهل الإحسان، الذين يعبدون الله على العيان، بلى قد جاءتك آياتي، وهم الدعاة إليَّ في كل زمان {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}، فكذَّبتَ بها، واستكبرتَ عن الخضوع لهم، وكنت من الجاحدين لطريق التربية.