فصل: تفسير الآيات (27- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (27- 40):

{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (40)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وأصحابُ اليمين ما أصحابُ اليمين} استفهام تعجيب، تفخيماً لحالهم، وتعظيماً لشأنهم، ثم ذكر نعيمهم فقال: {في سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} والسدر: شجر النبق، والمخضود: الذي لا شوك له، كأنه خُضِد شوكه، أي: قُطع، أي: ليس هو كسِدر الدنيا، وقيل: مخضود، أي: ثنى إغصانه من كثرة حمله، من خَضَدَ الغصن: إذا ثناه وهو رطب. قال ابن جُبَيْر: ثمرها أعظم من القلال، وثمار الجنة كلها بادية، ليس شيء منها في غلاف. رُوي أنَّ المسلمين نظروا إلى وادٍ بالطائف مخصب، فأعجبهم سِدرها، وقالوا: يا ليت لنا مثله في الجنة، فنزلت، وقال أمية بن أبي الصلت في وصف الجنة:
إنَّ الحَدائِقَ في الجِنان ظَلِيلةٌ ** فيها الكواعِبُ سِدْرُهَا مَخْضُودُ

{وطَلْحٍ مَّنضُودٍ} الطلح: شجرة الموز، والنضود: الذي نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه، فليست له ساق بارزة، وفي جامع العُتْبية عن مالك، قال: بلغني أنّ الطلح المنضود، المذكور في الآية، هو الموز، وهو مما يشبه ثمار الجنة، لقوله تعالى: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ} [الرعد: 35]، والموز يؤكل في الشتاء والصيف. اهـ.
{وظِلّ ممدودٍ} منبسط، لا يتقلص ولا ينقطع، كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. {وماءٍ مسكوبٍ} جارٍ بلا أُخدود، يُسْكَب لهم أين شاؤوا، وكيف شاؤوا، بلا تعب. {وفاكهةٍ كثيرةٍ} بحسب الأنواع والأجناس، {لا مقطوعةٍ} لا تنقطع في بعض الأوقات، كفواكه الدنيا، بل هي دائمة، {ولا ممنوعةٍ} عن تناولها بوجه من الوجوه، أو: لا يحظر عليها، كبساتين الدنيا، أو: لا مقطوعة بالأزمان، ولا ممنوعة بالأثمان.
{وفُرُشٍ مرفوعةٍ} رفيعة القدر، أو: مرفوعة على الأسرَّة، وارتفاع السرير خمسمائة سنة، وقيل: كنّى بالفُرُش عن النساء؛ لأنَّ المرأة يُكنّى عنها بالفراش، مرفوعة على الأرائك، قال تعالى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ في ظَلاَلٍ عَلَى الأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس: 65]، ويؤيده قوله: {إِنَّا أنشأناهن إِنشاءً} أي: ابتدأنا خلقهن ابتداءً من غير ولادة. فإما أن يُراد: اللاتي ابتدئ إنشاؤهن، وهن الحور، أو: اللاتي أُعيد إنشاؤن، وهن نساء الدنيا، وعلى غير هذا التأويل أضمر لهنّ؛ لأنّ ذكر الفُرش، وهي المضاجع، دلَّ عليه. {فجعلناهن أبكاراً} أي: عذارى، كلما أتاهنَ أزواجهنَ وجدوهنَ أبكاراً. {عُرُباً} جمع عَرُوب، وهي المحبّبة لزوجها، الحسنة التبعُّل، {أتراباً}: مستويات في السنّ، بنات ثلاثٍ وثلاثين، وأزواجهنّ كذلك. {لأصحاب} أي: أنشأناهن أصحاب {اليمين}.
{ثُلةٌ} أي: أصحاب اليمين ثلة: جماعة كثيرة {من الأولين}، {وثُلة} وجماعة كثيرة {من الآخرِين} فالسابقون كثيرون من الأولين وقليل من الآخرين، وأصحاب اليمين كثيرون من الأولين والآخرين. هذا المتعين في تفسير الآية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أصحاب اليمين هم أهل الحجاب، المحصورون في سجن الأكوان، المحيط بهم دوائر حسهم، من العُبّاد والزُهّاد، والعُلماء بالشرائع، والصالحين الأبرار، وعامة المسلمين. هم في سدر مخضود؛ كثرة الأعمال المخضودة من شوك الرياء والعجب، المنزهة من الفتور والقصور، وطلح منضود؛ حلاوة الطاعات، وتحقيق المقامات، وظِلٍّ ممدود؛ ظل راحة القناعة لمَن أُعطيها، وروح الرضا والتسليم لمَن منحه.
وماء مسكوب؛ عِلْم التوحيد البرهاني أو الإلهامي، وفاكهة كثيرة: حلاوة المناجاة، وظهور الكرامات، ولذة التفنُّن في العلوم الرسمية، لا مقطوعة ولا ممنوعة لمَن رسخ فيها. وفُرش مرفوعة؛ تفاوت درجاتهم على حسب أعمالهم: إنّا أنشأناهن إنشاءً، لكل فريق مما تقدم، زيادة في عمله، أو علمه، أو زهده، على ما يليق بحاله، فكل صنفٍ له تَرقٍّ في فنه وزيادة في محله. فجعلناهن أبكاراً؛ لأن كل زيادة تكون جديدة لم يعهدها صاحبها، عُرباً يعشقها وتعشقه، أتراباً، تكون على قدر حاله وفهمه وذوقه. هذا لعامة أصحاب اليمين، وهم كثيرون، سَلفاً وخَلفاً.

.تفسير الآيات (41- 57):

{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وأصحابُ الشمال ما أصحابُ الشمال} تفظيع لشأنهم، والشمال والمشأمة واحد. {في سَمُوم} في حرّ نار تنفذ في المسامّ، {وحميم} وماء حارّ، تناهي في الحرارة، {وظِلٍّ من يَحْمُوم} من دخان أسود بهيم، {لا باردٍ} كسائر الظلال، {ولا كريم} فيه خير مّا في الجملة، سمّاه ظلاًّ، ثم نفى عنه برد الظل ورَوْحَه ونفعَه لمَن يأوي إليه من أذى الحر، وذلك كرمه- ليمحي عنه ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه، والمعنى: أنه ظلٌّ حار ضارّ.
{إِنهم كانوا قبل ذلك} أي: في الدنيا {مُتْرَفِينَ} منعّمين بأنواع النِعَم، من المآكل والمشارب، والمساكن الطيبة، والمقامات الكريمة، منهمكين في الشهوات، فمَنَعَهم ذلك من الانزجار، وشَغَلَهم عن الاعتبار. وهو تعليل لابتلائهم بما ذكر من العذاب، {وكانوا يُصِرُّون} يُداومون {على الحِنْثِ العظيم} أي: على الذنب العظيم، وهو الشرك؛ لأنه نقض عهد الميثاق، وخروج عن طاعة الملك إلى نصر غيره. والحنث: نقض العهد الموثّق باليمين، أو: الكفر بالبعث، لقوله: {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ} [النحل: 38]، ثم صار يُطلق على مطلق الذنب، ومنه: بلغ الغلامُ الحنث، أي: وقت الحلم ووقت المؤاخذة بالذنب.
{وكانوا يقولون} لغاية عتوهم: {أئِذا مِتْنَا وكنا تراباً وعظاماً} أي: إذا صارت أجزاؤنا من الجلد والعظم واللحم، بعضها تراباً، وبعضها عظاماً نخرة، نُبعث بعد ذلك؟ وتقديم التراب لعراقته في الاستبعاد وانقلابها حيواناً. والعامل في إذا ما دلّ عليه قوله: {أئنا لمبعوثون} أي: أنْبعث إذا صرنا في هذه الحالة؟ ولا يعمل فيه لفظه؛ لأنّ إنّ والاستفهام لا يعمل ما بعدها فيما قبلهما، {أَوَ آباؤنا الأولون} يُبعثون أيضاً؟ دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف، وحسن العطف على المضمر في {لمبعوثون} من غير توكيدٍ ب {نحن} للفاصل الذي هو الهمزة، يعنون بذلك: أن بعث آبائهم أبعد في الوقوع من بعثهم. وقرئ في السبع بأو العاطفة.
ثم ردّ عليهم بقوله: {قل إِنّ الأولين والآخِرين} أي: إنّ الأولين من الأمم المتقدمين، الذين من جملتهم آباؤكم، والآخرين، الذين من جملتهم أنتم. وفي تقديم {الأولين} مبالغة في الرد، حيث كان إنكارهم لبعث آبائهم أشد مع مراعاة الترتيب، {لمجموعون} بالبعث {إِلى ميقاتٍ يومٍ معلوم} أي: إلى ما وقتت به الدنيا باعتبار فنائها من يوم معلوم، وهو يوم البعث والحساب، والإضافة بمعنى من كخاتم فضة.
{ثم إِنكم أيها الضالون} عن الهدى {المكذِّبون} بالبعث، والخطاب لأهل مكة وأضرابهم، {لآكلون} بعد البعث والجمع ودخول جهنم {مِن شجرٍ مِن زقوم} {مِن} الأولى: لابتداء الغاية، والثانية: لبيان الشجر. {فمالئُون منها البطونَ} أي: بطونكم من شدة الجوع، {فشاربون عليه} عقب ذلك بلا ريث {من الحميم} الماء الحار.
أنّث ضمير الشجر على المعنى، وذكَّره على اللفظ في {منها} و{عليه}. {فشاربون شُرْبَ الهِيم} وهي الإبل التي بها الهُيَام، وهو داء يُصيبها فتشرب ولا تروَى، أي: لا يكون شربكم شراباً معتاداً، بل يكون مثل شرب الإبل الهيم، واحدها: هيماء وأَهْيَم وحاصل الآية: أنه يُسلط عليهم من الجوع ما يضطرون إلى شرب الحميم، الذي يُقَطِّع أمعاءهم، فيشربونه شرب الهِيم، وإنما صحّ عطف الشاربين على الشاربين، وهما لذوات متّفقة، لأنَّ كونهم شاربين الحميم مع ما هو عليه من تناهي الحرارة، وقطع الأمعاء، أمر عجيب، وشربهم له على ذلك كشرب الهِيم الماء أمر عجيب أيضاً، فكانت صفتين مختلفتين.
{هذا نُزلُهم} النُزل: هو الرزق الذي يُعدّ للنازل تكرمةً له، {يَوْمَ الدَّينِ} يوم الجزاء، فإذا كان نُزلهم هذا، فما ظنك بعدما استقر بهم القرار، واطمأنت بهم الدار في النار؟ وفيه من التهكُّم ما لا يخفى.
{نحن خلَقناكم فلولا} فلاّ {تُصَدِّقُونَ} تحضيض على التصديق، إمَّا بالخَلق؛ لأنهم وإن كانوا مصدّقين به إلاّ أنه لمّا كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق فكأنهم مكذّبون به، وإمّا بالعبث؛ لأنّ مَن خلَق أولاً لم يمتنع عليه أن يَخلق ثانياً.
الإشارة: أصحاب الشمال هم أهل الخذلان من العصاة والجُهال، في سَموم الجهل والبُعُد، ينفذ في مسام أرواحهم وقلوبهم، وحميم الحرص والتعب، والجزع والهلع، وظِلٍّ من يحموم، وهو التدبير والاختيار، لا بارد ولا كريم، أي: ليس كظل الرضا وبرد التسليم، بل هو ظل مشؤوم، حاجب عن شمس العيان، مُوقع في ظل الذل والطمع والهوان. إنهم كانوا قبل ذلك؛ قبل وقت وصول العارفين مُترفين متنعمين في الحظوظ، منهمكين في الشهوات، وكانوا يُصِرُّون على الحنث العظيم، وهو حب الدنيا، الذي هو رأس كل خطيئة، وكانوا يُنكرون بعث الأرواح من الجهل إلى العرفان، ويقولون: {أئذا متنا وكنا تراباً}، أي: أرضيين بشريين، وعظاماً يابسين بالقسوة والبُعد، {أئنا لمبعوثون} من هذه الموتة إلى حياة أرواحنا بالعلم والمعرفة؟ والحاصل: أنهم كانوا ينكرون وجود أهل التربية؛ الذي يُحيي اللّهُ بهم القلوبَ والأرواحَ الميتة بالجهل والغفلة. قل إنَّ الأولين منكم الذين كانوا على هذا الوصف، والآخرين إلى يوم القيامة، لمجموعون إلى الحضرة، إذا صَحِبوا أهل التربية، فيفتح الله عليهم إلى ميقات يوم معلوم، وهو الحد الذي سبق لفتحهم. ثم إنكم أيها الضالون المكذّبون المنكِّرون لوجود الطبيب، الذي يُحيي الأرواح الميتة والقلوب، {لآكلون من شجر من زقوم} وهي شجرة الجهل وتوارد الشكوك والخواطر على قلوبكم، فمالئون منها بطونكم، بحيث لا يبقى في بواطنكم متسع لأنوار اليقين والمعرفة، فشاربون على ذلك من الحميم، وهو الغضب والتدبير والاختيار، {فشاربون شُرب الهيم}، لا يملُّون منه ليلاً ولا نهاراً، كذا يَظلُّون يَبنون ويَهدمون، وهو عين البطالة والتضييع. {هذا نُزلهم يوم الدين}، أي: يوم يُجازِي الحقُّ المتوجهين إليه بالوصال وراحة الاتصال. {نحن خلقناكم}: أنشأناكم من العدم، فلولا تُصدِّقون في إحياء أرواحكم بالعلم والمعرفة بعد موتها، فإنّ القادر على إنشاء الأشباح قادر على إحياء الأرواح. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (58- 74):

{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)}
يقول الحق جلّ جلاله: {أفرأيتم ما تُمْنُون} أي: تقذفونه في الأرحام من النُطف، {أأنتم تخلقونه} تُقدِّرونه وتُصورونه وتجعلونه بشراً سويّاً {أم نحن الخالقون} من غير علة ولا علاج؟ قال الطيبي: وجه الاستدلال بهذه الآية على البعث أن يُقال: إنّ المَني إنما يحصل من فضلة الهضم، وهو كالطل المنبث في أطراف الأعضاء، وبهذا تشترك الأعضاء بالتذاذ الوقاع لحصول الانحلال عنها كلها، ثم إنّ الله سبحانه وتعالى يُسلط قوة الشهوة على البنية، حتى إنها تجمع تلك الأجزاء الطلّية، والحاصل أن تلك الأجزاء كانت مفْترقة جدّاً أولاً في أطراف العالم، ثم إنه تعالى جمعها في بدن ذلك الحيوان، فتفرّقت في أطراف بدنه، ثم جمعها الله في أوعية المَني، فأخرجها ماءً دافقاً إلى قرار الرحم، فإذا كان قادراً على جمع هذه الأجزاء المتفرقة، وتكوين الحيوان منها، فإذا افترقت بالموت مرة أُخرى؛ لم يمتنع عليها جمعها وتكوينها مرة أخرى. اهـ. وذَكَرَ عند قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَرَآئِبِ} [الطارق: 7] أنَّ المني يتولد من فضلة الهضم الرابع، وينفصل من جميع أجزاء البدن، فيأخذ من كل عضو طبيعته وخاصيته، ومعظمُهُ يتولد من الدماغ، وهو أعظم الأعضاء معنويةً فيه. انظر بقيته في الحاشية.
{نحن قدَّرنا بينكم الموتَ} أي: قسمناه ووقّتنا موت كل أحد بوقت معين، حسبما تقتضيه قسمتنا، المبنية على الحِكَم البالغة. قال القشيري: فيكون في الوقت الذي نريده، منكم مَنْ يموت طفلاً، ومنكم مَن يموت شابّاً، وكهلاً وشيخاً، وبعللٍ مختلفة، وبأسباب متفاوتة، وأوقاتٍ مختلفة. اهـ. {وما نحن بمسبوقين} بعاجزين {على أن نُبَدَّلَ أمثالَكم} بل نحن قادرون على ذلك، لا تسبقونني ولا تغلبونني على أن نُذهبكم، ونأتي مكانكم بأشباهكم من الخلق، والتبديل يكون بالذات أو بالصفات، {ونُنشِئَكم فيما لا تعلمون} ونخلقكم بعد التبديل في صورة لا تعهدونها. قال الحسن: نجعلكم قردةً وخنازير، يعني: إنَّا نقدر على الأمرين جميعاً، أي: خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم فكيف نعجز عن إعادتكم.
و{أمثال} إمّا جمع مِثْل بالسكون- وهو التبديل بالذات، أو: مَثَل بالفتح، وهو التبديل في الصفات، أي: على أن نُبدّل ونُغيّر صفاتكم التي أنتم عليها، وننشِئَكم في صفات لا تعلمونها. {ولقد علمتم النشأةَ الأولى} أي: فطرة آدم عليه السلام: أو: خلقتهم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة... إلخ، {فلولا تَذَكَّرُون} فهلاَّ تذكرون أنْ مَن قدر عليها قدر على النشأة الأخرى.
ولمّا ذكّرهم بنعمة الإيجاد، ذكّرهم بنعمة الإمداد، فقال: {أفرأيتم ما تحرثون} أي: ما تبذرون حبه وتقلِبون الأرض عليه، {أأنتم تزرعونه} أن: تُنبتونه وتُخرجونه من الأرض نباتاً {أم نحن الزارعون} المُنبِتون له؟ وفي الحديث: «لا يقل أحدكم، زرعت، وليقل: حرثت» {لو نشاء لجعلناه حُطاماً} هشيماً منكسِراً قبل إدراكه، {فَظَلْتم} بسبب ذلك {تَفَكَّهُون} تتعجَّبُون من سوء حاله إثر ما شهدتموه على أحسن ما يكون، أو: تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه، أو: على ما اقترفتم من المعاصي التي أُصبتم لذلك من أجلها، وتفكه من أفعال الإزالة، كتخرّج، وتأثّم، أي: أزال الفُكَاهة، وهي المسرة، فتحصل الندامة، {إِنَّا لمُغْرَمُونَ} أي: قائلين: إنّا لملزمون غرامةَ ما أنفقنا فيها، أو: لمهلَكون لِهلاك قوتنا، من: الغرام، وهو الهلاك، {بل نحن محرومون} حُرمنا ما رزقنا بشؤم تفريطنا، فالمحروم هو الممنوع الرزق. قال ابن عباس: هو المحارَف الذي انحرف عنه رزقه.
{أفرأيتم الماءَ الذي تشربون} أي: الماء العذب الصالح للشرب، {أأنتم أنزلتموه من المُزنِ} السحاب الأبيض، وهو أعذب ماءٍ، أو مطلق السحاب، واحدها مزنة، {أم نحن المنزلون} بقدرتنا، فأسكناه في الأرض، ثم أخرجناه عيوناً وأنهاراً؟ {لو نشاء جعلناه أُجَاجاً} أي: ملحاً، أو مُرّاً لا يُقْدَر على شربه، {فلولا} فهلاَّ {تشكرون} تحضيض على شكر الكل، وحذف اللام هنا مع إثباتها في الشرطية الأولى؛ لأنّ هذه اللام تُفيد معنى التأكيد، فأُدخلت في آية المطعوم دون المشروب؛ للدلالة على أن أمر المطعوم متقدم على أمر المشروب، وأنْ الوعيد بفقده أشد وأصعب، مِن قِبَل أنّ المشروب إنما يُحتاج إليه تبعاً للمطعوم، ولهذا قُدِّمت آية المطعوم على آية المشروب، وقيل غير ذلك في حكمة إدخالها.
{أفرأيتم النارَ التي تُورون} أي: تقدحونها وتستخرجونها من الزناد، والعرب كانت تقدح بعودين، تحك أحدهما على الآخر، ويُسمون الأعلى: الزند، والسفلى: الزندة، شبّهوهما بالفحل والطروقة. {أأنتم أنشأتم شجرتَهَا} التي بها الزناد، وهي المرْخ والعَفَار، {أم نحن المنشئون} الخالقون لها ابتداءً بقدرتنا؟ والتعبير عن خلقها بالنشأ، المنبئ عن بديع الصنع، المُعْرِب عن كمال القدرة والحكمة؛ لِما فيه من الغرابة الفارقة بينهما وبين سائر الأشجار، التي لا تخلو عن النار، حتى قيل: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعَفَار، كما أنّ التعبير عن نفخ الروح بالإنشاء في قوله: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءَاخَرَ} [المؤمنون: 14] كذلك.
ثم بيَّن منافعها، فقال: {نحن جعلناها تذكرةً} تذكيراً لنار جهنم، لينظروا إليها، ويذكروا ما وُعدوا به من نار جهنم، أو: تذكرة وأنموذجاً، لما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نارُكم هذه التي يُوقدها بنو آدم هي جزءٌ من سبعين جزءاً من حَرِّ جهنم» وقيل: تبصرة في أمر البعث؛ فإنه ليس أبدع من إخراج النار من الشيء الرطب، {ومتاعاً للمُقْوين} منفعة للمقوين المسافرين الذي ينزلون القِواء، وهو القفر. وفي القاموس: القِيُّ: فقر الأرض، كالِقواء- بالكسر والمد: القفر. اهـ. وتخصيصهم بذلك؛ لأنهم أحوج إليها؛ فإنّ المقيمين والنازلين بقرب منازلهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزناد، أو: للذين خلت بطونهم ومزاودهم من الطعام، من قولهم: أَقْوت الدار: إذا خلت من ساكنها.
والأول أحسن.
بدأ أولاً بنعمة الإيجاد، ثم بإمداد الطعام، ثم بالشراب، وما يُعجن به من الطعام، ثم بما يطبخ به؛ فلا يؤكل الطعام إلاّ بعد هذه الثلاث، ولا يستغني عنه الجسد ما دام حيّاً في حكم العادة.
ولمَّا ذكر دلائل توحيده وقدرته، أمر بتنزيهه عمَّا لا يليق بحاله؛ لأنّ العقل إذا أدرك الصانع سما إلى درك كنهه، فربما يقع في التشبيه أو التجسيم أو التعطيل، فقال: {فَسَبِّح باسم ربك} أي: فنزّه ربك عما لا يليق به أيها المستمع المستدل، فأراد بالاسم المسمى، والباء صلة، أي: نزَّه ربك {العظيم} أو: نزّه ربك ملتبساً بذكر اسمه. والعظيم: صفة للرب، أو للاسم، لأن المراد به المسمى. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أفرأيتم أيها المشايخ ما تُمْنون من نُطف الإرادة في قلوب المريدين، أأنتم تخلقونه في قلوبهم حتى تنبت فيها بذرة الإرادة، وتهيج شجرة المحبة، فتُثمر بالمعرفة، أم نحن الخالقون؟ نحن قدّرنا بينكم الموت، فمنكم مَن يموت الموت الحسي أو المعنوي قبل الوصول، ومنكم مَن يموت بعد الوصول، والموت المعنوي: هو الرجوع عن السير، ولا يكون إلاَّ قبل الوصول، وما نحن بمسبوقين على أن نُبدل أمثالكم، ونُغيّر صفاتكم، فإنّ القلوب بيد الله، وننشئكم فيما لا تعلمون من الجهل والبُعد. ولقد علمتم النشأة الأولى، التي كنتم عليها حال الغفلة والبطالة قبل ملاقاة الرجال، أفلا تذكرون فتشكرون على نعمة اليقظة والمعرفة.
أفرأيتم ما تحرثون من الأعمال والأحوال والمجاهدات والرياضات، أأنتم تزرعونه، أي: تُنبتونه حتى يُقبل منكم، وتجنون ثماره، أم نحن الزارعون؟ لو نشاء لأبطلناه ورددناه فنجعله هباءً منثوراً، فظلتم تندمون على ما فات منكم من المشاق، حيث لم تجنوا ثمرتها، تقولون: إنّا لمغرمون، حيث افتقرنا ودفعنا أموالنا في حال الجذبة الأولى، بل نحن محرمون من ثمار مجاهدتنا وطاعتنا، أفرأيتم الماء الذي تشربون، وهو ماء الحياة الذي تحيا به القلوب، تشربونه بوسائط المشايخ، يزقّه الشيخُ لروح المريد، كما يزق الطيرُ أفراخه، وبذلك تحيا روحه، فتغيب عن عوالم حسها، أأنتم أنزلتموه من سحاب الهداية والعناية، أم نحن المنزِلون؟ لو نشاء جعلناه أُجاجاً فَتَمجه الروحُ بعد شربها، أو تمتنع من شربه، فالأول للداخلين إذا لم تسعفهم رياح المقادير، فتنكسر سفينة سيرهم بعد الركوب، والثاني للطالبين المحرومين من أرزاق المعرفة. فلولا تشكرون هذه النعم، حيث وفقكم لشرب الخمر، ودمتم حتى سكرتم وصحوتم، وحييت بها أرواحكم وأشباحكم. أفرأيتم النار نار الشهوة التي تُورون؛ تقدحونها في نفوسكم، أأنتم أنشأتم شجرتها، وهي النفس الطبيعية، أم نحن المنشئون؟ نحن جعلناها تذكرة، أي: إيقاظاً توقظ صاحبها ليتلجئ إلى مولاه، وفي الحِكَم: (وحرَّك عليك النفس ليُديم إقبالك عليه): وجعلناها متاعاً للسائرين؛ إذ بجهادها يتحقق سيرهم، وبتصفيتها يتحقق كمالهم، وبفنائها يتحقق وصولهم، وكان شيخ شيخنا حين يشتكي له أحد له بنفسه، يقول: أما أنا فجزاها علي خيراً، ما ربحت إلاّ منها.
وقال القشيري: {أفرأيتم النار...} إلخ، يشير إلى نار المحبة المشتعلة الموقدة، بمقدح الطلب في حراقة قلب المحب الصادق في سلوكه وشجرتها هي العناية الإلهية، يدل على هذا قول العارف أبي الحسن المنصور- قدّس الله سره- حين سُئل عن حقيقة المحبة، فقال: هي العناية الإلهية السرميدة، لولاها ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، فنحن جلعناها تذكرة لأرباب النفوس البشرية، ليهدتوا بها إلى سلوك طريق الحق، ومتاعاً للمُوقين، أي غذاء أرواح المحبين، الطاوين أياماً وليالي من الطعام والشراب، كا رُوي عن سهل التستري: أنه كان يطوي ثلاثين يوماً، وعن أبي عقيل المغربي: أنه ما أكل ستين سنة وهو مجاور بمكة، وعن كثيرين من السالكين المرتاضين. اهـ.
وقوله تعالى: {فسبِّح باسم ربك العظيم} قال الورتجبي: أَمَرَه أن ينزهه لا بنفسه بل بربه، ثم قال: والاسم والمسمى واحد، أي: قدسني بي فإني أعظم من أن تُقدسني بنفسك، أو بشيء دوني، ألا ترى إشارة قوله: {العظيم} أي: عظم جلاله أن يبلغ إلى أن تمدحه الخليقة، وأن تصِفة البرية. اهـ.