فصل: سورة الذاريات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.سورة الذاريات:

.تفسير الآيات (1- 6):

{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)}
يقول الحق جلّ جلاله: {والذاريات} الرياح الذاريات؛ لأنها تذرو التراب والحشيش وغير ذلك، يُقال: ذرت الرياحُ تذرو ذرواً، وأذرت تذري، و{ذرواً}: مصدر، والعامل فيه اسم الفاعل. {فالحاملات وِقْراً} أي: السحاب الحاملة للأمطار، أو: الرياح الحاملة للسحاب الموقورة بالماء. وقال ابن عباس: السفن الموقورة بالناس، ف{وِقراً} مفعول بالحاملات، {فالجاريات يُسراً} أي: السفن الجارية في البحر والرياح الجارية في مهابها، أو السحاب الجارية في الجو تسوق الرياحَ، او: الكواكب السيارة الجارية في مجاريها ومنازلها بسهولة، {يسراً}: نعت لمصدر محذوف، أي: جرياً ذا يسر.
{فالمُقسَّمات أمراً} أي: الملائكة التي تقسم الأمور الغيبية من الأمطار والأرزاق والآجال، والخَلْق في الأرحام، وأمر الرياح، وغير ذلك؛ لأن هذا كله إنما هو بملائكة تخدمه، ف {أمراً} هنا جنس، وأنَّثَ المقسّمات لأن المراد الجماعات، ويجوز أن يُراد الرياح في الكل، فإنها تنشئ السحاب، وتُقلّه، وتُصرّفه، وتجري به في الجو جرياً سهلاً، وتقسّم الأمطار بتصريف السحاب في الأقطار. ومعنى الفاء على الأول: أنه تعالى أقسم بالرياح، فبالسحاب التي تسوقه، فبالفلك الجارية بهبوبها، فبالملائكة التي تقسم الأرزاق، وعلى الثاني: أنها تبتدئ بالهبوب، فتذروا التراب والحصباء، فتُقل السحاب، فتجري في الجو باسطةً له، فتقسّم المطر.
وقال أبو السعود: فإن حملت الأمور المقْسم بها على ذوات مختلفة، فالفاء لترتيب الإقسام باعتبار ما بينها في التفاوت في الدلالة على كمال القوة، وإلا فهي لترتيب ما صدر عن الريح من الأفاعيل، فإنها تذرو الأبخرة إلى الجو حتى تنعقد سحاباً، فتجري به بساطة له إلى ما أمرت به، فتقسم المطر. اهـ.
والمقسّم عليه قوله: {إِنَّ ما تُوعدون} من البعث والجزاء، {لصادقٌ} لوعد صادق، {وإِنَّ الدين} أي: الجزاء على الأعمال {لواقعٌ} لكائن لا محالة. وتخصيص الأمور المذكورة بالإقسام بها رمزاً إلى شهادتها بتحقيق مضمون الجلمة المُقْسَم عليها، من حيث إنها أمور بديعة، مخالفة لمقتضى الطبيعة، فمَن قدر عليها فهو قادر على البعث الموعود، و{ما} موصولة، أو مصدرية، ووصف الوعد بالصدق كوصف العيشة بالرضا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: {والذاريات}: رياح الواردات الإلهية، التي ترد على القلوب، فتذرو منها الأمراض والشكوك والأوهام والخواطر؛ لأنها تأتي من حضرة قهّار، لا تُصادم شيئاً إلا دفعته، {فالحاملات وِقراً} فالأنفس المطهرة، الحاملة للعلوم والحِكم والمواهب، وِقراً: حِملاً لا حدّ له، {فالجاريات يُسراً}: فالأفكار الجارية في بحار الأحدية، من الجبروت إلى الملكوت، ثم تنزل على عالَم المُلك، تتفنن في علوم الحكمة، في جرياً يُسراً شيئاً فشيئاً، {فالمُقَسِّمات أمراً}: فالأرواح والأسرار الكاملة، التي تقسم الأرزاق المعنوية والحسية، حيث جعل الله لها ذلك بفضله عند كمالها، وهذه أرواح أهل التصرُّف من الأولياء. إنما تُوعدون من الوصول إلينا لَصادِقٌ لمَن صدق في الطلب، وإنَّ الجزاء على المجاهدة بالمشاهدة لواقع. قال القشيري: إن الله تعالى وعد المطيعين بالجنة، والتائبين بالمحبة، والأولياء بالقُربة، والعارفين بالوصلة، والطالبين بالوجدان. ولعلّ مراده بالأولياء عموم الصالحين.

.تفسير الآيات (7- 14):

{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)}
يقول الحق جلّ جلاله: {والسماءِ ذات الحُبُكِ} ذات الطُرق الحسيّة، مثل ما يظهر على الماء والرمال من هبوب الرياح، وكذلك الطُرق التي في الأكسية من الحرير وغيره، يقال لها: حُبُك جمع حَبيكةٌ، كطريقة وطُرق، أو: جمع حِباك، قال الرَّاجز:
كأنما جلاَّها الحوَّاكُ ** طِنْفَسَةً في وَشْيِها حِبَاكُ

والحوَّاك: صانع الحياكة، والمراد: إما الطريق المحسوسة، التي هي مسير الكواكب، أو: المعنوية، التي يسلكها النُظار في النجوم، فإن لها طرائق. قال البيضاوي: النكتة في هذا القَسَم، تشبيه أقوالهم في اختلافها، وتباين أغراضها، بطرائق السماوات في تباعدها، واختلاف غاياتها، وقال ابن عباس وغيره: ذات الخَلْق المستوي، وعن الحسن: حبكها نجومها. وقال ابن زيد: ذات أشدة، لقوله تعالى: {سَبْعاً شِدَاداً} [النبأ: 12].
{إِنكم} يا أهل مكة {لفي قولٍ مختلف} متخالف متناقض، وهو قولهم في حقه صلى الله عليه وسلم تارة: شاعر، وأخرى ساحر، وفي شأن القرآن، تارة: شعر، وأخرى أساطير الأولين {يُؤفكُ عنه مَن أُفك} يُصرف عن القرآن، أو عن الرسول، مَن ثبت له الصرف الحقيقي، الذي لا صرف أفظع وأشد منه، فكأنّ لا صرف حقيقة إلا لهذا الصرف، أي: يُصرف عن الإيمان مَن صُرف عن كل سعادةٍ وخير، أو: يُصرف عن الإيمان مَن صُرف في سابق الأزل.
قلت: والأظهر أن يرجع لما قبله، أي: يُصرف عن هذا القول المختلف مَن صُرف في علم الله تعالى، وسَبقت له العناية، يقول: أفكه عن كذا: صرفه عنه، وإن كان الغالب استعماله في الصرف عن الخير إلى الشر، لكنه عُرفي، لا لغوي. والله تعالى أعلم.
{قُتل الخرَّاصُون} دعاء عليهم، كقوله: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] وأصله: الدعاء القتل والهلاك، ثم جرى مجرى لُعِنَ، والخرَّاصون: الكذّابون المُقدِّرون ما لا صحة له، وهم أصحاب القول المختلف، كأنه قيل: لُعن هؤلاء الخراصون {الذي هم في غمرةٍ} في جهل يغمرهم، {ساهون} غافلون عما أُمروا به {يسألون أيّان يومُ الدين} أي: متى وقوع يوم الجزاء، لكن لا بطريق الاستعلام حقيقة، بل بطريق الاستعجال، استهزاء، فإنَّ {إيّان} ظرف للوقوع المقدّر؛ لأن {أيّان} إنما يقع ظرفاً للحدثان.
ثم أجابهم بقوله: {يومَ هم على النار يُفتنون} أي: يقع يوم هم على النار يُحرقون ويُعذّبون، ويجوز أن يكون خبراً عن مضمر، أي: هو يوم هم، وبُني لإضافته إلى مضمر، ويُؤيده أنه قُرئ بالرفع. {ذُوقوا فِتْنتكم} أي: وتقول لهم خزنة النار: ذوقوا عذابكم وإحراقكم بالنار، {هذا الذي كنتم به تستعجلون} أي: هذا العذاب هو الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا، بقولكم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} [الأعراف: 70] ف {هذا}: مبتدأ، و{الذي...} الخ: خبر، ويجوز أن يكون {هذا} بدلاً من فتنتكم، و{الذي}: صفته.
الإشارة: أقسم الله تعالى بسماء الحقائق، وتُسمى سماء الأرواح؛ لأن أهل الحقائق روحانيون سماويون، ترقَّوا من أرض الأشباح إلى سماء الأرواح، حيث غلبت روحانيتهم، على بشريتهم، كما أن أهل الشرائع اليابسة أرضيين بشريين، حيث غلبت بشريتهم الطينية على روحانيتهم السماوية، ولكل واحدٍ طُرق، فطُرق سماء الحقائق هي المسالك التي تُوصل إليها، وهي قَطْع المقامات والمنازل، وخَرق الحُجب النفسانية، حتى يُفضوا إلى مقام العيان {في مقعد صدق عند مليك مقتدر} وطُرق أرض الشرائع هي المذاهب التي سلكها الأولون، واقتدى بهم الآخرون، يفضوا أهلها إلى رضا الله ونعيمه. وكان الشيخ الشاذلي رضي الله عنه يقول في تلميذه المرسي: إن أبا العباس أعرف بطُرق السماء منه بطُرق الأرض، أي: أعرف بمسالك الحقائق منه بمذاهب الشرائع، وهذا إشارة قوله: {ذات الحُبك} أي: الطُرق. إن أهل الجهل بالله لفي قولٍ مُختلفٍ مضطرب، لا تجد قلوبهم تأتلف على شيء، قلوبهم متشعبة، ونياتهم مختلفة، وهممهم دنية، وأقوالهم مضطربة، بخلاف أهل الحقائق العارفين بالله، قلوبهم مجتمعة على محبة واحدة، وقصدٍ واحد، وهو الله، بدايتهم في السلوك مختلفة، ونهايتهم متفقة، وهو الوصول إلى حضرة العيان، ولله در ابن البنا، حيث قال:
مذاهبُ الناسِ على اختلاف ** ومذهبُ القوم على ائتلاف

وقال الشاعر:
عباراتهم شتى وحُسْنُك واحدٌ ** وكُلٌّ إلى ذاك الجمال يُشير

يُؤفك عن هذا الاختلاف مَن صُرف في سابق العناية، أو مَن صُرف من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح. قُتل الخراصُون؛ المعتمدون على ظنهم وحدسهم، فعلومهم جُلها مظنونة، وإيمانهم غيبي، وتوحيدهم دليلي من وراء الحجاب، لا يَسلم من طوارق الاضطراب، الذين هم في غمرة؛ أي: في غفلة وجهل وضلالة- ساهون عما أُمروا به من جهاد النفوس، والسيرإلى حضرة القدوس، أو ساهون غائبون عن مراتب الرجال، لا يعرفون أين ساروا، وفي أيّ بحار سَبَحوا وغاصوا، كما قال شاعرهم:
تركنا البحورَ الزاخراتِ وراءنا ** فمن أين يدري الناسُ أين توجهنا

{يسألون أيّان يومُ الدين}؛ لطول أملهم، أو يسألون أيَّان يوم الجزاء على المجاهدة. قال تعالى: هو {يوم هم} أي: أهل الغفلة- على نار القطيعة أو الشهوة يُفتنون بالدنيا وأهوالها، والعارفون منزَّهون في جنات المعارف. ويقال للغافلين: ذُوقوا وبال فتنتكم، وهو الحجاب وسوء الحساب، هذا الذي كنتم به تستعجلون، بإنكاركم على أهل الدعوة الربانيين، فتستعجلون الفتح من غير مفتاح، تطلبون مقام المشاهدة من غير مجاهدة، وهو محال في عالم الحكمة. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (15- 19):

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّ المتقين في جناتٍ وعيون} عظيمة، لا يبلغ كُنهها، ولا يُقادر قدرها، ولعل المراد بها الأنهار الجارية، بحيث يرونها، ويقع عليها أبصارهم، لا أنهم فيها، {آخذين ما آتاهم ربهم} أي: نائلين ما أعطاهم راضين به، بمعنى أنَّ كلَّ ما يأتهم حسَنٌ مرضي، يتلقى بحسن القبول، {إِنهم كانوا قبل ذلك} في الدنيا {محسنين} متقنين لأعمالهم الصالحة، آتين بها على ما ينبغي، فلذلك نالوا ما نالوا من الفوز العظيم، ومعنى الإحسان ما فسره به عليه الصلاة والسلام: «أن تعبد الله كأنك تراه» الحديث. ومن جملته ما أشار إليه بقوله: {كانوا قليلاً من الليل ما يَهْجعون} أي: كانوا يهجعون، أي: ينامون في طائفة قليلة من الليل، على أن {قليلاً} ظرف؛ أو كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً، على أنه صفة لمصدر، و{ما} مزيدة في الوجهين، ويجوز أن تكون مصدرية مرتفعة ب {قليلاً} على الفاعل، أي: كانوا قليلاً من الليل هجوعهم. وقال النسفي: يرتفع هجوعهم على البدل من الواو في {كانوا}: لا بقليلاً؛ لأنه صار موصوفاً بقوله: {من الليل} فبعد من شبه الفعل وعمله، ولا يجوز أن تكون {ما} نافية على معنى: أنهم لا يهجعون من الليل قليلاً ويُحْيُونه كله. اهـ. أو كانوا ناساً قليلاً ما يهجعون من الله؛ لأن {ما} النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، ولأن المحسنسن وهم السابقون كانوا كثيراً في الصدر الأول، وموجودون في كل زمان ومكان، فلا معنى لقلتهم، خلافاً لوقف الهبطي، وأيضاً: فمدحهم بإيحاء الليل كله مخالف لحالته صلى الله عليه وسلم، وما كان يأمر به.
{وبالأسحارِ هم يستغفرون} وصفهم بأنهم يحيون جُل الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار من رؤية أعمالهم. والسَحر: السدس الأخير من الليل، وفي بناء الفعل على الضمير إشعار بأنهم الأحقاء بأن يُوصفوا بالاستغفار، كأنهم المختصون به، لاستدامتهم له، وإطنابهم فيه.
{وفي أموالهم حقُّ} أي: نصيب وافر، يُوجبونه على أنفسهم، تقرُّباً إلى الله تعالى وإشفاقاً على الناس، {للسائلِ والمحروم} أي: لمَن يُصرح بالسؤال لحاجة، وللمتعفف الذي يتعرّض ولا يسأل حياءً وتعففاً، يحسبه الناس غنيّاً فيحرم نفسه من الصدقة. وقد تكلم في نوادر الأصول على مَن سأل بالله، أي: قال: أعطني لوجه الله، هل يجب إعطاؤه أم لا؟ وفي الحديث: «مَن سألكم بالله فأعطوه» قال: وهو مُقيد بما إذا سأل بحق: أي: لحاجة، وأما إذا سأل بباطل- أي: لغير حاجة- فإنما سأل بالشيطان؛ لأن وجه الله حق. ثم ذكركلام عليّ شاهداً، ثم حديث معاذ: «مَن سألكم بألله فأعطوه، فإن شئتم فدعوه»، قال معاذ: وذلك أن تعرف أنه غير مستحق، وإذا عرفتم أنه مستحق، وسأل فلم تعطوه فأنتم ظَلَمة. وأُلحِقَ بغير المستحق مَن اشتبه حاله؛ لتعليق الظلم على معرفة الاستحقاق خاصة.
وقال النووي في الأذكار: يُكره منع مَن سأل بالله، وتشفَّع به؛ لحديث: «مَن سأل بالله فأعطوه» قال: ويكره أن يسأل بوجه الله عير الجنة. اهـ. وفي حديث المنذري: «ملعونٌ مَن سأل بوجه الله، وملعونٌ مَن سُئل بوجه الله، ثم مَنَعَ سَائِلَهُ ما لم يَسْأَلْ هُجْراً» وقال في كتابه الأخبار على قوله عليه الصلاة والسلام: «مَن سألكم بالله فأعطوه» إجلالاً لله تعالى، وتعظيماً، وإيجاباً لحقه. ثم قال: إذ ليس يجب إعطاء السائل إذا كان في معصية أو فضول، فمَن سأل بالله فيما ليس عليه ولا عليك فرضه، فإعطاؤك إياه لإجلال حق الله وتعظيمه، وليس عليك بفرض ولا حتم. انظر تمامه في الحاشية الفاسية.
الإشارة: إنَّ المتقين ما سوى الله في جنات المعارف، وعيون العلوم والأسرار. قال القشيري: في عاجلهم في جنة الوصول، وفي آجلهم في جنة الفضل، فغداً نجاة ودرجات، واليوم قربات ومناجاة. اهـ. {آخذين ما آتاهم ربهم} من فنون المواهب والأسرار، وغداً من فنون التقريب والإبرار، راضين بالقسمة، قليلاً أو كثيرة. إنهم كانوا قبل ذلك: قبل الإعطاء، محسنين، يعبدون الله على الإخلاص، يأخذون من الله، ويدفعون به، وله، ولا يردون ما أعطاهم، ولو كان أمثال الجبال، ولا يسألون ما لم يعطهم، اكتفاء بعلم ربهم.
قال القشيري: كانوا قبل وجودهم محسنين، وإحسانهم: كانوا يُحبون الله بالله، يحبهم ويحبونه وهم في العدم، ولمَّا حصلوا في الوجود، كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، كأنَّ نومهم عبادة، لقوله عليه الصلاة والسلام: «نوم العالم عبادة» فمن َيكون في العبادة لا يكون نائماً، وهجوع القلب: غفلته، وقلوبهم في الحضرة، ناموا أو استيقظوا، فغفلتهم بالنسبة إلى حضورهم قليلة. وقال سهل رضي الله عنه: أي: كانوا لا يغفلون عن الذكر في حال، يعني هجروا النوم؛ لوجود الأُنس في الذكر، والمراد بالنوم: نوم القلب بالغفلة.
{وبالأسحار هم يستغفرون}، قال القشيري: أخبر عن تهجدهم، وقلة دعاويهم، وتنزُّلهم بالأسحار، منزلةَ العاصين، تصغيراً لقدرهم، واحتقاراً لفعلهم. ثم قال: والسهر لهم في لياليهم دائم، إما لفرط لهف، أو شدة أسف، وإما لاشتياق، أو للفراق، كما قالوا:
كم ليلةٍ فيك لا صباحَ لها ** أفنيْتُها قابضاً على كبدي

قد غُصَّت العين بالدموع وقد ** وضعتُ خدي على بنانِ يدي

وإما لكمال أُنس، وطيب روح، كما قالوا:
سقى الله عيشاً قصيراً مضى ** زمانَ الهوى في الصبا والمجون

لياليه تحكي انسدادَ لحاظٍ ** لعيْنيّ عند ارتداد الجفون

. اهـ.
{وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} أي: هم يُواسون مَنْ قصدهم بالحس والمعنى، فيبذلون ما خوّلهم الله من الأموال، للسائل والمتعفف، وما خوّلهم الله من العلوم، للطالب والمعرض، وهو المحروم، فيقصدونه بالدواء بما أمكن؛ فإنهم أطباء، والطبيب يقصد المريض أينما وجده، شفقةً ورحمة، ونُصحاً للعباد. وبالله التوفيق.