فصل: تفسير الآيات (5- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (5- 6):

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن الله لا يخفى عليه شيء} من أمر خلقه، إيماناً أو كفراناً، طاعة أو عصياناً، أحاط علمه بما في السماوات العلي وما في الأرضين السفلى، كليّاً كان أو جزئيّاً، حسيّاً أو معنوياً، يعلم عدد الحصى والرمال، ومكاييل المياه ومثاقيل الجبال، ويعلم حوادث الضمائر، وهواجس الخواطر، بعلم قديم أزلي، وله قدرة نافذة وحكمة بالغة، فبقدرة صَوَّرَ النُّطَف في الأرحام كيف شاء سبحانه من نقص أو تمام، وأتقنها بحكمته، وأبرزها إلى ما يَسَّرَ لها من رزقه، سبحانه من مدبر عليم، عزيز حكيم، لا يُعجزه شيء، ولا يخرج عن دائرة علمه شيء، لا موجود سواه، ولا نعبد إلا إياه، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
الإشارة: مَنْ تحقق أن الله واحدٌ في ملكه، لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وأنه أحاط به علماً وسمعاً وبصراً، وأن أمره بين الكاف والنون، {إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82]- كيف يشكو ما نزل به منه إلى أحد سواه؟ أم كيف يرفع حوائجه إلى غير مولاه؟ أم كيف يعول هما، وسيدُه من خيره لا ينساه؟ من دبرك في ظلمة الأحشاء، وصوَّرك في الأرحام كيف يشاء، وآتاك كل ما تسأل وتشاء، كيف يَنْساكَ من بره وإحسانه؟ أم كيف يخرجك عن دائرة لطفه وامتنانه؟ وفي ذلك يقول لسان الحقيقة:
تَذَكَّر جَمِيلِي فِيكَ إِذْ كُنْتَ نُطْفَةً ** وَلا تَنْسَ تَصْوِيرِي لشَخْصِكَ في الْحَشا

وَكُنْ وَاثِقاً بِي في أُمُورِكَ كُلِّها ** سأَكْفِيكَ مِنْهَا ما يُخافُ ويُخْتَشَى

وَسَلِّمْ ليّ الأمْرَ واعْلَمْ بأنني ** أُصَرِّفُ أحْكَامِي وأَفْعَلُ مَا أشا

.تفسير الآيات (7- 9):

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)}
قلت: {منه}: خبر مقدم، و{آيات}: مبتدأ، فيوقف على {الكتاب}، وقيل: {منه}: نعت لكتاب، وهو بعيد.
قال البن السبكي: المحكَم: المتضح المعنى، والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه، وقد يُطْلعُ عليه بعضَ أصفيائه. و{هن أم الكتاب}: جملة، وحق الخبر المطابقة فيقول: أمهات، وإنما أفرده على تأويل كل واحد، أو على أن الكل بمنزلة آية واحدة. والزيغ: الميل عن الحق. و{الراسخون في العلم}: معطوف على {الله}، أو مبتدأ؛ إن فسر المتشابه بما استأثر الله بعلمه، كمدة بقاء الدنيا ووقت قيام الساعة، أو بما دلّ القاطع على أن ظاهره غير مراد. قاله البيضاوي. و{إذ هديتنا}: ظرف مجرور بالإضافة مسبوك بالمصدر، أي: بعد هدايتك إيانا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: إن الذي انفرد بالوحدانية والقيومية، ولا يخفى عليه شيء في العالم العلوي والسفلي {هو الذي أنزل عليك الكتاب} المبين، فمنه ما هو {آيات محكمات} واضحات المعنى، لا اشتباه فيها ولا إجمال، {هن أم الكتاب} أي: أصله، يُرد إليها غيرها، {و} منه آيات {أُخَر متشابهات} أي: محتملات، لا يتضح مقصودها؛ لإجماله أو مخالفة ظاهر؛ إلا بالفحص وجودة الفكر، ليظهر فضل العلماء النُقاد، ويزداد حرصهم على الاجتهاد في تَدبُرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها، فينال بها، وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها، والتوفيق بينها وبين المحكمات، أعلى الدرجات وأرفع المقامات.
قال في نوادر الأصول: لمّا تكلم على المتشابه قسّمه على قسمين؛ منه ما طوى علمه إلاَّ على الخواص؛ كعلم فواتح السور، ومنه ما لم يصل إليه أحد من الرسل فمَنْ دُونَهم، وهو سر القدر؛ لا يستقيم لهم مع العبودية، ولو كُشِفَ لفسدت العبودية، فطواه عن الرّسل والملائكة؛ لأنهم في العبودية، فإذا زالت العبودية احتمولها؛ أي: أسرار القدر. اهـ. ولمثل هذا يشير قول سهل: للألوهية سر- لو انكشف لبطلت النبوة، وللنبوة سر- لو انكشف لبطل العلم، وللعلم سر لو انكشف لبطلت الأحكام. اهـ.
قلت: فَتَحَصَّل أن الكتاب العزيز مشتمل على المحكم والمتشابه. وأما قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ} [هُود: 1] فمعناه: أنها حُفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ، وقوله تعالى: {كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} [الزُّمَر: 23] معناه: أنه يشبه بعضه بعضاً في صحة المعنى وجزالة اللفظ.
ثم إن الناس في شأن المتشابه على قسمين: {فأما الذين في قلوبهم زيغ}: أي: شك، أو ميل عن الحق، كالمبتدعة وأشباههم، {فيتبعون ما تشابه منه}، فيتعلقون بظاهره، أو بتأويل باطل، {ابتغاء الفتنة} أي: طلباً لفتنة الناس عن دينهم: بالتشكيك والتلبيس، ومناقضة المحكم بالمتشابه، {وابتغاء تأويله} على ما يشتهون ليوافق بدعتهم.
رُوِيَ عن عائشة- رضي الله عنها-: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم- قرأ هذه الآية فقال: «إِذَا رَأَيتُم الذِينَ يَسألُون عن المتشابه منه، ويجادلون فيه، فهم الذين عَنَا الله تعالى، فاحذروهم، ولا تجالسوهم».
{وما يعلم تأويله} على الحقيقة {إلا الله} تعالى، وقد يُطلع عليه بعضَ خواص أوليائه، وهم {الراسخون} أي: الثابتون في العلم، وهم العارفون بالله أهل الفناء والبقاء، وهم أهل التوحيد الخاص... فقد أطلعهم تعالى على أسرار غيبه، فلم يبق عندهم متشابه في الكتاب ولا في السنة، حال كونهم {يقولون آمنا به}، وصدقنا أنه من كلامه، {كُلّ من عند ربنا}؛ المحكم والمتشابه، وقد فهمنا مراده في القسمين، وهم أولو الألباب، ولذلك مدحهم فقال: {وما يَذَكَّرَ إلا أُولوا الألباب} أي: القلوب الصافية من ظلمة الهوى وغَبَش الحس.
سُئل عليه الصلاة والسلام: مَن الراسخون في العلم؟ فقال: «من برَّ يمينُه، وصدق لسانُه، واستقام قلبُه، وعفَّ بطنُه وفرجه، فذلك الراسخ في العلم» وقال نافع بن يزيد: الراسخون في العلم: المتواضعون لله، المتذللون في طلب مرضات الله، لا يتعظمون على مَنْ فوقهم، ولا يحقرون من دونهم. اهـ. وقيل: الراسخ في العلم: من وجُد فيه أربعة أشياء: التقوى بينه وبين الله، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه. اهـ. قلت: ويجمع هذ الأوصاف العارف بالله، فهو الراسخ في العلم كما تقدم.
ويقولون أيضاً في تضرعهم إلى الله: {ربنا لا تزغ قلوبنا} عن نهج الحق بالميل إلى اتباع الهوى، {بعد إذ هديتنا} إلى طريق الوصول إلى حضرتك، {وهب لنا من لدنك رحمة} تجمع قلوبنا بك، وتضم أرواحنا إلى مشاهدة وحدانيتك، {إنك أنت الوهاب}؛ تهب للمؤمل فوق ما يؤمل. {ربنا إنك جامع الناس ليوم} الجزاء الذي {لا ريب فيه}، فاجمعنا مع المقربين؛ إنك {لا تخلف المعياد} فأنجز لنا ما وعدتنا في ذلك اليوم. وخلف الوعد في حقه تعالى محال. أما الوعد بالخير فلا إشكال، وأما الوعيد بالشر، فإن كان في مُعَيِّنٍ فلا يخلفه، وإن كان في الجملة فيخلفه بالعفو. والله تعالى أعلم.
وقال في النوادر أيضاً: لَمَّا رَدَّ الراسخون في العلم عِلْمَ المتشابه إلى عالمه، حيث قالوا: {آمنا به كل من عند ربنا}، خافوا شَرَه النفوس لطلبها؛ فإنَّ العلم لذيذ، وفتنة تلك اللذة لها عتاب، ففزعوا إلى ربهم فقالوا: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة}، علموا أن الرحمة تطفئ تلك الفتنة. ولما كان يوم القيامة ينكشف فيه سر القدر حنوا إليه فقالوا: {ربنا إنك جامع الناس...} الآية. سكنوا نفوسهم لمجيء ذلك اليوم الذي تَبْطُنِ فيه الحكمة، وتظهر فيه القدرة. اهـ. بالمعنى.
الإشارة: إذ صفت القلوب، وسكنت في حضرة علام الغيوب، تنزلت عليها الواردات الإلهية والعلوم اللدنية، والمواهب القدسية، فمنها ما تكون محكمات المبنى، واضحة المعنى، ومنها ما تكون مجملة في حال ورودها، وبعد الوعي يكون البيان،
{فَإْذَا قَرَأْنَاهُ فَاْتَّبِعْ قُرْءَانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18، 19]. وقد تكون خارجة عن مدارك العقول. فأما أهل الزيغ والانتقاد فيتعبون المتشابه من تلك الواردات، ابتغاء فتنة العامة، وصرفهم عن طريق الخاصة، وابتغاء تأويله، ليقيم عليه حجة الشريعة، {وما يعلم تأويله إلا الله}، أو من تحقق فناؤه في الله، وهم الراسخون في معرفة الله، يقولون: {آمنا به كل من عند ربنا}؛ إذ القلوب المطهرة من الهوى لا نطق عن الهوى، وهم أرباب القلوب يقولون: {ربنا لا تزغ قلوبنا} عن حضرة قدسك {بعد إذ هديتنا} إلى الوصول إليها، {وهب لنا من لدنك رحمة} تعصمنا من النظر إلى سواك، {إنك أنت الوهاب}.
ربنا إنك جامع الناس. وهم السائرون إليك ليوم لا ريب في الوصول إليه، وهو يوم اللقاء، {إنك لا تخلف الميعاد} فاجمع بيننا وبينك، وحل بيننا وبين من يقطعنا عنك؛ {إنك على كل شيء قدير}.

.تفسير الآيات (10- 11):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)}
قلت: {الوقود} بالفتح: الحطب، وبالضم: المصدر، {كدأب آل فرعون} خير، أي: دأبهم كدأب آل فرعون. والدأب. مصدر دأب، إذا دام، ثم نقل إلى الشأن والعادة، و{كذبوا}: حال بإضمار قد،. أو مستأنف، تفسير حالهم، أو خبر؛ إن ابتدأت بالذين من قبلهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن الذين كفروا} بما أنزلته، على نبينا محمد- عليه الصلاة والسلام-، إذا عاينوا العذاب {لن تُغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله}، أي: بدلاً من رحمته أو طاعته، أو بدلاً من عذابه، {شيئاً} وأولئك هم حطب جهنم، فشأنهم كشأن {آل فرعون والذين من قبلهم}، قد {كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم} أي: أهلكهم، وشدد العقوبة عليهم، {والله شديد العقاب} لمن أعرض عنه وركن إلى غيره.
الإشارة: كل من جحد أهل الخصوصية، وفاته حظه من مشاهدة عظمة الربوبية، حتى حصل له الطرد والبعاد، وفاته مرافقة أهل المحبة والوداد، لن تغني عنه- بدلاً مما فاته- أموالُ ولا أولاد، واتصلت به الأحزان والأنكاد؛ كما قال الشاعر:
مَنْ فَاتَه منكَ وصلٌ حَظُّه الندمُ ** ومَنْ تَكُنْ هَمِّه تَسْمُو به الهممُ

وقال آخر:
مَنْ فاتَهُ طَلَبُ الوُصُولِ وَنَيْلُهُ ** مِنْه فقُلْ ما الذِي هُوَ يَطلُبُ

حَسْبُ المحِبِّ فناؤه عما سِوى ** مَحْبوبِهِ إنْ حاضِرٌ وَمُغَيَّبُ

وقال آخر:
لكُلِّ شَيء إذا فارقْتَهُ عِوَضٌ ** وَلَيْسَ لله إنْ فارقْتَ مِنْ عَوِضِ

وفي الحكم: (ماذا وَجَدَ مَنْ فقدك؟ وما الذي فَقَدَ مَنْ وَجَدَك؟ لقد خاب مَنْ رَضِي دونك بدلاً، ولقد خسر من بغى عنك مُتحولاً). فكل من وقف مع شيء من السِّوى، وفاته التوجه إلى معرفة المولى، فهو في نار القطيعة والهوى، مع النفوس الفرعونية، وأهل الهمم الدنية. نسأل الله تعالى العافية.
ثم بدأ بعتاب اليهود، بعد أن قرر شأن كتابه العزيز وما اشتمل عليه من المحكم والمشابه، توطئة للكلام معه.

.تفسير الآيات (12- 13):

{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)}
قلت: لمَّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بدر غالباً منصوراً بالغنائم والأسارى، جمع اليهود في سوق بني قينقاع، وقال لهم: يا معشر اليهود، اتقوا الله وأسلموا، فإنكم تعلمون أني رسول الله حقّاً، واحذوا أن يُنزل الله بكم من نقمته ما أنزل على قريش يوم بدر، فقالوا: يا محمد، لا يَغُرَّنَّكَ أنك لقيت أغماراً لا علم له علم لهم بالحرب، لئن قاتلتنا لتعلَمنَّ أنَّا نحن الناس. فأنزل الله فيهم هذه الآية.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} يا محمد {للذين كفروا} من بني إسرائيل، أو مطلقاً: {ستغلبون} إن قاتلتم المسلمين، {وتحشرون} بعد الموت والهزيمة {إلى جهنم وبئس المهاد} ما مهدتم لأنفسكم من العذاب، وقد صدق وعده بقتل قريظة، وإجلاء بني النضير، وفتح خيبر، وضرب الجزية على من عداهم، فقد غُلِبوا أينما ثُقفوا، وحشروا إلى جهنم، إلا من أسلم منهم.
ثم ندبهم للاعتبار بما وقع من النصر للمسلمين يوم بدر فقال لهم: {قد كان لكم} يا معشر اليهود، {آية} أي: عبرة ظاهرة، ودلالة على صدق ما أقول لكم: إنكم ستغلبون، {في فئتين} أي: جماعتين {التقتا} يوم بدر، وهم المسلمون، وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر، والمشركون كانوا زهاء ألف، {فئة تقاتل في سبيل الله} وهم المؤمنون، {وأخرى كافرة}، وهم المشركون، {ترونهم مثليهم} أي: ترون، يا معشر اليهود، الكفارَ مثلي عدد المسلمين رأي تحقيق، ومع ذلك أيدهم الله بالنصر والمدد حتى نصرهم على عدوهم، وكذلك يفعل بهم معكم.
والرؤية، على هذا، علمية. ومن قرأ (بالياء) يكون الضمير راجعاً للكفار، أي: يرى الكفارُ المسلمين مثليهم، وذلك بعد أن قللهم الله في أعينهم حتى اجترأوا عليهم، وتوجهوا إليهم، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا، مدداً من الله للمؤمنين.
أو: يرى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين، وكانوا ثلاثة أمثالهم، ليثبتوا لهم، ويتيقنوا بالنصر الذي وعدهم الله بقوله: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ...} [الأنفَال: 65] الآية. {والله يؤيد} أي: يقوي {بنصره من يشاء} نصره، كما أيد أهل بدر، {إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} المفتوحة. وذلك حين نصر الله قوماً لا عدد لهم ولا عدة، على قوم لهم عدد وعدة، فلم تغن عنهم من الله شيئاً.
الإشارة: إذا توجه القلب إلى مولاه تعرض له جندان، أحدهما: جند الأنوار، وهو جند القلب، والثاني: جند الأغيار، وهو جند النفس، فيلتحم بينهما القتال، فجند الأنوار يريد أن يرتقي بالروح إلى وطنها؛ وهو حضرة الأسرار، وجند الأغيار يريد أن يهبط بالنفس إلى أرض الحظوظ والشهوات، فيحبسها في سجن الأكوان، فإذا أراد الله تعالى سعادة عبد، قوي له جند الأنوار، وضَعَّفَ عنه جند الأغيار، فينهزم عنه جند الأغيار، ويستولي على قلبه جند الأنوار، فلا تزال انوار تتوارد عليه حتى تشرق عليه أنوار المواجهة، فيدخل حضرة الأسرار، وهي حضرة الشهود، ويتحصن في جوار الملك الودود، وتناديه ألسنة الهواتف: أيها العارف، قل للذين كفروا، وهم جند الأغيار: ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد. وإذا أراد الله خذلان عبده، بعدله، قطع عنه مدد الأنوار، وقوي لديه جند الأغيار، فتستولي ظلمة النفس على نور القلب، فتحبسه في سجن الأكوان، وتسجنه في ظلمة هيكل الإنسان، {والله يؤيد بنصره من يشاء}. ففي التقاء جندي الأنوار والأغيار عبرة لأولي الأبصار.