فصل: تفسير الآية رقم (19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (19):

{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)}
يقول الحق جلّ جلاله: {فاعلم أنه لا إِله إِلا اللّهُ} أي: إذا علمت أن مدار السعادة، والفوز بالنعيم في دار البقاء هو التوحيد والطاعة، ومناط الشقاء والخسران في دار الهوان هو الإشراكُ والعصيان، فاثبت على ما أنت عليه من التوحيد، واعلم أنه لا إله في الوجود إلا الله، فلا يستحق العبادة غيره، {واستغفر لذنبك} وهو ما قد يصدر منه صلى الله عليه وسلم من خلاف الأولى، عبّر عنه بالذنب نظراً إلى منصبه الجليل، كيف لا، وحسنات الأبرار سيئات المقربين؟ فكل مقام له آداب، فإذا أخلّ بشيء من آدابه أُمر بالاستغفار، فلمقام الرسالة آداب، ولمقام الولاية آداب، ولمقام الصلاة آداب، وضعفُ العبودية لا يقوم بجميع حقوق الربوبية، قال تعالى: {وَمَا قٌدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67]. وبالجملة فالقيام بالآداب مع الله- تعالى- على ما يستحقه- سبحانه- حتى يُحيط العبد بجميع الآداب مع عظمة الربوبية محال عادة، قال صلى الله عليه وسلم مع جلالة منصبه: «لا أُحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» فكل ما قَرُبَ العبدُ من الحضرة شُدّد عليه في طلب الأدب، فإذا أخذته سِنةٌ أُمر بالاستغفار، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يستغفر في المجلس سبعين مرة، أو مائة، على ما في الأثر.
وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي، بعد كلام: والحق أن استغفاره صلى الله عليه وسلم طلب ثبات المغفرة والستر من الوقوع، لا طلب العفو بعد الوقوع، وقد أخبره تعالى بأنه فعل. وقد يُقال: استغفار تعبُّد لا غير. قال: والذي يظهر لي أن أمره بالاستغفار مع وعد الله بأنه مغفور له؛ إشارة إلى الوقوف مع غيب المشيئة، لا مع الوعد، وذلك حقيقةٌ، والوقوف مع الوعد شريعة. وقال الطيبي: إذا تيقنت أن الساعة آتية، وقد جاء أشراطها، فخُذ بالأهم فالأهم، والأَولى فالأَولى، فتمسّك بالتوحيد، ونزِّه اللّهَ عما لا ينبغي، ثم طَهِّر نفسك بالاستغفار عما لا يليق بك، مِن ترك الأَولى، فإذا صِرت كاملاً في نفسك فكن مكمِلاً لغيرك، فاستغفر {للمؤمنين والمؤمنات}. اهـ. أي: استغفر لذنوبهم بالدعاء لهم، وترغيبهم فيما يستدعي غفران ذنوبهم.
وفي إعادة الجار تنبيه على اختلاف معلّقيْه؛ إذ ليس موجبُ استغفاره صلى الله عليه وسلم كموجب استغفارهم، فسيئاته- عليه السلام- فرضاً حسناتهم. وفي حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه- أي: ولذنب المؤمنين- إشعار بعراقتهم في الذنوب، وفرط افتقارهم إلى الاستغفار.
{واللّهُ يعلم متقلَّبكم ومثواكم} أي: يعلم متقلبكم في الدنيا، فإنها مراحل لابد من قطعه، ويعلم مثواكم في العقبى؛ فإنها مواطن إقامتكم، فلا يأمركم إلا بما هو خير لكم فيهما، فبادِروا إلى الامتثال لما أمركم به، فإنه المهم لكم، أو: يعلم متقلبكم: في معايشكم ومتاجركم، ومثواكم: حيث تستقروا في منازلكم، أو متقلبكم: في حياتكم، ومثواكم: في القبور، أو: متقلبكم: في أعمالكم الحسنة أو السيئة، ومثواكم: من الجنة أو النار، أو: يعلم جميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها، فمثله حقيق بأن يُخشى ويُتقى ويُستغفر.
الإشارة: قال القشيري: قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فاعلم أنه لا إِله إلا الله} وكان عالماً، ولكن أمره باستدامة العلم واستزادته، وذلك في الثاني من حاله في ابتداء العلم، لأن العلم أمر، ولا يجوز البقاء على الأمر الواحد، فكل لحظة يأتي فيها علم. ويقال: كان له علم اليقين، فأُمِر بعين اليقين، فأُمِر بعين اليقين، أو: كان له عيه اليقين، فأُمر بحق اليقين. ويقال: قال صلى الله عليه وسلم: «أنا أعملكم بالله وأخشاكم له» فنزلت الآية، أي: أُمر بالتواضع. وهنا سؤال: كيف قال: «فاعلم» ولم يقل صلى الله عليه وسلم بعدُ: علمتُ، كما قال إبراهيم حين قال له: {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ} [البقرة: 131] ويُجاب: بأن الله تعالى أخبر عنه بقوله: {ءَامَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285] والإيمان هو العلم، فإخبارُ الحق تعالى عنه أتم من إخباره عن نفسه بقوله: علمته.
ويُقال: إبراهيم عليه السلام لما قال: {أسلمتُ} ابتلي، ونبينا صلى الله عليه وسلم لم يقل علمت، فعُوفي، ويقال: فرق بين موسى، لمَّا احتاج إلى زيادة العلم أُحيل على الخضر، ونبينا صلى الله عليه وسلم قال له: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً} [طه: 114] فكم بين مَن أُحيل في استزادة العلم على عبد، وبين مَن أُمِر باستزادة العلم من الحق. ويقال: إنما أمره بقوله: {فاعلم} بالانقطاع إليه من الحظوظ من الخلق، ثم بالانقطاع منه إليه، وإذا قال العبد هذه الكلمة على العادة، والغفلة عن الحقيقة، وهي نصف البيان؛ فليس لهذا القول كبيرُ قيمةٍ، وهذا إذا تعجب من شيء فذكر هذه الكلمة، فليس له قَدْرٌ، وإذا قاله مخلصاً ذاكراً لمعناها، متحققاً بحقيقتها، فإن قاله بنفسه فهو في وطن التفرقة، وعندهم هذا من الشِّرْكِ الخفيِّ، وإن قاله بالحق فهو إخلاص، والعبد أولاً يعلم ربه بدليل وحُجةٍ، فعلمه بنفسه ضروري، وهو أصل الأصول، وعليه ينبني كل علم استدلالي. ثم تزداد قوةُ علمه بزيادة البيان، وزيادة الحُجج، ويتناقض علمه بنفسه لغَلَبة ذكرِ الله بقلبه عليه، فإذا انتهى لحال المشاهدة، واستيلاء سلطان الحقيقة عليه، صار علمه في تلك الحالة ضرورياً، ويقِل إحساسه بنفسه، حتى يصير علمه بنفسه كالاستدلال، وكأنه غافلٌ عن نفسه، أو ناسٍ لنفسه، ويُقال: الذي في البحر غلب عليه ما يأخذه من الرؤية عن ذكر نفسه، فإذا ركب البحر فرَّ من هذه الحالة، فإذا غرق في البحر فلا إحساس له بشيء سوى ما هو مستغرقٌ فيه مستهلَك. اهـ.
قلت: لا مدخل للحجج هنا، وإنما هو أذواق وكشوفات، فالصواب أن يقول: ثم تزداد قوة علمه، بزيادة الكشف والذوق، حتى يغيب عن وجوده، بشهود معبوده، فيتناقض علمه، فيصير علمه بالله ضرورياً، وعلمه بعدم وجوده ضرورياً، والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: {واستغفر لذنبك} قال الورتجبي عن الجنيد: أي: اعلم حقيقة أنك بنا ولنا وبنا، عَلِمتنا، وإياك أن ترى نفسَك في ذلك، فإن خطر بك خاطر غَيْرٍ، فاستغفر من خاطرك، فلا ذنب ولا خطب أعظم ممن رجع عنا إلى سوانا، ولو في خطرة ونفَس، ثم قال عن الأستاذ القشيري: إذا علمت أنك علمته فاستغفر لذنبك من هذا؛ فإن الحق علا جلال قدره أن يعلمه غيره. اهـ. قلت: وحاصله: أنَّ استغفاره صلى الله عليه وسلم ما عسى أن يخطر بباله رؤية وجوده، كما قال الشاعر:
وجُودك ذَنْبٌ لاَ يُقَاسُ بِه ذَنْبُ

فَلاَ وُجوُدَ لِلْغَيْرِ مَعَهُ أَصْلاً، فهو الذي عَرف نفسه بنفسه، ووحّد نفسه بنفسه، وقدّس نفسه بنفسه، وعظّم نفسه بنفسه، كما قال الهروي رضي الله عنه حين سُئل عن التوحيد الخاص:
مَا وَحَّدَ الْوَاحِدَ مِنْ وَاحد ** إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ

تَوحِيدُ مَنْ يَنْطِق عَنْ نَعْتِه ** عَارِيَةٌ أَبْطَلَها الْوَاحِدُ

تَوْحِيدُه إِيّاه توحِيدُه ** وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُه لأحِدْ

.تفسير الآيات (20- 24):

{وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ويقول الذين آمنوا لولا نُزَّلت سورةٌ} فيها ذِكر الجهاد، وذلك أنَّ المؤمنين كان حرصُهم على الجهاد يبعثهم على تمني ظهور الإسلام، وتمني قتال العدو، فكانوا يأنسوا بالوحي، ويستوحشون إذا أبطأ، وكان المنافقون على العكس من ذلك، {فإِذا أُنزلت سورةٌ} في معنى الجهاد {محكمةٌ} أي: مبيّنة غير متشابهة، لا تحتمل وجهاً إلا وجوب الجهاد. وعن قتادة: كل سورة فيها ذِكْر القتال فهي محكمة؛ لأن النسخ لا يَردُّ عليها؛ لأن القتال نسَخَ ما كان قبلُ من الصلح والمهادنة، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة. اهـ.
{وذُكِر فيها القتالُ} أي: أُمر فيها بالجهاد {رأيتَ الذين في قلوبهم مرض} نفاق، أي: رأيت المنافقين فيما بينهم يضجرون منها، {ينظرون إِليك نظرَ المغشيِّ عليه من الموت} أي: تشخص أبصارُهم جُبناً وجَزعاً؛ كما ينظر مَن أصابته الغشيةُ عند الموت.
قال القشيري: كان المسلمون تضيق صدورُهم لتأخر الوحي، وكانوا يتمنون أن ينزل الوحيُ بسرعةٍ، والمنافقون إذا ذُكر القتال يكرهون ذلك؛ لما كان يشُق عليهم القتال، فكانوا بذلك يفتضحون وينظرون إليه نظر المغشيِّ عليه من الموت؛ أي: بغاية الكراهة لذلك، {فأَوْلَى لهم} تهديد، أي: الوعيد لهم. اهـ. وقيل: المعنى: فويل لهم، وهو أفعل، من: الوَلْي، وهو القرب، والمعنى: الدعاءُ عليهم بأن يليَهم المكروه، ويقربَ من ساحتِهم، وقيل: أصله: أَوْيَل، فقُلب، فوزنه: أفلَع، قال الثعلبي: يقال لمَن همّ بالعطَب ثم أفلت: أولى لك، أي: قاربت العطَب.
وقوله تعالى: {طاعةٌ وقولٌ معروف} استئناف، أي: طاعة لله وللرسول، وقولٌ معروف حسن خيرٌ لهم، أو: يكون حكايةَ قولِ المنافقين، أي: قالوا: أَمْرُنا طاعة وقول معروفٌ، قالوه نفاقاً، فيكون خبراً عن مضمر، وقيل: أَوْلَى: مبتدأ، و{طاعة}: خبره، وهذا أحسن، وهو المشهور من استعمال أَوْلى بمعنى: أحق وأصوب، أي: فالطاعة والقول المعروف أَوْلى لهم وأصوب.
{فإِذا عَزَمَ الأمرُ} أي: فإذا جدّ الأمر ولزمهم القتال {فَلَوْ صَدَقوا اللّهَ} في الإيمان والطاعة {لكان} الصدق {خيراً لهم} من كراهة الجهاد، وقيل: جواب إذا وهو العامل فيها- محذوف، أي: فإذا عزم الأمرُ خالفوا أو تخلّفوا، أو نافقوا، أو كرهوا.
{فهل عسيتم إِن توليتم أن تُفسداو في الأرض وتقطِّعوا أرحامكم} أي: فلعلكم إن أعرضتم عن دين الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض، بالتغاور والتناهب، وقطع الأرحام، بمقاتلة بعض الأقارب بعضاً، أو: فهل عسيتم إن توليتم أمور الناس وتأمّرتم عليهم أن تُفسدوا في الأرض، تَفاخراً على الملك، وتهالكاً على الدنيا، فإن أحوالكم شاهدة بذلك من خراب الدين، والحرص على الدنيا.
قال في الحاشية الفاسية: والأشهر أنه من الولاية، أي: إن وُليتم الحكم، وقد جاء حديث أنهم قريش؛ أخذ الله عليهم إن وُلوا أمر الناس ألا يُفسدوا، ولا يَقطعوا الأرحام، قاله ابن حجر. اهـ.
وخبر عسى: {أن تُفسدوا} والشرط اعتراض بين الاسم والخبر، والتقدير: فهل عسيتم أن تُفسدوا في الأرض إن توليتم. تقول: عسى يا فلان إن فعلت كذا أن يكون كذا، فهل عسيتَ أنت ذلك، أي: فهل توقعت ذلك؟ {أولئك} المذكورون، فالإشارة إلى المخاطبين، إيذاناً بأن ذكر مساوئهم أوجبَ إسقاطَهم عن رتبة الخطاب، وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم، وهو مبتدأ، وخبره: {الذين لعنهم اللّهُ} أبعدهم عن رحمته، {فأصَمَّهم} عن استماع الحق والموعظة لتصاممهم عنه بسوء اختيارهم، {وأعمى أبصارهم} لتعاميهم عما يُشاهدونه من الآيات المنصوبة في الأنفُس والآفاق.
{أفلا يتدبرون القرآن} فيعرفون ما فيه من المواعظ والزواجر، حتى لا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات، {أم على قلوبٍ أقفالها} فلا يصل إليها وعظ أصلاً، و{أم} منقطعة، وما فيها من معنى بل للانتقال من التوبيخ على عدم التدبُّر إلى الوبيخ بكون قلوبهم مُقفلة، لا تقبل التدبُّر والتفكُّر، والهمزة للتقرير. وتنكير {قلوب}، إما لتهويل حالها، وتفظيع شأنها، بإبهام أمرها في الفساد والجهالة، كأنه قيل: قلوب منكرة لا يُعرف حالها، ولا يُقادر قدرُها في القسوة، إما لأنّ المراد بها قلوبُ بعض منهم، وهم المنافقون، وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أنها مخصوصة بها، مناسبة لها، غير مجانسة لسائر الأفعال المعهودة.
قال القشيري: إذا تدبروا القرآنَ أفضى بهم إلى حس العرفان، وأزاحهم عن ظلمة التحيرُّ {أم على قلوب أقفالها} أقفَل الحقُّ على قلوب الكفار، فلا يدخلها زواجر التنبيه، ولا تنبسط عليها شعاعُ العلم، ولا يحصل فيهم الخطابُ، والبابُ إذا كان مُقفلاً، فكما لا يدخل فيه شيء لا يخرج ما فيه، كذلك هي قلوب الكفار مقفلة؛ فلا الكفر الذي فيها يخرج، ولا الإيمان الذي يدعَوْن إليه يدخل في قلوبهم. اهـ.
وقال ابن عطية: هو الران الذي منعهم من الإيمان، ثم ذكر حكاية الشاب، وذلك أن وفْد اليمن قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم شاب، فقرأ عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فقال الشابُّ: عليها أقفالها حتى يفتحها الله ويُفْرجَها، قال عمر: فعَظُم في عيني، فما زالت في نفس عمر رضي الله عنه حتى وُلّي الخلافة، فاستعان بذلك الفتى. اهـ. وفي الحديث: «إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له قُفل قلبه، وجعل فيه اليقين».
الإشارة: أهل التوجُّه والرياضة يفرحون بما ينزل بهم، مما يثقل على نفوسهم، كالفاقات والأزمات، وتسليط الخلق عليهم، وغير ذلك من النوائب؛ لتموت نفوسهم؛ فتحيا قلوبهم وأرواحهم بمعرفة الله، والذين في قلوبهم مرض كالوساوس والخواطر يفرُّون من ذلك، وينظرون- حين يرون أمارات ذلك- نظر المغشي عليه من الموت، فالأَوْلى لهم الخضوع تحت مجاري الأقدار، والرضا والتسليم لأحكام الواحد القهار، فإذا عزم الأمرُ بالتوجه إلى جهاد النفس، أو بالسفر إلى مَن يُداويها، فلو صدقوا في الطلب، وتوجّهوا للطبيب، لكان خيراً لهم.
فهل عسيتم إن توليتم وأعرضتم عن ذلك، ولم تُسافروا إلى الطبيب، أن تُفسدوا في الأرض بالمعاصي والغفلة، وتُقطعوا أرحامكم، إذا لا يصل رحِمَه حقيقةً إلا مَن صفا قلبه، ودخله الخوف والهيبة، أولئك الذي أبعدهم اللّهُ عن حضرتِه، فأصمَّهم عن سماع الداعي إلى الله، وأعمى أبصارهم عن رؤية خصوصيته، وأنوار معرفته، أفلا يتدبرون القرآن، فإنَّ فيه علومَ الظاهر والباطن، لكن إذا زالت عن القلوب الأقفال، وحاصلها أربعة: حب الدنيا، وحب الرئاسة، والانهماك في الحظوظ والشهوات، وكثرة العلائق والشواغل، فإن سَلِمَ من هذه صفا قلبُه، وتجلّت فيه أسرارُ معاني الذات والصفات، فيتدبّر القرآن، ويغوص في بحر أسراره، ويستخرج يواقيتَه ودرره. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (25- 30):

{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّ الذين ارتَدُّوا على أدبارهم} أي: رجعوا إلا الكفر، وهم المنافقون، الذين وُصفوا قبلُ بمرض القلوب، وغيره، من قبائح الأفعال والأحوال، فإنهم كفروا به صلى الله عليه وسلم {من بعد ما تبيّن لهم الهُدى} بالدلائل الظاهرة، والمعجزات القاهرة. وقيل: اليهود، وقيل: أهل الكتابيْن جميعاً، كفروا به صلى الله عليه وسلم بعدما وجدوا نعته في كتابهم، وعرفوا أنه المنعوت بذلك، وقوله تعالى: {الشيطانُ سوَّل لهم} الجملة: خبر {إن} أي: الشيطان زيَّن لهم ذلك، أو: سهَّل لهم ركوب العظائم، من: السّول، وهو الاسترخاء، أي: أَرْخى العنانَ لهم، حتى جرَّهم إلى مراده، {وأَمْلَى لهم} ومدَّ لهم في الآمال والأماني، وقرأ البصري: {وأُمْليَ} بالبناء للمفعول، أي: أُمهلوا ومُدَّ في عُمرهم.
{ذلك بأنهم قالوا للذين كَرِهوا ما نزّل اللّهُ} الإشارة إلى ما ذُكر من ارتدادِهم، لا إلى الإملاء، ولا إلى التسويل- كما قيل- إذ ليس شيئاً منهما سبباً في القول الآتي؛ أي: ذلك الارتداد بسبب أنهم- أي المنافقون- قالوا لليهود الذين كرهوا ما نَزَّل الله من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما علموا أنه من عند الله حسداً وطمعاً في نزوله عليهم: {سنُطيعكم في بعض الأمر} أي: عداوة محمد والقعود عن نصْرِ دينه، أو: في نصرهم والدفع عنهم إن نزل بهم شيء، من قِبَلهِ عليه السلام، وهو الذي حكاه عنهم بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ...} [الحشر: 11] الآية وهم بنو قريظة والنضير، الذين كانوا يُوالونهم ويُوادونهم، وإنما كانوا يقولون لهم ذلك سرّاً، كما ينبئ عنه قوله تعالى: {والله يعلم أسرارهم} أي: جميع أسرارهم التي من جملتها: قولهم هذا، وقرأ الأخوان وحفص بكسر الهمزة مصدر، أي: إخفاءَهم لما يقولون لليهود.
{فكيف} تكون حيلتهم وما يصنعون {إِذا توفتهم الملائكةُ} حال كونهم {يضربون وجوهَهم وأدبارَهم} وهو تصوير لحال توفيهم على أَهْولَ الوجوه وأفظعها. وعن ابن عباس رضي الله عنه: لا يتوفى أحدٌ على معصية إلا تضرب الملائكة وجهَهُ ودُبره. {ذلك} التوفِّي الهائل {بأنهم} بسبب أنهم {اتبعوا ما أسخط اللّهَ} من الكفر والمعاصي ومعاونة الكفرة، {وكَرِهُوا رضوانه} من الطاعة والإيمان ونصر المؤمنين، {فأَحْبَط} لأجل ذلك {أعمالَهم} التي عمِلوها حال الإيمان وبعد الارتداد، من أعمال البر.
{أَمْ حَسِبَ الذين في قلوبهم مرضٌ} هم المنافقون الذين فصلت أحوالهم الشينعة، {أن لن يُخرج اللّهُ أضغانهم} أحقادهم، ف {أَمْ} منقطعة، و{أن} مخففة، واسمها: ضمير الشأن، أي: أظن المنافقون الذين في قلوبهم حِقد وعداوة أنه لن يُخرج اللّهُ أحقادهم، ولن يُبرزَها لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فيبقي أمورَهم مستورة؟ بل لا يكاد يدخل ذلك تحت الاحتمال.
{ولو نشاء لأريناكهم} ودللناك عليهم بأمارات، حتى تعرفهم بأعينهم، معرفةً مزاحِمةً للرؤية. والالتفات لنون العظمة لإبراز العناية بالإرادة، وفي مسند أحمد، عن ابن مسعود: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «إن منكم منافقين، فمَن سميتُ فليقم، ثم قال: قم يا فلان، حتى سمّى ستة وثلاثين» انظر الطيبي. {فَلعَرفتَهم بسِيماهم} بعلامتهم التي نَسِمُهم بها، وعن ابن عباس رضي الله عنه: ما خَفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين؛ كان يعرفهم بسيماهم، ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين، يشْكُرهم الناس؛ فناموا، فأصبح على وجه كل واحد منهم مكتوب: هذا منافق قال ابن زيد: قصد الله إظهارَهم، وأمرَهم أن يخرجوا من المسجد، فأبوا إلا أن يتمسّكوا بلا إله إلا الله، فحُقِنت دماءهم، ونَكحوا ونُكح منهم بها.
{ولَتعرِفَنَّهم} أي: والله لتعرفنهم {في لحن القول} أي: مجراه وأسلوبه وإمالته عن الاعتدال؛ لما فيه من التذويق والتشديق، وقد كانت ألسنتهم حادة، وقلوبهم خاربة، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ...} [البقرة: 204] الآية، مَن في قلبه شيءٌ لابد أن يظهر على لسانه، كما قيل: ما كمَن فيك ظَهَرَ على فِيك. وهذه الجُمل كلها داخِلة تحت لَوْ معلقةً بالمشيئة، واللحن يُطلق على وجهين: صواب وخطأ، فالفعل من الصواب: لَحِنَ يلْحَنُ لَحْناً، كفرِح، فهو لَحِنٌ، إذا فطنَ للشيء، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «ولعل بعضَكم أن يكون ألحن بحجته من بعض» أي: لقُوتهِ على تصريف الكلام. والفعلُ من الخطأ: لَحَنَ يلحَنُ لحْناً، كجعل، فهو لاَحِنٌ إذا أخطأ، والأصل فيه: إزالة الكلام عن جهته، مأخوذ من: اللحن، وهو ضد الإعراب، وهو الذهاب عن الصواب في الكلام. {والله يعلم أعمالَكم} فيُجازيكم بحسب قصدكم؛ إذا الأعمال بالنيات، وهذا وعد للمؤمنين، وإيذانٌ بأن حالهم بخلاف حال المنافقين، أو: يعلم جميع أعمال العباد، فيميزُ خيرَها من شرها.
الإشارة: {إن الذين ارتدوا على أدبارهم} أي: رَجعوا عن صحبة المشايخ، بعدما ظهر لهم أسرارُ خصوصيتهم؛ الشيطانُ سوَّل لهم وأَمْلَى لهم، وتقدّم عن القشيري: أنه يتخلّف عنهم يوم القيامة، ولا يلحق بالمقربين، ولو يشفع فيه ألفُ عارف، بل من كمال المكر به أن يُلقي شَبَهَه في الآخرة على غيره، حتى يتوهم عارفوه من أهل المعرفة أنه هو، فلا يشفع أحد فيه؛ لظنهم أنه معهم، فإذا ارتفعوا إلى عليين مُحيت صورته، ورُفع إلى مقام العامة، انظر معناه في آل عمران.
وقال هنا: الذي طلع فَجرُ قلبه وتلألأ نورُ التوحيد فيه، ثم ارتدّ قبل طلوع نهار إيمانه؛ انكسفَ شمسُ يومه، وأظلم نهارُ عرفانه، ودَجا ليل شَكِّه، وغابت نجومُ عقله، فحدَّث عن ظلماتهم ولا حرج. اهـ.
ولا سيما إذا تحزّب مع العامة في الإذايَة، وقال للذين كرهوا ما نَزّل الله على أهل الخصوصية من الأسرار: سنُطيعكم في بعض الأمر من إذايتهم، والله يعلم أسرارهم، وباقي الوعيد الذي في الآية ربما يشملهم. وقوله تعالى: {أم حسب الذين في قلوبهم مرض} أي: عداوةٌ لأولياء الله أن لن يُخرج اللّهُ أضغانهم؟ بل يُخرجها ويُظهر وبالها، ويفتضحون ولو بعد حين، وقوله تعالى: {ولتعرفنهم في لحن القول} في قوة الخطاب، ومفهوم الكلام؛ لأن الأسِرَّة تدلُّ على السريرة، وما خامر القلوبَ فعلى الوجوه يلوحُ، وأنشدوا في المعنى:
لَستُ مَنْ لَيْس يَدْرِي مَا هوانٌ مِن كَرَامه ** إِنَّ لِلْحُبِّ وَلِلْبَغْضِ عَلَى الْوَجْهِ عَلاَمه

المؤمن ينظر بنور الفراسة، والعارفُ ينظر بعين التحقيق، والموحِّدُ ينظر بالله، ولا يستتر عليه شيء. اهـ. من القشيري.