فصل: تفسير الآيات (38- 49):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (38- 49):

{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)}
قلت: {وفي موسى}: عطف على {وفي الأرض}، أو على قوله: {وتركنا فيها آية} على معنى: وجعلنا في موسى آية، كقوله:
علفتها تبناً وماءً بارداً

و{إذ أرسلناه}: منصوب بآيات، أو: بمحذوف، أي: كائنة وقت إرسالنا، أو بتَركنا.
يقول الحق جلّ جلاله: {وفي موسى} آية ظاهرة حاصلة {إِذ أرسلناه إِلى فرعون بسلطانٍ مبين} بحجة واضحة، وهي ما ظهر على يديه من المعجزات الباهرة، {فَتَولَّى بِرُكْنِه} فأعرض عن الإيمان وازوَرّ عنه {برُكنه} بما يتقوى به من جنوده ومُلكه، والركن: ما يركن إليه الإنسان من عِزٍّ وجند، {وقال} في موسى: هو {ساحرٌ أو مجنون} كأنه نسب ما ظهر على يديه عليه السلام من الخوارق العجيبة إلى الجن وتردد هل ذلك باختياره وسعيه، أو بغيرهما. {فأخذناه وجنودَه فنبذناهم في اليمِّ} وفيه من الدلالة على عِظَمِ شأن القدرة الربانية، ونهاية حماقة فرعون ما لا يخفى، {وهو مُليمٌ} آتٍ بما يُلام عليه من الكفر والطغيان.
{وفي عادٍ إِذ أرسلنا عليهم الريحَ العقيمَ} وُصفت بالعقيم لأنها أهلكتهم، وقطعت دابرهم، أو: لأنها لم تتضمن خيراً مَّا، من إنشاء مطرٍ، أو إلقاح شجرٍ، وهي الدَّبور، على المشهور، لقوله عليه السلام: «نُصرتُ بالصَّبَا، وأُهلكت عادٌ بالدَّبور»، {وما تذرُ من شيءٍ أتتْ عليه} أي: مرت عليه {إلا جعلته كالرميم} وهو كل ما رمّ، أي: بلي وتفتت، من عظم، أو نبات، أو غير، والمعنى: ما تركت شيئاً هبتَ عليه من أنفسهم وأموالهم إلا أهلكته.
{وفي ثمودَ} آية أيضاً {إِذ قيل لهم تمتعوا حتى حينٍ} تفسيره قوله تعالى: {تَمَتَّعُواْ في دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] رُوي أن صالحاً قال لهم: تُصبح وجوهكم غداً مصفرة، وبعد غدٍ مُحْمَرة، وفي الثالث مسودة، ثم يُصحبكم العذاب، {فَعَتوا عن أمر ربهم} استكبروا عن الامتثال، {فأخذتهم الصاعقةُ} العذاب، وكل عذاب مُهلك صاعقة. قيل: لما رأوا العلامات من اصفرار الوجوه، واحمرارها، واسودادها، التي بُنيت لهم، عَمدوا إلى قتله عليه السلام فنجّاه الله تعالى إلى أرض فلسطين، وتقدّم في النمل، ولمّا كان ضحوة اليوم الرابع تحنّطوا وتكفّنوا بالأنطاع، فأتتهم الصيحة، فهلكوا، كبيرهم وصغيرهم وهم ينظرون إليها ويُعاينونها جهراً، {فما استطاعوا من قيامٍ} من هرب، أو هو من قولهم: ما يقوم بهذا الأمر: إذا عجز عن دفعه. {وما كانوا منتصِرِين} ممتنعين من العذاب بغيرهم، كما لم يمتنعوا بأنفهسم.
{وقومَ نوح} أي: وأهلكنا قوم نوح؛ لأن ما قبله يدل عليه، أو: واذكر قوم نوح، ومَن قرأ بالجر فعطف على ثمود، أي: وفي قوم نوح آية، ويؤديه قراءة عبد الله {وفي قوم نوح} {مِن قبل} أي: قبل هؤلاء المذكورين، {إِنهم كانوا قوماً فاسقين} خارجين عن الحدود بما كانوا فيه من الكفر والمعاصي وإذاية نوح عليه السلام.
{والسماء بَنَيْنَاها} من باب الاشتغال، أي: بنينا السماء، بنيناها {بأيدٍ} بقوة، والأيد: القوة، {وإِنا لمُوسِعون} لقادرين، من الوسع، وهو الطاقة، والمُوسِع: القويُّ على الإنفاق، أو: لموسعون بين السماء والأرض، أو: لموسعون الأرزاق على مَن نشاء، وهو تتميم كما تمّم ما بعده بقوله: {فَنِعْمَ الماهدون} لزيادة الامتنان.
{والأرضَ فرشناها} بسطناها ومهّدناها؛ لتستقروا عليها، {فنِعْمَ الماهدون} نحن. {ومن كلِّ شيءٍ خلقنا زوجين} نوعين؛ ذكر وأنثى، وقيل: متقابلين، السماء والأرض والليل والنهار، والشمس والقمر، والبر والبحر، الموت والحياة. قال الحسن: كل شيء زوج، والله فرد لا مِثل له. {لعلكم تذكَّرون} أي: جعلنا ذلك كله، من بناء السماء، وفرش الأرض، وخلق الأزواج، لتذكَّروا، وتعرفوا أنه خالق الكل ورازقهم، وأنه المستحق للعبادة، وأنه قادر على إعادة الجميع، وتعملوا بمقتضاه. وبالله التوفيق.
الإشارة: وفي موسى القلب إذ أرسلناه إلى فرعون النفس، بسلطانٍ، أي: بتسلُّط وحجة ظاهرة، لتتأدب وتتهذب، فتولى فرعون النفس برُكنه، وقوة هواه، وقال لموسى القلب: ساحر أو مجنون، حيث يأمرني بالخضوع والذل، الذي يفرّ منه كلُّ عاقل، طبعاً، فأخذناه وجنوده من الهوى والجهل والغفلة، فنبذناهم في اليمِّ في بحر الوحدة، فلما غرقت في بحر العظمة، ذابت وتلاشت، ولم يبقَ لها ولا لجنودها أثر، وهو- أي: فرعون النفس- مُليم: فَعل ما يُلام عليه من الميل إلى ما سوى الله قبل إلقائه في اليم.
وفي عادٍ، وهي جند النفس وأوصاف البشرية، من التكبُّر، والحسد، والحرص، وغير ذلك، إذ أرسلنا عليهم الريحَ العقيم؛ ريح المجاهدة والمكابدة. أو: ريح الواردات القهرية، ما تذر من شيء من الأوصاف المذمومة إلا أهلكته، وجعلته كالرميم. وفي ثمود، وهم أهل الغفلة، إذ قيل لهم: تمتعوا بدنياكم إلى حين زمان قليل؛ مدة عمركم القصير، فعتوا: تكبّروا عن أمر ربهم، وهو الزهد في الدنيا، والخضوع لمَن يدعوهم إلى الله، فأحذتهم صاعقة الموت على الغفلة والبطالة، وهم لا ينظرون إلى ارتحالهم عما جمعوا، فما استطاعوا من قيام، حتى يدفعوا ما نزل بهم، ولو افتدوا بالدنيا وما فيها، وما كانوا ممتنعين من قهرية الموت، فرحلوا بغير زاد ولا استعداد. وقوم نوح من قبل، وهو مَن سلف من الأمم الغافلة، إنهم كانوا قوماً فاسقين خارجين عن حضرتنا.
والسماء، أي: سماء الأرواح، بنيناها ورفعناها بأَيد، ورفعنا إليها مَن أحببنا من عبادنا، وإنا لمُوسعون على المتوجهين إلينا في المعارف والأنوار، والعلوم والأسرار، والأرض؛ وأرض النفوس، فرشناها للعبودية، والقيام بآداب الربوبية، فنِعم الماهدون، مهدنا الطريق لذوي التحقيق، ومن كل شيء من تجليات الحق، خلقنا، أي: أظهرنا زوجين، الحسن والمعنى، الحكمة والقدرة، الشريعة والحقيقة، الفرق والجمع، الملك والملكوت، الأشباح والأرواح، الذات والصفات، فتجلى الحق جلّ جلاله بين هذين الضدين؛ ليبقى الكنز مدفوناً، والسر مصوناً، ولو تجلّى بضد واحد لبطلت الحكمة وتعطلت أسرار الربوبية، فمَن لم يعرف الله تعالى في هذين الضدين، لم يعرفه أبداً، ومَن لم يُفرق بين هذين الضدين، في هذه الأشياء المذكورة، لم تنسج فكرته، فصفاء الغزول هو التمييز بين هذين الضدين، ذوقاً، وبينهما تنسج الفكرة.

.تفسير الآيات (50- 55):

{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)}
يقول الحق جلّ جلاله: {فَفِرُّوا إِلى الله} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي: إذا كان الأمر كما ذكر من شؤونه تعالى في إهلاك مَن تعدى الحدود، ففِروا إلى الله بالإيمان والطاعة، كي تنجوا من غضبه، وتفوزوا بثواب، أو: ففِرُّوا من الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، أو: من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن، {إِني لكم منه نذير مبين} تعليل للأمر بالفرار إلأيه تعالى، فإنَّ كونه صلى الله عليه وسلم منذراً منه تعالى، لا من تلقاء نفسه، موجب للفرار، وفيه وعد كرمي بنجاتهم من الهروب، وفوزهم بالمطلوب، {ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر} هو نهي موجبٌ للفرار من سبب العقاب، بعد الأمر بالفرار من نفس العقاب، كما يُشعر به قوله تعالى: {إِني لكم منه} أي: من الجعل المنهي عنه {نذير مبين} كأنه قيل: ففرُّوا إلى الله من عقابه، ومن سببه، وهو جعلكم مع الله إلهاً آخر.
{كذلك} أي: الأمر ما ذكر من تكذيبهم الرسول، وتسميتهم له ساحراً أو مجنوناً، ثم فسر ما أجمل بقوله: {ما أتي الذين مِن قبلهم} من قبل قومك {مِن رسولٍ} من رسل الله {إلا قالوا} في حقه: هو {ساحرٌ أو مجنون} فرموهم بالسحر والجنون؛ لجهلهم، {أتَواصَوا به} الضمير للقول، أي: أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول، حتى قالوه جميعاً متفقين عليه، {بل هم قومً طاغون} أي: لم يتواصوا به لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد، بل جمعتهم العلة الواحدة، وهي الطغيان، {فتولَّ عنهم} أي: أعرِضْ عن الذين كرّرت عليهم الدعوة، فلم يجيبوا عناداً، {فما أنت بملومٍ} فلا لوم عليك في إعراضك بعدما بلّغت الرسالة، وبذلت مجهودك في البلاغ والدعوة. {وذَكِّرْ} وَعِظ بالقرآن {فإِنَّ الذكرى تنفعُ المؤمنين} الذي قدّر الله سبحانه وتعالى إيمانهم، أو آمنوا بالفعل، فإنها تزيدهم بصيرة وقوة في اليقين والعلم. وبالله التوفيق.
الإشارة: الفرار إلى الله يكون من خمسة أشياء: من الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة بالتوبة، ومن الغفلة إلى اليقظة بدوام الذكر، ومن المقام مع العوائد والحظوظ إلى الزهد بالمجاهدة وخرق العوائد، ومن شهود الحس إلى شهود المعنى، وهو مقام الشهود. وفي القوت: {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} الفَرْد، {ففروا إلى الله} أي: من الأشكال والأضداد إلى الواحد الفرد. وفي البخاري: معناه: من الله إليه.
قال القشيري: ارجعوا إلى الله، والإشارة إلى حالتين، إما رغبة في شيء، أو رهبة من شيء، أو حالي خوف ورجاء، أو طلب نفع أو دفع ضر، وينبغي أن يفر من الجهل إلى العلم، ومن الهوى إلى التقوى، ومن الشك إلى اليقين، ومن الشيطان إلى الله، ومِن فعله الذي هو بلاؤه إلى فعله الذي هو كفايته، ومن وصفه الذي هو سخطه، إلى وصفه الذي هو رحمته، ومن نفسه، حيث قال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] إلى نفسه، حيث قال: {ففروا إلى الله}. اهـ. ونقل الورتجبي عن الخراز، فقال: أظهر معنى الربوبية والوحدانية، بأن خلق الأزواج فتخلُص له الفردانية، فلما تبين أن أشكال الأشياء تواقع علة الفناء؛ دعا العباد إلى نفسه؛ لأنه الباقي، وغيره فانٍ، بقوله: {ففروا إلى الله} أي: ففروا مِن وجودكم، ومِن الأشياء كلها، إلى الله بنعت الشوق والمحبة والتجريد عما سواه. اهـ.

.تفسير الآيات (56- 60):

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وما خلقتُ الجنَّ والإِنس إِلا ليعبدون} أي: إلا لنأمرهم بالعبادة والخضوع لربوبيتي، لا لنستعين بهم على شأن من شؤوني، كما هي عادة السادات في كسب العبيد، ليستعينوا بهم على أمر الرزق والمعاش، ويدلّ على هذا التأويل: قوله تعالى: {وما أريد منهم من رزق...} إلخ، قال ابن المنير، إلا لأمرهم بعبادته، لا لطلب رزقٍ لأنفسهم، ولا إطعام لي، كما هو حال السادات من الخلق مع عبيدهم، بل الله هو الذي يرزق، وإنما على عباده العبادة له؛ لأنهم مُكلَّفون، ابتلاءً وامتحاناً، أما الإرادة فكما تعلقت بالعبادة تعلقت بما يخالفها، لقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف: 179]. اهـ. وقيل المعنى: ما خلقهم إلا مستعدين للعبادة، متمكنين منها أتم استعداد، وأكمل تمكُّن، فمنهم مَن أطاع، ومنهم مَن كفر، وهو كقولهم: البقرة مخلوقة للحرث، أي: قابلة لذلك، وقد يكون فيها مَن لا يحرث. والحاصل: أنه لا يلزم من كون الشيء مُعدّاً لشيءٍ أن يقع منه جميع ذلك.
أو: ما خلقتهم إلا ليتذللوا لي، ولقدرتي، وإن لم يكن ذلك على قواعد شرع، وهذا عام في الكل، طوعاً أو كرهاً؛ إذ كل ما خلق مُنقاد لقدرته وقهريته، عابد له بهذا المعنى. وفي البخاري: وما خلقت أهل السعادة من الفريقين إلا ليُوحِّدون. وقال بعضهم: خلقهم ليفْعلوا، ففعل بعضٌ وترك بعضٌ. وليس فيه حجة لأهل القدر. اهـ. منه، والمراد بأهل القدر: المعتزلة، القائلون بأن الله تعالى لم يُرد الكفر والمعاصي، وهو باطل، وسيأتي في الإشارة بقية تحقيق إن شاء الله.
{ما أُريد منهم من رزقٍ} أي: ما خلقتهم ليَرزقوا أنفسهم، أو واحداً من عبادي، {وما أُريد أن يُطعمون} قال ثعلب: أن يُطعموا عبادي، وهو إضافة تخصيص، كقوله عليه السلام: «مَن أكرم مؤمناً فقد أكرمني ومَن آذى مؤمناً فقد آذاني»، والحاصل: أنه تعالى بيَّن أن شأنه مع عباده متعالياً عن أن يكون كشأن السادات مع عبيدهم، حيث يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم، وتهيئة أرزاقهم، أي: ما أريد أن أصرفهم في تحصيل رزقي ولا رزقهم، بل أتفضّل عليهم برزقهم، وبما يصلحهم ويعيشهم من عندي، فليشتغلوا بما خُلقوا له من عبادتي.
{إِنَّ الله هو الرزَّاق} أي: يرزق كل مَن يفتقر إلى الرزق، وفيه تلويح بأنه غني عنه، {ذو القوة} ذو الاقتدار، {المتينُ} أي: الشديد الصلب. وقرأ الأعمش {المتِين} بالجر، نعت للقوة، أي: ذو القوة المتينة، وإنما ذكّره لتأول القوة بالاقتدار.
{فإِنَّ للذين ظلموا} أنفسهم، بتعريضها للعذاب، حيث كذّبوا الرسولَ صلى الله عليه وسلم، أو: وضعوا التكذيب مكان التصديق، وهم أهل مكة، {ذنوباً} أي: نصيباً وافراً من العذاب، {مثل ذنوب أصحابهم} مثل عذاب نظائرهم من الأمم المحكية.
قال الزجاج: الذَنوب في اللغة، النصيب، مأخوذ من مقاسمة السُقاة الماءَ بالذنوب، وهو الدلو العظيم المملوء. {فلا يستعجلون} ذلك النصيب، فإنه لاحق بهم، وهذا جواب النضر وأصحابه حين استعجلوا العذاب.
{فويلٌ للذين كفروا} وضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلاً عليهم بالكفر، أي: فويلٌ لهم {من يومهِمُ الذي يُوعَدون} أي: من يوم القيامة، أو يوم بدر، والأول أنسب لما في صدر السورة الآتية.
الإشارة: اعلم أن الحق- جلّ جلاله- إنما بعث الرسلَ بإظهار الشرائع، ليحوّشوا العباد إلى الله، ويدعوهم إليه كافة، ويأمروهم بالتبتُّل والانقطاع، من غير التفات لمَن سبق له السعادة والشقاء؛ لأن ذلك من سر القدر، وغيب المشيئة لا يجوز كشفه في حالة الدعوة، فقوله تعالى: {وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون} هذا ما يمكن الأمر به في ظاهر الأمر، ويُؤمر بإظهاره في حالة الدعوة، وكون الحق الحق تبارك وتعالى أراد من قوم الكفر والمعاصي من غيب المشيئة، وسر القدر لا يقدح في عموم الدعوة التي تعلقت بالظواهر؛ لأنه من قبيل الحقيقة، وما جاءت الرسل إلا بالشريعة، فالدعاة إلى الله يُعممون الدعوة، ويُحرِّضون على التبتُّل والأنقطاع إلى الله، وينظرون إلى ما يبرز من غيب المشيئة. وقال الورتجبي: عن جعفر الصادق {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} أي: ليعرفوني. اهـ. ومداره قوله صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن رب العزة: «كنت كنزاً مخيفاً لم أُعرف، فأحببتُ أن أُعرف، فخلقت الخلق لأُعرف» أي: ما أظهرت الخلق إلا لأُعرف بهم، فتجليت بهم في قوالب العبودية، لتظهر ربوبيتي في قوالب العبودية، فتظهر قدرتي وحكمتي، فسبحان الحكيم العليم.
قال أبو السعود: ولعل السر في التعبير عن المعرفة بالعبادة للتبيه على أن المعتَبر هي المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى، لا ما يحصل بغيرها، كمعرفة الفلاسفة. اهـ. قلت: وكل معرفة وحقيقة لا تصحبها شريعة لا عبرة بها، بل هي زندقة أو دعوى. وبالله التوفيق.
وقوله تعالى: {إِن الله هو الرزّاقُ ذو القوة المتين} هذه الآية وأمثالها هي التي غسلت الأمراض والشكوك من قلوب الصدِّيقين، حتى حصل لهم اليقين الكبير، فسكنت نفوسُهم، واطمأنت قلوبهم، فهم في روح وريحان. والأحاديث في ضمان الرزق كثيرة، وأقوال السلف كذلك، وفي حديث أبي سعيد الخدري عنه صلى الله عليه وسلم قال: «لو فَرَّ أحدُكم من رِزْقه لتبعه كما يَتْبعه الموتُ» وقال أيضاً عن الله عزّ وجل: «يقول: يا ابن آدم تفرَّغْ لعبادتي، املأ صدرك غِنىً، وأسُد فقرك، وإلا تفعل موت يدك شُغلاً»، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن كانت الآخرة هَمَّه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شَمْلَه، وأتته الدنيا وهي صاغرة، ومَن كانت الدنيا همه؛ جعل الله فقرّه بين عينيه، وفرَّق عليه شملَه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له».
وقال المحاسبي: قلت لشيخنا: من أين وقع الاضطراب في القلوب، وقد جاء الضمان من الله عزّ وجل؟ قال: من وجهين: من قلة المعرفة وقلة حسن الظن. ثم قال: قلت: شيء غيره؟ قال: نعم، إن الله عزّ وجل وَعَدَ الأرزاق وضمِنها، وغيّب الأوقات، ليختبر أهل العقول، ولولا ذلك لكان كل المؤمنين راضين، صابرين، متوكلين، لكن الله- عزّ وجل- أعلمهم أنه رازقهم، وحلف لهم، وغيّب عنهم أوقات العطاء، فمِن هنا عُرف الخاص من العام، وتفاوت العباد، فمنهم ساكن، ومنهم متحرك، ومنهم ساخط، ومنهم جازع، فعلى قدر ما تفاوتوا في المعرفة تفاوتوا في اليقين. اهـ. مختصراً. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.