فصل: تفسير الآيات (79- 81):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (79- 81):

{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)}
يقول الحق جلّ جلاله: {الله الذي جعل}؛ خلق {لكم الأنعامَ}؛ الإبل {لتركبوا منها ومنها تأكلون} أي: لتركبوا بعضها، وتأكلوا بعضها، وليس المراد: أن الركوب والأكل مختص ببعض معين منها، بحيث لا يجوز تعلُّقه بالآخر، بل على أن بعضاً منها صالح لكل منهما. {ولكم فيها منافعُ} أُخر غير الركوب، كألبانها وأوبارها وجلودها، {ولِتبلُغوا عليها حاجةً} أي: ما تحتاجون إليه من حمل أثقالكم من بلد إلى بلد، {في صُدورِكمْ}؛ في قلوبكم، {وعليها وعلى الفلك تُحملون} أي: وعليها في البر، وعلى الفلك في البحر تُحملون، ولعل المراد به: حمل النساء والولدان عليها بالهودج، وهو السر في فصله عن الركوب. والجمع بينها وبين الفلك في الحمل؛ لِمَا بينهما من المناسبة، حتى سُميت الإبل: سفائن البر.
وقيل: المراد بالأنعام: الأزواج الثمانية، على أن المعنى: لتركبوا بعضها، وهي الإبل، وتأكلوا بعضها، وهي الغنم والبقر، فذكر ما هُوَ الأهم من كلٍّ، والمنافع تعم الكل، وبلوغ الحاجة تعم الإبل والبقر. وقال الثعلبي: التقدير: لتركبوا منها بعضاً، ومنها تأكلون، فحذف بعضاً للعلم به.
{ويُريكم آياته}؛ دلائله الدالة على قدرته ووفور رحمته، {فأيَّ آياتِ الله} أي: فأيّ آية من تلك الآيات الباهرة {تُنكرون}؟ فإن كُلاًّ منها من الظهور بحيث لا يكاد يجترئ على إنكارها، و{آيات} نصب بتنكرون، وتذكير {أيّ} مع تأنيث المضاف إليه، هو الشائع المستفيض، والتأنيث قليل؛ لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات، نحو: حمار وحمارة غريب، وهي في {أيّ} أغرب؛ لإبهامه.
الإشارة: ما أعظم قدرك أيها الإنسان إن اتقيت الله، وعرفت نعمه، فقد سلّطك على ما في الكون بأسره، الحيوانات تخدمك، وتنتفع بها، أكْلاً، وركوباً، وملبساً، وحملاً، والبحر يحملك، والأرض تُقلك، والسماء تُظلك، وما قنع لك بالدنيا حتى ادخر لك الآخرة، التي هي دار الدوام، فإن شكرت هذه النعم فأنت أعز ما في الوجود، وإن كفرتها فأنت أهون ما في الوجود. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (82- 85):

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)}
يقول الحق جلّ جلاله: {أَفَلَمْ يسيروا} أي: أَقعدوا فلم يسيروا {في الأرض} {فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم} من الأمم المهْلَكة، {كانوا أكثرَ منهم} عدداً {وأشدَّ قوةً} في الأبدان والأموال، {و} أشد {آثاراً في الأرض} أي: تركوا آثاراً كثيرة بعدهم، من الأبنية، والقبور، والمصانع، فكانوا أشدّ منهم، وقيل: هي آثار أقدامهم في الأرض؛ لِعظم أجرامهم، {فما أَغْنى عنهم ما كانوا يَكْسِبون} أي: لم يغن عنهم ذلك شيئاً حين نزل بهم العذاب، أو: أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم؟ على أنَّ {ما} استفهام.
{فلما جاءتهم رُسلهم بالبيناتِ}؛ بالمعجزات الواضحة، {فرحوا بما عندهم من العلم} يريد علمهم بأمور الدنيا، ومعرفتهم بتدبيرها، كما قال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الأَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]، فلما جاءتهم الرسل بعلوم الديانة، والتأهُّب ليوم القيامة، وهي أبعد شيء من علمهم؛ لبعثِها على رفض الدنيا، والتباعد عن تتبع ملاذها، لم يلتفتوا إليها، وصغّروها، واستهزؤوا بها، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفؤاد من علمهم، ففرحوا به. أو: علم التنجيم والفلسفة، والدهريّين؛ فإنهم كانوا إذا سمعوا بالوحي دفعوه، وصغّروا علم الأنبياء إلى علمهم، واعتقدوا عندهم علماً يستغنون به عن علم الأنبياء عليهم السلام ولما سمع بقراط بموسى عليه السلام قيل له: لو هاجرت إليه! فقال: نحن قوم مهذَّبون، فلا حاجة إلى مَن يُهذّبنا.
ورأى بعضُ الصالحين النبيَّ صلى الله عليه وسلم فسأله عن ابن سيرين، فقال له: «إِنه أراد أن يصل إلى الله بلا واسطة، فانقطع عن الله» وعلى فرض وقوفهم بالتجريد والرياضة على انكشاف حضرة القدس، فلا يظفرون بالعبودية، ولا بالفناء في توحيد الربوبية، والتخلُّص من لَوَث وجودهم، والشأن أن تكون عين الاسم، لا أن تعرف الاسم والعين، إنما تقتبس من مشكاة مهبط الوحي، وانصباب أنوار الغيب إنما تفيض بواسطة دُرة الوجود، نبينا صلى الله عليه وسلم، ومظهر سر العيان الأحدي الأحمدي، فافهم. قاله شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي.
قال تعالى: {وحاقَ بهم ما كانوا به يستهزئون} أي: نزل بهم عقوبة استخفافهم بالحق، وتعظيمهم واغتباطهم بالباطل. {فلما رأوا بأسَنا}؛ شدة عذابنا، ومنه: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165]، {قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين} يعنون الأصنام.
{فلم يَكُ ينفعهم إِيمانُهم لَمّا رأَوْا بأسَنَا} أي: فلم يستقم، ولم يصح أن ينفعهم إيمانهم عند مجيء العذاب؛ لأن النافع هو الإيمان الاختياري، لا الاضطراري، {سُنَّتَ اللهِ التي قد خلتْ في عباده} أي: سَنَّ اللهُ ذلك سُنَّة ماضية في عباده، ألاَّ يُقبل الإيمان إلا قبل نزول العذاب. وهو من المصادر المؤكدة، نحو: وعد الله، ونحوه. {وخَسِرَ هُنالك الكافرون} أي: وقت رؤيتهم البأس.
فهنالك: مكان استعير للزمان، والكافرون خاسرون في كل أوان، ولكن يتبيّن خسرانهم إذا عاينوا العذاب.
وفائدة ترادف الفاءات في هذه الآيات: أن {فما أغنى عنهم} نيتجة قوله: {كانوا أكثر منهم} و{فلما جاءتهم رسلهم} كالبيان والتفسير لقوله: {فما أغنى عنهم}، كقولك: رُزِق زيد المال، فمَنَع المعروف، فلم يحسن إلى الفقراء، و{فلما رأوا بأسنا} تابع لقوله: {فلما جاءتهم}، كأنه قال: فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا. وكذلك {فلم يك ينفعهم إيمانهم} تابع لإيمانهم لمّا رأوا بأس الله، والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد تقدّم مراراً الحث على عبادة التفكُّر. وقوله تعالى: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم...} الآية، كذلك مَن يَظهر بعلم التجريد، ويتكلم في أسرار التوحيد، سَخِرَ منه أهل زمانه، ويقنعون بما عندهم من علم الرسوم الظاهرة، وهو علم لا يُغني ولا يُفني؛ لأن جله يتعلق بمنافع الناس، لا بمنافع القلب، فلا يُغني القلب، ولا يُفني الحِس، إنما ينفع لطالب الأجور، لا لطالب الحضور ورفع الستور، وما مثال مَن ظفر بعلم القلوب وهو أسرار التوحيد الخاص إلا كمَن عنده كنز من الفلوس، ثم ظفر بالذهب الإبريز، او الإكسير، فكيف يمكن أن يلتفت إلى الفلوس مَن ظفر بالإكسير؟! ولا يظهر هذا لأهل الظاهر إلا بعد موتهم، فيؤمنوا به حيث لا ينفعهم.
وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.

.سورة فصلت:

.تفسير الآيات (1- 8):

{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)}
قلت: {تنزيل}: خبر عن مضمر، أي: هذا تنزيل. و{كتاب}. بدل من {تنزيل}، أو: خبر بعد خبر، و{تنزيل}: مبتدأ. و{من الرحمن}: صفة، و{كتاب}. خبره، و{قرآناً}: منصوب على الاختصاص والمدح، أو: حال، أي: فُصِّلت آياته في حال كونه قرآناً. و{لقوم}: متعلق بفُصِّلت، أو: صفة، مثل ما قبله وما بعده، أي: قرآناً عربياً كائناً لقوم يعلمون. و{بشيراً ونذيراً}: صفتان ل {قرآناً}.
يقول الحق جلّ جلاله: {حم}؛ يا محمد هذا {تنزيلٌ}، قاله القشيري: أي: بحقي وحياتي ومجدي في ذاتي وصفاتي، هذا تنزيلٌ {من الرحمن الرحيم}. ونسبة التنزيل إلى الرحمن الرحيم للإيذان بأنه نزل للمصالح الدينية والدنيوية، واقع بمقتضى الرحمة الربانية، حسبما ينبئ عنه قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، {كتاب فُصّلت آياتُه}؛ مُيزت وجُعلت تفاصيل في أساليب مختلفة، ومعانٍ متغايرة؛ من أحكام، وتوحيد، وقصص، ومواعظ، ووعد، ووعيد وغير ذلك، {قرآناً عربياً} أي: أعني قرآناً بلسان العرب كائناً {لقوم يعلمون} معانيه، ويتدبّرون في آياته؛ لكونه على لسانهم، أو: لأهل العلم والنظر؛ لأنهم المنتفعون به.
{بشيراً ونذيراً}؛ بشيراً لأهل الطاعة، ونذيراً لأهل المعصية، {فأعْرَض أكثرُهم} عن الإيمان به والتدبُّر في معانيه مع كونه على لغتهم، {فهم لا يسمعون} سماع تفكُّر وتأمُّل، حتى يفهموا جلالة قدره؛ فيؤمنوا به.
{وقالوا} للرسول عليه الصلاة والسلام عند دعوته إياهم إلى الإيمان والعمل بما في القرآن: {قلوبنا في أَكِنَّةٍ} أي: أغطية متكاثفة، {وفي آذاننا وَقْر}؛ صمم وثِقَل يمنعنا من استماع قولك، {ومن بيننا وبينك حجاب} غليظ، وستر مانع يمنعنا من التواصل إليك. و{من} للدلالة على أن الحجاب مبتدى منهم ومنه بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة، ولم يبق ثمَّ فراغ أصلاً. وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق وقبوله، ومج أسماعهم له، كأنَّ بها صمماً وثِقلاً منعهم من موافقتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالوا: {فاعمل} على دينك وإبطال ديننا، {إِننا عاملون} على ديننا، لا نفارقه أبداً.
{قُلْ إِنما أنا بشر مثلُكم يُوحَى إِليَّ أَنَّما إِلهكُم إِله واحد}، هذا تلقين للجواب عنه، أي: لستُ من جنسٍ مباينٍ لكم حتى يكون بيني وبينكم حجاب، وتباين مصحح لتباين الأعمال والأديان، كما ينبئ عنه قوله: {فاعلم إننا عاملون}، بل إنما أنا بشر مثلكم، مأمور بما أُمرتم به من التوحيد، حيث أخبرنا جميعاً بأن إلهنا واحد، فالخطاب في {إلهكم} محكي منتظم للكل، لا أنه خطاب منه عليه الصلاة والسلام للكفرة. وقيل: لمّا دعاهم إلى الإيمان، قالوا: إنا نراك مثلنا، تأكل وتشرب، فلو كنتَ رسولاً لاستغنيت عن ذلك، فأنزل: {قل إنما أنا بشر.
..} الآية.
{فاستقيموا إِليه} بالتوحيد وإخلاص العبادة، غير ذاهبين يميناً وشمالاً، ولا ملتفتين إلى ما يُسوّل لكم الشيطانُ من عبادة الأصنام... قال تعالى: {واستغفروه} مما كنتم عليه من سوء العقيدة. والفاء لترتيب ما قبلها من إيحاء التوحيد على ما بعدها من الاستقامة، {وويل للمشركين}، وهو ترهيب وتنفير لهم عن الشرك إثر ترغيبهم في التوحيد.
ووصفهم بقوله: {الذين لا يؤتون الزكاة} أي: لا يؤمنون بوجوب الزكاة ولا يُعطونها، وهو إخبار بما سيقع، إذ لم تكن الزكاة حينئذ مفروضة، أو: لا يفعلون ما يكونون به أزكياء، وهو الإيمان. وفيه تحذير من منع الزكاة، حيث جعله من أوصاف المشركين. {وهم بالآخرة هم كافرون} أي: وهم بالبعث والثواب والعقاب كافرون. والجملة: عطف على {يؤتون} داخل في الصلة. وإنما جعل منع الزكاة مقروناً بالكفر بالآخرة لأن أحب شيء إلى الإنسان ماله، وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على استقامته، وصدق نيته، وخلوص طويته، وما ارتدت العرب إلا بمنعها.
{إِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجرٌ غيرُ ممنونٍ}؛ غير مقطوع، من: مننت الحبل: قطعته، أو: غير ممنون به عليهم. وقيل: نزلت في المرضى والهَرْمَى، إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون.
الإشارة: كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو إلى الإيمان بالقرآن والعمل به، وخلفاؤه من مشايخ التربية يدعون إلى تصفية البواطن، لتتهيأ لفهمه والغوص عن أسراره، وحضور القلب عند تلاوته، فأعرض أكثرُ الناس عن صُحبتهم، {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه...} إلى تمام الآية. فبقيت قلوبهم مغلفة بسبب الهوى، ألسنتهم تتلو وقلوبهم تجول في أودية الدينا، فلا حضور ولا تدبُّر، فلا حول ولا قوة إلا بالله، فإذا طلَبوا من المشايخ الذين هم أطبّة القلوب الكرامة، يقولون ما قالت الرسل: إنما نحن بشر يُوحى إلينا وحي إلهام بوحدانية الحق، وانفراده بالوجود، فاستقيموا إليه بتصفية بواطنكم، واستغفروه من سالف زلاتكم، فإن بقيتم على ما أنتم عليه من الشرك ورؤية السِّوى، فويل للمشركين الذين لا يُزكُّون أنفسهم، وهم بالآخرة حيث لم يتأهّبوا لها كلَّ التأهُّب هم الكافرون. إن الذين آمنوا إيمان الخصوص، بصحبة الخصوص، لهم أجر غير ممنون، وهو شهود الحق على الدوام. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (9- 12):

{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)}
قلت: {وتجعلون}: عطف على {تكفرون}. و{جَعَلَ}: عطف على {خَلَقَ} داخل في حيز الصلة، و{سواء}: مَن نَصَبَه فمصدر أي: استوت سواء. ومَن جَرَّه فصفة لأيام، ومَن رفعه فخبر هي سواء. و{للسائلين}: متعلق بقدّر، أو: بمحذوف، أي: هذا الحصر للسائلين عن مدة خلق الأرض.
يقول الحق جلّ جلاله: {قل أَئِنَّكم لتكفرون بالذي خلقَ الأرضَ في يومين} وهما الأحد والاثنين، تعليماً للتأني، ولو أراد أن يخلقها في لحظة لفعل. {وتجعلون له أنداداً}؛ شركاء وأشباهاً. والحال أنه لا يمكن أن يكون له ند واحد، فضلاً عن التعدُّد، وكيف يكون الحادث المعدوم ندّاً للقديم؟! {ذلك} الذي خلق ما سبق. وما في الإشارة من معنى البُعد مع قرب العهد بالمشار إليه لبُعد منزلته في العظمة، أي: ذلك العظيم الشأن هو {ربُّ العالمين} أي: خالق جميع الموجودات ومُربِّيها، فكيف يتصور أن يكون أخس الخلق نِدّاً له؟!
{وجعل فيها رواسي}؛ جبالاً ثوابت كائنة {من فوقها}، وإنما اختار إرساءها من فوق الأرض لتكون منافع الجبال مُعرَضة لأهلها، ويظهر للناظرين ما فيها من مراصد الاعبتار، ومطارح الأفكار، فإن الأرض والجبال أثقال على أثقال، كلها ممسَكة بقدرة الله عزّ وجل. {وباركَ فيها} أي: قدّر بأن يكثر خيرها بما يخلق فيها من منافع، ويجعل فيها من المصالح، وما ينبت فيها من الطيبات والأطعمة وأصناف النعم. {وقدّر فيها أقواتَها} أي: حكم أن يوجد فيها لأهلها ما يحتاجون إليه من الأقوات المختلفة المناسبة لهم على مقدار مُعين، تقتضيه الحكمة والمشيئة، وما يصلح بمعايشهم من الثمار والأنهار والأشجار، وجعل الأقوات مختلفة في الطعم والصورة والمقدار، وقيل: خصابها التي قسمها في البلاد. جعل ذلك {في أربعةِ أيام} أي: تتمة أربعة أيام، يومين للخلق، ويومين لتقدير الأقوات، كما تقول: سِرت إلى البصرة في عشرة، وإلى الكوفة في خمسة عشر، أي: في تتمة خمسة عشر، ولو أجري الكلام على ظاهرة لكانت ثمانية أيام؛ يومين للخلق؛ وأربعة للتقدير، ويومين لخلق السماء، وهو مناقض لقوله: {فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54].
وقوله: {سواء} راجع للأربعة، أي: في أربعة أيام مستويات تامات، أو: استوت سواء {للسائلين} أي: قدَّر فيها الأقوات للطالبين لها والمحتاجين إليها، لأن كلاًّ يطلب القوت ويسأله، أو هذا الحصر في هذه الأيام لأجل مَن سأل: في كم خلقت الأرض وما فيها؟
{ثم استوى إِلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طَوعاً أو كَرهاً قالتا أتينا طائعين}، الاستواء مجاز عن إيجاد الله تعالى السماء على ما أراد، تقول العرب: فعل فلان كذا ثم استوى إلى عمل كذا، يريدون أنه أكمل الأول وابتدأ الثاني، أو قصد وانتهى. فالاستواء إذا عدي ب إلى فهو بمعنى الانتهاء إليه بالذات أو بالتدبير، وإذا عدّي ب على فبمعنى الاستعلاء، ويفهم منه أن خلق السماء بعد الأرض، وهو كذلك، وأما دحو الأرض وتقدير أقواتها فمؤخر عن السماء، كما صرح في قوله: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَآ} [النازعات: 30]، والترتيب في الخارج: أنه خلق الأرض، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض في يومين، ف ثم للتفاوت بين الخلقين لا للترتيب، أو: للتفاوت في المرتبة، ترقياً من الأدنى إلى الأعلى، كقول القائل:
إِنْ مَنْ ساد ثم ساد أبوه ** ثم قد ساد بعد ذلك جَدُّه

وفي بعض الأحاديث: «إن الله خلق الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والعُمران والخراب، فتلك أربعة أيام، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة، وخلق آدم عليه السلام في آخر ساعة من يوم الجمعة» وهي الساعة التي تقوم فيها الساعة. قاله النسفي، وفي حديث مسلم ما يخالفه.
قال ابن عباس رضي الله عنه: أول ما خلق الله أي: بعد العرش جوهرة طُولها وعرضها ألف سنة، فنظر إليها بالهيبة، فذابت وصارت ماء، فكان العرش على الماء، فاضطرب الماء، فثار منه دخان، فارتفع إلى الجو، واجتمع زيد، فقام فوق الماء، فجعل الزبد أرضاً، ثم فتقها سبعاً، والدخان سماء، فسوّاهن سبع سموات.
ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان طوعاً أو كرهاً وامتثالهما؛ أنه أراد أن يُكوّنهما، فلم يمتنعا عليه، ووجدتَا كما أراد، وكانتا في ذلك كالمأمور والمطيع، وإنما ذكر الأرض مع السماء في الأمر بالإتيان، مع أن الأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؛ لأن المعنى: ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف، أي: ائتي يا أرض مدحوة قراراً ومهاداً لأهلك، وائتي يا سماء مبنية سقفاً لهم، ومعنى الإتيان: الحصول والوقوع.
وقوله: {طوعاً أو كَرهاً} لبيان تأثير قدرته فيهما، وأن امتناعهما عن قدرته مُحال؛ كما تقول لمَن تحت يدك: لتفعلن هذا شئت أو أبيت، طوعاً أو كرهاً. وقال ابن عطية: الأمر بالإتيان بعد اختراعهما، قال: وهنا حذف، أي: ثم استوى إلى السماء فأوجدها، وأتقنها، وأكمل أمرها، وحينئذ قال لها وللأرض: ائتيا لأمري وإرادتي فيكما، والمراد: تنجيزهما لما أراده منهما، وما قدر من أعمالهما. اهـ. حُكي أن بعض الأنبياء قال: يا رب لو أن السماوات والأرض حين قلت لهما: ائتيا طوعاً أو كرهاً عصتاك، ما كنت صانعاً بهما؟ قال: كنتُ آمر دابة من دوابي فتبتلعهما، قال: وأين تلك الدابة؟ قال: في مرج من مروجي، قال: وأين ذلك المرج؟ قال: في علم من علومي.
وانتصاب {طوعاً أو كرهاً} على الحال، أي: طائعين أو مكرهين. ولم يقل {طائعتين}؛ لأن المراد الجنس، أي: السموات والأرضين، وجمع جمع العقلاء لوصفهما بالطوع والكره، اللذين من وصف العقلاء، وقال: طائعين في موضع طائعات؛ تغليباً للتذكير؛ لشرفه، كقوله: {سَاجِدِينَ} [يوسف: 4].
{فقضاهنّ سبعَ سماواتٍ} أي: فأحكم خلقهن، وأتقن أمرهن سبعاً، حسبما تقتضيه الحكمة، فالضمير راجع إلى السماء، لأنه جنس، يجوز أن يكون الضمير مبهماً مفسراً بقوله: {سبع سماوات}، فينتصب سبع على الأول حالاً، وعلى الثاني تمييزاً. حصل ذلك القضاء {في يومين}؛ الخميس والجمعة، أي: في وقتين قدر يومين، فكان المجموع ستة أيام، {وأَوحى في كلِّ سماءٍ أمرها} أي: أوحى إلى ساكنها وعُمّارها من الملائكة في كل سماء ما شاء الله من الأمور، التي تليق بهم، كالخدمة وأنواع العبادة، وإلى السماء في نفسها ما شاء الله من الأمور التي بها قوامها وصلاحها.
{وزيّنا السماء الدنيا بمصابيح}؛ كالشمس والقمر والنجوم، وهي زينة السماء الدنيا، سواء كانت فيها أو فيما فوقها؛ لأنها تُرى متلألأة عليها كأنها فيها، والالتفات إلى نون العظمة لإبراز مزيد العناية بأمرها، {وحفظاً} أي: حفظناها حفظاً من المسترقة، أو من الآفات، فهو مصدر لمحذوف، وقيل: مفعول لأجله على المعنى، أي: وجعلنا المصابيح للزينة والحفظ. {ذلك تقديرُ العزيز العليم} أي: ذلك الذي ذكر تفصيله تقدير البالغ في القدرة والعلم، أو: الغالب العليم بمواقع الأمور.
الإشارة: خلق الحق تعالى أرض النفوس محلاًّ للعبودية، وأرساها بجبال العقل، لئلا تميل إلى بحر الهوى، وبارك فيها، بأن جعل فيها صالحين وأبراراً، وعباداً وزهاداً، وعُلماء أتقياء، وقدّر لها أقواتها الحسية والمعنوية، فجعل الحسية سواء للسائلين، أي: مستوية لا يزيد بالطلب ولا بالتعب، ولا ينقص، ففيه تأديب لمَن لم يرضَ بقسمته، والأرزاق المعنوية: أرزاق القلوب من اليقين والمعرفة، يزيد بالطلب والتعب، وينقص بنقصانه، حكمة من الحكيم العليم، ثم استوى إلى سماء الأرواح، أي: قصدها بالدعاء إليه، وهي لطائف، فقال لها ولأرض النفوس: ائتيا إلى حضرتي، طوعاً أو كرهاً، قالتا: أتينا طائعين، فقضاهن سبع طبقات، وهي دوائر الأولياء، دائرة الغوث، ثم دائرة الأقطاب، ثم الأوتاد، ثم النقباء، ثم النجباء، ثم الأبرار، ثم الصالحين. وأوحى في كل سماء، أي: في كل دائرة ما يليق بها من العبادة، فمنهم مَن عبادته الشهود والعيان، ومنهم مَن عبادته الفكرة، ومنهم الركوع والسجود، ومنهم التلاوة والذكر... إلى غير ذلك من أنواع الأعمال.
قال القشيري: وجعل نفوسَ العابدين، أرضاً لطاعته وعبادته، وجعل قلوبهم فَلَكاً لنجوم علمه، وشموس معرفته، فأوتاد النفوس الخوفُ والرجاءُ، والرغبةُ والرهبة، وفي القلوب ضياءُ العرفان، وشموس التوحيد، ونجوم العلوم والعقول، والنفوس والقلوب، بيده يُصَرِّفُها على ما أراد من أحكامه. وقال في قوله: {وجعل فيها رواسي من فوقها}: الجبالُ أوتادُ الأرض، في الصورة، والأولياءُ رواسي الأرض في الحقيقة، بهم تنزل البركة والأمطار، وبهم يُدفع البلاء. ثم قال: قوله تعالى: {وزيَّنا السماء الدنيا بمصابيح} وزيَّن وجه الأرض بمصابيح، وهي قلوب الأحباب، فأهلُ السماء إذا نظروا إلى قلوب أولياء الله بالليل، فذلك متنزهُهُم، كما أن أهل الأرض إذا نظروا إلى السماء تأنّسوا برؤية الكواكب. اهـ.