فصل: تفسير الآيات (7- 9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (7- 9):

{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)}
قلت: {الذين}: مبتدأ، و{يُسبّحون}: خبره، والجملة: استئناف مسوق لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ببيان أن أشراف الملائكة عليهم السلام مثابرون على ولاية مَن معه من المؤمنين، ونصرتهم، واستدعاء ما يُسعدهم في الدارين.
يقول الحق جلّ جلاله: {الذين يحملون العرش} على عواتقهم وهم محمولون أيضاً بلطائف القدرة، {ومَن حَوْله} أي: الحافِّين حوله، وهم الكروبيّون، سادات الملائكة، وأعلى طبقاتهم. قال ابن عباس: حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام، وقيل: أرجلهم في الأرض السفلى، ورؤوسهم خرقت العرش، وهم خشوعٌ، لا يرفعون طرفهم، وهم أشد خوفاً من سائر الملائكة.
وقال أيضاً: لمَّا خلق الله حملة العرش، قال لهم: احملوا عرشي؛ فلم يطيقوا، فخلق الله مع كل ملك من أعوانهم مثل جنود مَن في السموات ومَن في الأرض مِن الخلق، فقال لهم: احملوا عرشي، فلم يطيقوا، فخلق مع كل واحد منهم مثل جنود سبع سموات وسبع أرضين، وما في الأرض من عدد الحصى والثرى، فقال: احملوا عرشي، فلم يطيقوا، فقال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فقالوها، فاستقلوا عرش ربنا، أي: لَمَّا حملوه بالله أطاقوه، فلم يحمل عرشه إلا قدرته، وفي الحديث: «إن الله أمر جميع الملائكة أن يَغدُوا، ويَرُوحوا بالسلام على حملة العرش، تفضيلاً لهم على سائر الملائكة».
وقال وهب بن منبه: حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة، صف خلف صف، يدورون حول العرش، يطوفون به، يُقبل هؤلاء، ويُدبر هؤلاء، فإذا استقبل بعضهم بعضاً، هلّل هؤلاء، وكبَّر هؤلاء، ومِن ورائهم سبعون ألف صف قيام، أيديهم إلى أعناقهم، قد وضعوها على عواتقهم، فإذا سمعوا تكبير هؤلاء وتهليلهم، رفعوا أصواتهم، فقالوا: سبحانك وبحمدك ما أعظمك وأجلَّك، أنت الله لا إله غيرك، أنت الأكبر، الخلقُ كلهم راجون رحمتك، ومِن وراء هؤلاء مائة ألف صف من الملائكة، قد وضعوا اليمنى على اليسرى، ليس منهم أحد إلا يُسبح الله تعالى بتسبيح لا يُسبحه الآخر، ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلاثمائة عام، واحتجب الله عزّ وجل بينه وبين الملائكة الذين هم حول العرش بسبعين حجاباً من ظُلمة، وسبعين حجاباً من نور، وسبعين حجاباً من دُرٍّ أبيض، وسبعين حجاباً من ياقوتٍ أحمر، وسبعين حجاباً من زمُردٍ أخضر، وسبعين حجاباً من ثلجٍ، وسبعين حجاباً من ماءٍ، إلى ما لا يعلمه إلا الله تعالى. اهـ.
قلت: لمّا أظهر الله العرشَ تجلّى بنورٍ جبروتي رحموتي، استوى به على العرش، كما يتجلّى يوم القيامة لفصل القضاء، ثم ضرب الحُجُب بين هذا التجلي الخاص وبين الملائكة الحافِّين، ولا يلزم عليه حصر ولا تجسيم؛ إذ تجليات الذات العالية لا تنحصر، وليست هذه الحُجُب بين الذات الكلية وبين الخلق؛ إذ لا حجاب بينها وبين سائر المخلوقات إلا حجاب القهر والوهم.
واخْتُلف في هيئة العرش، فقيل: إنه مستدير، والكون كله في جوفه كخردلة في الهواء، حتى قيل: هو الفلك التاسع، وقيل: هو منبسط كهيئة السرير، وله سواري وأعمدة، وهو ظاهر الأخبار النبوية. رَوى جعفرُ الصادق عن أبيه عن جده، أنه قال: إن بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية من خفقان الطير المسرعة قياس ألف عام، وإن ملَكاً يقال له: حزقائيل، له ثمانية عشر ألف جناح، ما بين الجناح والجناح خمسمائة عام، فأوحى الله إليه: أن طِرْ، فطار مقدار عشرين ألف سنة، فلم ينل رأسُه قائمةً من قوائم العرش، ثم طار مقدار ثلاثين ألف سنة فلم ينلها، فأوحى الله إليه: لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ ساق عرشي. اهـ. مختصراً.
وفي حديث آخر: «إن بين القائمة والقائمة من قوائم العرش ستين ألف صحراء، في كل صحراء ستون ألف عالم، في كل عالم قدر الثقلين» ومع هذا كله يسعه قلب العارف حتى يكون في زاوية منه؛ لأنه محدود، وعظمة الحق غير محدودة، وقلب العارف قد تجلّت فيه عظمة الحق، فوسعها، بدليل الحديث: «لن تسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن» أي: الكامل.
ثم أخبر تعالى عن حَمَلة العرش ومَن حوله بقوله: {يُسَبِّحُونَ بحمد ربهم} أي: ينزهونه تعالى عما لا يليق بشأنه الجليل، ملتبسين بحمده على نعمائه التي لا تتناهى، {ويُؤمنون به} إيماناً يناسب حالهم. وفائدة ذكره مع علمنا بأن حملة العرش ومَنْ حوله الذي يُسبِّحون بحمد ربهم مؤمنون؛ إظهار لشرف الإيمان وفضيلته، وإبراز لشرف أهله، والترغيب فيه، كما وصف الأنبياء في بعض المواضع بالصلاح. وفيه تنبيه على أن الملائكة لم يحصل لهم العيان، وإنما وًصفوا بالإيمان بالغيب، وهم طبقات: منهم العارفون أهل العيان، ومنهم أهل الإيمان.
ثم قال تعالى: {ويستغفرون للذين آمنوا} أي: ويستغفرون لمَن شاركهم في حالهم من الإيمان، وفيه دليل على أن الإشراك يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة والشفقة، وإن تباعدت الأماكن، وفي نظم استغفارهم لهم في سلك وظائفهم المفروضة عليهم، من تسبيحهم، وتحميدهم، وإيمانهم، إيذان بكمال اعتنائهم به، وإشعار بوقوعه عند الله تعالى موقع القبول.
{ربَّنا} أي: يقولون: ربنا، إمّا بيان لاستغفارهم، أو حال، {وَسِعْتَ كلَّ شيء رحمةً وعلماً} أي: وسعت رحمتُك وعلمك كلَّ شيء، فأزيل الكلام عن أصله، بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم، ونُصبا على التمييز، مبالغةً في وصفه تعالى بالرحمة والعلم، وفي عمومهما، وتقديم الرحمة؛ لأنها السابقة والمقصودة هنا، {فاغفرْ للذين تابوا} أي: للذين علمتَ منهم التوبة، ليُناسب ذكر الرحمة، {واتَّبعُوا سبيلَك} أي: طريق الهُدى التي دعوت إليها.
والفاء لترتيب الدعاء على ما قبلها من سعة الرحمة والعلم، {وَقِهِم عذاب الجحيم} أي: احفظهم منه، وهو تصريح بعد إشعار؛ للتأكيد.
{ربنا وأَدْخِلهم جناتِ عدنٍ التي وعدتَّهم} إياها، {ومَن صَلَحَ من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم} أي: صلاحاً مصححاً لدخول الجنة في الجملة، وإن كانوا دون صلاح أصولهم، و{مَن}: عُطف على ضمير {وعدتهم}، أي: وأَدْخل معهم هؤلاء؛ ليتم سرورهم، ويتضاعف ابتهاجهم. قال سعيد بن جبير: (يدخل الرجل الجنة، فيقول: أين أبي؟ أين أمي؟ أين ولدي؟ أين زوجتي؟ فيقال له: لم يعملوا مثل عملك، فيقول: كنتُ أعمل لي ولهم، فيقال: أَدخلوهم الجنة). وسبق الوعد بالإدخال والإلحاق لا يستدعي حصول الموعود بلا توسُّط شفاعة واستغفار، وعليه بنى قول مَن قال: فائدة الاستغفار للمنيب الكرامة والثواب. انظر أبا السعود.
{إِنك أنت العزيزُ الحكيم} أي: الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدور، وأنت مع مُلكك وعزتك لا تفعل شيئاً خالياً عن حكمة، وموجب حكمتك أن تفي بوعدك.
{وقِهمْ السيئاتِ} أي: جزاء السيئات، وهو العذاب، أو المعاصي في الدنيا، {ومَن تقِ السيئاتِ يومئذ فقد رَحِمْتَه} أي: ومَن تقه عقاب السيئات يومئذ فقد رحمته، أو: ومَن تقه المعاصي في الدنيا فقد رحمته في الآخرة، وكأنهم طلبوا لهم السبب بعدما طلبوا المسبّب، {وذلك هو الفوزُ العظيم}؛ الإشارة إلى الرحمة المفهومة من رحمته، أو: إليها وإلى الوقاية، أي: ذلك التوقي هو الفوز العظيم الذي لا مطمع وراءه لطامع.
الإشارة: العرش وحملته، والحافُّون به محمولون بلطائف القدرة؛ لا حاملون في الحقيقة، بل لا وجود لهم مع الحق، وإنما هم شعاع من أنوار الذات الأقدس وتجلِّ من تجلياتها.
وقوله تعالى: {يُسبحون بحمد ربهم}، قال الورتجبي: يُسبّحون الله بما يجدونه من القدس والتنزيه، حمداً لأفضالِه، وبأنه منزّه عن النظير والشبيه، ويؤمنون به في كل لحظة، بما يرون منه من كشوف صفات الأوليات، وأنوار حقائق الذات، التي تطمس في كل لمحة مسالك رسوم العقليات، وهم يُقرون كل لحظة بجهلهم عن كنه معرفة وجوده، ثم بيّن أنهم أهل الرأفة، والرحمة، والشفقة على أوليائه، لأنهم إخوانهم في نسب المعرفة والمحبة. انظر تمامه.
والحاصل: أنهم مع تجلّي أنوار ذاته، قاصرون عن كنهه، وحقيقة ذاته، وغايتهم الإيمان به، قاله في الحاشية. قلت: والتحقيق أن المقربين منهم تحصل لهم المعرفة العيانية، والرؤية للذات في مظاهر التجليات، كما تحصل لخواص الأولياء في الدنيا، ولكن معرفة الآدمي أكمل؛ لاعتدال حقيقته وشريعته، لمَّا اعتدل فيه الضدان، وأما معرفة الملائكة فتكون مائلة لجهة الشكر والهيمان؛ للطاقة أجسامهم، فمثلهم كالمرآة بلا طلاء خلفها، وأمّا ما ورد في بعض الأخبار: أن جبريل لم يرَ الله قط قبل يوم القيامة، فلا يصح؛ إلا أن يُحمل على أنه لم يره من غير مظهر، وهذا لا يمكن له ولا لغيره، وأما رؤيتهم الله يوم القيامة فهم كسائر المؤمنين، يرونه على قدر تفاوتهم في المراتب والقُرب.
قال إمام أهل السنة، أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه، في كتاب الإبانة في أصول الديانة: أفضل اللذات لأهل الجنة رؤية الله تعالى، ثم رؤية نبيه صلى الله عليه وسلم، فلذلك لم يحرم الله أنبياءه المرسَلين، وملائكته المقرّبين، وجماعة المؤمنين، والصدّيقين النظرَ إلى وجهه تعالى. اهـ. وفي الآية حث على الدعاء للمؤمنين بظهر الغيب، والاستغفار لهم، وهو من شأن الأبدال، أهل الحرمة لعباد الله، اقتداءً بالملأ الأعلى.

.تفسير الآيات (10- 12):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِن الذين كفروا يُنَادَوْنَ} يوم القيامة، من قِبل الخزنة وهم في النار: {لَمقْتُ الله} إياكم اليوم، وإهانته لكم، {أكْبرُ من مقتكم أنفسَكُم} في الدنيا، حيث حرمتموها الإيمان وعرضتموها للهوان، {إِذْ تُدْعَون إلى الإِيمان} من قِبَل الرسل {فتكفرون}، والحاصل: أنهم مقتوا أنفسهم في الدنيا، وأهانوها، حيث لم يؤمنوا، فإذا دخلوا النار حصل لهم من المقت والغضب من الله أشد وأعظم من ذلك، ف إذا: ظرف للمقت الثاني، لا الأول، على المشهور.
{قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} أي: إماتتين وإحياءتين، أو: موتتين وحياتين. قال ابن عباس: كانوا أمواتاً في الأصلاب، ثم أحياهم، ثم أماتهم الموتة التي لابد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، وهذا كقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُمْ...} [البقرة: 28] الآية. قال السدي: أُميتوا في الدنيا، ثم أُحْيوا في قبورهم للسؤال، ثم أُميتوا في قبورهم، ثم أُحيوا في الآخرة.
والحاصل: أنهم أجابوا: بأن الأنبياء دعوهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وكانوا يعتقدون ما يعتقده الدهرية: ألاَّ حياة بعد بالموت، فلم يلتفتوا إلى دعوتهم، وداموا على الإنكار، فلمّا رأوا الأمر عياناً، اعترفوا. ووجه مطابقة قوله: {قالوا ربنا...} إلخ لما قبله: الإقرار بما كانوا منكرين له من البعث، الذي أوجب لهم المقت والعذاب؛ طمعاً في الإرضاء له بذلك؛ ليتخلصوا من العذاب، ولذلك قالوا: {فاعترفنا بذنوبنا}، لمّا رأوا الإماتة والإحياء قد تكرّر عليهم، عَلِموا أن الله قادر على الإعادة، كما هو قادر على الإنشاء، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما يتبعه من جرائمهم. ومقصدهم بهذا الإقرار: التوسل بذلك إلى ما علَّقوا به أطماعهم الفارغة من الرجوع إلى الدينا، كما صرّحوا به في قولهم: {فهل إلى خُروج} أي: نوع من الخروج، سريع أو بطيء، {من سبيلٍ} أو: لا سبيل إليه قط. وهذا كلامُ مَن غلب عليه اليأس، وإنما يقولون ذلك تحيُّراً، مع نوع استبعاد واستشعار يأس منه، ولذلك أُجيبوا بقوله: {ذلِكُم} أي: ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب، وألاَّ سبيل إلى الخروج، {بأنه} أي: بسبب أن الشأن {إِذا دُعِيَ الله} في الدنيا، أي: عُبد {وَحْدَه} منفرداً {كفرتم} بتوحيده، {وإِن يُشْرَكْ به تؤمنوا} بالإشراك وتُسارعوا فيه، أي: كنتم في الدنيا تكفرون بالإيمان، وتُسارعون إلى الشرك. قيل: والتعبير بالاستقبال، إشارة إِلى أنهم لو رُدوا لعادوا، وحيث كان حالكم كذلك، {فالحُكم لله} الذي لا يحكم إلا بالحق، ولا يقضي إلا بما تقتضيه حكمته، {العَلِيّ} شأنه، فلا يُردّ قضاؤه، أو: فالحكم بعذابكم وتخليدكم في النار لله؛ لا لتلك الأصنام التي عبدتموها معه، {الكبير}: العظيم سلطانه، فلا يُحدّ جزاؤه. وقيل: إنَّ الحرورية أَخذوا قولهم: لا حكم إلا لله، من هذه الآية.
قال عليّ رضي الله عنه لَمَّا سمع مقالتهم: كلمة حق أُريد بها باطل. اهـ.
الإشارة: إِنَّ الذين كفروا بطريق الخصوص، وأنكروا وجود التربية، حتى ماتوا محجوبين عن الله، وبُعثوا كذلك، يُنادون يوم القيامة بلسان الحال: لمقتُ الله لكم اليوم حيث سقطتم عن درجات المقربين أكبرُ من مقتكم أنفسكم حيث حرمتموها معرفة العيان ومقام الإحسان، حين كنتم تُدْعون إلى تربية الإيمان، وتحقيق الإيقان، على ألسنة شيوخ التربية، فتكفرون وتقولون: انقطعت التربية منذ زمان، ثم يطلبون الخروج من عالم الآخرة إلى عالم الدنيا، ليحصلوا المعرفة التي فاتتهم، فيقال لهم: هيهات، قد فات الإبّان، الصيفَ ضيعتِ اللبن. فامكثوا في حجابكم، ذلك بأنه إذا دُعي الله وحده، وأن لا موجود سواه، كفرتم بإنكاركم سبيله، وهي طريق التجريد والتربية، وإن يُشرك به بالتعمُّق في الأسباب، والمكث فيها، تؤمنوا. والحاصل: أنهم كانوا يُنكرون طريق التجريد، ويؤمنون بطريق الأسباب، فالحُكم لله العلي الكبير، فيرفع مَن يشاء، ويضع مَن يشاء بعلوه وكبير شأنه.

.تفسير الآيات (13- 17):

{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)}
يقول الحق جلّ جلاله: {هو الذي يُريكم آياته} الدالة على كبريائه، وكمال قدرته، من الرياح، والسحاب، والرعد، والبرق، والصواعق، وغير ذلك، لتستدلوا على ذلك، وتعملوا بموجبها، فتُوحدوه تعالى، وتخصُّوه بالعبادة، {ويُنزّل لكم من السماء رزقاً}؛ مطراً؛ لأنه سبب الرزق. وأفرده بالذكر مع كونه مِن جملة الآيات؛ لتفرُّده بكونه من آثار رحمته، وجلائل نِعَمه الموجبة للشكر؛ إذ به قوام الحيوانات بأسرها. وصيغة المضارع في الفعلين؛ للدلالة على تجدُّد الإراءة والتنزيل، واستمرارهما. {وما يتذكَّرُ إِلا مَن يُنيب} أي: وما يتعظ ويعتبر بهذه الآيات الباهرة، ويعمل بمقتضاها إلا مَن يتوب ويرجع عن غيّه إلى الله تعالى، فيتفكّر فيما أودعه في تضاعيف مصنوعاته من شواهد قدرته الكاملة، ونِعَمه الشاملة. وأما المعاند فلا يتعظ ولا يعتبر؛ لسفح الران على قلبه.
وإذا كان الأمر كما ذكرنا، من اختصاص التذكير بمَن ينيب، {فادْعُوا الله}، أو: تقول: لَمَّا ذكر أحوال المشركين، وأراد أن يشفع بأضدادهم، جعل قوله: {هو الذي يُريكم آياته...} إلخ، توطئة لقوله: {فادعوا الله} أي: اعبدوه {مخلِصين له الدين} من الشرك الجلي والخفي، بموجب إنابتكم إليه تعالى وإيمانكم، {ولو كَرِه الكافرون}؛ وإن غاظ ذلك أعداءكم، ممن لم يتب مثلكم، فإن الله يُكرم مثواكم، ويرفع درجاتكم، فإنه {رفيعُ الدرجات} أي: رافع درجات أوليائه المؤمنين، الداعين إليه، المخلصين في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالعز والنصر، وفي الآخرة بالقُرب والاختصاص، أو: رفيع السموات التي هي مصاعد الملائكة، ومهابطها، للسفارة بين المرسِل والمرسَل إليه، وهو كالمقدمة لقوله: {يُلقي الروح...} إلخ. هذا على أنه اسم فاعل، مبالغة، وقيل: هو صفة مشبهة أُضيفت إلى فاعلها، أي: رفيعٌ درجاتُه بالعلو والقهرية.
{ذو العرش} أي: مالكه، وهما خبران آخران عن {هو الذي...} إلخ، إيذاناً بعلو شأنه، وعِظم سلطانه، الموجبين لتخصيص العبادة به، وإخلاص الدين له بطريق الاستشهاد بهما عليهما؛ فإنَّ ارتفاع الدرجات والاستيلاء على العرش مع كون العرش محيطاً بأكناف العالم العلوي والسفلي، وهو تحت ملكوته وقبضة قهره مما يقضي بكون علو شأنه وعظيم سلطانه في غاية لا غاية ورائها. قاله أبو السعود.
ثم ذكر سبب رفع الدرجات بقوله: {يُلقي الروح} أي: ينزل الوحي، الجاري من القلوب بمنزلة الروح من الأجسام، وكأنه لَمَّا ذكر رزق الأجسام أتبعه برزق الأرواح، الذي هو العلم بالله، وطريقُه الوحي. والتعبير بالمضارع، قال الطيبي: يفيد استمرار الحي من لدن آدم إلى زمن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم اتصاله إلى قيام يوم التنادي، بإقامة مَن يقوم بالدعوة، على ما روى أبو داود، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ لهذه الأمة على رأسِ كلِّ مائةِ سنَة مَن يُجَدِّدُ لها دِينَها»
ومعنى التجديد: إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسُنَّة، والأمر بمقتضاهما. اهـ.
قلت: وقد رزتُ شيخنا البوزيدي رضي الله عنه مرة، فلما وقع بصره عليّ، قال: واللهِ، حتى يُحْيي الله بك الدين المحمدي. وكتب لي شيخ الجماعة، وقطب دائرة التربية، مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه، فقال في آخر كتابه: وأرجو من الله ألا تموت حتى تكون داعياً إلى الله، تُذكّر أهل المشرق والمغرب. أو ما هذا معناه، وقد وقع ذلك، والحمد لله.
وقوله: {مِنْ أَمره} أي: من قضائه، أو: بأمره، فيجوز أن يكون حالاً من الروح، أو متعلقاً ب (يُلقِي) أي: يُلقِي الروح حال كونه ناشئاً، أو: مبتدئاً من أمره، أو: يُلقي الوحي بسبب أمره {على مَن يشاءُ من عباده} هو الذي اصطفاه لرسالته، وتبليغ أحكامه إلى عباده، {ليُنذر} أي: الله، أو: المُلْقَى عليه، وهو النبي عليه السلام، ويؤيده قراءة يعقوب بالخطاب، أي: لتخوُّف {يومَ التلاقِ}؛ يوم القيامة؛ لأنه يتلاقى فيه أهل السموات وأهل الأرض، والأولون والآخرون، و{يوم}: ظرف للمفعول الثاني، أي: ليُنذر الناسَ العذابَ يوم التلاق، أو: مفعول ثان ليُنذر، فإنه من شدة هوله وفظاعته حقيق بالإنذار.
{يوم هم بارزون}: بدل من {يوم التلاق} أي: خارجون من قبورهم، أو: ظاهرون، لا يستترون بشيء من جبل أو أكمة أو بناء؛ لكون الأرض يومئذ قاعاً صفصفاً، ولا عليهم ثياب، إنما هم حفاةٌ عراةٌ، كما في الحديث. أو: بارزة نفوسهم لا يحجبها غواش الأبدان، أو: بارزة أعمالهم وسرائرهم، {لا يخفى على الله منهم شيءٌ} من أعمالهم وأحوالهم، الجلية والخفية، السابقة واللاحقة، وهو استئناف لبيان بُروزهم، وإزاحة لِما كان يتوهمه المتوهمون في الدنيا من الاستتار توهماً باطلاً، فإذا برزوا وحُشروا، نادى الحق جلّ جلاله: {لمَن الملكُ اليومَ}؟ فلا يجيبه أحد، ثم يعود ثلاثاً، فيجيب نفسه بنفسه بقوله: {لله الواحدِ القهارِ} أي: الذي قهر العباد بالموت.
رُوي أن الله تعالى يجمع الخلائق في صعيد واحد، في أرض بيضاء، كأنها سبيكة فضة، لم يُعصَ الله عليها قط، فأول ما يُتكلم به أن يُنادي مناد: لِمن المُلكُ اليوم؟ فيجيب نفسه: لله الوحد القهّار. وقيل: المجيب أهلُ المحشر، ورُوي أيضاً: أن هذا القول يقوله الحق تعالى عند فناء الخلق وقبل البعث، ولعله يقال مرتين.
قال تعالى: {اليوم تُجزَى كلُّ نَفْس} من النفوس البرّة والفاجرة، {بما كسبتْ} من خير أو شر، وهذا من تتمة الجواب، أو: حكاية لما سيقوله تعالى يومئذ عقب السؤال والجواب، {لا ظُلمَ اليومَ} بنقص ثواب أو زيادة عذاب، {إِن الله سريعُ الحساب}؛ لأنه لا يشغله شأن عن شأن، فكما أنه يرزقهم دفعة، يُحاسبهم دفعة، فيحاسب الخلق قاطبة في أقرب زمان، كما نُقل عن ابن عباس: أنه تعالى إذا أخذ في حسابهم لم يقِلْ أهلُ الجنة إلا فيها، وأهل النار إلا فهيا. اهـ.
قلت: المراد بالحساب: إظهار ما يستحق كل واحد من النعيم أو العذاب، وأما ما ورد من طول المكث في المحشر على الكفار والفجّار؛ فإنما ذلك تعذيب بعد فراغ المحاسبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: هو الذي يُريكم آياته الدالة على توحيده، ويُنزل لكم من سماء الغيوب علماً، تتقوّت به قلوبكم وأرواحكم، فتغيبون في مشاهدة المدلول عن الدليل، وما يتذكّر بهذا ويهتدِ إليه إلا مَن يُنيب، ويصحب أهل الإنابة. فادعوا الله، أي: اعبدوه وادعوا إلى عبادته وإخلاص العمل، ولو كره الجاحدون، فإنَّ الله رفيع درجاتِ الداعين إليه مع المقربين، في مقعد صدق عند ذي العرش المجيد. قال القشيري: يرفع درجات المطيعين بظواهرهم في الجنة، ودرجات العارفين بقلوبهم في الدنيا، فيرفع درجتهم عن النظر إلى الكونين، والمساكنة إليهما، وأما المحبُّون فيرفع درجتهم عن أن يطلبوا في الدنيا والعقبى شيئاً غير رضا محبوبهم. اهـ.
يُلْقِي الروح من أمره على مَن يشاء من عباده، هو وحي أحكام للأنبياء، ووحي إلهام للأولياء، فيحيي الله بهم الدين في كل زمان، وقال القشيري: بعد كلام: ويقال: روح النبوة، وروح الرسالة، وروح الولاية، وروح المعرفة. اهـ. والمراد بالروح: مطلق الوحي، ليُنذر الداعي يومَ التلاقي، فيحصل اللقاء السرمدي مع الحبيب للمقربين، ويحصل الافتراق والبُعد للغافلين، حين تبرز الخلائق بين يدَي الله، لا دعوى لأحد يومئذ، فيقول الحق تعالى: {لمَن الملك اليوم لله الواحِد القهَّار}.
قال القشيري: لا يتقيّد مُلْكُه بيومٍ، ولا يختصُّ بوقتٍ، ولكنَّ دَعَاوَى الخلقِ اليوم لا أصلَ لها، ترتفع غداً، وتنقطع تلك الأوهام. اهـ. ومثله في الإحياء، وأنه إذا كشف الغطاء شهد الأمر كذلك، كما كان كل يوم، لا في خصوص ذلك اليوم. فإذا حصل للعبد مقام الفناء، لم يرَ في الدارين إلا الله، فيقول: لمَن المُلكُ اليوم؟ فيجيب: لله الواحدِ القهّار. اليوم تُجزَى كُلُّ نفس بما كسبت من التقريب أو الإبعاد. قال القشيري: يجازيهم على أعمالهم الجنانَ، وعلى أحوالهم الرضوان، وعلى أنفاسهم أي: على حفظ أنفاسهم القُرب، وعلى محبتهم الرؤية، ويجازي المذنبين على توبتهم الغفران، وعلى بكائهم الضياء والشفاء. اهـ. لا ظُلم اليوم، بل كل واحد يرتفع على قدر سعيه اليوم.
وقوله تعالى: {إِنَّ الله سريعُ الحساب} قال القشيري: وسريعُ الحساب مع أوليائه في الحال، يُطالبهم بالنقير والقطمير. اهـ. قلت: يدقق عليهم الحساب في الحال، ويرفع مقدارهم في المآل. وبالله التوفيق.