فصل: تفسير الآية رقم (20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (20):

{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)}
قلت: {ويوم}: منصوب بقول مقدّر قبل {أذهبتم} أي: يقال هم: أذهبتم طيباتكم يوم عرضكم، أو باذكر، وهو أحسن.
يقول الحق جلّ جلاله: {و} اذكر {يومَ يُعْرَضُ الذين كفروا على النار} أي: يُعذّبون بها، من قولهم: عُرض بنو فلان على السيف، إذا قُتلوا به، وقيل المراد: عرض النار عليهم، من قولهم: عرضت الناقة على الحوض، يريدون: عرض الحوض عليها، فقلبوا. وإذا عُرضوا عليها يُقال لهم: {أَذْهبتُمْ طيباتِكُم} أي: أخذتم ما كُتب لكم من حظوظ الدنيا ولذائذها {في حياتكم الدنيا} فقد قدمتم حظكم من النعيم في الدر الفانية.
قال ابن عرفة: قيل: المراد بالطيبات المستلذات، والظاهر: أن المراد أسباب المستلذات، أي: الأسباب التي تتوصلون بها إلى نيل المستلذات في الدار الآخرة، إذ نسيتموها في الدنيا، أي: تركتموها ولم تفعلوها. اهـ. قلت: يُبعده قوله: {واستمتعتم بها} أي: فلم يُبق ذلك لكم شيئاً منها، بل قدمتم جنتكم في دنياكم.
وعن عمر رضي الله عنه: لو شئتُ كنتُ أطيبَكم طعاماً، وألينكم لباساً، ولكني أستبقي طيباتي. ولما قَدِم الشامَ صُنعَ له طعامٌ لم يُر قبله مثله، قال: هذا لنا، فما للفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون خبز الشعير؟ قال خالد، لهم الجنة، فاغروْرقتْ عينا عمر وبكى، وقال: لئن كان حظنا من الحطام، وذهبوا بالجنة، لقد باينونا بوناً بعيداً، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: إنما كان طعامنا مع النبي صلى الله عليه وسلم الماء والتمر، والله ما كان نرى سمراءَكم هذه، وقال أبو موسى: ما كان لباسنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا الصوف.
ورُوي: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على أهل الصُّفة، وهم يرقعون ثيابهم بالأدَم، ما يجدون لها رقعاً، فقال: «أنتم اليوم خيرٌ أم يومَ يغدوا أحدكم في حُلة، ويروح في أخرى، ويُغدا عليه بجفنة ويُراح بأخرى، ويُسترُ بيته كما تُستر الكعبة»؟ قالوا: نحن يومئذ خير، فقال لهم: «بل أنتم اليوم خير».
وقال عمرو بن العاص: كنت أتغدّى عند عمر الخبزَ والزيتَ، والخبز والخل، والخبز واللبن، والخبز والقديد، وأجلّ ذلك اللحم الغريض، وكان يقول: لا تنخلوا الدقيق، فإنه كله طعامٌ، ثم قال عمر رضي الله عنه: والله الذي لا إله إلا هو، لولا أني أخاف أن تنقص حسناتي يوم القيامة لشاركتهم في العيش! ولكني سمعتُ اللّهَ يقول لقوم: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها}. اهـ.
{فاليوم تُجزونَ عذابَ الهُونِ} أي: الهوان، وقرئ به، {بما كنتم} في الدنيا {تستكبرون في الأرض بغير الحق} بغير استحقاق لذلك، {وبما كنتم تَفْسُقون} وتخرجون عن طاعة الله عزّ وجل، أي: بسبب استكباركم وفسقكم.
الإشارة: ما زالت الأكابر من الأولياء تتنكب الحظوظ والشهوات، مجاهدةً لنفوسهم، وتصفيةً لقلوبهم، فإنَّ تَتَبُّعَ الشهوات يُقَسي القلب، ويكسِف نور العقل، كما قال الشاعر:
إنَارَةُ العقل مَكْسُوفٌ بطَوْع هَوىً ** وعَقْلُ عَاصِي الهَوَى يَزْدَادُ تنْوِيرا

هذا في حال سيرهم، فإذا تحقق وصولهم فلا كلام عليهم؛ لأنهم يأخذون من الله، ويتصرفون به في أمورهم كلها، فلا حرج عليهم في نيل ما أنعم الله به عليهم، حيث أمِنوا ضرره، ومن ذلك: ما رُوي عن إبراهيم بن أدهم، أنه أصلح ذات يوم طعاماً كثيراً، ودعا نفراً يسيراً، منهم الأوزاعي والثوري، فقال له الثوري: أما تخاف أن يكون هذا إسرافاً؟ فقال: ليس في الطعام إسراف، إنما الإسراف في الثياب والأثاث، ودفع أيضاً إلى بعض إخوانه دراهم، فقال: خذ لنا بهذه زُبداً وعسلاً وخبزاً حُوَّاري، فقال: يا أبا إسحاق هذا كله؟ قال: ويحك إذا وجدنا أَكَلْنا أكلَ الرجال، وإذا عُدمنا صبرنا صبر الرجال، وإن معروفاً الكرخي كان يُهدي له طيبات الطعام، فيأكل، فيقال له: إن أخاك بِشْراً كان كلا يأكل من هذا، فيقول: أخي بِشْر قبضه الورعْ، وأنا بسطتني المعرفة، وإنما أنا شضيف في دار مولاي، إذا أطعمني أكلت، وإذا جوّعني صبرت، ما لي وللاعتراض والتمييز. اهـ.
والحاصل: أن الناس أقسام ثلاثة: عوام، لا همة لهم في السير، وإنما قنعوا أن يكونوا من عامة أهل اليمين. فهؤلاء يأخذون كل ما أباحته الشريعة، إذ لا سير لهم حتى يخافوا من تخلُّفهم، وخواص، نهضت همتُهم إلى الله، وراموا الوصول إليه، وهم في السير لم يتحقق وصولهم، أو من العُبَّاد والزهّاد، يخافون إن تناولوا المستلذات تفتَّرت عزائمهم، فهؤلاء يتأكد في حقهم ترك الحظوظ والشهوات، والقسم الثالث: خواص الخواص، قد تحقق وصولهم، ورسخت أقدامهم في المعرفة، فهؤلاء لا كلام معهم، ولا ميزان عليهم.
قال في الإحياء، بعد كلام: وأكل الشهوات لا يُسلَّم إلا لمَن نظر من مشكاة الولاية والنبوة، فيكون بينه وبين الله علامة في استرساله وانقباضه، ولا يكون ذلك إلا بعد خروج النفس من طاعة الهوى والعادة بالكلية، حتى يكون أكلُه إذا أكل بنية، كما يكون إمساكه بنية، فيكون عاملاً له في إفطاره وإمساكه. ثم قال: وينبغي أن يتعلّم الحزم من عُمر، فإنه كان يرى النبيّ صلى الله عليه وسلم يُحب العسل ويأكله، ثم لم يقس نفسه عليه، بل لمّا عُرض عليه ماء مبرّد بالعسل جعل يُدير الإناء في كفه، ويقول: أَشربُها فتذهب حلاوتها وتبقى تباعتُها، اعزلوا عني حسابها، وتركها رضي الله عنه.

.تفسير الآيات (21- 25):

{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)}
يقول الحق جلّ جلاله: {واذكر أخا عاد} وهو هود عليه السلام {إِذا أنذر قومه} بدل اشتمال أي: وقت إنذاره قومه {بالأحقاف} جمع حِقْف، وهو رمل مستطيل فيه انحناء، من: احقوقف الشيء إذا اعوجَّ، وكان عاد أصحاب عُمُد، يسكنون بين رمال مُشرفة على البحر، بأرض يُقال لها: الشِّحْر بأرض اليمن. وعن ابن عباس: الأحقاف: واد بين عُمان ومَهْرَة، وقال مقاتل: كانت منازل عاد باليمن، في حضرموت، بموضع يقال له: مَهْرة، وإليه تنسب الإبل المهرية، ويقال لها: المهاري، وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وكانوا من قبيلة إِرَم، والمشهور: أن الأحقاف اسم جبل ذا رمل مستطيل، كانت منازل عاد حوله.
{وقد خَلَتْ النُذر} جميع نذير، بمعنى النذر، أي: مضت الرسل، {من بين يديه ومن خلفه} أي: من قبل هود ومَن بعده، وقوله: {وقد خلت..} الخ: جملة معترضة بين إنذار قومه وبين قوله: {ألاَّ تعبدوا إلا اللّهَ} مؤكدة لوجوب العمل بموجب الإنذار، وإيذاناً باشتراكهم في العبادة المذكورة، والمعنى: واذكر لقومك إنذار هود قومَه عاقبةَ الشرك والعذاب العظيم، وقد أنذر مَن تقدمه مِن الرسل، ومَن تأخر عنه قومهم قبل ذلك. {إني أخاف عليكم} إن عصيتموني {عذابَ يومٍ عظيم} يوم القيامة.
{قالوا أجئتنا لتأفكَنَا} لتصرفنا {عن آلهتنا} عن عبادتها، {فأْتنا بما تَعِدُنا} من العذاب العظيم {إن كنت من الصادقين} في وعدك بنزوله بنا، {قال إِنما العلمُ} بوقت نزوله، أو بجميع الأشياء التي من جملتها ذلك، {عند الله} وحده، لا علم لي بوقت نزوله، ولا دخل لي في إيتانه وحلوله، وإنما عِلْم ذلك عند الله، فيأتيكم به في وقته المقدّر له. {وأُبلغكم ما أُرسلت به} من التخويف والإنذار من غير وقف على تعيين وقت نزول العذاب، {ولكني أراكم قوماً تجهلون} حيث تقترحون عليَّ ما ليس من وظائف الرسل، من الإتيان بالعذاب وتعيين وقته.
رُوي: أنهم قحطوا سنين، ففزعوا إلى الكعبة، وقد كانت بنتها العمالقة، ثم خربت، فطافوا بها، واستغاثوا، فعرضت لهم ثلاث سحابات: سوداء وحمراء وبيضاء، وقيل لهم: اختاروا واحدة، فاختاروا السوداء، فمرتْ إلى بلادهم، فلما رأوها مستقبلة أوديتهم، فرحوا واستبشروا، وهذا معنى قوله تعالى: {فلما رَأَوْهُ} أي: العذاب الذي استعجلوه بقوله: {فأتنا بما تعدنا} وقيل: الضمير مبهم، يُفسره قوله: {عارضاً} على أنه تمييز، أي: رأوا عارضاً، والعارض: السحاب، سُمي به لأنه يعرض السحاب في أُفق السماء. قال المفسرون: ساق الله السحابة السوداء التي اختاروها بما فيها من النقمة، فخرجت عليهم من واد يُقال له: مغيث، فلما رأوها مستقبلة أوديتهم، أي: متوجة إليها، فرحوا، وقالوا: {هذا عارض مُمطرنا} أي: ممطر إياناً، لأنه صفة النكرة، فيقدر انفصاله.
قال الله تعالى: {بل هو ما استعجلتم به} من العذاب، وقيل: القائل هود عليه السلام، {ريحٌ فيها عذابٌ إليم} فجعلت تحمل الفساطيط، وتحمل الظعينة فترفعها في الجو، فتُرى كأنها جرادة.
قال ابن عباس: لما دنا العارض، قاموا فنظروا، فأول ما عروا أنه عذاب رأوا ما كان خارجاً من ديارهم من حالهم ومواشيهم، تطير بهم الريح بين السماء والأرض، مثل الريش، فدخلوا بيوتهم، وأغلقوا أبوابهم، فألقت الريح أبوابهم، وصرعتهم، وأمر الله تعالى الريح فأمالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، لهم أنين، ثم أمر الله تعالى الريح، فكشفت عنهم الرمال، فاحتملتهم، فرمت منهم في البحر، وشدخت الباقي بالحجارة.
وقيل: أول مَن أبصر العذاب امرأة منهم، قالت: رأيت ريحاً فيها كشهب النار، وهو معنى قوله: {تُدَمّرُ كلَّ شيء} أي: تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجم الكثير، فعبّر عن الكثرة بالكلية. {بأمر ربها} أي: رب الريح، وفي ذكر الأمر والرب، والإضافة ألى الريح، من الدلالة على عظيم شأنه تعالى ما لا يخفى، {فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنُهُم} أي: فجاءت الريح فدمرتهم، فصاروا بحيث لا يُرى شيء إلا مساكنهم خاوية، ومَن قرأ بتاء الخطاب، فهو لكل مَن يتأتى منه الرؤية، تنبيهاً على أن حالهم صار بحيث لو نظر كل أحد بلادَهم لا يَرى فيها إلا مساكنهم.
{كذلك} أي: مثل ذلك الجزاء الفظيع {نجزي القومَ المجرمين} وننجي المؤمنين، رُوي أن هود عليه السلام ومَن معه من المؤمنين في حظيرته، ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين على الجلود، وتلذه الأنفس، وإنها لتمرّ من عاد بالظعن بين السماء، والأرض، وتدمغهم بالحجارة. سبحان الحكيم القدير، اللطيف الخبير.
الإشارة: إنما جاءت النُذر من عهد آدم عليه السلام إلى القيامة الساعة، تأمر بعبادة الله، ورفض كل ما سواه، فمَن تمسّك بذلك نجى، ومَن عبد غير الله، أو مال إلى سواه، عاجلته العقوبة في الظاهر أو الباطن. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (26- 28):

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)}
قلت: {فيما} موصولة، أو موصوفة، ومفعول {اتخذوا} الأول: محذوف، و{آلهة} مفعول ثان، أي: اتخذوهم آلهة، و{قرباناً} حال، ولا يصح أن يكون مفعولاً ثايناً ل {اتخذوا}، و{آلهة}: بدل، لفساد المعنى، وأجازه ابن عطية، ووجه فساده: أن اتخاذهم آلهة منافٍ لاتخاذهم قرباناً؛ لأن القربان مقصود لغيره، والآلهة مقصود بنفسها، فتأمله، وإن نافية، والأصل: فيما ما مكنكم فيه، ولمّا كان التكرار مستثقلاً جيء بأن، كما قالوا في مهما، والأصل: مَا مَا، فلبشاعة التكرار قلبوا الألف هاء، وقيل: إن صلة، أي: في مثل ما مكنكم فيه، والأول أحسن.
يقول الحق جلّ جلاله: {ولقد مكَّنَّاهم} أي: قررنا عاد ومكناهم في التصرُّف {فيما} أي: في الذي، أو في شيء ما {مكناكم} يا معشر قريش {فيه} من السعة والبسطة، وطول الأعمار، وسائر مبادئ التصرفات، فما إغنى عنهم شيء من ذلك، حين نزل بهم الهلاك، وهذا كقوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ في الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَكُمْ} [الأنعام: 6] أو: ولقد مكنهم في مثل ما مكنكم فيه، فما جرى عليهم يجري عليكم، حيث خالفتم نبيكم، والأول أوفق بقوله: {كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَءَاثَاراً في الأَرْضِ} [غافر: 21] وقوله: {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً} [مريم: 74].
{وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدةً} أي: آلات الإدراك والفهم، ليعرفوا بكل واحدة منها ما خلقتْ له، وما نيطت به معرفته، من فنون النعم، ويستدلوا بها شؤون منعمها، ويداوموا على شكرها، ويوحدوا خالقها،، {فما أغنى عنهم سمعُهم} حيث لم يستعملوه في استماع الوحي ومواعظ الرسل، {ولا أبصارهم} حيث لم يُبصروا ما نصب من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى ووجوب وجوده، {ولا أفئدتهم} حيث لم يتفكّروا بها في عظمة الله تعالى وأسباب معرفته، فما أغنت عنهم {من شيء} أي: شيئاً من الإغناء. و{من} زائدة؛ للتأكيد، وقوله: {إِذ كانوا يجحدون بآيات الله} ظرف لقوله: {فما أغنى} جارٍ مجرى التعليل، لاستواء مؤدّي التعليل والظرف في قولك: ضربته إذ أساء، أو: لإساءته، لأنك إذا ضربته وقت إساءته فإنما ضربته فيه لوجود إساءته فيه، وكذلك الحال في حيث دون سائر الظروف غالباً، أي: فما أغنت عنهم آلات الإدراك لأجل جحودهم بآيات الله. {وحاق} أي: نزل {بهم ما كانوا به يستهزؤون} من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء، ويقولون: {فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين}.
{ولقد أهلكنا ما حولَكم من القرى} يا أهل مكة، كحِجر ثمود، وقرى لوط، والمراد: أهل القرى، ولذلك قال: {وصرَّفنا الآياتِ} كرّرناه، {ولعلهم يرجعون} أي: كرّرنا عليهم الحجج وأنواع العِبر لعلهم يرجعون من الطغيان إلى الإيمان، فلم يرجعوا فأنزلنا عليه العذاب.
{فلولا نَصَرَهم الذين اتخذوا من دون الله قُرباناً آلهةً} أي: فهلاّ منعهم وخلصهم من العذاب الأصنام الذين اتخذوهم آلهة من دون الله، حال كونها متقرباً بها إلى الله، حيث كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] و{هَؤُلآءِ شُفَعَآؤُنَا عِندَ اللَّهِ} [يونس: 18] {بل ضلوا عنهم} أي: غابوا عن نصرتهم، {وذلك إِفكهم وما كانوا يفترون} الإشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم وضلالهم، أي: وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذها آلهة، وثمرة شركهم، وفترائهم على الله الكذب.
وقرأ ابن عباس وابن الزبير: {أَفَكَهم} أي: صرفهم عن التوحيد. وقُرئ: بتشديد الفاء، للتكثير.
الإشارة: التمكُّن من كثرة الحس لا يزيد إلا ضعفاً في المعنى، وبُعداً من الحق، ولذلك يقول الصوفية: كل من زاد في الحس نقص في المعنى، وكل ما نقص في الحس زاد في المعنى، والمراد بالمعنى: كشف أسرار الذات وأنوار الصفات، وما مكّن اللّهُ تعالى عبدَه من الحواس الخمس إلا ليستعملها فيما يقربه إليه، ويوصله إلى معرفته، فإذا صرفها في غير ذلك، عُوقب عليها. وبالله التوفيق.