فصل: تفسير الآية رقم (283):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (283):

{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)}
قلت: {فرهان}: خبر، أو مبتدأ، أي: فالمستوثق به رهان، أو فعليه رهان.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإن كنتم على} جناح {سفر} أي: مسافرين، {ولم تجدوا كاتباً} يكتب شهادة البيع أو الدين، فالمستوثق به عروضاً من الإشهاد: {رهان مقبوضة}. وليس السفر شرطاً في سحة الارتهان، لأنه عليه الصلاة والسلام: رَهَنَ دِرْعَه عند يهودي بالمدينة في شَعِير لكنّ لمّا كان السفر مَظنَّة إعواز الكتاب، ذكره الحق تعالى حكماً للغالب. والجمهور على اعتبار القبض فيه، فإن لم يقبض حتى حصل المانع، فلا يختص به في دينه، {فإن أمن بعضكم بعضاً} واستغنى بأمانته عن الارتهان، لوثوقه بأمانته فداينه بلا رهن، {فليؤد الذي أؤتمن أمانته} أي: دينه، وسماه أمانة؛ لائتمانه عليه بلا ارتهان ولا إشهاد، {وليتق الله ربه} في أداء دينه وعدم إنكاره.
{ولا تكتموا الشهادة} أيها الشهود، أو أهل الدين، أي: شهادتهم على أنفسهم، {ومن يكتمها} منكم بأن يمتنع من أداء ما تحمل من الشهادة، أو من أداء ما عليه من الدين، {فإنه آثم قلبه} حيث كتم ما علمه به، لأن الكتمان من عمل القلوب فتعلق الإثم به، ونظيره: «العين زانية وزناها النظر»، أو أسنده إلى القلب، مبالغة؛ لأنه رئيس الأعضاء، فإذا أثم قلبه فقد أثم كله، وكأنه قد تمكن الإثم منه فأخذ أشرف أجزائه، وفاق سائر ذنوبه، ثم هدد الكاتمين فقال: {والله بما تعملون عليم}؛ لا يخفى عليه ما تبدون وما تكتمون، رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كَتَمَ شهادةً إذا دُعِي- كَان كَمَنْ شَهِدَ بالزُّور».
الإشارة: كما أمر الله تعالى بتقييد الديون الدنيوية، والاعتناء بشأنها، أمر بتقييد العلوم اللدنية والوردات القدسية والاغتباط بأمرها، بل هي أولى؛ لدوام ثمراتها وخلود نتائجها، فإن الحكمة ترد على القلب من عالم القدس عظيمة كالجبل، فإن أهملتها ولم تبادر إلى تقييدها، رجعت كالجمل، فإن أخرتها رجعت كالطير، ثم كالبيضة، ثم تمتحي من القلب، وفي هذا المعنى قيل:
العلمُ صيدٌ والكتابةُ قَيْدُه ** قَيِّدْ صُيودَك بالحِبَالِ المُوثِقَهْ

وَمِنَ الجَهَالة أن تصِيدَ حمامةً ** وتتركُها بَيْنَ الأوانِس مطلقهْ

فإن لم يسحن الكتابة، فليملله على من يُحسنها، ولا يبخس منه شيئاً، بل يمُليه على ما ورد في قلبه، فإن كان ضعيف العبارة، فليملل عنه من يحسنها بالعدل، من غير زيادة ولا نقصان في المعنى، وليُشهد عليها رجال أهل الفن وهم العارفون، فإن لم يكونوا، فمن حضر من الفقراء المتمكنين؛ لئلا يكون في تلك الحكمة شيء من الخلل؛ لنقصان صاحبها، أو: وليُشْهِد على ذلك الوارد عدلين، وهما الكتاب والسنّة، فإن كان موافقاً لهما، قُبل، وإلا رُدَّ.
قال الجنيد رضي الله عنه: إن النكتةَ لتقع في قلبي فلا أقبلها إلا بشهادة عَدْلَين: الكتاب والسنّة. اهـ. وإن كنتم مستعجلين، ولم تجدوا كاتباً، فارتهنوها في قلوب بعضكم بعضاً، حتى تُقيد. ومن كتم الواردات عن شيخه أو إخوانه، فقد أثم قلبه؛ لأنه نوع من الخيانة في طريق التربية. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (284):

{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}
قلت: من قرأ {فيغفر}؛ بالجزم، فعلى العطف على الجواب، ومن قرأ بالرفع فعلى الاستئناف، أي: فهو يغفرُ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {لله ما في السماوات وما في الأرض} خلقاً وملكاً وعبيداً، يتصرف فيهم كيف شاء؛ يرحم من يشاء بفضله، ويعذب من يشاء بعدله، {وإن تبدوا} أي: تظهروا {ما في أنفسكم} من السوء والعزم عليه، {أو تخفوه} في قلوبكم، {يحاسبكم به الله} يوم القيامة؛ {فيغفر لمن يشاء} مغفرته، {ويعذب من يشاء} تعذيبه، {والله على كل شيء قدير} لا يعجزه عذاب أحد ولا مغفرته. وعبَّرالحق تعالى بالمحاسبة دون المؤاخذة، فلم يقل: يؤاخذكم به الله؛ لأن المحاسبة أعم، فتصدق بتقرير الذنوب دون المؤاخذة بها، لقوله- عليه الصلاة والسلام: «يدنو المؤمن من ربه حتى يضع كنفه عيه، فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف كذا؟ فيقول: يا رب، أعرف، فيوقفه على ذنبه ذنباً، ذنباً فيقول الله تعالى: أنا الذي سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم» فلله الفضل والمنّة، وله الحمد والشكر.
الإشارة: {وإن تبدوا ما في أنفسكم} من الخواطر الردية والطوارق الشيطانية، أو تخفوه في قلوبكم، حتى يحول بينكم وبين شهود محبوبكم، {يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء} فيمحو ظلمته من قلبه؛ بإلهام التوبة والمبادرة إلى اليقظة، {ويعذب من يشاء} بتركه مع ظلمة تلك الأغيار، وخوضه في بحار تلك الأكدار، فما منع القلوب من مشاهدة الأنوار إلا اشتغالها بظلمة الأغيار، فرّغْ قلبك من الأغيار تملأه بالمعارف والأسرار، فإن أردت أن تكون عين العين، فامح من قلبك نقطة الغين، وهي نقطة السوى، ولله درّ القائل:
إِنْ تَلاشَى الكونُ عن عَيْنِ كشْفِي ** شاهَدَ السرُّ غَيْبَه في بَيَاني

فاطْرح الكونَ عن عِيانِكَ وامْحُ ** نقطةَ الغَيْنِ إنْ أردتَ تَرَاني

واعلم أن الخواطر أربعة: ملكي ورباني ونفساني وشيطاني، فالملكي والرباني لا يأمران إلا بالخير، والنفساني والشيطاني لا يأمران إلا بالشر، وقد يأمران بالخير إذا كان فيه دسيسة إلى الشر، والفرق بين النفساني والشيطاني: أن الخاطر النفساني ثابت لا يزول بتعوذ ولا غيره، إلا بسابق العناية، بخلاف الشيطاني: فإنه يزول بذكر الله، ويرجع مع الغفلة عن الله. والله تعالى أعلم.
ولمَّا نزل قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم...} الآية. شق ذلك على الصحابة- رضي الله عنهم- فجاء الصدِّيقُ والفاروق وعبدُ الرحمن ومعاذ، وناسُ من الأنصار، فَجَثَوْا على الرُّكَب، وقالوا: يا رسول الله، ما نزلت علينا آيةٌ أشدُّ من هذه الآية وأنا إن أخذنا بما نُحَدِّثُ به أنفَسنا هَلَكْنَا! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «هكذا نزلت» فقالوا: كُلِّفنا من العمل ما لا نطيق، فقال- عليه الصلاة والسلام: «فلعلكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 93]، قولوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285]»، فقالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، وذَلَّتْ بها أَلْسِنَتُهُمْ، فأَنْزَلَ اللّهُ التخفيف، وحكى ما وقع لهم من الإيمان والإذعان.

.تفسير الآيات (285- 286):

{آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}
قلت: من قرأ: {لا نفرق} بالنون، فعلى حذف القول، أي: قالوا: لا نفرق، ومن قرأ بالياء فيرجع إلى الكل، أي: لا يفرق كل واحد منهم بين أحد من رسله، و{بين}: من الظروف النسبية، لا تقع إلا بين شيئين أو أشياء، تقول: جلست بين زيد وعمرو، وبين رجلين، أو رجال، ولا تقول بين زيد فقط، وإنما أضيف هنا إلى أحد لأنه في معنى الجماعة، أي: لا نفرق بين آحاد منهم كقوله عليه الصلاة والسلام: «ما أُحلَّت الغنائم لأحدٍ، سُودِ الرؤوس، غيركم» و{غفرانك}: مفعول مطلق، أي: اغفر لنا غفرانك. أو: نطلب غفرانك، فيكون مفعولاً به.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه} إيمان تحقيق وشهود {والمؤمنون} كل على قدر إيقان، {كل} واحد منهم {آمن بالله} على ما يليبق به من شهود وعيان، أو دليل وبرهان، وآمن بملائكته وأنهم عباد مكرمون {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التّحْريم: 6]، {وكتبه} وأنها كلام الله، مشتملة على أمر وني ووعد ووعيد وقصص وأخبار، وما عرف منها؛ كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وجب الإيمان به بعينه، وما لم يعرف وجب الإيمان به في الجملة، {ورسله} وأنهم بشر متصفون بالكمالات، منزّهون عن النقائص، كما يليق بحالهم، حال كون الرسول والمؤمنون قائلين {لا نفرق بين أحد من رسله} أو: {لا يفرق} كل منهم بين أحد من رسله؛ بأن يصدقوا بالبعض، دون البعض كما فرقت اليهود والنصارى، {وقالوا} أي المؤمنين {سمعنا وأطعنا} أي: سمعنا قولك وأطعنا أمرك، نطلب {غفرانك} يا ربنا {وإليك المصير} بالبعث والنشور، وهذا إقرار منهم بالبعث الذي هو من تمام أركان الإيمان.
فلمّا تحقق إيمانُهم، وتيقن إذعانُهم، خفَّف الله عنهم بقوله: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} أي: إلا ما في طاقتها وتسعه قدرتها. وهذا يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال ولا يدل على امتناعه. أما المحال العادي فجائز التكليف به، وأما المحال العقلي فيمتنع. إذ لا يتصور وقوعه، وإذا كلف الله عباده بما يطيقونه، فكل نفس {لها ما كسبت} من الخير فتوفى أجره على التمام، {وعليها ما اكتسبت} من الشر، فترى جزاءه، إلا أن يعفو ذو الجلال والإكرام.
وعبر في جانب الخير بالكسب، وفي جانب الشر بالاكتساب، تعليماً للأدب في نسبة الخير إلى الله، والشر إلى العبد، فتأمله.
ثم قالوا في تمام دعائهم: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}، أي: لا تؤاخذنا بما أدى إلى نسيان أو خطأ من تفريط أو قلة مبالاة، وفي الحديث: «إنّ الله رفعَ عن أمتي الْخَطأَ والنِّسْيَانَ وما حدثتْ به نفسَها» ويجوز أن يراد نفس الخطأ والنسيان؛ إذ لا تمتنع المؤاخذة بهما عقلاً، فإن الذنوب كالسموم، فكما أن تناول السم ويؤدي إلى الهلاك، وإن كان خطأ- فتعاطي الذنوب لا يبعد أن يفضي إلى العقاب، وإن لم يكن عزيمة، لكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة وفضلاً.
ويجوز أن يدعو به الإنسان، استدامة واعتداداً بالنعمة فيه. ويؤيد ذلك مفهوم قوله- عليه الصلاة والسلام-: «رُفع عن أُمَّتِي الْخَطأ والنِّسْيَانْ» أي: فإن غير هذه الأمة كانوا يؤاخذون به، فدلّ على عدم امتناعه. قاله البيضاوي.
ثم قالوا: {ربنا ولا تحمل علينا إصراً} أي: عهداً ثقيلاً يأصر ظهورنا، أي: يثقله، فتعذبنا بتركه وعدم حمله، {كما حملته على الذين من قبلنا} مثل اليهود في تكليفهم بقتل الأنفس في التوبة، وقطع موضع النجاسة، وغير ذلك من التكاليف الشاقة، {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} من التكاليف التي لا تسعها طاقتنا، وهذا يدل على جواز التكليف بما لا يطاق عادة، وإلا لما سئل التخلص منه، {واعف عنا} أي: امح ذنوبنا، {واغفر لنا} أي: استر عيوبنا، {وارحمنا} أي: تعطف علينا. {اعف عنا} الصغائر، {واغفر لنا} الكبائر، {وارحمنا} عند الشدائد والحسرات، {أنت مولانا} أي: سيدنا وناصرنا، {فانصرنا على القوم الكافرين}؛ فإن من شأن المولى أن ينصر مواليه على الأعداء.
قال البيضاوي: (رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام- لمّا دعا بهذه الدعوات قيل له: فعلتُ): وعنه عليه الصلاة والسلام: «أُنْزِلَ آيتان من كُنوز الجنة، كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفَيْ سنة، من قرأهما بعد العشاء الأخيرة أجْزَأتَاه عن قيام الليل» وعنه عليه الصلاة والسلام: «من قرأ الأيَتينِ مِنْ آخِر سُورَةِ الْبَقَرةِ في لَيْلَة كَفَتَاهُ» وهو يَرُدُّ قول من استكره أن يقال سورة البقرة، وقال: ينبغي أن يقال السورة التي يذكر فيها البقرة، كما قال- عليه الصلاة والسلام-: «السورةُ التي يُذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها؛ فإنَّ تعلُّمها بَرَكَة، وَتَرْكَهَا حَسْرَة، ولن يَسْتَطِيعها البَطَلَةُ. قيل: وما البطلة؟ قال: السحرة».
الإشارة: يُفهم من سر الآية أن من شق عليه أمر من الأمور، أو عسرت عليه حاجة، أو نزلت به شدة أبو بلية، فليرجع إلى الله، ولينطرح بين يدي مولاه، وليعتقد أن الأمور كلها بيده؛ فإن الله تعالى لا يخليه من معونته ورفده، فيخفف عنه ما نزل به، أو يقويه على حمله، فإن الصحابة- رضي الله عنهم- لما شق عليهم المحاسبة على الخواطر سلَّموا وأذعنوا لأمر مولاهم، فأنزل عليهم التخفيف، وأسقط عنهم في ذلك التكليف، وكل من رجع في أموره كلها إلى الله قضيت حوائجه كلها بالله. من علامات النُّجْحِ في النهايات الرجوع إلى الله في البدايات.
وقوله تعالى: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به}، قيل: هو الحب لله، فلا يسأل العبد من مولاه من حبه إلا ما يطيقه، وتأمل قضية الرجل الذي سأل سيدنا موسى عليه السلام أن يرزقه الله حبه، فلما سأل ربه موسى عليه السلام هام ذلك الرجل، وشق ثيابه، وتمزقت أوصاله حتى مات. فناجى موسى رضي الله عنه ربه في شأنه، فقال: يا موسى، ألف رجل كلهم سألوني ما سأل ذلك الرجل، فقسمت جزءاً من محبتي بينهم، فنابه ذلك. الجزء. أو كما قال سبحانه.
وقال بعض الصالحين: حضرتُ مجلس ذي النون، في فسطاط مصر، فَحَزَرْت في مجلسه سبعين ألفاً، فتكلم ذلك اليوم في محبته تعالى فمات أحدَ عشرَ رجلاً في المجلس، فصاح رجل من المريدين فقال: يا أبا الفيض، ذكرْتَ محبة الله تعالى فاذكر محبة المخلوقين، فتأوّه ذو النون تأوّهاً شديداً، ومدّ يده إلى قميصه، وشقه اثنتين، وقال: آه! غلقت رهونهم، واستعبرت عيونهم، وحالفوا السُّهَاد، وفارقوا الرُّقاد، فليلُهم طويل، ونومهم قليل، أحزانهم لا تُنْفذ. وهموهم لا تفقد، أمورهم عسيرة، ودموعهم غزيرة، باكية عيونهم، قريحة جفونهم، عاداهم الزمان والأهل والجيران.
قلت: هذه حالة العباد والزهاد، أُولي الجد والاجتهاد، غلب عليهم الخوف المزعج، أو الشوق المقلق، وأما العارفون الواصلون؛ فقد زال عنهم هذا التعب، وأفضوا إلى الراحة بعد النصب، قد وصلوا إلى مشاهدة الحبيب، ومناجاة القريب، فعبادتهم قلبية، وأعمالهم باطنية، بين فكرة ونظرة، مع العكوف في الحضرة، قد سكن شوقهم وزال قلقهم، قد شربوا ورووا، وسكروا وصحوا، لا تحركهم الأحوال، ولا تهيجهم الأقوال، بل هم كالجبال الرواسي، نفعنا الله بذكرهم، وجعلنا من حزرهم. آمين.
قوله تعالى: {واعف عنا}، قال الورتجبي: أي: {واعف عنا} قلة المعرفة بك، {واغفر لنا} التقصير في عبادتك، {وارحمنا} بمواصلتك ومشاهدتك. اهـ. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

.سورة آل عمران:

.تفسير الآيات (1- 4):

{الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)}
{الم اللَّهُ لآَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدىً لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ...}
قلت: فواتح السور كلها موقوفة خالية عن الإعراب؛ لفقدان مُوجبه ومقتضيه، فيوقف عليها بالسكون، كقولهم: واحد، اثنان. وإنما فَتَحَ الميم هنا في القراءة المشهورة؛ لإلقاء حركة الهمزة عليها. انظر البيضاوي. قال ابن عباس رضي الله عنه: (الألف آلاؤه، واللام لطفه، والميم مُلكه).
قلت: ولعلَّ كل حرف يشير إلى فرقة ممن توجَّه العتاب إليهم، فالآلاء لِمنْ أسلم من النصارى، واللطف لمن أسلم من اليهود، والملك لمن أسلم من الصحابة- رضوان الله عليهم-، فقد ملكهم الله مشارق الأرض ومغاربها. والله تعالى أعلم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: أيها الملك المُعظَّم، والرسول المفخم، بلِّغ قومك أن الله واحد في ملكه، ليس معه إله، ولا يُحب أن يُعبد معه سواه؛ إذ لا يستحق أن يعبد إلا الحيّ القيّوم، الذي تعجز عن إدراكه العقولُ ومدارك الفهوم، فائم بأمر عباده، متصرف فيهم، على وفق مراده، فأعذر إليهم على ألسنة المرسلين، وأنزل عليهم الكتب بياناً للمسترشدين، فنزَّل {عليك الكتاب} مُنَجّماً في عشرين سنة، متلبساً {بالحق}، حتى {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه}، أو متلبساً بالحجج التي تدفع كل باطل، أو بالعدل حتى ينتفي به جَوْر كل مائل، {مصدقاً} لما تقدم قبله من الكتب الإلهية؛ إذ هو موافق لما فيها من القصص والأخبار، فكان شاهداً عليها بالصحة والإبرار.
{وأنزل التوراة والإنجيل} من قبله هادياً لمن كُلف باتباعهما من الأنام، أو للجميع، إذا كان شرعُ منْ قبلنا شرعاً لنا- معشر أهل الإسلام-، ثم ختم الوحي بإنزال {الفرقان}، وكلّف بالإيمان به الإنس والجان، فرَّق به بين الحق والباطل، واندفع به ظلمة كل كافر وجاهل؛ وقدَّم ذكره على الكتب؛ لعظم شرفه، وختم به آخراً لتأخر نزوله. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لمّا أراد الحقّ جلّ جلاله أن يشير إلى وحدة الذات وظهور أنوار الصفات، قَدَّم قبل ذلك رموزاً وإشارات، لا يفهمها إلا من غاص في قاموس بحر الذات، وغرق في تيار الصفات، فيستخرج بفكرته من يواقيت العلوم وغوامض الفهوم، ما تحار فيه الأذهان، وتكِلُّ عنه عبارةُ اللسان، فحينئذٍ يفقهم دقائق الرموز وأسرار الإشارات، ويطلع على أسرار الذات وأنوار الصفات، ويفهم أسرار الكتب السماوية، وما احتوت عليه من العلوم اللدنية، والمواهب الربانية، ويشرق في قلبه أنوار الفرقان، حتى يرتقي إلى تحقيق أهل الشهود والعيان. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
ثم هدد من كفر بالفرقان، بعد وضوح سواطع البرهان، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ}
قلت: الانتقام والنقمة: عقوبة المجرم.
وفعله: نقم؛ القاف وفتحها.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن الذين كفروا بآيات الله} المنزلة على نبيه أو على سائر أنبيائه، أو الآيات الدالّة على وحدانيته، {لهم عذاب شديد} يوم يظهر نفوذ الوعد والوعيد، فينتقم الله فيه من المجرمين، ويتعطف على عباده المؤمنين، فإن {الله عزيز} لا يغلبه غالب، ولا يفُوته هارب، {ذو انتقام} كبير ولطف كثير. لطف الله بنا وبجميع المسلمين. آمين.
الإشارة: ظهور أولياء الله لطف من آيات الله، فمن كفر بهم حُرم بركتهم، وبقي في عذاب الحجاب وسوء الحساب، تظهر عليه النقمة والمحنة، حين يرفع الله المقربين في أعلى عليين، ويكون الغافلون مع عوام المسلمين، {ذلك يوم التغابن}. والله تعالى أعلم.