فصل: تفسير الآيات (9- 10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (9- 10):

{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وإِن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} أي: تقاتلوا. والجمعُ باعتبار المعنى؛ لأن كلّ طائفة جمعٌ؛ كقوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ} [الحج: 19]، {فأصْلِحوا بينهما} بالنصح والدعاء إلى حُكم الله تعالى، {فإِن بَغَتْ إِحداهما على الأخرى} ولم تتأثر بالنصحية {فقاتِلوا التي تبغي حتى تفيءَ} ترجع {إِلى أمر الله} إلى حُكمه، أو: إلى ما أمر به من الصُلح وزوال الشحناء، والفيء: الرجوع، وقد يُسمى به الظل والغنيمة، لأن الظل يرجعُ بعد نسخ الشمس، والغنيمة ترجع من أيدي الكفار إلى المسلمين.
وحكم الفئة الباغية: وجوب قتالها، فإذا كفَّت عن القتال أيديَها تُركت. قال ابن جزي: وأَمَرَ اللّهُ في هذه الآية بقتال الفئة الباغية؛ وذلك إذا تبيَّن أنها باغية، فأما الفتنُ التي تقع بين المسلمين؛ فاختلف العلماءُ فيها على قولين: أحدهما: أنه لا يجوز النهوض، في شيء منها ولا القتال، وهذا مذهب سعد بن أبي وقاص، وأبي ذر، وجماعة من الصحابة، وحجتُهم حديث: «قتال المسلم كفر»، وحديث: الأمر بكسر السيوف في الفتن، والقولُ الثاني: النهوضُ فيها واجبٌ، لتُكفَ الفئةُ الباغية، وهذا مذهب عليّ، وعائشة، وطلحة، وأكثر الصحابة، وهو مذهب مالك وغيره من الفقهاء، وحجتُهُم هذه الآية. فإذا فرّعنا على القول الأول، فإن دخل داخلٌ على مَن اعتزل الفرقتين منزلَه يريد نفسَه أو مالَه فعليه دفعُه، وإن أدّى ذلك إلى قتله؛ لحديث: «مَن قُتل دون نفسه وماله فهو شهيد»، وإذا فرّعنا على الثاني، فاختُلف؛ مع مَن يكون النهوضُ من الفئتين؟ فقيل: مع السواد الأعظم، وقيل: مع العلماء، وقيل: مع مَن يُرى أنّ الحق معه. اهـ.
قلت: إذا وقعت الحرب بين القبائل فمَن تعدَّت تُربتَها إلى تربة غيرها فهي باغيةٌ، يجب كفُّها، وإذا وقعت بين الحدود؛ فالمشهور: النهوض، ثم يقع السؤال عن السبب؛ فمَن ظهر ظُلمه وَجَب كفّه، فإن أشكل الأمر، فالأمساك عن القتال أسلم. والله تعالى أعلم.
{فإِن فاءتْ} عن البغي، وأقلعت عن القتال؛ {فأَصْلِحوا بينهما بالعدل} بفصل ما بينهما على حُكمِ الله تعالى، ولا تكتفوا بمجرد متاركتِهما؛ لئلا يكون بينهما قتال في وقتٍ آخر، وتقييدُ الإصلاح بالعدل لأنه مظنة الحيف لوقوعه بعد المقاتلة، وقد أكد ذلك بقوله: {وأَقْسِطوا} أي: واعدلوا في كل ما تأتون وما تَذرون، {إِنَّ الله يحب المُقْسِطِين} العادلين، فيُجازيهم أحسنَ الجزاء، والقَسط بالفتح: الجَور، وبالكسر: العدلُ، والفعل من الأول: قَسط فهو قاسط: جارَ، ومن الثاني: أقسط فهو مقسط: عَدل، وهمزتُه للسلب، أي: أزل القسط، أي: الجور.
والآية نزلت في قتالٍ حدث بين الأوس والخزرج، وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب يعود سعدَ بنَ عُبادة، فمرّ بمجلسٍ من الأنصار، فيه أخلاط من المسلمين والمنافقين، فوقف صلى الله عليه وسلم على المجلس، ووعظ وذكَّر، فقال عبد الله بن أُبي: يا هذا، لا تؤذنا في مجالسنا، واجلس في موضعك، فمَن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بنُ رواحة: بل أغثنا يا رسول الله وذكِّرنا، فارتفعت أصواتهما، وتضاربوا بالنعال، فنزلت الآية، وقيل غير ذلك.
وفي الآية دليل على أنَّ لا يخرج ببغيه عن الإيمان، وأنه يجب نُصرة المظلوم، وعلى فضيلة الإصلاح بين الناس.
{إِنما المؤمنون إِخوةٌ} أي: منتسبون إلى أصل واحدٍ، وهو الإيمان المُوجب للحياة الأبدية، فيجب الاجتهاد في التآلف بينهما لتحقُّق الأخوة. والفاء في قوله: {فأصْلِحوا بين أخوَيكم} للإيذان بأنّ الأخوة الدينية موجبة للإصلاح. ووضع المظهر مقامَ المضمر مضافاً إلى المأمورين للمبالغة في تأكيد وجوب الإصلاح والتحضيض عليه، وتخصيص الاثنين بالذكر؛ لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأَولى؛ لتضاعف الفتنة والفساد فيه. وقيل: المراد بالأخَويْن: الأوس والخزرج. وقرأ يعقوب: {إخوتكم} بالجمع. {واتقوا الله} فيما تأتون وتذرون، التي من جملتها: الإصلاحُ بين الناس {لعلكم تُرحمون} راجين أن تُرحموا على تقواكم، لأن التقوى تحملكم على التواصل والائتلاف، وهو سبب نزول الرحمة.
الإشارة: النفسُ الطبيعية والروح متقابلان، والحرب بينهما سِجال، فالنفس تريد السقوط إلى أرض الحظوظ والبقاء مع عوائدها، والروح تريد العروج إلى سماء المعارف وحضرة الأسرار، وبينما اتصال والتصاقٌ، فإن غلَبت النفسُ هبطت بالروح إلى الحضيض الأسفل، ومنعتها من العلوم اللدنية والأسرار الربانية، وإن غلبت الروح، عرجت بالنفس إلى أعلى عليين، بعد تزكيتها وتصفيتها، فتكسوها حُلةَ الروحانية، وينكشِف لها من العلوم والأسرار ما كان للروح، ولكلٍّ جندٌ تقابل به، فيقال من طريق الإشارة: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصْلِحوا بينهما، بأن تؤخَذَ النفسُ بالسياسة شيئاً فشيئاً، يُنقص من حظوظها شيئاً فشيئاً، حتى تتزكى وتعالَجَ الروحُ لدخول الحضرة، وعكوف الهم في الذكر شيئاً فشيئاً، حتى تدخل الحضرة وهي لا تشعر، ثم تشعُر ويقع الاستغراق. وأما إن قُطِعت النفسً عن جميع مألوفاتها مرةً واحدة، أو كُلفت الروحَ الحضورَ في الذكر على الدوام مرةً واحدة، أفسدتهما، لقوله صلى الله عليه وسلم: «ادخلوا في هذا الدين برفق، فما شاد أحدكم الدين إلا غَلَبه» وقال أيضاً: «لا يكن أحدكم كالمُنْبتِّ، لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى»؛ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتِلوا التي تبغي، بأن تُردع النفس إن طغت، وتأخذ لجام الروح إن هاجت، حتى تفيء إلى أمر الله، وهو الاعتدال، فيعطي كلّ ذي حق حقه، ويُوفي كل ذي قسط قسطه.
وقوله تعالى: {إِنما المؤمنون إخوة} قال الورتجبي: افهَم أيها العاقل أن الله سبحانه خلق الأرواحَ المقدسةَ من عالَم الملكوت، وألبسها أنوارَ الجبروت؛ فمواردُها من قُربه مختلفة، لكن عينها واحدة، وخلق هياكلَها وأشباحَها من تربة الأرض التي أخلصها من جملتها، وزيّنها بنور قدرته، ونفخ فيها تلك الأرواح، وجعل من الأرواح والأجسام النفوس الأمّارة التي ليست من قبيل الأرواح، ولا من قبيل الأجسام، وجعلها مخالفة للأرواح ومساكِنها، فأرسل الله عليها جندَ العقول، يدفع شَرَّها، فإذا امتحن الله عبادَه المؤمنين هيَّج نفوسهم الأمّارة؛ ليُظهر حقائق درجاتهم من الإيمان، فأَمَرهم أن يُعينوا العقلَ والروحَ والقلبَ على النفس حتى تنهزم؛ لأن المؤمنين كالبنيان يشُد بعضُهم بعضاً.
ثم بيَّن أنّ في الإصلاح بين الإخوان الفلاح والنجاة، إذا كان مقروناً بالتقوى التي تقدسُ البواطن من البغي والحسد بقوله: {واتقوا الله لعلكم تُرحمون} فإذا فهِمت ما ذكرتُ علمتَ أنْ حقيقة الأخوة مصدر الاتحاد، فإنهم كنفسٍ واحدة؛ لأن مصادرهم مصدر واحد، وهو آدم، ومصدر روح آدم نورُ الملكوت، ومصدرُ جسمه تربة الجنة في بعض الأقوال. لذلك يصعد الروحُ إلى الملكوت، والجسم إلى الجنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: «كل شيء يرجع إلى أصل». اهـ. قلت: صعود الروح إلى الملكوت هو شهود معاني الأسرار في دار الجنة، ونزول الجسم إلى الجنة هو تمتُّعه بنعيم حسها في عالم الأشباح، وكل ذلك بعد الموت، وأحسنُ العبارة أن يُقال: لأن مصادرَهم مصدر واحد، وهو بحر الجبروت، المتدفق بأنوار الملكوت، والوجود بأَسْره موجةٌ من بحر الجبروت.
ثم قال الورتجبي: قال أبو بكر النقاش: سألتُ الجنيد عن الأخ الحقيقي؟ فقال: هو أنت في الحقيقة، غير أنه غيرك في الهيكل. قلت: يعني أن الناس في الحقيقة ذاتٌ واحدة، وما افترقوا إلا في الهياكل، فكلهم أخوة. وقال أبو عثمان الحيري: أُخُوة الدين أثبت من أخوة النسب، فإن أخوة النسب تُقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تقطع بمخالفة النسب. اهـ. وتقدم لنا شروط الأخوة في قوله تعالى: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذ...} [الزخرف: 67] الآية.
وقال القشيري هنا: ومن حق الأخوة ألا تُلجأه إلى الاعتذار، بل تُبسط عذرَه أي: تذكر عذره قبل أن يعتذر، فإن أُشكل عليك وجهه عُدت بالملامة على نفسك في خفاء عذره عليك، وتتوب عليه إذا أذنب، وتعوده إذا مرض، وإذا أشار عليك بشيء فلا تطالبه بالدليل وإيراد الحجة، كما أنشدوا:
إِذا اسْتُنْجِدُوا لَمْ يَسأَلُوا مَنْ دَعَاهُم ** لأيَّةِ حَرْبٍ أم لأيِّ مكَان

.تفسير الآية رقم (11):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخرْ قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم} أي: عسى أن يكون المسخُورُ منهم خيراً عند الله تعالى من الساخرين؛ لأن الناس لا يَطَّلِعون إلا على الظواهر، وهو تعليل للنهي، والقوم خاص بالرجال؛ لأنهم القوّامون على النساء، وهو في الأصل: جمع قائم، كصوْم وزَوْر، في جميع صائم وزائر، واختصاص القوم بالرجال صريح في الآية؛ إذ لو كانت النساء داخلة في الرجال لم يقل: {ولا نساء من نساء} وحقق ذلك زهير في قوله:
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ** أَقومٌ آلُ حِصْنِ أَمْ نِساءُ

وأَمَّا قولهم في قوم فرعون، وقوم عاد: هم الذكور والإناث، فليس لفظ القوم شاملاً لهم، ولكن قصد ذكر الذكور، والإناث تبع لهم.
{ولا} يسخر {نساءٌ} مؤمنات {من نساءٍ} منهن {عسى أن يَكُنَّ} أي: المسخور منهن {خيراً منهن} أي: الساخرات، فإنّ مناط الخيرية في الفريقين ليس ما يَظهرَ من الصور والأشكال، والأوضاع والأطوار، التي عليها يدور أمر السخرية، وإنما هي الأمور الكامنة في القلوب، من تحقيق الإيمان، وكمال الإيقان، وموارد العرفان، وهي خَفيّة، فقد يُصغّر العبدُ مَن عظَّم اللّهُ، ويتحقرُ مَن وقّره الله، فيسقطُ من عين الله، فينبغي ألا يجترئ أحدٌ على الاستهزاء بأحدٍ إذا رآه رَثّ الحال، أو ذا عاهة في بدنه، ولو في دنيه، فلعله يتوب ويُبتلى بما ابْتُلي به. وفي الحديث: «لا تُظْهِر الشماتَة لأخيك فيُعافِيه الله ويبتليكَ» وعن ابن مسعود رضي الله عنه: البلاء موكّل بالقول، لو سخِرتُ من كلب لخشيتُ أن أُحَوَّل كلباً. اهـ.
وتنكير القوم والنساء؛ إما لإرادة البعض، أي: لا يسخر بعضُ المؤمنين والمؤمنات من بعض، وإما لإرادة الشيوع، وأن يصير كل جماعة منهم مَنهية عن السخرية، وإنما لم يقل: رجلٌ من رجلٍ، ولا امرأةٌ من امرأة؛ إعلاماً بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدٍ من نسائهم على السخرية، واستفظاعاً للشأن الذي كانوا عليه.
{ولا تَلْمِزُوا أنفسَكُم} ولا يعيب بعضكم بعضاً بالطعن في نسبه أو دينه، واللمز: الطعن والضرب باللسان، والمؤمنون كنفس واحدة، فإذا عاب المؤمنُ فقد عاب نفسه. وقيل: معناه: لا تفعلوا ما تلمزون به أنفسكم بالتعرُّض للكلام؛ لأن مَن فعل ما استحق به اللمز فقد لمزَ نفسَه حقيقة. {ولا تَنابزوا بالألقاب} أي: لا يَدْعُ بعضكم بعضاً بلقب السوء، فالتنابزُ بالألقاب: التداعي بها. والتلقيبُ المنهي عنه ما يُدخِل على المدعُوِّ به كراهيةً، لكونه تقصيراً به وذمّاً له، فأمَا ما يُحبه فلا بأس به، وكذا ما يقع به التمييز، كقول المحدِّثين: حدثنا الأعمش والأحدب والأعور.
رُوي أن قوماً من بني تميم استهزأوا ببلال وخَبَّاب وعَمَّار وصُهيب، فنزلت.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة، وكانت قصيرة، وعن أنس: عَيّرت نساءُ النبي صلى الله عليه وسلم أمَّ سلمة بالقِصَر، فنزلت. ورُوي: أنها نزلت في ثابت بن قيس، وكان به وَقْر- أي: صمم- فكانوا يوسِّعون له في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى قوماً وهو يقول: تفسَّحوا، حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل: تنحّ؛ فلم يفعل، فقال: مَن هذا؟ فقال: أنا فلان ابن فلانة- يريد أُمّاً كان يُعَير بها في الجاهلية، فخجل الرجُل، فنزلت، فقال ثابت: والله لا أفخر على أحد بعد هذا أبداً.
وقال ابن زيد: معنى {ولا تَنابزوا بالألقاب} لا يقل أحد: يا يهودي، بعد إسلامه، ولا يا فاسق، بعد توبته. {بئس الاسمُ الفسوقُ بعد الإيمان} يعني: أن اللقب بئس الاسمُ هو، وهو ارتكابُ الفسق بعد الإيمان، وهو استهجان للتنابز بالألقاب، وارتكاب هذه الجريمة بعد الدخول في الإسلام، أو: بئس قولُ الرجل لأخيه: يا فاسق، بعد تبوته، أو: يا يهودي، بعد إيمانه، أي: بئس الرمي بالفسوق بعد بالإيمان.
رُوي: أنَّ الآية نزلت في صفية بنت حُيي، أتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن النساء يقُلن لي: يا يهودية بنتُ يهوديَّيْن، فقال صلى الله عليه وسلم: «هلاّ قلت: إن أبي هارون، وعمي موسى، وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم»، أو يُراد بالاسم هنا: الذكر، من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرام أو اللؤم، كأنه قيل: بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن يُذكروا بالفسق.
وقوله: {بعد الإِيمان} استقباح للجميع بين الإيمان والفسق الذي يحظره الإيمان، كما تقول: بئس الشأن بعد الكبرة الصَّبْوة. {ومن لم يتبْ} عما نُهي عنه {فأولئك هم الظالمون} بوضع المخالفة موضع الطاعة، فإن تاب واستغفر؛ خرج من الظلم.
وعن حذيفة رضي الله عنه: شَكَوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَرَب لساني، فقال: «أين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة»، والذَرَب- بفتح الذال والراء: الفحش، وفي حديث ابن عمر: كنا نَعُدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة. «رب اغفر لي، وتب عليّ، إنك أنت التوّاب الرحيم».
الإشارة: مذهب الصوفية التعظيم والإجلال لكل ما خلق الله، كائناً مَن كان؛ لنفوذ بصيرتهم إلى شهودِ الصانع والمتجلِّي، دون الوقوف مع حسن الصنعة الظاهرة، وقالوا: شروط التصوُّف أربعة: كف الأذى، وحمل الجفا، وشهود الصفا، ورميُ الدنيا بالقفا. فشهود الصفا يجري في الأشياء كلها، فإياك يا أخي أن تَحقِر أحداً من خلق الله؛ فتُطرد عن بابه، وأنت لا تشعر، ولله در القائل:
للّهِ في الخلقِ أسرار وأنوارُ ** ويَصطفي اللّهُ مَن يَرضَى ويَخْتارُ

لاَ تَحْقِرنَّ فقيراً إن مررْت به ** فقد يكونُ له حظٌّ ومقْدارُ

والمرءُ بالنَّفْسِ لا بِاللَّبْس تَعْرِفُه ** قَد يَخْلقُ الْغِمْدُ والْهنْديُّ بتَّارُ

والتِّبْرُ في التَّربِ قد تَخْفى مَكانتُه ** حَتَّى يُخَلِّصُه بالسَّبْكِ مِسْبَارُ

ورُبَّ أشعثَ ذِي طِمرَيْنِ مجتهدٌ ** لَه على الله في الإقْسَامِ إبْرارُ

وعن أبي سعيد الخراز، قال: دخلت المسجد الجامع، فرأيت فقيراً عليه خرقتان، فقلت في نفسي: هذا وأشباهه كَلٌّ على الناس، فناداني، وتلا: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا في أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235] فاستغفرتُ الله في سري، فناداني وقال: {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25] ثم غاب عني فلم أره. اهـ.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن المستهزئين بالناس يُفتح لأحدهم باب من الجنة، فيُقال لأحدهم: هلم، فيجيء بغمه وكربه، فإذا جاء أُغلق دونه، ثم يُفعل به هكذا مراراً، من بابٍ إلى باب، حتى يأتيه الإياس» بالمعنى من البدور السافرة.