فصل: تفسير الآية رقم (20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (20):

{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)}
قلت: {ومن اتبعن}، عطف على فاعل {أسلمت}؛ الضمير.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فإن حاجوك} في الدين، وخاصموك فيه، بعدما أقيمت الحجج على صحته، {فقل} لهم: أما أنا فقد {أسلمت وجهي لله}، وانقدت بكليتي إليه، وتمسكت بدينه القويم، الذي قامت الحجج على حقيته، وكذلك من تبعني من المؤمنين. وخصّ الوجه بالانقياد؛ لأنه أشرف الأعضاء ومحل ظهور المحاسن، فإذا انقاد الوجه فقد انقاد الكل.
{وقل للذين أوتوا الكتاب} من اليهود والنصارى، {والأميين} الذين لا كتاب لهم من المشركين: {أأسلمتم} كما أسلمتُ: لما وضحت لكم من الحجة؟ أم أنتم على كفركم بغياً وحسداً؟ والاستفهام معناه الأمر، كقوله: {فَهَلَ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [هُود: 14] أي: أسلموا، {فإن أسلموا فقد اهتدوا} وأنقذاو أنفسكم من الهلاك، {وإن تولوا} وأعرضوا {فإنما عليك البلاغ}، ولا يضرك عنادهم، فقد بلغت ما أمرت به. {والله بصير بالعباد} لا يخفى عليه من أسلم ممن تولى.
رُوِيَ أنه- عليه الصلاة والسلام- قرأ عليهم هذه الآية، فقال لليهُود: «أتشهدون أن عزيراً عبد الله ورسوله وكلمته؟» فقالوا: معاذ الله، وقال للنصارى: «أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله؟» فقالوا: معاذ الله أن يكون عيسى عبداً. فنزل قوله تعالى: {وإن تولوا فإنما عليك البلاغ} الآية.
الإشارة: لا يليق بالفقير، إذا توجه إليه الإنكار أو المجادلة والاستظهار، إلا السكوت والإقرار، والاستسلام بكليته لأحكام الواحد القهار، إذ لا يرى فاعلاً إلا الله، فلا يركن إلى شيء سواه. وفي الحكم: (إنما أجرَى الأذى عليهم لئلا تكون ساكناً إليهم، أراد أن يزعجك عن كل شيء، حتى لا تكون ساكناً إلى شيء). وقال بعض العارفين: لا تشتغل قط بمن يؤذيك، واشتغل بالله يرده عنك، وقد غلط في هذا خلق كثير، اشتغلوا بمن يؤذيهم، فطال عليهم الأذى مع الإثم، ولو أنهم رجعوا إلى مولاهم لكفاهم أمرهم. اهـ. بالمعنى. وبهذا يأمر الشيخ أتباعه، فإن انقادوا لأحكام الحق، فقد اهتدوا إلى طريق الوصول، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ، والهداية بيد السميع البصير.

.تفسير الآيات (21- 22):

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)}
قلت: إنما دخلت الفاء في خبر إنَّ؛ لتضمن اسمها معنى الشرط؛ لعموم الموصول وإبهامه، وهو خاص بإنَّ، دون ليت ولعل؛ لأن (إن) لا تغير معنى الابتداء، وإنما تؤكده. وقيل: الخبر: {أولئك...} إلخ.
يقول الحقّ جّل جلاله: {إن الذين يكفرون بآيات الله} أي: بحُججه الدالة على توحيده، وصحة نبوة رسله، أو بكلامه، وهم اليهود، {ويقتلون النبيين بغير حق} بل بغياً {ويقتلون الذين يأمرون} بالعدل وترك الظلم من الأحبار {فبشرهم بعذاب أليم} موجع، {أولئك الذين حبطت أعمالهم} أي: بطلت، {في الدنيا والآخرة} فلا ينتفعون بها في الدارين، {وما لهم من ناصرين} يمنعونهم من العذاب.
وعن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أيُّ النَّاسِ أشَدُّ عَذَاباً يَوْمَ القيامة؟ قال: «رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيّاً، أو رَجل أمَرَ بالمُنكَر ونَهَى عن المَعْرُوفِ، ثم قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم {ويقتلون النبيين بغير حق} الآية، ثم قال: يا أبَا عُبَيْدَةَ، قتلَتْ بَنُوا إسْرَائِيلَ ثلاثةً وأرْبَعِين نبيّاً أوَّل النَّهَار في سَاعَةٍ، فقام مائة وعشرون من عُبَّادِ بَني إسْرَائِيل فأَمرُوهم بالمَعرُوف ونَهوهُمْ عن المنكر، فقتلوهم جميعاً مِنْ آخِرِ النَّهارِ من ذلك اليوم، فهم الذين ذكرهم في كتابه، وأنزل الآية فيهم». اهـ. من الثعلبي.
الإشارة: ذكر في الآية الأولى تشجيع المريدين، وأمرهم بالصبر والتسليم لإذاية المؤذين، وذكر هنا وبال المؤذين الجاحدين لخصوصية المقربين، فالأولياء والعلماء ورثة الأنبياء، فمن آذاهم فله عذاب أليم، في الدنيا؛ بغم الحجاب وسوء المنقلب، وفي الآخرة؛ بالبعد عن ساحة المقربين، وبالسقوط إلى دَرْكَ الأسفلين، والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (23- 25):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)}
قلت: التنكير في {نصيب}؛ يحتمل التحقير والتعظيم، والأول أقرب. وجملة: {وهم معرضون}؛ حال من {فريق}؛ يتخصيصه بالصفة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ألم تر} يا محمد، أو مَنْ تصح منه الرؤية، {إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب} وهم: اليهود، تمسكوا بشيء من التوارة، ولم يعملوا به كلّه، كيف {يدعون إلى كتاب الله} القرآن {ليحكم بينهم} فيما اختلفوا فيه من أمر التوحيد وصحة نبوته- عليه الصلاة والسلام-، فأعرضوا عنه، أو المراد بكتاب الله: التوراة. قال ابن عباس رضي الله عنه: دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم على جماعة من اليهود، فَدَعاهُمْ إلى الله تعالى، فقال نُعَيْمُ بْنُ عَمِرْو والحَارِثُ بَنْ زَيْد: على أيِّ دين أنْتَ يا مُحَمَّدُ؟ قال: «على مِلَّةِ إبْرَاهِيم» قالا: إنَّ إبرَاهِيم كان يَهُودِيّاً، فقال لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم: «فَهَلمُّوا إلى التَّوراةِ فهي بَيْنَنَا وبينكم» فأبَيا عليه، فنزلت الآية. وقيل: نزلت في الرجم، على ما يأتي في العقود.
{ذلك} الأعراض بسبب اغترارهم وتسهيلهم أمر العقاب، فقالوا: {لن تسمنا النار إلا أياماً معدودات}؛ أربعين يوماً، قدر عبادتهم العجل، ثم يَخْلفهم المسلمون، {وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون} بزعمهم الفاسد وطمعهم الفارغ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه}، وهذا تهويل لشأنهم، واستعظام لما يحيق بهم، {ووفيت كل نفس ما كسبت} من خير أو شر، {وهم لا يظلمون} أي: لا يبخسون من أعمالهم شيئاً، فلا ينقص من الحسنات، ولا يزاد على السيئات. وفيه دليل على أن المؤمن لا يخلد في النار. قال ابن عباس: (أولُ رايةٍ تُرفع لأهل الموقف، ذلك اليوم، رايةُ اليهود، فيفضحُم اللّهُ تعالى على رؤوس الأشهاد، ثم يؤمر بهم إلى النار).
الإشارة: ترى كثيراً ممن ينتسب إلى العلم والدين ينطلق لسانه بدعوى الخصوصية، وأنه منخرط في سلك المقربين، فإذا دُعي إلى حق، أو وقف على عيب من عيوب نفسه، أعرض وتولى، وغرته نفسه، وغلبه الهوى، فجعل يحتج لنفسه بما عنده من العلم أو الدين، أو بمن ينتسب إليهم من الصالحين، فكيف يكون حاله إذا أقبل على الله بقلب سقيم، ورأى منازل أهل الصفا، الذين لقوا الله بقلب سليم، حين ترفع درجاتهم مع المقربين، ويبقى هو مع عوام أهل اليمين؟ قال تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [الزُّمَر: 47] الآية.

.تفسير الآيات (26- 27):

{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)}
قلت: {اللهم} منادى مبني على الضم، حذفت منه الياء المتضمنة للفرق، وعوضت منها الميم المُؤْذِنة بالجمع، لئلا يبقى بين الداعي والمدعو فَرْقٌ، و{مالك}: نعت لمحل المنادي؛ لأنه مفعول، ومنادى ثانٍ عند سيبويه، لأن الميم عنده تمتع الوصفية.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} يا محمد في استنصارك على عدوك: {اللهم} يا {مالك الملك}؛ مُلك الدنيا وملك الآخرة، {تؤتي الملك} والنصر {من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء}، فهب لنا ملك الدارين، والنصر على الأعداء في كل أين، وانزع الملك من يد عدونا، وانقله إلينا وإلى من تبعنا إلى يوم الدين. قال قتادة: (ذُكر لنا أن النبيّ صلى الله عيله وسلم سأل ربه أن يجعل مُلك فارس والروم في أمته، فأنزل الله تعالى هذه الآية).
{وتعز من تشاء} بالإيمان والطاعة {وتذل من تشاء} بالكفر والمعصية، أو تعز من تشاء بالمعرفة، وتذل من تشاء بالفكرة، أو تعز من تشاء بالقناعة والورع، وتذل من تشاء بالحرص والطمع، أو تعز من تشاء بالتوفيق والإذعان، وتذل من تشاء بالكسل والخذلان، {بيدك الخير} كله، فأعطنا من خيرك الجزيل، وأجرنا من الشر الوبيل، فالأمور كلها بيدك.
قال البيضاوي: ذكر الخير وحده؛ لأنه المقضي بالذات، والشر مقضي بالعرض؛ إذ لا يوجد شر جزئي ما لم يتضمن خيراً كليّاً. أو لمراعاة الأدب في الخطاب، أو لأن الكلام وقع فيه، إذ رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام- لَمَّا خَطَّ الخَنْدَقَ، وقَطَعَ لكل عَشَرَة أربعينَ ذِرَاعاً، وأخذوا يَحْفرُون، فظهر فيه صخْرَةٌ عظيمةٌ لم تَعْمَلْ فيها المَعَاوِلُ، فَوَجَّهُوا سلْمَانَ إلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُخبرُه، فجاء عليه الصلاة والسلام، فأخذ المعْول منه، فَضَرب به ضَرْبَةً صدعَهَا، وَبَرَقَ مِنْهَا أضَاءَ ما بَيْنَ لابَتَيْها، لكأن مصباحاً في جوْف بَيتِ مُظلم، فكَبَّرَ، وكَبَّرَ معه المسلمونَ، وقال: «أضَاءَتْ لي مِنْهَا قُصُور الحيرة، كأنها أنيابُ الكلاب،» ثم ضرب الثانية، فقال: «أضَاءَتْ لي مِنْها القُصور الحمر من أرض الروم»، ثم ضرب الثالثة، فقال: «أضاءت لي منها قُصُورُ صَنعاء، وأخْبرَنِي جِبْريل أنَّ أُمَّتِي ظَاهرةٌ علَى كُلِّها، فأبشروا»، فقال المنافقون: ألا تَعْجَبُون! يمنيكم ويعدكم الباطل، ويُخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحِيَرةِ، وأنَّها تُفْتحُ لَكُمْ، وأنتم إنما تَحْفُرون الخنْدَقَ مِنَ الفَرَق فنزلت، أي: الآية. ونبّه على أن الشر أيضاً بيده بقوله: {إنك على كل شيء قدير}. اهـ.
ثم استدلّ على نفوذ قدرته بقوله: {تولج الليل في النهار} أي: تُدخل أحدَهما في الآخر بالتعقيب، أو بالزيادة أو النقص، فيولج الليل في النهار، إذا طال النهار حتى يكون خمس عشرة ساعة، وفي الليل تِسْعٌ، ويُولج النهار في الليل، إذا طال الليل كذلك، وفيه دلالة على أن مَنْ قدر على ذلك قدر على معاقبة العز بالذل، والمُلك بنزعه.
{وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي}؛ كالحيوانات من النُّطَف، وبالعكس، والنباتات من الحبوب، وبالعكس، أو المؤمن من الكافر والعالم من الجاهل، وبالعكس، {وترزق من تشاء} من الأقوات والعلوم والأسرار، {بغير حساب}، ولا تقدير ولا حصر. اللهم ارزقنا من ذلك الحظ الأوفر، {إنك على كل شيء قدير}.
روى معاذ رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: «يا معاذُ، أتحبُّ أن يقضيَ اللّهُ عنك دَيْنك؟» قال: نعم يا رسول الله، قال: «قل {اللهم مالك الملك} إلى قوله: {بغير حساب}، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطي منهما ما تشاء، وتمنع منهما ما تشاء اقضِ عني ديني، فلو كان عليك ملءُ الأرض ذهباً وفضة لأدَّاه الله عنك».
ورُوِيَ عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: الفاتحة، وآية الكرسي، و{شهد الله}، و{قل اللهم مالك الملك...} إلى {بغير حساب}، لمّا أراد الله أن ينزلهن، تعلقن بالعرش وقلن: تهبطنا إلى دار الذنوب فقال الله عزّ وجلّ: «وعزّتي وجلالي لا يقرؤكن عبد، دبر كل صلاة مكتوبة، إلا أسكنته حظيرة القدس، على ما كان فيه، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة، وقضيت له في كل يوم سبعين حاجة، وأعززته من كل عدو، نصرته عليه...» الحديث. انظر الثعلبي.
الإشارة: من ملك نفسه وهواه فقد ملكه الله ملك الدارين، ومن ملكته نفسه وهواه فقد أذلّه الله في الدراين ومن ملك نفسه لله فقد مكنه الله من التصرف في الكون بأسره، وكان حرّاً حقيقة، وفي ذلك يقول الشاعر:
دَعَوْنِي لمُلْكِهم فلمَّا أجبتُهم ** قالُوا دَعَوْنَاك للمُلْك لا للمِلْكِ

ومن أذلَّ نفسه لله فقد أعزّه الله، قال الشاعر:
تَذَلَّلّ لِمَنْ تَهوَى لِتَكْسِبَ عِزَّةً ** فَكَمْ عزَّةٍ قَدْ نَالَهَا المَرْء بالذُّلِّ

إذَا كانَ مَنْ تَهْوى عَزِيزاً وَلَم تَكُنْ ** ذَلِيلاً لَهُ فَاقْرِ السَّلامَ عَلَى الْوصْلِ

قال ابن المبارك: (قلت لسفيان الثوري: من الناس؟ قال: الفقهاء، قلت: فمن الملوك؟ قال: الزهادن قلت: فمن الأشراف؟ قال: الأتقياء، قلت: فمن الغوغاء؟ قال: الذين يكتبون الحديث ليستأكلوا به أموال الناس، قلت: أخبرني ما السفلة؟ قال: الظلمة). وقال الشبلي: (المُلك هو الاستغناء بالمكون عن الكونين). وقال الوراق: (تُعز من تشاء بقهر النفس ومخالفة الهوى، وتذل من تشاء باتباع الهوى). قلت: وفي ذلك يقول البرعي رضي الله عنه:
لا تَتْبَع النَّفْسَ في هَوَاهَا ** إنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى هَوَانُ

وقال وهب: خرج الغِنَى والعز يجولان، فلقيا القناعة فاستقرا.
وقال عيسى عليه السلام لأصحابه: أنتم أغنى من الملوك، قالوا: يا روح الله؛ كيف، ولسنا نملك شيئاً؟ قال: أنتم ليس عنكم شيء ولا تريدونها، وهم عندهم أشياء ولا تكفيهم. اهـ.
قال الشافعي رضي الله عنه:
أَلاَ يا نفسُ إن ترضَيْ بِقُوتٍ ** فأنت عزيزةٌ أبداً غنيهْ

دَعِي عنكِ المطامِعَ والأمانِي ** فكمْ أُمْنِيَّةٍ جَلبَتْ مَنِيهْ

وقال آخر:
أَفَادتني القناعةُ كلَّ عزٍّ ** وهَلْ عِزٍّ أعزُّ مِنْ القَنَاعَهْ

فَصَيِّرْها لنفسِكَ رأسَ مالٍ ** وصَيِّرْ بعدها التَّقْوى بِضَاعَهْ

تَنَل عِزّاً وتَغْنَى عَنْ لَئِيمٍ ** وتَرْحَلْ للجِنَان بصبْرِ ساعَهْ

وقال عليه الصلاة والسلام: «مِن أَصْبَحَ آمِناً فِي سِرْبِه، مُعَافى فِي بَدنه، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيا بحذافيرها».
تولج ليل القبض في نهار البسط، وتولج نهار البسط في ليل القبض، وترزق من تشاء فيهما من العلوم والأسرار، بغير حساب ولا مقدار، أو تولج ليل العبودية في نهار الحرية، وتولج نهار الحرية في ليلة العبودية، فمن كان في نهار الحرية تاه على الوجود، ومن كان في ليل العبودية عطل ذله ذل اليهود، والعبد لا يخلو من هذين الحالين، يتعاقبان عليه تعاقب الليل والنهار، والله تعالى أعلم.