فصل: تفسير الآيات (18- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (18- 20):

{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وأنذِرْهُم يوم الأَزفةِ} أي: القيامة، سُميت بها لأزوفها، أي: قُربها. فالأُزوف والازدلاف هو القرب، غير أن فيه إشعاراً بضيق الوقت، أو الخطة الأزفة، وهي مشارفة أهل النار لدخولها، ثم أبدل من يوم الآزفة قوله: {إِذِ القلوبُ لدى الحناجر} أي: التراقي، يعني: ترتفع قلوبُهم عن مقارّها، فتلتصق بحناجرهم من الرعب، فلا هي تخرج فيموتوا فيستريحوا، ولا ترجع إلى مقارها فيتروّحوا. حال كونهم {كاظمين}؛ ممسكين الغيظ بحناجرهم، أو: ممسكين قلوبهم بحناجرهم، يرومون ردها لئلا تخرج، فهو حال من القلوب، وجمعت جمع السلامة لوصفها بالكظم، وهو من أوصاف العقلاء، أو: من أصحاب القلوب؛ إذ الأصل: قلوبهم، أو: من ضميرها في الظرف، {ما للظالمين من حميمٍ} أي: قريب مشفق {ولا شفيعٍ يُطاع} أي: ولا شفيع تُقبل شفاعته، فالمراد: نفي الشفاعة والطاعة، كقول الشاعر:
وَلاَ تَرَى الضّبَّ فيها يَنْجَحِرْ

يريد به: نفي الضب وانجحاره. وكقول الآخر:
عَلَى لاحِبٍ لا يُهتدَى بِمَنَارِه

وإن احتمل اللفظ نفي الطاعة دون الشفاعة. فعن الحسن البصري: «والله ما يكون لهم شفيع ألْبتة». ووضع {الظالمين} موضع الضمير؛ للتسجيل عليهم بالظلم وتعليل الحكم به.
{يعلم خائنةَ الأعين} أي: النظرة الخائنة، كاستراق النظر إلى ما لا يحلّ. قيل: فيه تقديم وتأخير، أي: الأعين الخائنة، وقيل: مصدر، كالعافية، أي: خيانة الأعين. قال ابن عباس رضي الله عنه: هو الرجل يكون جالساً مع القوم، فتمر المرأة، فيسارقهم النظر إليها. اهـ. وقال ابن عطية: متصل بقوله: {سريع الحساب}، فيحاسب على خيانة الأعين، وقالت فرقة: متصل بقوله: {لا يَخفى على الله منهم شيء}، وهذا حسن، يُقويه تناسب المعنيَيْن، ويُبعده بعدُ الآية من الآية، وكثرة الحائل. والحاصل: أنه متصل بما تقدّم من ذكر الله ووصفه، واعترض في أثناء ذلك بوصف القيامة لما استطرد إليه من قوله: {ليُنذر يوم التلاق} الآية. قاله المحشي. {و} يعلم {ما تُخفي الصدورُ} أي: ما تُكنّه من خيانة وأمانة. وقيل: هو أن ينظر إلى أجنبية بشهوةٍ مسارقة، ثم يتفكّر بقلبه في جمالها، ولا يعلم بنظرته وفكرته مَن حَضرَه، والله يعلم ذلك كله.
{والله يقضي بالحق} أي: ومَن هذه صفاتُه لا يقضي إلا بالعدل، فيُجازي كُلاًّ بما يستحقه؛ إذ لا يخفى عليه خفيّ ولا جليّ، {والذين يَدْعُون}؛ يعبدونهم {من دونه} من الآلهة {لا يقضون بشيء}، وهذا تهكُّم بهم؛ لأن الجماد الذي لا يعقل لا يقال فيه: يقضي ولا يقضي، وقرأ نافع بالخطاب؛ أو: على إضمار قل، {إِن الله هو السميعُ البصير}؛ تقرير لقوله: {يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور} ووعيد لهم؛ لأنه يسمع ما يقولون، ويُبصر ما يعملون، وأنه يعاقبهم عليه، وتعريض بما يدعون من دون الله، بأنها لا تسمع ولا تُبصر.
الإشارة: قال القشيري: قيامةُ الكل مؤجَّلة، وقيامةُ المحبين مُعَجَّلة، في كلِّ نَفَسٍ من العتاب والعذاب، والبعَاد والاقتراب، ما لم يكن في حساب، وشهادة الأعضاء بالدمع تشهد، وخفَقَانُ القلب ينطق، والنحولُ يُخْبِرُ، واللونُ يفضح، والعبد يستر، ولكن البلاء يُظهر، قال:
يَا مَن تَغَيَّرُ صُورَتِي لَمَّا بَدا ** لِجَمِيعِ ما ظَنوا بِنَا تَحْقِيقُ

وقوله تعالى: {إِذِ القلوبُ لدى الحناجرِ كاظمين}، هو في حق مَن فاته التأهُّب والترقِّي في هذه الدار، فتحسَّر حين يُعاين مقامات الرجال، وليس له شفيع يُرقيه، ولا حميم يُصافيه. وقوله تعالى: {يعلم خائنة الأعين} هو في حق العارفين: النظر إلى السِّوى بعين الاستحسان. قال القشيري: خائنة الأعين هي من المحبين استحسانهم شيئاً أي: من السِّوى وأنشدوا:
يَا قُرَّةَ العَيْن سَلْ عَيني هَلْ اكْتَحَلَتْ ** بِمَنْظَرٍ حَسَنٍ مُذْ غِبْتَ عَنْ عَيْنِي

وأنشد أيضاً:
وعَيْني إِذا اسْتَحْسَنَتْ غَيْرَكُمْ ** أَمَرْتُ الدَّمعَ بِتأدِيبها

قلت: ومثله قول الشاعر:
وناظرٌ في سِوى مَعْناكَ حُقَّ لَهُ ** يَقتَصُّ مِنْ جَفْنِه بالدَّمْع وهُو دَمُ

والسَّمْعُ إِنْ حَالَ فِيهِ ما يُحدِّثُه ** سوَى حَدِيثكِ أَمْسى وَقْرُه الصَّمَمُ

ثم قال: ومن خائنة الأعين: أن تأخذهم السِّنَةُ والسِّنات في أوقات المناجاة، وفي قصص داود عليه السلام: كَذَبَ مَن ادَّعَى محبتي، فإذا جَنَّهُ الليل نام عني، ومن خائنة أعين العارفين: أن يكون لهم خير، أي: استحسان يقع لقلوبهم مما تقع عليه أعينهم، ينظرون ولكن لا يُبصرون أي: ينظرون إلى المستحسنات، ولكن لا يقفون معها ومن خائنة أعين الموحِّدين أي: السائرين للتوحيد أن يخرج منها قطرة دمعٍ، تأسفاً على مخلوق يفوت من الدنيا والآخرة، ومن خائنة الأعين: النظرُ إلى غير المحبوب بأَي وجهٍ كان، ففي الخبر: حُبَّكَ الشيء يُعْمِي ويُصمُّ أي: يُغَيبك عن غيره، فلا ترى إلا محاسن الحبيب، وجماله في مظاهر تجلياته، وإليه يشير قول ابن الفارض رضي الله عنه:
عَيْنِي لِغَيْرِ جَمَالِكُمْ لاَ تَنْظر ** وَسِوَاكُم في خَاطِري لاَ يَخْطُر

وقوله تعالى: {والله يقضي بالحق} قال القشيري: يقضي للأجانب بالبعاد، ولأهل الوداد بالوصال، ويقضي يومَ القدوم بعدل عُمال الصدود. اهـ. أي: يعدل في أهل الصدود عن حضرته، فيجازيهم بنعيم الأشباح فقط. ثم قال: وإذا ذبح الموت غدا بين الجنة والنار على صورة كبش أملح، فلا غَرو أن يذبح الفراق على رأس سكة الأحباب، في صورة شخص، ويُصلب على جذوع الغيرة، لينظر إليه أهل الحضرة. اهـ.

.تفسير الآيات (21- 22):

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)}
قلت: {هم أشد}: ضمير فصل، وحقه أن يقع بين معرفتين، إلا أنَّ {أشد} لَمَّا ضارع المعرفة في كونه لا يدخله الألف واللام أجرى مجراها.
يقول الحق جلّ جلاله: {أَوَلَمْ يسيروا في} أقطار {الأرض فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين كانوا من قبلهم} أي: مآل مَن قبلهم من الأمم المكذِّبة لرسلهم، كعاد، وثمود، وأضرابهم، {كانوا هم أشدَّ منهم قوةً} أي: قدرة وتمكُّناً من التصرف، {وآثاراً في الأرض}؛ وأشتد تأثيراً في الأرض، ببناء القلاع الحصينة، والمدائن المتينة. وقيل: المعنى: وأكثر آثاراً، أي: ترك آثار في الأرض، كالحصون وغيرها. {فأخَذَهم الله بذنوبهم} أخذاً وبيلاً، {وما كان لهم من الله من واقٍ} أي: لم يكن لهم شيء يقيهم من عذاب الله.
{ذلك} الأخذ {بأنهم}؛ بسبب أنهم {كانت تأتيهم رُسُلُهم بالبينات}؛ بالمعجزات الدالة على صدقهم، أو: بالأحكام الظاهرة الجلية، {فكفروا فأخذهم الله إِنه قويٌّ}، متمكن مما يريد غاية التمكُّن، قادر على كل شيء، {شديدُ العقاب} لا يُؤبَه عند عقابه بعقاب.
الإشارة: قال القشيري: أَوَلَمْ يسيروا بنفوسهم في أقطار الأرض، ويطوفوا مشارقَها ومغاربَها، فيعتبروا بها، فيزهدوا فيها؟ ويسيروا بقلوبهم في الملكوت بجَوَلان الفكر، فيشهدوا أنوار التجلي، فيستبصروا بها؟ ويسيروا بأسرارهم في ساحات الصمدية، فيُستهلكوا في سلطان الحقائق، ويتخلَّصُوا من جميع المخلوقات؛ قاصيها ودانيها؟ ثم قال: قوله تعالى: {ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات}، إِنْ بغى من أهل السلوك، قاصدٌ لهم يصل إلى مقصوده، فَلْيَعلم أنَّ موجِبَ حجبته اعتراضٌ خَامَرَ قلبَه على بعض شيوخه، في بعض أوقاته، فإِنَّ الشيوخَ بمحلِّ السفير للمريدين، وفي الخبر: «الشيخ في أهله كالنبيِّ في أمته». اهـ.

.تفسير الآيات (23- 27):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا}؛ معجزاته التسع {وسلطانٍ مبين} أي: حجة قاهرة، وهي: إما عين الآيات، والعطف لتغاير العنوانين، فكونها آيات من جهة خرق العادة، وكونها حجة من حيث الدلالة على صدق صاحبها، وإما أن يريد بالسلطان، بعض مشاهيرها، كالعصا، أُفردت بالذكر مع اندراجها تحت الآيات؛ لعِظمها. وقال ابن عرفة: الآيات: المعجزات، والسلطان المبين، راجع إلى التحدي بها، فهو من قبيل الإدعاج، أو: يكون السلطان راجعاً إلى ظهورها؛ إذ ليس من شرطها الظهور، أو: يرجع إلى نتيجتها، هو الغلبة والنصر. اهـ.
أرسل {إِلى فرعونَ وهامانَ وقارونَ فقالوا} فيما أظهره، أو: فيما ادّعاه من الرسالة: هو {ساحر كذَّابٌ فلمَّا جاءهم بالحقِ مِن عندنا} وهو الوحي والرسالة، {قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه} أي: صبيانهم الذكور، {واستحيُوا نساءَهم} للخدمة، أي: أَعيدوا عليهم القتل الذي كنتم تفعلونه أولاً، وكان فرعون قد كفَّ عن قتل الولدان؛ لئلا تعطل خدمته، فلما بُعث عليه السلام، وأحسَّ بأنه قد وقع ما توقع، أعاده عليهم غيظاً، وحُمقاً، وزعماً منه أن يصدهم بذلك عن مظاهرته. {وما كيدُ الكافرين إِلا في ضلالٍ}؛ في ضياع وبطلان، فإنهم باشروا قتلهم أولاً، فما أغنى عنهم، ونفذ قضاء الله بإظهار مَن خافوه، فما يغني عنهم هذا القتل الثاني، فلم يعلم أن كيده ضائع في الكَرّتين، واللام: إما للعهد المتقدم، والإظهار في موضع الإضمار؛ لذمهم بالكفر، والإشعار بعلة الحكم، أو: للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أوليّاً. والجملة: اعتراض جيء بها في تضاعيف ما حكى عنهم من الأباطيل؛ للمسارعة إلى بيان بطلان ما أظهروه من الإبراق والإرعاد الذي لا طائل تحته.
{وقال فرعونُ} لملئه: {ذروني أقتلْ موسى}، وكان ملَؤه إذا همَّ بقتله كفّوه، وقالوا: ليس بالذي تخافه، وهو أقل من ذلك، وما هو إلا ساحر، وإذا قتلتَه أدخلتَ شبهة على الناس، واعتقدوا أنك عجزت عن معارضته بالحجة، والظاهر من دهاء اللعين ونكارته أنه قد استيقن أنه نبيّ، وأن ما جاء به آيات باهرة، وما هو بسحر، ولكن كان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجَل بالهلاك، وكان قوله تمويهاً على قومه، وإيهاماً أنهم هم الكافُّون عن قتله، ولولاهم لقتله، وما كان يكفه إلا ما في نفسه من الفزع الهائل. وقوله: {وليَدْعُ رَبَّه} تجلُّد منه وإظهار لعدم المبالاة بدعائه، ولكنه أخوف ما يخافه.
ثم قال: {إِني أخافُ} إن لم أقتله {أن يُبدِّلَ دينَكُم} أي: بغير ما أنتم عليه من الدين، وهو عبادتهم له وللأصنام؛ لتقربهم إليه، {أو أن يُظْهِر في الأرض الفسادَ} أي: ما يفسد دنياكم من التحارب والتهارج إن لم يقدر على تبديل دينكم بالكلية. والحاصل: أنه قال: أخاف أن يُفسد عليكم دينكم، بدعوته إلى دينه، أو: يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من التقاتل والتهارج، الذي يذهب معه الأمن، وتتعطل المزارع والمكاسب والمعايش.
{وقال موسى} لَمَّا سَمِعَ ما أجراه من الحديث في قتله لقومه: {إِني عُذْتُ بربي وربِّكُم من كل متكبرٍ لا يؤمن بيوم الحساب}، صدّر عليه السلام كلامَه بإنَّ؛ تأكيداً له، وإظهاراً لمزية الاعتناء بمضمونه، وفرط الرغبة، وخصّ اسم الرب المنبئ عن الحفظ والتربية؛ إذ بهما يقع الحفظ.
وفي قوله: {وربكم} حث لهم على أن يقتدوا به، فيعوذوا بالله عياذتَه، ويعتصموا بالتوكل اعتصامَه، ولم يُسمّ فرعون، بل ذكره بوصف يعمه وغيره من الجبابرة؛ لتعميم الاستعاذة، والإشعار بعلة القساوة والجرأة على الله تعالى، وهو التكبُّر. قال ابن عرفة: أشار إلى أن كفره لم يكن لأجل أن موسى لم يأتِ بدليل ولا معجزة، ولم يكن أيضاً لخفاء تلك المعجزة، وعدم ظهورها، بل كان لجحود التعنُّت والتكبُّر، والإباية عن الانحطاط من سلطنة الملك إلى رتبة الاتِّباع. اهـ. وقال: {لا يؤمن بيوم الحساب}؛ لأنه إذا اجتمع في الرجل التجبُّر والتكذيب بالجزاء، وقلة المبالاة بالعاقبة، فقد استكمل أسباب القوة والجرأة على الله وعباده، والعياذ بالله.
الإشارة: قال القشيري: كان موسى عليه السلام أكرم خَلْقِه في وقته، وكان فرعون أخَسّ خَلْقِه في وقته؛ إذ لم يقل أحد: ما علمتُ لكم من إله غيري، فأرسل أخصَّ عباده إلى أخسّ عباده. ثم إن فرعون سعى في قتل موسى، واستعان على ذلك بخَيْله ورَجْله، ولكن كما قال تعالى: {وما كيد الكافرين إلا في ضلال}، وإذا حَفَرَ أحدٌ لِوَليِّ الله حُفرةً، ما وقع فيها غيرُ حافِرها، كذلك أجرى الحقُّ سُنَّتَه. اهـ.

.تفسير الآيات (28- 29):

{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وقال رجلٌ مؤمن}، قيل: كان قبطياً، ابن عَم لفرعون، آمن بموسى سرّاً، وقيل: كان إسرائيليّاً موحّداً، وهو المراد بقوله: {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20]، قال ابن عباس: اسمه حزقيل. وقال ابن إسحاق: جَبرل، وقيل: سمعان. وقيل: حبيب. و{مِن آلِ فرعونَ}: صفة ثانية لرجل، أو: صلة ليكتم، أي: {يكتم إيمانه} من فرعون وملائه: {أتقتلون رجلاً} أي: أتقصدون قلته كراهةَ {أن يقولَ ربي الله} وحده، من غير روية ولا تأمُّل في أمره؟ وهذا إنكار منه عليهم، كأنه قال: أترتكبون هذه الفعلة الشنعاء وهي قتل نفس محرمة من غير حجة، غير قوله الحق، وإقراره بالتوحيد؟ {وقد جاءكم بالبيناتِ} أي: والحال أنه جاءكم بالمعجزات الظاهرة، التي شاهدتموها وعاهدتموها من ربكم، يعني أنه لم يكتفِ ببينة واحدة، بل جاء ببينات كثيرة {من} عند {ربكم}، أضافه إليهم، استنزالاً لهم عن رتبة المكابرة، واستدراجاً للاعتراف.
ثم أخذهم بالاحتجاج فقال: {وإِن يَكُ كاذباً فعليه كذبهُ}، لا يتخطى وبال كذبه إلى غيره، فيحتاج في دفعه إلى قتله، {وإِن يك صادقاً يُصبكم بعضُ الذي يَعِدُكُم} من العذاب، احتج عليهم بطريق التقسيم؛ لأنه لا يخلو، إما أن يكون كاذباً أو صادقاً، فإن كان كاذباً فوبال كذبه عليه، وإن كان صادقاً يُصبكم قطعاً بعضُ ما يعدكم من العذاب، ولم يقل: كل الذي يعدكم، مع أنه وعد من نبيٍّ صادق، مداراة لهم وسلوكاً لطريق الإنصاف، فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم له، فكأنه قال: إن لم يصبكم الجميعُ يصبكم البعض، وليس فيه نفي لإصابة الكل، فكأنه قال: أقلّ ما فيه أن يصيبكم بعض ما يعدكم، وهو العذاب العاجل، وفي ذلك هلاككم، وكان وعَدَهم عذاب الدنيا والآخرة. وتفسير البضع بالكلّ مزيّف. {إِن الله لا يهدي مَن هو مُسْرِفٌ كذّاب}، هذا احتجاج آخر ذو وجهين: أحدهما: أنه لو كان مُسرفاً كذاباً لَمَا هداه الله إلى النبوة، ولما عضده بتلك البينات، وثانيهما: إن كان كذلك خذله الله وأهلكه، فلا حاجة إلى قتله. وقيل: أوهم أنه يريد بالمُسرف موسى، وهو يعني به فرعون، ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى اعتراضاً بين أجزاء وعظه، إخباراً بما سبق لهم من الشقاء، فلا ينفع فيهم الوعظ.
ثم قال: {يا قوم لكم الملكُ اليومَ} حال كونكم {ظاهرين}؛ غالبين عالين على بني إسرائيل {في الأرض}؛ أرض مصر، لا يقاومكم أحد في هذا الوقت، {فمَن ينصُرنا من بأس الله إِن جاءنا} يعني: إن لكم اليوم مُلك مصر، وقد علوتم الناس، وقهرتموهم، فلا تُسرفوا على أنفسكم، ولا تتعرّضوا لبأس الله، أي: عذابه؛ فإنه لا طاقة لكم به إن جاءكم، ولا يمنعكم منه أحد.
وإنما نسب ما يُسرهم من المُلك والظهور في الأرض إليهم خاصة، ونظم نفسه فيما يسوؤهم، من مجيء بأس الله تعالى، إمحاضاً للنصح، وإيذاناً بأن الذي ينصحهم به هو مساهم لهم فيه.
{قال فرعونُ} بعدما سمع نصحه لقومه: {ما أُرِيكُم} أي: ما أُشير عليكم {إِلا ما أرى} وأستصوبه من قتل موسى، يعني: لا أستصوب إلا قتله، وهذا الذي تقولونه غير صواب، {وما أَهديكم} بهذا الرأي {إِلا سبيل الرشاد} أي: الصواب، ولا أعلنكم إلا ما أعلم، ولا أُسِرُّ عنكم شيئاً خلاف ما أُظهِر، يعني: أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول، وقد كذب اللعين، فقد كان مضمراً للخوف الشديد من جهة موسى عليه السلام، ولكنه كان يتجلَّد، ولولا استشعاره للخوف لم يستشر أحداً في قتله، وقد كان سفَّاكاً جبّاراً، فما منعه إلا خوف الهلاك إن مدّ يده إليه، والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال القشيري: قد نصح وأبلغ مؤمنٌ آل فرعون، واحتجَّ عليهم، فلم ينجعْ فيهم قوله، وأعاد عليهم نصحه فلم يسمعوا، وكان كما قيل:
وَكَمْ سُقْتُ في آثارِكُم مِن نَصيحةٍ ** وَقَدْ يَستفيدُ البغْضَةَ الْمُسْتَنْصِحُ