فصل: تفسير الآيات (74- 80):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (74- 80):

{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)}
قلت: {خالدون}: خبر {إن}، و{في عذاب}: معمول الخبر، أو: خبر، و{خالدون} خبر بعد خبر.
يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّ المجرمين} أي: الراسخين في الإجرام، وهم الكفار، كما ينبئ عنه إتيانه في مقابلة المؤمنين {في عذاب جهنم خالدون لا يُفَتَّرُ عنهم}؛ لا يخفف عنهم، من قولهم: فترت عنه الحمى: سكتت. قال القشيري: هم الكفار والمشركون، أهل الخلود، لا يُخفف عنهم، وأما أهل التوحيد فقد يكون قومٌ منهم في النار، ولكن لا يخلدون فيها؛ فيقتضي دليل الخطاب أنه يُفتَّرُ عنهم العذاب، أي: يخفف، وورد في الخبر الصحيح: «أن الحق يُميتهم إماتة إلى أن يخرجوا منها» والميت لا يحس ولا يألم، وذكر في الآية أنهم {مبلسون} فيدلّ أن المؤمنين لا إبلاس لهم، وإن كانوا في بلائهم فهُمْ عَلَى وصف رجائهم، ويُعدون أيامهم. اهـ.
وحمل ابن عطية الموت على المقاربة، لا الموت حقيقة؛ لأن الآخرة لا موت فيها، قال: والحديث أراه على التشبيه، لأنه كالسُبات والركود والهمود، فجعله موتاً. انظره في {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى} [الأعلى: 13]. وقال عياض في الإكمال: عن بعض المتكلمين: يحتمل الحقيقة، ويحتمل الغيبة عن الإحساس، كالنوم، وقد سمي النوم وفاتاً؛ لإعاده الحس. اهـ.
{وهم فيه} أي: في العذاب {مُبلِسُون} آيسون من الفرج، متحيّرون، {وما ظلمناهم} بذلك، حيث أرسلناك الرسل {ولكن كانوا هم الظالمين} بتعريض أنفسهم للعذاب الخالد، بمخالفة الرسل، وإيثارهم التقليد على النظر.
{ونادَوْا} وهم في النار لمَّا أيسوا من الفتور {يا مالكُ} وهو خازن النار. قيل لابن عباس: إن ابن مسعود يقرأ {يا مَالِ}- ورُويت عن النبي صلى الله عليه وسلم- فقال: ما أشغلَ أهلَ النَّار عن الترخيم، قيل: هو رمز إلى ضعفهم وعجزهم عن تمام اللفظ. {ليقض علينا ربُّك} أي: ليُمِتْنا حتى نستريح، مِن: قضى عليه إذا أماته، والمعنى: سل ربك أن يقضي علينا بالموت، وهذا لا ينافي ماذكر من إبلاسهم؛ لأنه جُؤار، وتمني الموت؛ لفرط الشدة. {قال إِنكم ماكثون}؛ لابثون في العذاب، لا تتخلصون منه بموت ولا فتور، قال الأعمش: أُنبئت أن بين دعائهم وبين إجابتهم ألف عام، وفي الحديث: «لو قِيلَ لأهل النار: إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا؛ ولو قيل لأهل الجنة ذلك لحزنوا، ولكن جعل الله لهم الأبد».
{لقد جئناكم بالحقّ} في الدنيا بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وهو خطاب توبيخ وتقريع من جهته تعالى، مقرر لجواب مالك، ومُبين لسبب مكثهم، وقيل: الضمير في {قال} لله تعالى، أي: لقد أعذرنا إليكم بإرسال الرسل بالحق {ولكن أكثرَهم للحقِّ} أيّ حق كان {كارهون} لا تسمعونه وتفرُّون منه؛ لأن مع الباطل الدَّعة، ومع الحق التعب، هذا في مطلق الحق، وأما في الحق المعهود، الذي هو التوحيد والقرآن، فكلهم كارهون مشمئزون منه.
{أم أبْرَموا أمراً} مبتدأ، ناعٍ على المشركين ما فعلوا من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، و{أم} منقطعة، وما فيها من معنى {بل} للانتقال من توبيخ أهل النار إلى حكاية جناية هؤلاء، أي: أم أحكم مشركو مكة أمراً من كيدهم ومكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، {فإِنا مُبْرِمُون} كيدنا حقيقة، كما أبرموا كيدهم صورة، كقوله تعالى: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ} [فاطر: 42] الآية. وكانوا يتناجون في أنديتهم. ويتشاورون في أمره صلى الله عليه وسلم.
{أم يحسبون} بل يحسبون {أنا لا نسمعَ سِرَّهم} وهو ما حدَّثوا به أنفسهم أو غيرهم في مكان خال، {ونجواهم} أي: ما تكلّموا به فيما بينهم بطريق التناجي، {بلى} نحن نسمعها ونطَّلع عليها {ورسلُنا} الملائكة الذين يحفظون عليهم أعمالهم، ويلازمونهم أينما كانوا {لديهم} أي: عندهم {يكتبون} كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال، ومن جملتها: ما ذكر من سرهم ونجواهم، والجملة: إما عطف على ما يترجم عنه {بلى}، أي: نكتبها ورسلنا كذلك، أو حال، أي: نسمعها والحال أن رسلنا يكتبونه.
الإشارة: قوله تعالى: {إن المجرمين...} إلخ.. أما أهل الشرك فقد اتفق المسلمون على خلودهم، إلا ما انفرد به ابن العربي الحاتمي والجيلي، فقد نقلاً خبراً مأثوراً: أن النار تخرب، وينبت موضعها الجرجير، وينتقل زبانيتها إلى خزنة الجنان، فهذا من جهة الكرم وشمول الرحمة لا يمنع، ومن جهة ظواهر النصوص معارض، وباطن المشيئة مما اختص الله تعالى به. ونقل الجيلي أيضاً في كتابه (الإنسان الكامل): أن بعض أهل النار أفضل عند الله من بعض أهل الجنة يتجلّى لهم الحق تعالى في دار الشقاء. ونقل أيضاً: أن بعض أهل النار تعرض عليهم الجنة فيأنفون فيها، وان بعض أهل النار يتلذّذون بها كصاحب الجرب. وذكر بعضهم أن أهل النار يتطبعون بها، كالسمندل، فهذه مقالات غريبة، الله أعلم بصحتها. وعلى تقدير وقوعها في غيب مشيئته تعالى، فلعلها في قوم مخصوصين من المسلمين ختم لهم بالشقاء بعد مُقاساة شدائد الطاعة، أو: في قوم من أهل الفترة لم يكن فيهم إذاية، أو صدر منهم إحسان، والله أعلم بأسرار غيبه، وأما أهل التوحيد فحالهم في النار أرفق من هذا، بل حالهم فيها أروح من حال الدنيا من وجه.
قال القشيري: ولقد قال الشيوخ: إن حالَ المؤمنين في النار- من وجه- أرْوَحُ لقلوبهم من حالهم اليوم في الدنيا؛ لأن اليوم خوف الهلاك؛ وغداً يقين النجاة، وأنشدوا:
عَيبُ السلامة أَنَّ صاحبَها ** مُتَوَقِّعٌ لِقَوَاصِمِ الظَّهْرِ

وفَضِيلَةُ البَلْوَى تَرَقُّبُ أهلِها ** عُقْبَى الرَّجَاءِ ودَوْرَةُ الدَّهْرِ

ثم قال في قوله تعالى: {ونادوا يا مالك} لو قالوا: يا مَلِك بدل من يا مالك لكان أقربَ إلى الإجابة، ولكنَّ الأجنبيةَ حالت بينهم وبين ذلك. اهـ. أي: تعلقهم بالمخلوق دون الخالق. وقوله تعالى: {أم أبرموا أمراً...} إلخ، هي عادته تعالى مع خواصه كيفما كانوا، يرد كيد مَن كادهم في نحره. وقوله تعالى: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم...} إلخ، قال القشيري: إنما خوَّفهم بسماع الملائكة، وكتابتهم أعمالهم عليهم، لغفلتهم عن الله، ولو كان لهم خبر عن الله لما خوّفهم بغير الله، ومَن عَلِمَ أن أعماله تُكتَبُ عليه، ويُطالَب بمقتضاها، قلَّ إلمامُه بما يخاف أن يُسأَلَ عنه. اهـ.

.تفسير الآيات (81- 86):

{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)}
يقول الحق جلّ جلاله: {قلْ} يا محمد {إن كان للرحمن ولدٌ} على زعمكم {فأنا أول العابدين} لله، كان أو لم يكن، ويسمى هذا إرخاء العنان، أي: أنا أول مَن يخضع لله، كان له ولد أو لم يكن، وقد قام البرهان على نفيه. قال معناه السدي، أو: وإن كان للرحمن ولد فأنا أول مَن يعظم ذلك الولد، وأسبقكم إلى طاعته، والانقياد إليه، كما يعظم ولد الملِك، لتعظيم أبيه؛ وهذا الكلام وارد على سبيل الفرض، والمراد: نفي الولد، وذلك أنه علَّق العبادة بكينونة الولد، وهي محال في نفسها، فكان الملعلق بها محالاً مثلها، ونظيره، قول سعيد بن جبير للحجاج- حين قال له: والله لأبدلنَّك بالدنيا ناراً تلظى-: لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلهاً غيرك. أو: إن كان للرحمن ولد في زعمكم {فأنا أول العابدين} أي: الموحِّدين لله، المكذِّبين قولكم، بإضافة الولد إليه؛ لأن مَن عَبَدَ الله، واعترف بأنه إلهه فقد دفع أن يكون له ولد. أو: إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين، أي: الجاحدين والآنفين من أن يكون له ولد، مِن عبَدِ: بكسر الباء: إذا اشتد أنفسه فهو عبَد وعابد، ومنه قول الشاعر:
متى ما يشاء ذو الوُدِّ يَصْرِمْ خَليلَهُ ** ويَعْبَدْ عليه لا محالةَ ظالما

وقول الحريري:
قال ما يجب على عابد الحقّ ** قال يحلف بالإله الخلق

أي: على جاحد الحق. وقيل هي إنْ النافية، أي: ما كان للرحمن ولد فأنا أول من عبد الله ووحَّده، فيوقف على {ولد} على هذا التأويل.
رُوي: أن النضر قال: إن الملائكة بنات الله، فنزلت الآية، فقال النضر: ألا ترون أنه صدّقني؛ فقال الوليد: ما صدّقك، ولكن قال: ما كان للرحمن ولداً، فأنا أوّل الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له. وسيأتي في الإشارة قول آخر.
قال القشيري: وفي الآية وأمثالها دليل على جواز حكاية قول المبتدعة فيما أخطأوا فيه في الاعتقاد، على وجه الردّ عليهم. اهـ. قلت: ولا تجوز مطالقعة أقوالهم إلا لمَن رسختْ قدمه في المعرفة، والإعراض عنها أسلم.
ثم نزَّه ذاته عن اتخاذ الولد، فقال: {سبحان ربِّ السماوات والأرض ربِّ العرش عما يصفون} أي: تنزّه رب هذه العوالم العظام عن اتخاذ الولد؛ لأن اتخاذ الولد من صفة الأجسام، ولو كان جسماً ما قدر على خلو هذه الأجرام، وفي إضافة اسم الرب إلى أعظم الأجرام وأقواها، تنبيه على أنها وما فيها من المخلوقات حيث كانت تحت ملوكت ربوبيته؛ كيف يتوهم أن يكون شيء منها جزءاً منه. وفي تكرير اسم الرب تفخيم لشأن العرش.
{فذرهم يخوضوا} في باطلهم {ويلعبوا} في دنياهم أي: حيث لم يُذعنوا لك، ولم يرجعوا عن غيهم، أعرض عنهم واتركهم في لهوهم ولعبهم، {حتى يُلاقوا يومهم الذي يُوعدون} وهو القيامة، فإنهم يومئذ يعلمون ما فعلوا، وما يفعل بهم، أو: يوم بدر، قاله عكرمة وغيره.
وهذا دليل على أن ما يقولونه إنما هو خوض ولعب لا حقيقة له.
ثم ذكر انفراده بالألوهية في العالم العلوي والسفلي، فقال: {وهو الذي في السماء إِله وفي الأرض إله} أي: وهو الذي هو معبود في السماء وفي الأرض، فضمَّن {إله} معنى مألوه، أي: وهو الذي يستحق أن يُعبد فيهما. وقرأ عُمر، وأُبَي، وابن مسعود: {وهو الذي في السماء الله وفي الأرض} كقوله تعالى: {وَهُوا اللَّهُ في السَّمَاوَاتِ وَفِى الأَرْضِ} [الأنعام: 3]، وقد مرّ تحقيقه عبارةً وإشارةً. والراجع إلى الموصول: محذوف؛ لطول الصلة، كقولهم: ما أنا بالذي قائل لك سوءاً، والتقدير: وهو الذي هو في السماء إله، و{إله}. خبر عن مضمر، ولا يصح أن يكون {إله} مبتدأ، و{في السماء} خبره؛ لخلو الصلة حينئذ عن العائد {وهو الحكيمُ} في أقواله وأفعاله {العليمُ} بما كان وما يكون، أو: الحكيم في إمهال العصاة، العليم بما يؤول أمرهم إليه، وهو كالدليل على ما قبله من التنزيه، وانفراده بالربوبية.
{وتبارك الذي له ملكُ السماوات والأرض} أي: تقدّس وتعاظم الذي مَلَكَ ما استقر في السماوات والأرض {وما بينهما} إما على الدوام، كالهواء، أو في بعض الأوقات، كالطير، {وعنده علمُ الساعة} أي: العلم بالساعة التي فيها تقوم، {وإِليه تُرجعون} للجزاء، والالتفات للتهديد، فيمن قرأ بالخطاب. {ولا يملك الذين يدعُونَ من دونه} أي: لا تملك آلهتهم التي يدعونها {من دونه} أي: من دون الله {الشفاعةَ} كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله {إِلا مَن شَهِدَ بالحق} الذي هو التوحيد، {وهم يعلمون} بما يشهدون به عن بصيرة وإتقان وإخلاص، وهم خواص المسلمين، والملائكة. وجمع الضميرين باعتبار معنى {مَن} كما أن الإفراد أولاً باعتبار لفظها. والاستثناء: إما متصل، والموصل عام لكل ما يعبد من دون الله، أو: منقطع، على أنه خاص بالأصنام.
الإشارة: قل يا محمد: إن كان للرحمن ولد، على زعمكم في عيسى والملائكة، فأنا أولى بهذه النسبة على تقدير صحتها؛ لأني أنا أول مَن عبد الله في سابق الوجود؛ لأن أول ما ظهر نوري، فعَبَد اللّهَ سنين متطاولة؛ ثم تفرّعت منه الكائنات، ومَن سبق إلى الطاعة كان أولى بالتقريب، فلِمَ خصصتم الملائكة وعيسى بهذه النسبة، وأنا قد سبقتهم في العبادة، بل لا وجود لهم إلا من نوري، لكن لا ولد له، فأنا عبد الله ورسوله. قال جعفر الصادق: أول ما خلق الله نور محمد صلى الله عليه وسلم قبل كل شي، وأول مَن وحّد الله عزّ وجل من خلقه، دُرة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول ما جرى به القلم «لا إله إلا الله محمد رسول الله». اهـ. قاله الورتجبي. ففي الآية إشارة إلى سبقيته صلى الله عليه وسلم، وأنه أول تجلٍّ من تجليات الحق، فمِن نوره انشقت أسرار الذات، وانفلقت أنوار الصفات، وامتدت من نوره جميع الكائنات.
قوله تعالى: {فذهرم يخوضوا...} إلخ، كل مَن خاض في بحار التوحيد بغير برهان العيان، تصدق عليه الآية، وكذا كل مَن اشتغل بغير الله، وبغير ما يُقرب إليه؛ فهو ممن يخوض ويلعب، وفي الحديث: «الدنيا ملعونة ملعونٌ ما فيها إلا ذِكْرَ الله، وما والاَه، أو عالماً أو متعلماً»
وقوله تعالى: {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة...} إلخ. قال القشيري: وفي الآية دليل على أن جميع المسلمين تكون شفاعتهم غداً مقبولة. اهـ. أي: لأنهم في الدنيا شَهِدوا بالحق، وهو التوحيد عن علم وبصيرة، لكن في تعميمه نظر؛ لأن الاستثناء، الأصل فيه الاتصال، ولأن مَن شهد بالحق مستنثى من {الذين يدعون من دونه}- وهم الملائكة، وعيسى، وعزير، فهم الذين شَهِدُوا بالحق ممن دعوا من دون الله، وشفاعة مَن عداهم مأخذوة من أدلة أخرى.

.تفسير الآيات (87- 89):

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)}
قلت: {قِيلهِ}: مصدر مضاف لفاعله، يقال: قال قولاً وقالاً وقيلاً ومقالاً. واختلف في نصبه، فقيل: عطف على {سِرَّهُمْ} [الزخرف: 80] أي: يعلم سرهم ونجواهم وقيلَه، وقيل: عطف على محل {الساعة}، أي: يعلم الساعة ويعلم قيلَه، ويجوز أن يكون الجر والنصب على إضمار القسم، وحذفه، كقوله تعالى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص: 84] وجوابه: {إن هؤلاء..} إلخ.
يقول الحق جلّ جلاله: {ولئن سألتَهُم} أي: المشركين، أو: العابدين والمعبودين {مَنْ خلقهمْ ليقولُونَّ اللّهُ} لا الأصنام والملائكة {فأنَّى يُؤفكون} فكيف يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره، مع كون الكل مخلوقاً له تعالى.
ولما شقّ عليه صلى الله عليه وسلم صرفهم عن الإيمان جعل يستغيث ربه في شأنهم، حرصاً على إيمانهم، ويقول: {يا رب إِن هؤلاء قوم لا يؤمنون} أي: قد عالجتهم فلم ينفع فيهم شيء، فلم يبقَ إلا الرجوع إليك، إما أن تهديهم، أو تُهلكهم، فأخبر تعالى أنه يسمع سرهم ونجواهم، وقوله عليه السلام في شأنهم، قال له تعالى: {فاصفحْ عنهم} أي: أعرض عنهم وأمهلهم، {وقل سلامٌ} أي: أمري تسلّم منكم ومتاركة، حتى نأمرك أعرض عنهم وأمهلهم، {وقل سلامٌ} أي: أمري تسلّم منكم ومتاركة، حتى نأمرك بجهادهم، {فسوف يعلمون} حالهم قطعاً، إن تأخر ذلك. وهو وعيد من الله تعالى، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو: فسوف يعلمون حقيق ما أنكروا من رسالتك. ومَن قرأ بالخطاب، فهو داخل في حيز {قل}، من جملة ما يقال لهم.
الإشارة: العجب كل العجب أن يعلم العبد أنه لا خالق له سوى ربه، ولا محسن له غيره، وهو يميل بالمحبة أو الركون إلى غيره، وفي الحِكَم: (والعجب كل العجب ممن يهرب مما لا انفكاك له عنه، ويطلب ما لا بقاء له معه، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) ويقال لمَن دعا إلى الله فلم ينجح دعاؤه: {فاصفح عنهم وقل سلام...} الآية.
وبالله التوفيق... وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.