فصل: تفسير الآيات (42- 62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (42- 62):

{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)}
يقول الحق جلّ جلاله في بقية ذكر ما في الصُحف الأُولى: {وأنَّ إِلى ربك المنتهى} أي: الانتهاء، أي: ينتهي إليه الخلق ويرجعون، إليه كقوله: {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج: 48] أو: ينتهي علم العلماء إليه ثم يقفون، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا فكرة في الرب» أي: كُنه الذات، وسيأتي في الإشارة: {وأنه هو أضحكَ وأبكى} أي: خلق الضحك والبكاء، أو: خلق الفرح والحزن، أو: أضحك المؤمنين في الأخرة، وأبكى الكافرين، أو: أضحك المؤمنين في العُقبى بالمواهب وأبكاهم في الدنيا بالنوائب، {وأنه هو أمات وأحيا} أي: أمات الآباء وأحياء الأبناء، أو: أمات بالكفر وأحيا بالإيمان.
{وأنه خلق الزوجين الذكرَ والأنثى من نُطفةٍ إذا تُمنَى}: إذ تدفق وتُدفع في الرحم. يقال: منى وأمنى، {وأنَّ عليه النشأةَ الأخرى} الإحياء بعد الموت، {وأنه هو أغنَى} أي: صيّر الفقير غنيّاً {وأَقْنَى} أي: أَعطى القِنْيَة، وهو المال الذي تأثّلته، وعزمت ألاَّ تُخرجه من يدك. {وأنه هو رَبُّ الشِّعْرى} وهو كوكب يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر، وكانت خزاعة تعبدها. سنّ لهم ذلك ابن أبي كبشة رجل من أشرافهم، قال: لأن النجوم تقطع السماء عرضاً، والشعرى طولاً، ويقال لها: شعرى العبور. انظر الثعلبي. وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن أبي كبشة، تشبيهاً له صلى الله عليه وسلم به، لمخالفته إياهم في دينهم، فأخبر تعالى أنه ربّ معبودهم، فهو أحق بالعبادة وحده.
{وأنه أهلك عاداً الأُولى} وهم قوم هود، وعاد الأخرى: عاد إرم، وقيل: معنى الأولى العدمي لأنهم أولى الأمم هلاكاً بعد قوم نوح، وقال الطبري وغيره: سميت {أُولى} لأن ثُمَّ عاداً آخرة، وهي قبلية كانت بمكة مع العماليق، وهم بنو لُقَيم بن هَزّال. والله أعلم. اهـ. {قلت}: والتحقيق: أن عاداً الأولى هي عاد إرم، وهي قبيلة هود التي هلكت بالريح، ثم بقيت منهم بقايا، فكثروا وعمّروا بعدهم، فقيل لهم عاد الأخيرة، وانظر أبا السعود في سورة الفجر. وها هنا قراءات، وجَّهناها في كتاب الدرر.
{وثَموداً} أي: وأهلك ثموداً، وهم قوم صالح، {فما أبقَى} أحداً منهم، {وقمَ نوحٍ من قبلُ}؛ وأهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود، {إِنهم كانوا أظلمَ وأطغى} مِن عاد وثمود؛ لأنهم كانوا يضربونه حتى لا يكون به حِراك، وينفرون منه حتى كانوا يُحذّرون صبيانهم أن يسمعوا منه، {والمؤتفكةَ} أي: والقرى التي ائتفكت، أي: انقلبت بأهلها، وهم قوم لوط. يقال: أَفَكه فائتفك، أي: قَلَبَه فانقلب، {والمؤتفكة} منصوب ب {أَهْوَى} أي: رفعها إلى السماء على جناح جبريل، ثم أهواها إلى الأرض، أي: أسقطها، {فَغَشَّاها} ألبسها من فنون العذاب {ما غَشَّى} وفيه تهويل لما صبَّ عليها من العذاب، وأمطر عليها من الصخر المنضود.
{فبأي آلاءِ ربك} أيها المخاطب {تتمارَى} أي: تتشكك؟ أي: فبأي نِعَمٍ من نِعَم مولاك تجحد ولا تشكر؟ فكم أولاك من النِعم، ودفع عنك من النِقم، وتسمية الأمور المتعددة قبلُ نِعماً مع أن بعضها نقم؛ لأنها أيضاً نِعَم من حيث إنها نصرة الأنبياء والمرسَلين، وعظة وعبرة للمعتبرين. {هذا نذيرٌ} أي: محمد مُنذِّر {من النُذُرِ الأولى} من المنذِّرين الأولين، وقال: الأُولى على تأويل الجماعة، أو: هذا القرآن نذير من النذر الأولى، أي: إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي إنذِر بها من قبلكم.
{أَزِفَتِ الآزفةُ} أي: قربت الساعة الموصوفة بالقرب من قوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1]، وفي ذكرها بعد إنذارهم إشعار بأنَّ تعذيبهم مؤخر إلى يوم القيامة، {ليس لها من دون الله كاشِفةٌ} أي: ليس لها نَفْس مبيّنة وقت قيامها إلاّ الله تعالى، وهذا كقوله: {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهآ إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: 187] أو: ليس لها نفس قادرة على كشف أهوالها إذا وقعت إلا الله تعالى، فيكشفها عمن شاء، ويُعذِّب بها مَن شاء.
ولمَّا استهزؤوا بالقرآن، الناطق بأهوال القيامة، نزل قوله تعالى: {أفمن هذا الحديث تعجبون} إنكاراً، {وتضحكون} استهزاءً، {ولا تبكون} خشوعاً، {وأنتم سامدون} غافلون، أو: لاهون لاعبون، وكانوا إذا سمعوا القرآن عارضوه بالغناء، ليشغلوا الناس عن استماعه، {فاسجدوا لله واعبدوا} ولا تعبدوا معه غيره، من اللات والعزى ومناة والشعْرَى، وغيرها من الأصنام، أي: اعبدوا رب الأرباب، وسارعوا له، رجاء في رحمته. والفاء لترتيب الأمر بالسجود على بطلان مقابلة القرآن بالإنكار والاستهزاء، ووجوب تلقيه بالإيمان والخضوع والخشوع، أي: إذا كان الأمر كذلك فساجدوا لله الذي أنزله واعبدوه.
الإشارة: {وأنَّ إلى ربك المنتهى} انتهى سير السائرين إلى الوصول إلى الله، والعكوف في حضرته. ومعنى في حضرته. ومعنى الوصول إلى الله: العلم بأحدية وجوده، فيمتحي وجود العبد في وجود الرب، وتضمحل الكائنات في وجود المكوِّن، فتسقط شفيعة الأثر، وتثبت وترية المؤثِّر، كما قال القائل:
وبروْح وراح ** عاد شفعي وترى

وقال الآخر:
فلم يبق إلا الله لم يبق كائنٌ ** فما ثَمَّ موصولٌ ولا ثم بائنُ

بذا جاء برهان العيانِ فما أرى ** بِعيْنيَّ إلا عينه إذ أعاينُ

إلى غير ذلك مما غَنَّوا به من أذواقهم ووجدانهم.
ثم قال تعالى: {وأنه هو أضحك وأبكى} أي: قبض وبسط، أو: أنه أضحك أرواحاً بكشف الحجاب، وأبكى نفوساً بذُل الحجاب، أو: أضحك إذا تجلّى بصف الجمال، وأبكى إذا تجلّى بصفة الجلال، وأنه هو أمات قلوباً بالجهل والغفلة، بمقتضى اسمه القهّار، وأحيا قلوباً بالعلم والمعرفة، بمقتضى اسمه الغفّار، أو: أمات نفوساً عن شهواتها الفانية، وأحيا سبب ذلك أرواحاً بكمال المعرفة فاتصفت بالأوصاف الربانية، أو: أمات أرواحاً بغلبة ظلمة النفس واتسيلائها عليها، وأحيا نفوساً باستيلاء الأرواح عليها، وغلبة ونورها، فحييت وانقلبت روحاً.
وأنه خلق الزوجين، أي: الصنفين: الذكر والأنثى، الحس والمعنى، الحقيقية والشريعة، القدرة والحكمة، كما تقدم. وقال القشيري: الروح كأنه ذَكَر موصوفة بصفة الفاعلية، والنفْس أنثى موصوفة بصفة القابلية، لتحصل نتيجة القلب، بحصول المطالب الدنيوية والأخروية. اهـ. مختصراً. وقال بعضهم: والشيطان كالذَكَر، والنفس كالأنثى، يتولّد بينهما المعصية. اهـ.
{وأنَّ عليه النشأة الأخرى} وهو بعث الأرواح من موت الغفلة، وحشرها إلى موقف المراقبة والمحاسبة، ثم إدخالها جنة المعارف، فلا تتشاق إلى جنة الزخارف أبداً، أو: {النشأة الأخرى}: الجذب بعد السلوك، والفناء بعد البقاء، ثم البقاء بعد الفناء، البقاء الأول بوجود النفس، والثاني بالله. وأنه هو أغنى به بوصول العبد إلى مشاهدته، وأفنَى بأن مكَّنه منه فزاد غناه. وطبّل على ماله، {وأنه هو رَبُّ الشِّعرى}، وهو كل ما عُبد من الهوى والدنيا، فكيف يعبد المربوب اللئيم، ويترك الرب الكريم؟! وأنه أهلك عاداً الأولى؛ النفوس المتفرعنة، والأهوية المُغوية، أرسل عليهم ريحَ الهداية القوية، حتى اضمحلت وخضعت لمولاها، وثمودَ الخواطر، فما أبقى منها إلا خواطر الخير، التي تأمر بالخير، وقوم نوح؛ من القواطع الأربعة: النفس، والشيطان، والناس، والدنيا، فطعنهم عن المتوجه من قَبلُ، أي: مِن قبل أن يتوجه إلينا، لِما سبق في علمنا أنهم كانوا هم أظلم وأطغى من بقية العلائق، والنفس المؤتفكة، أي: المنقلبة عن التوجُّه، أهوى بها في أسفل سافلين، باعتبار أهل عليين، فغشَّاها من الدنيا ومن الخواطر والهموم والغموم، ما غشَّى.
فإذا سَلِمتَ أيها العبد من هؤلاء القواطع والعلائق، وتوجهتَ إلى مولاك، {فبأي آلاء ربك تتمارى} بل الواجب عليك أن تشكر الله آناء الليل والنهار. هذا الذي أخذ بيدك نذيرٌ من النُذُر الأولى، المتقدمين الداعين إلى الله في كل زمان، أزفت الآزفة، أي: قربت ساعة الفتح حين توجهت وانقطعت عنك العلائق، ووجدتَ مَن يُدخلك بحرَ الحقائق، ليس لها من دون الله كاشفة، لا يكشف لك هذه الحقائق إلا الذي منَّ عليك بصحبة مَن يدلك عليه. قال القشيري: أزفت الآزفة: قَرُبَت الحقيقة بالقرب والدنو، وأنت أيها السالك في عينها، وما لك بها شعور، لفنائك في أوصافك النفسانية، ه مختصراً. أفمن هذا الحديث العجيب، والغزل الرقيق الغريب، تعجبون، إنكاراً، وتضحكون استهزاءً؟ قلت: وقد رأيت كثيراً ممن يُنكر الإشارة، ويستهزئ بها، ويتنكّب مطالعتها، وقد قيل: مَن كَرِهَ شيئاً عاداه. ولا تبكون على أنفسكم، حيث حُرمتْ من هذه المواهب، وأنتم سامدون غافلون لاهون، للدنيا طالبون، فاسجدوا لله واعبدوا، وتضرّعوا إليه، حتى يُخرجكم من سجن هواكم ونفوسكم.
وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله عليه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.

.سورة القمر:

.تفسير الآيات (1- 8):

{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)}
يقول الحق جل جلاله: {اقتربت الساعةُ} قربت القيامة، قال القشيري: ومعنى قربها: أنّ ما بقي من الزمان إلى القيامة قليلٌ بالإضافة إلى ما مضى. اهـ. قال ابن عطية: وأمرها مجهول التحديد، وكل ما يُروى من التحديد في عمر الدنيا فضعيف. اهـ. {وانشقَّ القمرُ} نصفين، وقرئ: و{قد انشقَّ القمر}، أي: اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أنَّ القمر قد انشقًَّ، كما تقول: أقبل الأميرُ، وقد جاء البشير بقدومه.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: انشق القمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين، فكانت أحداهما فوق الجبل، والأخرى أسفل من الجبل، فقال صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا» قال ابن عباس: إنَّ المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقاً فشُق لنا القمر فلقتين، فقال: «إن فعلتُ؛ أتؤمنون؟» فقالوا: نعم، وكانت ليلة بدر، فسأل صلى الله عليه وسلم ربه؛ فانشق فرقتين، نصف على أبي قُبيس، ونصف على قُعَيْقِعان، وقيل: سألوا آية مجملة، فأراهم انشقاق القمر. قال ابن عطية: وعليه الجمهور، يعني عدم التعيين.
وفي صحيح مسلم: أنه انشق مرتين وصرح في شرح مرتين وصرح في شرح المواقف بأن انشقاقه متواتر. اهـ. وقيل: معناه: انشق، أي: ينشق يوم القيامة، وهو ضعيف، ولا يُقال: لو انشقَّ لما خفي على أهل الأقطار، ولو ظهر عندهم لنقل متواتراً؛ لأن الطباع جبلت على نشر العجائب، لأنه يجوز أن يحجبه اللّهُ عنهم بغيم أو غيره، مع أنه كان ليلاً، وجُلّ الناس نائمون، وأيضاً: عادة الله تعالى في معجزاته أنه لا يراها إلاَّ مَن ظهرت لأجله في الغالب.
تنبيه: قال القسطلاني في المواهب اللدنية: ما يذكره بعض القصَّاص أن القمر دخل في جيب النبي صلى الله عليه وسلم وخرج من كمه، ليس له أصل، كما حكاه الزركشي عن شيخه العِماد ابن كثير. اهـ.
{وإِن يَرَوا} أي: أهل مكة {آيةً} تدل على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم {يُعرضوا} عن الإيمان {ويقولوا سِحْرٌ مستمر} محكم شديدٌ قويّ، من: المِرّة، وهي القوة، أو: دائم مطّرد. رُوي: أنه لما انشق؛ قالوا: هذا سحر ابن أبي كبشة؟ فسلوا السُّفار، فلما قَدِموا سألوهم، فقالوا: إنهم قد رأيته، فقالوا: قد استمر سحره في البلاد، فنزلت. قال البيضاوي: دلّ قوله: {مستمر} على أنهم رأوا قبله آيات أخرى مترادفة، ومعجزات سابقة. اهـ. أو: مستمر، ذاهب ومارٌّ، يزول ولا يبقى، من: مرّ الشيء واستمر: ذهب.
{وكذّبوا واتَّبعوا أهواءَهم} الباطلة، وما زيَّن لهم الشيطان من دفع الحق بعد ظهوره، حتى قالوا: سحرَ القمر، أو: سَحَرَ أعيننا، {وكلُّ أمرٍ} وعدهم الله به {مستقِرٌ} كائن في وقته، أو: كل أمر قُدِّرَ واقع لا محالة يستقر في وقته، أو: كل أمر من الخير والشر يقع بأهله من الثواب والعقاب، وقُرئ {مستقرٍ} بالجر، فيعطف على {الساعة}، أي: اقتربت الساعة وكل أمرٍ مستقر، يعني: أشراطها.
{ولقد جاءهم} أي: اهل مكة في القرآن؛ {من الأنباءِ} من أخبار القرون الماضية، وكيف أُهلكوا بالتكذيب {ما فيه مُزْدَجَرٌ} أي: ازدجار عن الكفر والعِناد، يقول: زجرته وازدجرته، أي: منعته، وأصله: ازتجر، افتعل، من الزجر، ولكن التاء إذا وقعت بعد زاي ساكنة أبدلت دالاً؛ لأن التاء حرف مهموس، والزاي حرف مجهور. فأبدل من التاء حرف مجهور، وهو الدال؛ ليناسب الميم.
{حكمة بالغةٌ} بدل من {ما}، أو: خبر، أي: هو حكمة بالغة؛ ناهية في الرشد والصواب، أو: بالغة من الله إليهم، قال القشيري: والحكمة البالغة: الصحيحة الظاهرة الواضحة لمَن فكّر فيها. اهـ. قال المحلي: وصفت بالبلاغة؛ لأنها تبلغ من مقصد الوعظ والبيان ما لا يبلغ غيرها. اهـ. {فما تُغنِ النُّذُر} شيئاً، حيث سبق القدر بكفرهم، وما نافية، أو استفهامية منصوبة ب {تُغن}، أي: فأيّ إغناء تُغني النُذر مع سابق القدر؟ والنُذر: جمع نذير، وهم الرسل، أو: المنذَر به، أو: مصدر بمعنى الإنذار، والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدُّد الإغناء، واستمراره حسب تجدُّد مجيء الزواجر واستمرارها.
{فتولَّ عنهم} لعلمك بأنّ الإنذار لا يُغني فيهم شيئاً، واذكر {يومَ يدع الداع} وهو إسرافيل عليه السلام {إِلى شيءٍ نُّكُرٍ} أي: منكر فظيع، تُنكره النفوس، لعدم العهد بمثله، وهو هول القيامة. {خُشَّعاً أبصارُهم يخرجون} ف {خُشَعاً}: حال من فاعل {يخرجون}، أي: {يَخرجون من الأجداث} أذلة أبصارهم من شدة الهول؛ لأن ذلة الذليل وعزة العزيز يظهرن في أعينهما، ومَن قرأ: {خاشعاً} فوجهه: أنه أسند إلى ظاهر، فيجب تجريده كالفعل، وأما مَن قرأ بالجمع، فهو على لغة: أكلوني البراغيث، {كأنهم جراد منتشِرٌ} في الكثرة والتموُّج والتفرُّق في الأقطار. قال ابن عطية: في الحديث: أن مريم دعت للجراد؛ فقال: اللهم أعِشْها بغير رضاع، وتتابع بينها بغير شباع. اهـ.
ثم وصف خروجهم من القبور، فقال: {مهطِعين إِلى الداعِ} مسرعين مَادِّي أعناقهم إليه، أو ناظرين إليه، {يقول الكافرون} استئناف بياني، وقع جواباً عما نشأ من وصف اليوم بالأهوال، وأهله بسوء الحال، كأنّ قائلاً قال: فماذا يكون حينئذ؟ فقال: {يقول الكافرون هذا يوم عِسِرٌ} صعب شديد. وفي إسناد هذا القول إلى الكفار تلويح بأنّ المؤمنين ليسوا في تلك المرتبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اقتربت ساعة الفتح لمَن جَدّ في السير، ولازم صحبةَ أهل القرب، قال القشيري: الساعة ساعتان: كبرى، وهي عامة، وصغرى، وهي خاصة بالنسبة إلى السالك إلى الله، برفع الأوصاف البشرية، وقطع العلائق الطبيعية.
قال: وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «مَن مات فقد قامت قيامته» راجعة إلى الساعة الصغرى. اهـ. أي: مَن مات عن رؤية نفسه؛ قامت قيامته بلقاء ربه وشهوده. وقوله تعالى: {وانشق القمر} أي: قمر الإيمان؛ فإنه إذا أشرقت عليه شمس العيان، لم يبقَ لنوره أثر، ليس الخبر كالعيان، وإن يَرَوا- أي: أهل الغفلة والحجاب- آيةً تدل على طلوع شمس العيان على العبد المخصوص، يُعرضوا منكرين، ويقولوا: {هذا سحر مستمر...} الآية، وكل أمر قدّره الحق- تعالى في الأزل، من أوقات الفتح أو غيره، مستقر، يستقر ويقع في وقته، لا يتقدّم ولا يتأخّر، فلا ينبغي للمريد أن يستعجل الفتح قبل إبانه، فربما عُوقب بحرمانه، ولقد جاءهم من الأخبار عن منكري أهل الخصوصية، وما لحق أهلَ الانتقاد من الهلاك أو الطرد والبُعد ما فيه مزدجر، كما فعل بابن البراء وأمثاله، حكمة من الله بالغة، وسنة ماضية، يقول: «من آذى لي وليّاً فقد آذن بالحرب» فما تُغن النُذر إذا سبق الخذلان، فتولّ أيها السالك عنهم، وعن خوضهم، واشتغل بالله عنهم؛ {فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} واذكر الموت وما بعده، فإنه حينئذ يظهر عز الأولياء، وذل الأغبياء، يقولون: هذا يوم عسر على مَن طغى وتجبّر.