فصل: تفسير الآيات (4- 7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (4- 7):

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)}
يقول الحق جلّ جلاله: {هو الذي أنزل السكينةَ} أي: السكون والطمأنينة، فعلة، من: السكون، كالبهيتة من البهتان، {في قلوب المؤمنين} حتى لم يتضعضعوا من الشروط التي عقدها صلى الله عليه وسلم مع المشركين، مَن رَدّ مَن أسلم منهم، وعدم ردهم مَن رجع إليهم، ومِن دخول مكة قابلاً بلا سلاح، وغير ذلك مما فعله صلى الله عليه وسلم معهم بالوحي، وما صدر عن عمر رضي الله عنه فلشدة قوته وصلابته، وما زال يعتق ويفعل أموراً كفارة لذلك. وقيل: {السكينة}: الصبر على ما أمر به الله من الشرائع والثقة بوعد الله، والتعظيم لأمر الله، {ليزدادوا إيماناً مع إِيمانهم} أي: يقيناً إلى يقينهم، أو: إيماناً بالشرائع مع إيمانهم بالعقائد.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: بعث الله نبيه بشهادة ألا إله إلا الله فلما صدَّقوه فيها، زادهم الصلاة، فلام صدّقوه، زادهم الزكاة، فلما صدّقوه، زادهم الحج، فلما صدّقوا زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم دينهم، فذلك قوله: {ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنودُ السماوات والأرض} يُدبرها كما يريد، يُسلط بعضها على بعض تارة، ويوقع الصلح بينهما أخرى، حسبنا تقتضيه مشيئته المبنية على الحِكَم والمصالح، {وكان الله عليماً} مبالغاً في العلم بجميع الأمور {حكيماً} في تدبيره وتقديره.
{ليُدخل المؤمنين والمؤمنات} اللام متعلق بما يدل عليه ما ذكر من قوله: {ولله جنود السماوات والأرض} من معنى التصرُّف، أي: دَبّر ما دَبَّر من تسليط المؤمنين، ليعرفوا نعمة الله ويشكروها، فيدخلهم {جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها ويُكَفِّرَ عنهم سيئاتهم} أي: يُغطّي عنهم مساوئهم، فلا يظهرها لهم ولا لغيرهم. وتقديم الإدخال على التكفير، مع أن الترتيب في الوجود على العكس؛ للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى. {وكان ذلك} أي: ما ذكر من الإدخال والتكفير {عند الله فوزاً عظمياً} لا يُقادر قدره؛ لأنه منتهى ما امتدت إليه أعناق الهمم من جلب نفع ودفع ضر. و{عند الله}: حال من {فوزاً عظيماً} لأنه صفته في الأصل، فلما قُدّم عليه صار حالاً، أي: كائناً عند الله في علمه وقضائه. والجملة اعتراض مقُرِّرٌ لما قبله.
{ويُعذِّب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} لِما أغاظهم من ذلك وكرهوه، وهو عطف على {يدخل}، وفي تقديم المنافقين على المشركين ما لا يخفى من الدلالة على أنهم أحق منهم بالعذاب. {الظانين بالله ظَنَّ السَّوءِ} أي: ظن الأمر السَّوء، وهو ألا ينصر الله رسولَه والمؤمنين، ولا يُرجعهم إلى مكة، فالسَّوء عبارة عن رداءة الشيء وفساده، يقال: فِعْلُ سَوُءٍ، أي: مسخوط فاسد. {عليهم دائرةُ السَّوءِ} أي: ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين، وهو دائر عليهم وحائق بهم.
وفيه لغتان: فتح السين وضمها، كالكَره والكُره، والضَّعف والضَّعف، غير أن المفتوح غلب عليه أن يُضاف إليه ما يُراد ذمّه من كل شيء، وأما السُوء فجارٍ مجرى الشيء الذي هو نقيض الخير، أي: الدائرة التي يذمونها ويسخطونها دائرة عليهم، ولاحقة بهم، {وغَضِبَ اللّهُ عليهم ولعنهم وأعدَّ لهم جهنم وساءت مصيراً} لهم، وهو عطف لما استوجبوه في الآخرة على ما استوجبوه في الدنيا، وعطفَ {ولعنهم} وما بعده بالواو، مع أن حقهما الفاء المفيدة للسببية؛ إيذاناً باستقلال كل واحد منها بالوعيد، وأصالته، من غير استتباع بعضها لبعض.
{ولله جنودُ السماوات والأرض} إعادة لما سبق، وفائدتها: التنبيه على أن لله جنود الرحمة وجنود العذاب، كما ينبئ عنه التعرُّض لوصف العزة في قوله: {وكان اللّهُ عزيزاً} أي: غالباً فلا يُردّ بأسمه {حكيماً} فلا يعترض صنعه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: هو الذي أنزل السكينة في قلوب المتوجهين، حتى سكنوا لصدمات تجلِّي الجلال، وأنوار الجمال، وسكنوا تحت مجاري الأقدار، كيفما برزت، بمرارة أو حلاوة، قال القشيري: والسكينةُ: ما يسكن إليه القلبُ من أنوار الإيمان والإيقان، أو العرفان بمشاهدة العيان، بل الاستغراق في بحر العين بلا أين. اهـ. ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، فيترقُّوا من مقام الإسلام إلى مقام الإيمان، ومن مقام الإيمان إلى مقام الإحسان، أو من علم اليقين إلى عين اليقين، ومن عين اليقين إلى حق اليقين، أو من المراقبة إلى المشاهدة، أو من رؤية الأسباب إلى مسبب الأسباب.
{ولله جنودُ السماوات والأرض} وهي الجنود التي يمد الله بها الروح في محاربتها للنفس، حتى تغلبها وتستولي عليها، وهي اليقين، العلم، والذكر، والفكر، والواردات الإلهية، التي تأتي من حضرة القهّار، فتدمغ كل ما تُصادمه من الأغيار والأكدار، وكان الله عليماً بمَن يستحق هذه الواردات، حكيماً في ترتيبها وتدبيرها، ليُدخل مَن تأيّد بها جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم والحِكَم، ويغطي عنهم مساوئهم حتى يصلوا إليه، بما منه إليهم، لا بما منهم إليه وهذا هو الفوز العظيم، يفوز صاحبه بالنعيم المقيم، في جوار الكريم. ويُعذب أهل النفاق المنتقدين على أولياء الله، المتوجهين إليه، الظانين بالله ظن السوء، وهو أن خصوصية التربية انقطعت. {ولله جنود السماوات والأرض} أي: جنود الحجاب، وهو جند النفس، من الهوى والشيطان، والدنيا والناس، يُسلطها على مَن يشاء من عباده، إن يبقى في ظلمة الحجاب، والله غالب على أمره.

.تفسير الآيات (8- 10):

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِنّا أرسلناك شاهداً} تشهد على أمتك يوم القيامة، كقوله: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] وهو حال مقدَّرة، {ومبشِّراً} لأهل الطاعة بالجنة، {ونذيراً} لأهل المعصية بالنار، {لتؤمنوا بالله ورسوله} والخطاب للرسول والأمة، {وتُعزِّروه} تقوُّوه بنصر دينه، {وتُوقِّروه} أي: تُعظِّموه بتعظيم رسوله وسائر حرماته، {وتُسبِّحوه} تُنزِّهوه، أو تُصلوا له، من: السبحة، {بكرةً وأصيلاً} غدوة وعشية، قيل: غدوة: صلاة الفجر، وعشية: الظهر والعصر والمغرب والعشاء. والضمائر لله تعالى. ومَن فرّق؛ فجعل الأولين للنبي صلى الله عليه وسلم والأخير لله تعالى، فقد أبعد. وقرأ المكي والبصري بالغيب في الأربعة، والضمائر للناس، وقرأ ابن السميفع: وتُعززوه بزاءين، أي: تنصروه وتُعِزُّوا دينه.
{إِنَّ الذين يُبايعونك} على الجهاد، بيعة الرضوان {إِنما يُبايعون اللّهَ} لأنه خليفة عنه، فعقد البيعة معه صلى الله عليه وسلم كعقدها مع الله من غير تفاوت بينهما، كقوله: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} [النساء: 80] ثم أكّد ذلك بقوله: {يدُ اللهِ فوق أيديهم} يعني: أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله، من باب مبالغة التشبيه، {فمَن نكث} نقض البيعة، ولم يفِ بها {فإِنما يَنكُثُ على نفسه} فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه، قال جابر رضي الله عنه: «بايعنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على الموت، وعلى ألاَ نفرّ، فما نكث أحدُ منا البيعةَ، إلا جَدّ بن قَيْسٍِ المنافق، اختبأ تحت إبطِ بعيره، ولم يَسر مع قومه». {ومَن أوفى بما عاهد عليه اللّهَ} يقال: وفيت بالعهد وأوفيت. وقرأ حفص بضم الهاء من {عليه} توسُّلاً لتفخيم لام الجلالة، وقيل: هو الأصل، وإنما كسر لمناسبة الياء. أي: ومَن وفَّى بعهده بالبيعة {فسيؤتيه أجراً عظيماً} الجنة وما فيها.
الإشارة: لكل جيل من الناس يبعث اللّهُ مَن يُذكِّرهم، ويدعوهم إلى الله، بمعرفته، أو بإقامة دينه، ليدوم الإيمان بالله ورسوله، ويحصل النصر والتعظيم للدين إلى يوم الدين، ولولا هؤلاء الخلفاء لضاع الدين، وقوله تعالى: {إنَّ الذين يُبايعونك} الآية، قال الورتجبي: ثم صرَّح بأنه عليه السلام مرآة لظهور ذاته وصفاته، وهو مقام الاتصاف بأنوار الذات والصفات في نور الفعل، فصار هو هو، إذا غاب الفعل في الصفة، وغابت الصفة في الذات. فقال: {إن الذين يُبايعونك...} الآية. وإلى ذلك يُشير الحلاّج وغيره. وقال في القوت: هذه أمدح آية في كتاب الله عزّ وجل، وأبلغ فضيلة فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه جعله في اللفظ بدلاً عنه، فيقول: لله، وليس هذا من الربوبية للخلق سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.
وقال الحسن بن منصور الحلاج: لم يُظهر الحق تعالى مقام الجمع على أحد بالتصريح إلا على أخص نسَمِهِ وأشرفه، فقال: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله}. اهـ.
قال القشيري: وفي هذه الآية تصريحٌ بعين الجمع، كما قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17] وقال في مختصره: يُشير إلى كمال فنائه وجوده عليه السلام في الله وبقائه بالله. اهـ. فالآية تُشير إلى مقام الجمع، المنبه عليه في الحديث: «فإذا أحببته كنت سمعه، وبصره، ويده» وسائر قواه، الذي هو سر الخلافة والبقاء بالله وهذا الأمر حاصل لخلفائه صلى الله عليه وسلم من العارفين بالله، أهل الفناء والبقاء، وهم أهل التربية النبوية في كل زمان، فمَن بايعهم فقد بايع الله، ومَن نظر إليهم فقد نظر إلى الله، فمَن نكث العهد بعد عقده معهم فإنما ينكثه على نفسه، فتيبس شجرةُ إرادته، ويُطمس نور بصيرته، فيرجع إلى مقام عامة أهل اليمين ومَن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً شهود ذاته المقدسة على الدوام، والظفر بمقام المقربين، ثبتنا الله على منهاجه القويم، من غير انتكاص ولا رجوع، آمين.

.تفسير الآيات (11- 14):

{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)}
يقول الحق جلّ جلاله: {سيقولُ لك} يا محمد إذا رجعت من الحديبية {المخلَّفون من الأعراب} وهم الذين تخلّفوا عن الحديبية، وهم أعراب غِفَار، ومُزَيْنةُ، وجهينة، وأسلم، وأشجع، والديل، وذلك انه صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة، عام الحديبية، معتمراً، استنفر مَن حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي، ليخرجوا معه، حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدُّوه عن البيت، وأحرم صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدي؛ لِيُعْلمَ أنه لا يريد حرباً، فتثاقل كثير من الأعراب، وقالوا: نذهب إلى قوم غَزوهُ في داره بالمدينة، وقتلوا أصحابه، فنقاتلهم، وظنوا أنه لا ينقلب إلى المدينة، فأوحى الله تعالى إليه ما قالوا، حيث تعلّلوا وقالوا: {شَغَلنا أموالُنا وأهلُونا} ولم يكن تخلُّفنا عنك اختياراً، بل عن اضطرار، {فاستغفر لنا} فأكذبهم الله بقوله: {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} فليس تخلُّفهم لأجل ذلك، وإنما تخلَّفوا شكّاً ونفاقاً، وطلبُهم الاستغفار أيضاً ليس بصادرٍ عن حقيقة.
{قل} لهم: {فمَن يملك لكم من الله شيئاً} فمَن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه {إِن أراد بكم ضَرّاً} أي: ما يضركم من هلاك الأهل، والمال وضياعها، حتى تخلّفتم عن الخروج لحفظها، {أو أراد بكم نفعاً} أي: مَن يقدر على ضَرَكم إن أراد بكم نزول من ينفعكم، من حفظ أموالكم وأهليكم، فأيّ حاجة إلى التخلُّف لأجل القيام بحفظهما والأمر كله بيد الله؟ {بل كان الله بما تعملون خبيراً} إضراب عما قالوه، وبيان لكذبه بعد بيان فساده على تقدير صدقه، أي: ليس الأمر كما يقولون، بل كان الله خبيراً بجميع الأعمال، التي من جملتها تخلُّفكم وما هو سببه، فلا ينفعكم الكذب مع علم الله بجميع أسراركم.
{بل ظننتم أن لن ينقلب الرسولُ والمؤمنون إِلى أهليهم أبداً} بأن يستأصلهم المشركون بالموت، فخشيتم إن كنتم معهم أن يُصيبكم ذلك، فتخلّفتم لأجل ذلك، لا لما ذكرتم من المعاذيرالباطلة، {وزُيِّنَ ذلك في قلوبكم} زيّنه الشيطانُ وقبلتموه، واشتغلتم بشأن أنفسكم، غير مبالين بهم، {وظننتم ظنَّ السَّوء} والمراد به الظن الأول، والتكرير لتشديد التوبيخ والتسجيل عليه بالسوء، أو ما يعمه وغيره من الظنون الفاسدة، كعلو الكفر، وظهور الفساد، وعدم صحة رسالته صلى الله عليه وسلم، فإن الجازم بصحتها لا يحول حول فكره هذه الظنون الباطلة، {وكنتم قوماً بُوراً} هالكين عند الله، مستوجبين لسخطه وعقابه، جمع: بائر، كعائذ وعُوذ، من بار الشيء: هلك وفسد، أي: كنتم قوماً فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونيّاتكم.
{ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإِنّا أعتدنا} أعددنا {للكافرين} أي: لهم، فأٌقيم الظاهر مقام المضمر للإيذان بأن مَن لم يجمع بين الإيمان بالله وبرسوله فهو كافر مستوجب العسير.
ونكَّر {سعيراً} لأنها نار مخصوصة، كما نكَّر {نَاراً تَلَظَّى} [الليل: 14]. وهذا كلام وارد من قِبله تعالى، غر داخل في الكلام المتقدم، مُقرر لبوارهم، ومُبيّن لكيفيته، أي: ومَن لم يؤمن كهؤلاء المتخلفين، فإنا أعتدنا له سعيراً يحترق بها.
{ولله مُلكُ السماوات والأرض} يُدبره تدبير قادر حكيم، ويتصرف فيهما وفيما بينهما كيف يشاء، {يغفر لمن يشاء ويُعذِّب من يشاء} بقدرته وحكمته، من غير دخل لأحد في شيء، ومن حكمته: مغفرته للمؤمنين وتعذيبه للكافرين. {وكان الله غفوراً رحيماً} مبالغاً في المغفرة والرحمة لمَن يشاء، أي: لمَن تقتضي الحكمة مغفرته ممن يؤمن به وبرسوله، وأما مَن عداه من الكفر فبمعزل من ذلك قطعاً.
الإشارة: هذه الآية تَجُر ذيلها على مَن تخلّف من المريدين عن زيادة المشايخ من غير عُذر بيِّن، واعتذر بأعذار كاذبة، يقول بلسانه ما ليس في قلبه، وما زالت الأشياخ تقول: كل شيء يُسمح فيه إلا القدوم؛ إذ به تحصل التربية والترقية، وتقول أيضاً: مَن جلس عنا لعذر صحيح عذرناه، وربما يصل إليه المدد في موضعه، ومَن جلس لغير عذر لا نُسامح له، بل يُحرم من زيادة الإمداد، ومن الترقي في المقامات والأسرار، وما قطع الناس عن الله إلا أموالهم وأهلوهم اشتغلوا بهم، وحُرموا السير والوصول، فكل مريد شغله عن زيادة شيخه أهلُه ومالُه لا يأتي منه شيء. قل: فمَن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضرّاً، بأن قطعكم عنه بعلة الأهل والمال، أو: أراد بكم نفعاً، بأن وصلكم إليه، وغيَّب عنكم أهلكم ومالكم، بل كان الله بما تعملون خبيراً، يعلم مَن تخلّف لعذر صحيح، أو لعذر باطل، وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (15- 16):

{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)}
يقول الحق جلّ جلاله: {سيقول المخلِّفون} المذكورون آنفاً {إِذا انطلقتم إِلى مغانمَ} أي: مغانم خيبر {تأخذونها} حسبما وعدكم الله بها، وخصَّكم بها، عِوض ما فاتكم من مغانم مكة. و{إذا}: ظرف لما قبله، لا شرط لما بعده، أي: سيقولون عند انطلاقكم إلى مغانم خيبر: {ذَرونا نتَّبِعكم} إلى خيبر، ونشهد معكم قتال أهلها {يريدون إن يُبدِّلوا كلامَ الله} الذي وعد به أهل الحديبية بأن يخصّهم بغنائم خيبر ولا يشاركهم فيها أحد، فأراد المخلَّفون أن يُشاركوهم ويُبدلوا وعد الله. وكانت وقعة الحديبية في ذي الحجة سنة ست، فلما رجع إلى المدينة أقام بها بقية ذي الحجة، ثم غزا في أول السابعة خيبر، ففتحها، وغنم أموالاً كثيرة، فخصصها بأهل الحديبية، بأمره تعالى، {قل} لهم إقناطاً لهم: {لن تتبعونا} إلى خيبر، وهو نفي بمعنى النهي، للمبالغة، أي: لا تتبعونا، أو: نفي محض، إخبار من الله تعالى بعدم اتباعهم وألا يبدّل القول لديه.
{كذلكم قال اللّهُ من قبلُ} أي: من قبل انصرافهم إلى الغنيمة، وأنَّ غنيمة خيبر لَمن شهد الحديبية فقط، {فسيقولون} للمؤمنين عند سماع هذا النهي: {بل تحسدوننا} أي: ليس ذلك النهي من عند الله، بل تحسدوننا أن نشارككم في الغنائم، {بل كانوا لا يفقهون} كلام الله {إِلا قليلاً} شيئاً قليلاً، يعني: مجرد اللفظ، أو: لا يفهمون إلا فهماً قليلاً؛ وهو فطنتهم لأمور الدنيا دون الدين، وهو ردٌّ لقولهم الباطل، ووصف لهم بسوء الفهم والجهل المفرط. والفرق بين الإضرابين: أن الأول ردَّ أن يكون حكم الله ألا يتبعوهم وإثبات الحسد، والثاني إضرابٌ عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى وصفهم بما هو أعظم منه، وهو الجهل وقلة الفقه.
{قل للمخلَّفين من الأعراب} وهم الذين تخلّفوا عن الحديبية: {ستُدْعَوْن إِلى قومٍ أُولي بأسٍ شديدٍ} يعني: بني حنيفة، قوم مسليمة الكذاب، وأهل الردة الذين حاربهم أبو بكر رضي الله عنه، لأن المشركين وأهل الردة هم الذين لا يُقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. واستُدل بالآية على حقيّة خلافة أبي بكر، وأخذها من القرآن بقوله: {سَتُدعون} فكان الداعي لهؤلاء الأعراب إلى قتال بني حنيفة، وكانوا أولي بأس شديد، هو أبو بكر، بلا خلاف، قاتلوهم ليُسلموا لا ليُعطوا الجزية بأمر الصدّيق، وقيل: هم فارس، والداعي لقتالهم عمر، فدلّت على صحة إمامته، وهو يدل على صحة إمامة أبي بكر. {تُقاتلونهم أو يُسلمون} أي: يكون أحد الأمرين، إما المقاتلة أو الإسلام، ومعنى {يُسلمون} على هذا التأويل: ينقادون؛ لأن فارس مجوس، تُقبل منهم الجزية، {فإِن تُطيعوا} مَن دعاكم إلى قتالهم {يُؤتكم اللّهُ أجراً حسناً} هو الغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة، {وإِن تتولوا} عن الدعوة، كما توليتم من قبل في الحديبية، {يُعذبكم عذاباً أليماً} لتضاعف جُرمكم.
وقد تضمنت الآية إيجاب طاعة الأمراء بالوعد بالثواب عليها، والوعيد بالعقاب على التولي، وقد تقدّم في النساء.
الإشارة: سيقول المخلِّفون عن السير بترك مجاهة النفوس، التي بها يتحقق سير السائرين: ذرونا نتبعكم في السير إلى الله من غير مجاهدة ولا تجريد، يريدون أن يُبدلوا كلامَ الله، وهو قوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، فخصّ الهداية إلى الوصول بالمجاهدة، لا بالبقاء مع حظوظ النفوس، قل: لن تتبعونا في السير، ولو فعلتم ما فعلتم بلا مجاهدة، كذلك حكم الحكيم العليم، فإن قالوا: حسدتمونا، حيث لم تسيرونا على ما نحن عليه، فقد دلّ ذلك على جهلهم، وعدم فهمهم، قل للمخلفين على السير، بالبقاء مع حظوظهم: ستُدعون إلى مجاهدة قوم أُولي بأس شديد، وهو النفس، بتحميلها ما يثقل عليها، كالذل، والفقر، والهوى بمخالفته، والدنيا بالزهد فيها ورميها وراء الظهر، والناس بالفرار منهم جملة، إلا مَن يدلّ على الله، تقاتلوهم، أو يُسلمون، بأن ينقادوا لكم، ويصيروا طوع أيديكم، فإن تُطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً، وهو لذة الشهة، ورؤية الملك الودود، عاجلاً وآجلاً، وإن تتولوا كما توليتم في زمان البطالة، وبقيتم مع هوى نفوسكم، يُعذِّبكم عذاباً أليماً، بغم الحجاب وسوء العقاب.
قال القشيري: قوله تعالى: {فإن تُطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً} دلت الآية على أنه يجوز أن تكون للعبد بداية غير مُرْضية، ثم تتغير للصلاح، وأنشدوا:
إذا فَسَدَ الإنسانُ بعد صلاحه ** فَرَجِّ له بعد الفساد صلاحا

قلت: وجه الاستدلال: أن طاعتهم كانت بعد التخلُّف والعصيان، فقُبلت منهم.