فصل: تفسير الآيات (40- 50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (40- 50):

{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّ يوم الفصل}: أي: فصل احق عن الباطل، وتمييز المحق من المبطل، أو فصل الرجل عن أقاربه وأحبابه، وهو يوم القيامة، {ميقاتُهم أجمعين} أي: وقت موعدهم كلهم، {يومَ لا يُغني مَوْلىً عن مَوْلىً شيئاً} لا يغني ناصر عن ناصر، ولا حميم عن حميم، ولا نسب عن نسيب، شيئاً من الإغناء.
قال قتادة: انقطعت الأسباب يومئذ بابن آدم، وصار الناس إلى أعمالهم، فمَن أصاب يومئذ خيراً، سعد به، ومَن أصاب يومئذ شرّاً شقي به. اهـ. و{يوم} بدل من يوم الفصل، أو: صفة لميقاتهم، أو: ظرف لما دلّ عليه الفصل، أي: يفصل في هذا اليوم، {ولا هم يُنصرون} يُمنعون مما أراد الله، والضمير ل {مولى} باعتبار المعنى، لأنه عام، وقوله: {إلا مَن رحم} بدل من الواو في {يُنصرون}، أي: لا يمنع من العذاب إلا مَن رحم الله، بالعفو عنه، أو بقبول الشفاعة فيه، أوك منصوب على الاستثناء المنقطع، أو: مرفوع على الابتداء، أي: لكن مَن رحم {اللّهُ} فيُغْنِي عنه {إِنه هو العزيزُ} الغالب، الذي لا يُنصر مَن أراد تعذيبه، {الرحيمُ} لمَن أراد أن يرحمه.
{إِنَّ شجرةَ الزقوم} هي على صورة شجرة الدنيا، لكنها من النار، والزقوم تمرها؛ وهو كل طعام ثقيل. رُوي: أنها لما نزلت، جمع أبو جهل عجوة وزبداً، وقال لأصحابه: تزقَّموا، فهذا هو الزقوم، وهو طعامي الذي حدّث به محمد، فقصد بذلك المغالطة والتلبيس على الجهلة. أي: إن ثمر شجرة الزقوم هو {طعامُ الأثيم} أي: الكثير الإثم، وهو الكافر؛ لدلالة ما قبله وما بعده عليه. وقيل: نزلت في أبي جهل، ثم تعم. وكان أبو الدرداء يُقرئ رجلاً، فكان أبو الدرداء يقول: طعام الأثيم، والرجل يقول: طعام اليتيم، فكرّر عليه، فلم يفهم منه؛ فقال: طعام الفاجر يا هذا. قال النسفي: وبهذا يستدل على أن إبدال الكلمة مكان الكلمة جائز، إذا كانت مؤدّية معناها، ومنه أجاز أبو حنيفة رضي الله عنه القراءة بالفارسية، بشرط أن يؤدي القارئ المعاني كلها، من غير أن يَخْرِمَ منها شيئاً. انظر بقيته.
{كالمُهل} وهو دُردِّيُّ الزيت، أو: ما يمهل في النار فيذوب، من نحاس وغيره، {يغلي في البطون} مَن قرأه بالغيب رده للمهل، أو للطعام، ومَن قرأه بالتاء رده للشجرة، {كغلي الحميم} الماء الحار الذي انتهى غليانه، أي: غليان كغلي الحميم، فالكاف في محل نصب، ثم يقال للزبانية: {خُذوه} أي: الأثيم {فاعتلوه} أي: جُروه، فالعتل: الأخذ بمجامع الشيء والسَّوق بالعنف والقهر، يقال: عتل يعتُلِ بالضم والكسر، أي: جروه {إلى سوء الجحيم} وسطها ومعظمها.
{ثم صُبوا فوقَ رأسه من عذاب الحميم} المصبوب هو الحميم، لا عذابه، إلا أنه إذا صب عليه الحميم، فقد صب عليه عذابه وشدته: والأصل: ثم صُبوا فوق رأسه عذاباً هو الحميم، ثم أضيف العذاب إلى الحميم؛ للمبالغة، وزيد {من} للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع، ويقال له: {ذقْ إِنك أنت العزيزُ الكريمُ} على سبيل الهزؤ والتهكُّم، رُوي أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين جبليها أعز ولا أكرم مني، فوالله لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً، فتقول له الزبانية هذا على طريق الاستهزاء والتوبيخ.
وقرأ الكسائي: {أنك} بالفتح، أي: لأنك أنت العزيز في قومك، الكريم في زعمك. {إِنَّ هذا ما كنتم به تمترون} تشكُّون، وتُمارون فيه، والجمع باعتبار المعنى؛ لأن المراد جنس الأثيم.
الإشارة: يوم الفصل هو اليوم الذي يقع فيه الانفصال بين درجة المقربين، ومقام عامة أهل اليمين، فيرتفع المقربون، ويسقط الغافلون، فلا يُغنى صاحبٌ عن صاحب شيئاً، ولا هم يُنصرون من السقوط عن مراتب الرجال، فلا ينفع حينئذ إلا ما سلف من صالح الأعمال، إلا مَن رحم اللّهُ، ممن تعلّق بالمشايخ الكبار، من المريدين، فإنهم يرتفعون معهم بشفاعتهم. وشجرة الزقوم هي شجرة المعصية؛ فإنها تغلي في البطون، وتعوق عن الوصول، فقد قالوا: مَن أكل الحرام عصى الله، أحبَّ أم كرِه، ومَن أكل الحلال أطاع الله، أحبَّ أم كَرِه، فيقال: خُذوه فادفعوه إلى سواء الجحيم، وهي نار القطيعة البُعد، ثم صُبوا فوق رأسه من هموم الدنيا، وشغب الخوض والخواطر، ذُقْ إنك أنت العزيز الكريم، ولو كنت ذليلاً خاملاً لنلت العز والكرامة. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (51- 59):

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّ المتقين في مقامٍ} بضم الميم: مصدر، أي: في إقامة حسنة، وبالفتح: اسم مكان، أي: في مكان كريم، وأصل المقام، بالفتح: موضع القيام، ثم عمّم واستعمل في جميع الأمكنة، حتى قيل لموضع القعود: مقام، وإن لم يقم فيه أصلاً، ويقال: كنا في مقام فلان، أي: مجلسه، فهو من الخاص الذي وقع مستعملاً في معنى العموم، وقوله: {أمين} وصف له، أي: يأمن صاحبُه الآفات والانتقال عنه، وهو من الأمن ضد الخيانة، وصف به المكان مجازاً، لأن المكان المخيف يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره.
وقوله: {في جنات وعُيون} بدل من {مقام} جيء به دلالة على نزاهته واشتماله على طيبات المآكل والمشارب، {يلبسون من سُندس} وهو ما رقَّ من الديباج، {وإِستبرقِ} ما غلظ منه، وهو مُعرّب، والجملة إما حال، أو استئناف، حال كونهم {متقابلين} في مجالسهم، يستأنس بعضهم ببعض، {كذلك} أي: الأمر كذلك، قيل: المعنى فيه أنه لم يستوفِ الوصف، وأنه بمثابة ما لا يحيط به الوصف، فكأنه قال: الأمر نحو ذلك وما أشبهه، وليس بعين الوصف وتحققه.
{وزوجناهم بحُور عِينٍ} أي: قرنّاهم وأصحبناهم، ولذلك عُدي بالباء. قال القشيري: وليس في الجنة عقد نكاح ولا طلاق، بل تمكن الوليّ من هذه الألطاف بهذه الأوصاف. اهـ. والحور: جمع حَوْراء، وهي الشديدة سواد العين، والشديدة بياضها، والعين: جمع عيناء، وهي الواسعة العَين، واختلف في أنها نساء الدنيا أو غيرها.
{يَدْعون فيها بكل فاكهةٍ} أي: يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهونه من الفواكه، لا يختص بزمان ولا مكان، {آمنين} من زواله وانقطاعه، ومن ضرره عند الإكثار منه، أو: من كل ما يسوءهم، {لا يذوقون فيها الموتَ} أصلاً، بل يستمرون على الحياة الأبدية، {إِلا الموتَة الأولى} سوى الموتة الأولى، التي ذاقوها، أو: لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا، فالاستثناء منقطع، أو متصل على أن المراد استحالة ذوق الموت إلا إذا كان يمكن ذوق الموتة الأولى حينئذ، وهو محال، على نمط قوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22].
{ووقاهم} ربهم {عذابَ الجحيم فضلاً من ربك} أي: أعطوا ذلك كله عطاءً وتفضُّلا منه تعالى؛ إذ لا يجب عليه شيء، فهو مفعول له، أو مصدر مؤكد لِما قبله، لأن قوله: {وقاهم} في معنى تفضل عليهم، {ذلك هو الفوز العظيم} الذي لا فوز وراءه؛ إذ هو خلاص من جميع المكاره، ونيل لكل المطالب.
{فإِنما يسَّرناه} أي: الكتاب، وقد جرى ذكره في أول السورة، أي: سهَّلنا قراءته {بلسانك} بلغتك {لعلهم يتذكرون} أي: كي يفهموه ويتعظوا به، ويعملوا بموجبه، فلم يفعلوا، {فارتقبْ} فانظر ما يحلّ بهم، {إِنهم مرتَقِبون} ما يحلُّ بك.
قال القشيري: فارتقب العواقب ترى العجائب، إنهم مرتَقِبون، ولكن لا يرون إلا ما يكرهون. اهـ.
الإشارة: إن المتقين شهود ما سوانا في مقام العرفان، وهو مقام المقربين، وهو محل الأمن والأمان، في جنات المعارف، وعيون العلوم والحِكَم، يلبسون من أسرار الحقيقة وأنوار الشريعة، ما تبتهج به بواطنهم وظواهرهم، متقابلين في المقامات، يجمعهم الفناء والبقاء، ويتفاوتون في اتساع المقامات والأسرار، تفاوت أهل غرف الجنان، كذلك، أي: الأمر فوق ما تصف، وزوجانهم بعرائس المعرفة، لا يذوقون في جنات المعارف- إذ دخلوها- الموت أبداً إلا الموتة الأولى، وهي موت نفوسهم، فَحييتْ أرواحهم حياة أبدية، وأما الموت الحسي فإنما هو انتقال من عالم إلى عالم، ومن مقام إلى مقام، ووقاهم ربُّهم عذابَ الجحيم، فضلاً منه وإحساناً، خلقَ فيهم المجاهدة، ومَنَّ عليهم بالمشاهدة.
وقال الورتجبي بعد كلام: إذ أحضرهم- تعالى- في ساحة كبريائه، ويتجلّى لهم بالبديهة من غير الجبّارية القهّارية؛ يكونون في محل الفناء، وفي فناء الفناء، وغلبات سطوات ألوهيته، فإذا صاروا فانين، ألبسهم الله لباس بقائه، فيبقون ببقائه أبد الآبدين، فإذاً الاستثناء وقع على التحقيق، لا على التأويل، فيا رُبّ موتٍ هناك، ويا رُبّ حياة هناك؛ لأن الحدَث لا يستقيم عند بروز حقائق بواطن القِدم، ألا ترى إلى إشارة النبي صلى الله عليه وسلم كيف قال: «حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» أي: فيتلاشى الخلق ويبقى الحق.
قيل للجنيد: أهل الجنة باقون ببقاء الحق؟ فقال: لا، ولكنهم مُبْقَوْن ببقاء الحق، والباقي على الحقيقة من لم يزل، ولا يزال بقاياً. اهـ.
والحاصل: أنه لا عدم بعد وجودهم بالله، ولا يكون إلا بعد الفناء عن أوصاف الخليقة، ووجود البشرية، بالاندراج في وجود الحق، ثم الحياة بحياته، والبقاء ببقائه أبداً، قاله في الحاشية الفاسية. والفرق بين الباقي والمبقى في كلام الجنيد: أن الباقي يدلّ على ثبوت بقائه مستقلاً، بخلاف المبقَى، لا وجود لبقائه، بل مبقى ببقاء غيره.
وقال في قطب العارفين، لمَّا تكلم على التقوى: التقوى مطرد في وجوه كثيرة، تقوى الشرك، ثم تقوى المعصية، ثم تقوى فضل المباح، ثم تقوي كل ما يسترق القلوب عن الله تعالى، وإلى هذا الصنف الإشارة بسر قوله تعالى: {إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون...} الآية. اهـ. وعنه صلى الله عليه وسلم: «مَن قرأ سورة الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» ذكره في الجامع، وفي فضلها أحاديث، تركتها.

.سورة الجاثية:

.تفسير الآيات (1- 6):

{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)}
قلت: {واختلاف الليل والنهار...} الآية؛ فيها العطف على عاملين، سواء نصبت {آيات} أو رفعتها، فالعاملان إذا نصبت {إن} و{في} أقيمت الواو مقامهما، فعملت الجر في {واختلاف} والنصب في {آيات}، وإذا رفعت فالعاملان الابتداء، وحرف {في} عملت الواو الرفع في {آيات} والجرّ في {واختلاف} وهذا مذهب الأخفش، فإنه يُجوِّز العطفَ على عاملين، وأما سيبويه فلا يُجيزه، وتخريج الآية عنده: أن يكونَ على إضمار {في}، والذي حسّنه: تقديم ذكر {في} الآيتين قبله، ويؤيده: قراءة ابن مسعود رضي الله عنه {وفي اختلاف الليل والنهار} وفيها أوجه أُخر.
يقول الحق جلّ جلاله: {حم} يا حبيب يا مجيد هذا {تنزيلُ الكتاب من الله العزيز الحكيم} فكونه من الله عزّ وجل دلّ أنه حق وصدق وصواب، وكونه من العزيز دلَّ أنه معجز،، يَغلِب ولا يُغلب، وكونه من الحكيم دلّ أنه مشتمل على الحِكَم البالغة، وأنه محكَم في نفسه، يَنسِخ ولا يُنْسَخ.
ثم برهن على عزته، وباهر حكمته، فقال: {إِنَّ في خلق السماوات والأرض} إِما في نفس السماوات والأرض؛ فإن في شكلهما من بدائع وفنون الحِكَم ما يقصر عنه البيان، وإما في خلقهما وإظهارهما، كما في قوله تعالى: {إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 190] {لآياتٍ للمؤمنين} لدلالاتٍ على وحدانيته تعالى لأهل الإيمان، وهو الأوفق بقوله: {وفي خلقِكم} أي: من نطفة ثم من علقة متقلبة من أطوار مختلفة إلى تمام الخلق، {وما يَبُتُّ من دابةٍ} عطف على المضاف دون المضاف إليه، أي: وفي خلق ما يبث، أي: ينشر ويُصرّف من دابة {آياتٌ} ظاهرة على باهر قدرته وحكمته، {لقومٍ يُوقنون} أي: من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هي عليه، ويعرفوا فيها صانعها، {وفي اختلاف الليل والنهار} أي: تعاقبهما بالذهاب والمجيء، أو: تفاوتهما طولاً، وقصراً، {و} في {ما أنزل اللّهُ من السماءِ مِن رزقٍ} مطر؛ لأنه سبب الرزق، فعبَّر عن السبب بالمسبب؛ لأنه نتيجته، تنبيهاً على كونه آية من جهة القدرة والرحمة، {فأحيا به الأرضَ} بأن أخرج أصناف الزرع والثمرات والنبات {بعد موتها} أي: خلُوها عن آثار الحياة وانتفاء قوة التنمية عنها، وخُلوا أشجارها عن الثمار والأزهار.
{وتصريفِ الرياح} أي: هبوبها من جهة إلى أخرى، ومن حال إلى حال، وتأخيره عن نزول المطر مع تقدمه عليه في الوجود، إما للإيذان بأنه آية مستقلة، ولو روعي الترتيب الوجودي لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح ونزول المطر آية واحدة، أو: لأن كون التصريف آية ليس مجرد كونه مبتدأ لإنشاء المطر، بل له ولسائر المنافع، التي من جملتها: سوق السفن في البحار، وإلقاح الأشجار، {آياتٌ لقوم يعقلون} يتدبّرون بعقولهم، فيصلون إلى صريح التوحيد.
وفي تقديم الإيمان على الإيقان، وتأخير تدبُّر العقل؛ لأن العباد إذا نظروا في السموات والأرض نظراً صحيحاً؛ علموا أنها مصنوعة، وأنه لابد لها من صانع، فآمنوا بالله، وإذا نظروا في خلق أنفسهم، وتنقلها من حالٍ إلى حال، وفي خلق ما ظَهَرَ على ظَهْر الأرض من صنوف الحيوان ازدادوا إيماناً وأيقنوا، فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدّد في كل وقت، كتعاقب الليل والنهار، ونزول الأمطار، وحياة الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح، جنوباً وشمالاً، ودَبوراً وصباً، عقِلوا، واستحكم في عقولهم، وخلص يقينهم، فكانوا من ذوي الألباب.
{تلك آياتُ الله} مبتدأ وخبر، و{نتلُوها عليك} حال، العامل: معنى الإشارة، أي: تلك الآيات المتقدمة هي آيات الله الدالة على وجوب وجوده واتصافه بأوصاف الكمال، حال كونها متلوةً عليك، ملتبسة {بالحق} أو: نتلوها محقين في ذلك: فالجار والمجرور: حال من المفعول أو الفاعل. {فبأيّ حديثٍ} من الأحاديث {بعد الله وآياتهِ} أي: بعد آيات الله، كقولك: أعجبني زيد وكرمه، أي: أعجبني كرم زيد، أو: بعد حديث الله، الذي هو القرآن، وآياته العامة في كل شيء، فيكون على حذف مضاف، أو: يُراد بها القرآن أيضاً، والعطف للتغاير العنواني، فالأول من جهة كونه حديثاً حسناً، والثاني باعتبار كونه معجزاً، أي: فبأي حديثٍ بعد أحسن الحديث وأبهر الآيات {يؤمنون} يُصدِّقون؟! ومَن قرأ بالخطاب يُقدر: قل يا محمد.
الإشارة: قال القشيري: الحاء تدل على حياته، والميم تدل على مودته، كأنه قال: بحق حياتي ومودتي لأوليائي، لا شيء أعز على أحبائي من لقائي، العزيزُ في جلاله، الحكيم في فعاله، العزيز في أزله، الحكيم في لُطفه بالعبد بوصف إقباله.
قوله تعالى: {إِنَّ في السماوات والأرض...} الآية؛ شواهد الربوبية لائحةٌ، وأدلة الإلهية واضحةٌ، فَمَنْ صحا فكره عن سُكر الغفلة، ووضعَ سِرَّه في محل العِبْرة، حَظِيَ- لا محالة- بحقائق الوصلة. اهـ. قلت: إنما يحظى بالوصلة إذا نفذت بصيرته إلى شهود المكوِّن، ولم يقف مع شيء من حس الكائنات، بل نفذ إلى ما فيها من أسرار المعاني، فعرف فيها مولاها، وشاهد فيها المتجلي بها، وإلا بَقِيَ مسجوناً محصوراً في ذاته.
قوله تعالى: {وفي خلقكم...} الآية، قال القشيري: إذا أنعم العبدُ النظرَ في استواء قدِّه وقامته، واستكمال خلقه، وتمام تمييزه، وما هو مخصوص به من جوارحه وحوائجه، ثم فكّر فيما عداه من الدواب، وأجزائها وأعضائها، ووقف على اختصاصه، وامتياز بني آدم من بين البريَّة من الحيوانات، في الفهم والعقل والتمييز والعلم، ثم في الإيمان والعرفان، ووجوه خصائص أهل الصفوة من هذه الطائفة من فنون الإحسان؛ عَرَف تخصيصهم بمناقبهم، وانفرادهم بفضلهم، فاستيقن أن الله أكرمهم، وعلى كثيرٍ من المخلوقات قَدَّمهم.
ثم قال في قوله: {واختلاف الليل والنهار...} الآية. جعل الله العلومَ الدينية كسبيةً مُصحَّحةً بالدلائل، مُحتَفةً بالشواهد، فمَن لم يستبصرْ لها زلَّتْ قَدَمُه عن الصراط المستقيم، ووقع في عذاب الجحيم، فاليومَ في ظلمة الحيرة والتقليد، وفي الآخرة في التخليد في الوعيد. اهـ. قلت: النظر في دلائل الكائنات من غير تنوير، ولا صحبة أهل التنوير، لا تزيد إلا حيرة، ولذلك قال بعضهم: إيمان أهل علم الكلام كالخيط في الهواء، يميل مع كل ريح، فالتقليد حينئذ أسلم، والتمسك بظاهر الكتاب والسنة أتم، ومَن سقط على العارفين بالله، لم يحتج إلى دليل ولا شاهد، وأغناه شهود الشهيد عن كل شاهد.
عجبت لمَن يبغي عليك شهادة ** وأنت الذي أشهدته كلَّ شاهد

كيف يُعرف بالمعارف مَن به عُرفت المعارف؟! تنزّه الحق تعالى أن يفتقر إلى دليل يدلّ عليه، بل به يستدل على غيره، فلا يجد غيره. تلك آيات شواهد نتلوها عليك لترانا فيها، لا لتراها مفروقةً عنا، ولذلك قال تعالى: {بالحق} أي: ملتبسة بنور الحق، الله نور السموات والأرض.
قوله تعالى: {فبأي حديث...} الآية، قال القشيري: فَمَنْ لا يؤمن بها فبأي حديث يؤمن؟ ومن أي أصل ينشأ بعده؟ ومن أي بحر في التحقيق يغترف؟ هيهات ما بقي للإشكال في هذا مجال. اهـ.