فصل: تفسير الآيات (31- 32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (31- 32):

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ولَنبلونَّكم} أي: والله لَنختبرنَّكم بالأمر بالجهاد، ونحوه من التكاليف الشاقة، أي: نعاملكم معاملة المختبر؛ ليكون أبلغ في أظهار العدل، {حتى نعلمَ المجاهدين منكم والصابرين} على مشاق الجهاد والتكاليف، عِلماً ظاهراً، يتعلق به الجزاء بعد تعلُّق العلم به في الأزل، {ونبلوَ أخبارَكم} أي: ونختبر أسراركم بإظهار ما فيها من خير أو شر، بالنهوض أو التخلُّف، وقيل: أراد بأخباركم: أعمالكم، عبّر بالأخبار عن الأعمال على سبيل الكناية؛ لأن الإخبار تابع لوجود المخبر عنه، إن كان الخبر حسناً كان المخبر عنه- وهو العمل- حسناً، وإن كان الخبر قبيحاً فالمخبَر عنه قبيح. اهـ.
{إِنَّ الذين كفروا وصَدُّوا} الناس {عن سبيل الله وشاقُوا الرسولَ} أي: عادوه {من بعد ما تبيّن لهم الهدى} بما شاهدوا من نعته في التوراة، وبما ظهر على يديه من المعجزات، ونزل من الآيات، وهم بنو قريظة والنضير، أو: المطعمون يوم بدر من رؤساء قريش، {لن يضروا} بكفرهم وصدهم {اللّهَ شيئاً} من الأشياء، أو: شيئاً من الصد، أو: لن يضرُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بمشاقته، وقد حذف المضاف؛ لتعظيم شأنه وتعظيم مشاقته. {وسيُحبط أعمالَهم} أي: مكائدهم التي نصبوها في إبطال دينه تعالى، ومشاقة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يصلون بها إلى ما كانوا يبغون من الغوائل، ولا يُثمرُ لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم.
الإشارة: قال القشيري: في الابتلاء والامتحان يتبينُ جواهرُ الرجال، فيظهر المخلصُ، ويفتضح الممارق، وينكشف المنافق. اهـ. وكان الفُضيل إذا قرأ هذه الآية بكى، وقال: اللهم لا تبلُنا؛ فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا. اهـ. ويبغي أن يزيد: وإن بلوتنا فأيّدنا، وبالله التوفيق. إن الذين جحدوا وصدُّوا الناس عن طريق الوصول، وخرجوا عن مناهج السنّة، لن يضرُّوا الله شيئاً؛ فإن لله رجالاً يقومون بالدعوة، لا يضرهم مَن عاداهم، حتى يأتي أمر الله، وسيُحبط أعمالَ الصادّين المعوِّقين، فلا ينهضون إلى الله نهوض الرجال، بشؤم انتقادهم. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (33- 38):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّهَ} فيما يأمركم به من الجهاد وغيره {وأطيعوا الرسولَ} فيما سنَّه لكم، {ولا تُبطلوا أعمالَكم} بما أبطل به هؤلاء أعمالهم من الكفر والنفاق، وغير ذلك من مفسدات الأعمال، كالعجب والرياء، والمن والأذى، وليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر، خلافاً للمعتزلة، أو: لا تبطلوا أعمالكم بأن تقطعوها قبل تمامها. وبها احتجَ الفقهاء على وجوب إتمام العمل؛ فأوجبوا على مَن شَرَعَ في نافلة إتمامها، وأخذُه عن الآية ضعيف؛ لأن السياق إنما هو في إحباط العمل بالكفر، لقوله قبلُ: {وسيُحبط أعمالهم} ثم قال: {يا أيها الذين آمنوا} لا تكونوا كهؤلاء الذين أحبط الله أعمالهم؛ بكفرهم وصدهم عن سبيل الله، ومشاقتهم الرسولَ، ويؤيده أيضاً: قوله تعالى: {إِن الذين كفروا وصَدُّوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر اللّهُ لهم} هذا عام في كل مَن مات على الكفر، وإن صحّ نزوله في أهل القليب.
{فلا تَهِنُوا} لا تضعفوا عن الجهاد {وتدعوا إِلى السَّلْم} أي: لا تدعوا الكفار إلى الصلح والمسالمة؛ فإن ذلك إعطاء الدنِيَّة- أي: الذلة- في الدين، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار {أن} في جواب النهي؛ أي: لا تهنوا مع إعطاء السلم، {وأنتم الأَعْلَون} الأغلبون، {واللّهُ معكم} بالنصر والمعونة، ومَن كان غالباً ومنصوراً والله معه، لا يتصور منه إظهار الذلة والضراعة لعدوه، {ولن يَتِرَكُمْ أعمالكم} لن يضيعها، من: وترت الرجل: إذا قتلت له قتيلاً، من ولد أو أخ أو حميم، فأفردته منه، حتى صار وتراً، عبّر عن ترك الإثابة في مقابلة العمل بالوتر، الذي هو إضاعة شيء معتد به من الأنفس والأموال، مع أن الأعمال غير موجبة للثواب على قاعدة أهل السُنَّة، إبرازاً لغاية للطف، بتصوير الثواب بصورة الحق المستحق، وتنزيل ترك الإثابة منزلة إضاعة أعظم الحقوق وإتلافها، سبحانه من رب رحيم!.
{إِنما الحياةُ لعبٌ ولهوٌ} لا ثبات لها، ولا اعتداد بها، فلا تُؤثروا حياتها الفانية على الحياة الأبدية بالموت في الجهاد الأصغر أو الأكبر، {وإِن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم} أي: ثواب إيمانكم وأعمالكم من الباقيات الصالحات، التي فيها يتنافس المتنافسون، {ولا يسألكم أموالَكمْ} بحيث يُخل أداؤها بمعايشكم، وإنما سألكم نزراً يسيراً؛ هو ربع العشر، تؤدونه إلى فقرائكم.
{إِن يسألكُمُوها} أي: جميع أموالكم {فيُحْفِكم} أي: يجهدكم بطلب الكُل، فالإحفاء والإلحاف: المبالغة في السؤال: وبلوغ الغاية، يُقال: أحفاه في المسألة: إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح، وأحفى شاربه: استأصله، أي: إن يسألكم جميعها {تبخلوا} فلا تُعطوا شيئاً، {ويُخرجْ أضغانكم} أي: أحقادكم؛ لأن عند سؤال المال يظهر الصادق من الكاذب، وضمير لا يسألكم وما بعدها للّه أو لرسوله.
وضمير {يُخرج} لله تعالى، ويؤيده القراءة بنون العظمة، أو البخل؛ لأنه سبب الأضغان.
{ها أنتم هؤلاء} أي: يا هؤلاء، وقيل: {ها}: للتنبيه، و{هؤلاء}: موصول بمعنى الذين، وصلته: {تُدْعَون} أي: أنتم الذي تُدعون {لتُنفقوا في سبيل الله} هي النفقة في الغزو والزكاة، كأنه قيل: الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر، {فمنكم مَن يبخلُ} أي: فمنكم ناس يبخلون به، {ومَن يبخلْ} بالصدقة وأداء الفريضة {فإِنما يبخلُ على نفسه} فإنَّ كُلاًّ مِن نفع الإنفاق وضرر البخل عائد إليه، وفي حديث الترمذي: «السخي قريبٌ من الله، قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار، ولجاهلٌ سخيٌّ أحبُّ إلى الله من عابدٍ بخيل» وفي رواية: «من عالم بخيل» والبخيل يتعدّى ب عن، وعلى لتضمُّنه معنى: الإمساك والعدي.
{والله الغنيُّ} عن كل ما سواه، ويفتقر إليه كُلَّ ما عداه، {وأنتم الفقراءُ} أي: إنه- تعالى- لا يأمر بذلك لحاجته إليه؛ لأنه الغنيُّ عن الحاجات، ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب، {وإِن تَتولَّوا} أي: وإن تُعرضوا أيها العرب عن طاعته، وطاعة رسوله، والإنفاق في سبيله {يستبدل قوماً غيرَكم} يخلف قوماً خيراً منكم وأطوع، {ثم لا يكونوا أمثالكم} في الطاعة، بل أطوع، راغبين فيما يقرب إلى الله ورسوله، وهم فارس، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء القوم- وكان سلمان إلى جنبه، فضرب على فخذه، فقال: «هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثُريا لتناوله رجالٌ من فارس».
قلت: صدق الصادق المصدوق، فكم خرج منهم من جهابذة العلماء، وأكابر الأولياء، كالجنيد، إما الصوفية، والغزالي، حَبر هذه الأمة، وأضرابهما. وقيل: الملائكة، وقيل: الأنصار، وقيل: كندة، وقيل: الروم، والأول أشهر.
الإشارة: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} أو خليفته، وهو الداعي إلى الله على بصيرة العيان، ولا تُبطلوا أعمالكم، برجوعكم عن السير، بترك المجاهدة قبل المشاهدة. إنَّ الذين كفروا بوجود خصوصية التربية، وصدُّوا الناسَ عنها، ثم ماتوا على ذلك، لن يستر اللّهُ مساوئهم، ولا يُغيّبهم عن شهود نفوسهم التي حجبتهم عن الله. فلا تهنوا: ولا تضعُفوا، أيها المترفهون، عن مجاهدة نفوسكم، فينقطع سيركم، وذلك بالرجوع إلى الدنيا، ولا تدعوا إلى السلم والمصالحة بينكم وبين نفوسكم، وأنتم الأعلون، قد أشرفتم على الظفر بها، والله معكم؛ لقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنآ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] ولن ينقصكم شيئاً من أعمالكم، بل يُريكم ثمرتها، عاجلاً وآجلاً، ولا يفترنَّكم عن المجاهدة طولُ الأمل.
إنما الحياة الدنيا لعب ولهو؛ أي: ساعة من نهار، وإن تُؤمنوا بكل ما وعدَ اللّهُ، وتتقوا كل ما يشغل عن الله، يُؤتكم أجوركم عاجلاً وآجلاً، ولا يسألكم الداعي إليه جميعَ أموالكم، إنما يسألكم ما يَخف عليكم، تُقدموه بين يدي نجواكم، ولو سألكم جميع أموالكم لبخلتم، ويُخرج إضغانكم، وهذا في حق عامة المريدين، وأما الخاصة الأقوياء، فلو سُئلوا أرواحَهم لبذلوها، واستحقروها في جنب ما نالوا من الخصوصية، وأما أموالهم فأهون عندهم من أن يبخلوا بشيء منها، ويُقال لعامة الطالبين للوصول: {ها أنتم هؤلاء تُدعون...} الآية.
قال القشيري: والله الغني لذاته بذاته، ومن غنائه: تمكُّنه من تنفيذ مُراده، واستغناؤه عما سواه، وأنتم الفقراء إلى الله، في نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، في الابتداء ليخلقكم، وفي الوسط ليُربيكم، وفي الانتهاء يفنيكم عن أنانيتكم، ويُبقيكم بهويته، فالله غني عنكم من الأزل إلى الأبد، وأنتم الفقراء محتاجون إليه من الأزل إلى الأبد. اهـ. وإن تتولوا عن السير، وتركنوا إلى الرخص والشهوات قبل التمكين، يستبدل قوماً غيركم، يكونوا أحزم منكم، وأشد مجاهدة، صادقين في الطلب، ثابتين القَدم في آداب العبودية، قد أدركتهم جذباتُ العناية، وهَبَّتْ عليهم ريحُ الهداية، ثم لا يكونوا أمثالكم في التولِّي والضعف، حتى يصلوا إلى مولاهم. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى لله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلّم.

.سورة الفتح:

.تفسير الآيات (1- 3):

{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّا فتحنا لك} الفتح عبارة عن الظفر بالبلدة عنوةً أو صُلحاً، بحرب أو بدون، فإنه ما لم يقع الظفر مُنْغَلِقٌ، مأخوذ من: فتح باب الدار. وإسناده إلى نون العظمة لإسناد الفعل إلى الله تعالى خلقاً وإيجاداً. قيل: المراد به فتح مكة، وهو المروي عن أنس رضي الله عنه، بُشِّر به صلى الله عليه وسلم عند انصرافه من الحُديبية. والتعبير عنه بصيغة الماضي على سَنَن الأخبار الإلهية المحققة الوقوع، للإذيان بتحققه، تأكيداً للتبشير، وتصدير الكلام بحرف التحقيق لذلك، وفيه من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبَر به- وهو الفتح- ما لا يخفى. وقيل: هو فتح الحديبية، وهو الذي عند البخاري عن أنس، وهو الصحيح عند ابن عطية، وعليه الجمهور. وفيها أُخذت البيعة على الجهاد، وهو كان سبب إظهار الإسلام وفشوه، وذلك أنّ المشركين كانوا ممنوعين من مخالطة أهل الإسلام، للحرب التي كانت بينهم، فلما وقع الصلح اختلط الناسُ بعضهم مع بعض، وجعل الكفارُ يرون أنوارَ الإسلام، ويسمعون القرآن، فأسلم حينئذ بشر كثير قبل فتح مكة.
وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن رجلاً قال: ما هذا بفتح، لقد صَدُّونا عن البيت، ومَنعونا، قال: «بل هو أعظم الفتوح، وقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح، ويسألوكم القضية، ويرغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما يكرهون» وعن الشعبي أنه قال: نزلت سورة الفتح بالحديبية، وأصاب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة، حيث بُويع بيعة الرضوان، وغُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وبلغ الهَديُ مَحِلَّه، وبُشِّروا بخيبر، وظهرت الروم على فارس، ففرح به المسلمون، وكان في فتح الحديبية آية عظيمة، وهي أنه نزح ماؤها حتى لم يبقَ فيها قطرة، فتمضمض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم مجّه فيها، فدرّت بالماء، حتى شرب جميع مَن كان معه، وقيل: جاش بالماء حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها بعدُ. وقيل: هو جميع ما فتح له صلى الله عليه وسلم، من الإسلام، والدعوة، والنبوة، والحجة، والسيف، ولا فتح أبين منه وأعظم، وهو رأس الفتوح كافة؛ إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا هو شعبة من شُعبه، وفرع من فروعه. وقيل: الفتح: بمعنى القضاء، والمعنى: قضينا لك على أهل مكة أن تدخلها من قابل، وأيّاً ما كان فحذف المفعول للقصد إلى نفس الفعل، والإيذان بأنّ مناط التبشير هو نفس الفتح الصادر عنه سبحانه، لا خصوصية المفتوح. قاله أبو السعود.
{فتحاً مبيناً} ظاهر الأمر، مكشوف الحال، فارقاً بين الحق والباطل. وقوله تعالى: {ليغفر لك اللّهُ} غاية للفتح، من حيث إنه مترتب على سعيه صلى الله عليه وسلم في إعلاء كلمة الله، بمكابدة مشاق الحروب، واقتحام موارد الخطوب، أي: جعلنا الفتح على يديك، وبسبب سعيك، ليكون سبباً لغفران الله لك {ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر} أي: جميع ما فرط منك من ترك الأولى، وما سيقع، وتسميته ذنباً بالنظر إلى منصبه الجليل، وتقدم قريباً تحقيقه.
وقول الجلال: اللام للعلة الغائبة فمدخولها مسبب لا سبب، لا يريد التعليل على حقيقته العقلية، فإنه عليه تعالى محال، وإنما يُريد صورة التعليل، الذي هو حكمة الشيء، وفائدته العائدة على خلقه، فضلاً وإحساناً، فالحِكمُ والمصالح غاية لأفعاله تعالى، ومنافع راجعة إلى المخلوقات، وليس شيء منها غرضاً وعلة غائية لفعله، بحيث يكون سبباً لإقدامِه على الفعل، وعلة غائية للفعل؛ لغناه تعالى، وكماله في ذاته عن الاستكمال بفعل من الأفعال، وما ورد في الآيات والأحاديث مما يُوهم الغرض والعلة فإنه يُحمل على الغايات المترتبة والحكمة، فاحتفظ بذلك. قاله صابح الحاشية الفاسية. واللائق أن المعنى: إنا فتحنا لك وقضينا لك بأمرٍ عاقبته أن جَمَعَ الله لك بين سعادة الدنيا والآخرة، بأن غفر لك، وأتمّ نعمته عليك وهداك، ونصرك. فاللام لام العاقبة لا لام العلة؛ فإن إفضال الله على رسوله لا يُعلل ولا يُوازي بعمل. اهـ.
{ويُتم نعمتَه عليك} بإعلاء الدين، وضم المُلك إلى النبوة، وغيرها مما أفاض عليه من النعم الدينية والدنيوية، {ويهيديَكَ صراطاً مستقيماً} أي: يُثبتك على الطريق القويم، والدين المستقيم، والاستقامة وإن كانت حاصلة قبل الفتح، لكن حاصل بعد ذلك من اتضاح سبيل الحق، واستقامة مناهجه، ما لم يكن حاصلاً قبلُ. {ويَنصُرَك اللّهُ} أي: يُظهر دينك، ويُعزّك، فإظهار الاسم الجليل لكونه خاتمة الغايات، ولإظهار كمال العناية، بشأن النصر، كما يُعرب عنه تأكيده بقوله: {نصراً عزيزاً} أي: نصراً فيه عزة ومنعه، أو: قوياً منيعاً، على وصف المصدر بوصف صاحبه، مجازاً، للمبالغة، أو: عزيزاً صاحبه.
الإشارة: {إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً} بأن كشفنا لك عن أسرار ذاتنا، وأنوار صفاتنا، وجمال أفعالنا، فشاهدتنا بنا، ليغفر لك الله، أي: ليُغيبك عن وجودك في شعور محبوبك، ويستر عنك حسك ورسمك، حتى تكون بنا في كل شيء، قديماً وحديثاً، قال القشيري: وذنب الوجود هو الشرك في الوجود، وغفره: ستره بنور الوحدة، لمحو ظلمة الأثينية. اهـ. ويُتم نعمته عليك بالجمع بين شهود الربوبية، والقيام بآداب العبودية، ودلالة الخلق على شهود قيام الديمومية، ويهديك طريقاً مستقيماً تُوصل إلى حضرتنا، فتسلكها وتُبينها لمَن يكون على قدمك، وينصرك الله نصراً عزيزاً، بالتمكُّن في شهود ذاتنا، والعكوف في حضرتنا، محفوفاً بالنصرة والعناية، محمولاً في محفَّة الرعاية.