فصل: تفسير الآيات (75- 82):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (75- 82):

{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)}
قلت: {فلا}: صلة، كقوله: {فَلاَ وَرَبِّكَ...} [النساء: 65]. ومَن قرأ باللام فهي لام الابتداء، دخلت على مبتدأ محذوف، أي: فلأنا أُقسم، ولا يصح أن تكون للقسم؛ لأنها لابد أن تقرن بنون التوكيد.
يقول الحق جلّ جلاله: {فلا أُقِسِمُ بمواقعِ النجومِ} بمساقطها ومغاربها. وقرأ الأخَوان بموقع على الإفراد، وتخصيصها بالقَسَم لِمَا في غروبها من زوال أثرها، والدلالة على وجود مؤثر دائم لا يتغير، أو: لأنّ ذلك وقت قيام المجتهدين والمبتهلين إليه تعالى، وأوان نزول الرحمة والرضوان عليها، واستعظم ذلك بقوله: {وإنه لقَسَم لو تعلمون عظيمٌ} وهو اعتراض في اعتراض، لأنه اعتراض بين القسم والمقسَم عليه بقوله: {إِنه لقرآن كريمٌ} أي: حسن مرضيّ، أو نفّاع جمّ المنافع؛ لاشتماله على أصول العلوم المهمة في صلاح المعاش والمعاد، أو: كريم على الله تعالى، واعترض بين الموصوف وصفته ب {لو تعلمون} وجواب {لو} متروك، أريد به نفي علمهم، أو: محذوف، ثقةً، والتقدير: وإنه لقسم لو تعلمون ذلك، لكن لا تعلمون كُنه ذلك، أو: لو تعلمون ذلك لعظمتموه، أو: لعملتم بموجبه، {في كتابٍ مكنون} مَصون من غير المقربين من الملائكة، لا يطلع عليه مَن سواهم، وهو اللوح المحفوظ.
{لا يَمسُّه إِلاَّ المُطَهَّرون} أي: الملائكة المنزّهون عن الكدرات الجسمانية، وأوضار الذنوب. هذا إن جعلته صفة لكتاب مكنون، وهو اللوح، وإن جعلته صفة للقرآن؛ فالمعنى: لا ينبغي أن يمسّه إلاَّ مَن هو على الطهارة مِن الناس، والمراد: المكتوب منه. قال ابن جزي: فإن قلنا إنَّ الكتاب المكنون هو الصحف التي بأيدي الملائكة، فالمطهَّرون يُراد به الملائكة؛ لأنهم مُطهَّرون من الذنوب والعيوب، وإن قلنا أنَّ الكتاب المكنون هو الصحف التي بأيدي الناس؛ فيحتمل أن يريد بالمطهرين: المسلمين؛ لأنهم مُطَهرون من الكفر، أو يريد: المطهرين من الحدث الأكبر، وهو الجنابة والحيض، فالطهارة على هذا: الاغتسال. أو: المطهرين من الحدث الأصغر، فالطهارة على هذا: الوضوء، ويحتمل أن يكون قوله: {لا يمسُّه} خبراً أو نهياً، على أنه قد أنكر بعضهم أن يكون نهياً، وقال: لو كان نهياً لكان بفتح السين. والتحقيق: أن النهي يصح مع ضم السين؛ لأن الفعل المضاعف إذا كان مجزوماً واتصل به ضمير المفرد المذكر ضُم عند التقاء الساكنين، اتباعاً لحركة الضمير، وإذا جعلته خبر؛ فيحتمل أن يُراد به مجرد الإخبار، أو: يكون خبراً بمعنى النهي، وإذا كان لمجرد الإخبار، فالمعنى: لا ينبغي أن يمسه إلاَّ المطهرون، أي: هذا حقه، وإن وقع خلاف ذلك.
واختلف الفقهاء فيمن يجوز له مَسّ المصحف على حسب الاحتمالات في الآية، فأجمعوا على أنه لا يمسه كافر، واختلفوا فيما سواه على أقوال؛ فقال بعضهم: لا يجوز أن يمسه الجُنب ولا الحائض ولا المحدِث الحدثَ الأصغر، وهذا قول مالك وأصحابه، ومَنعوا أيضاً أن يحمله بعلاقة أو وسادة، وحجتهم: الآية، على أن يُراد بالمطهرين الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، وقد احتج مالك في الموطأ بالآية، ومن حجتهم أيضاً: كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عَمرو بن حزم ألاَّ يمسَّ القرآن إلا طاهرٌ.
القول الثاني: أنه يجوز مسه للجنب والحائض والمحدِث حدثاً أصغر، وهو مذهب أحمد بن حنبل والظاهرية، وحملوا {المطهرين} على أنهم المسلمون أو الملائكة. والقول الثالث: أنه يجوز مسه بالحدث الأصغر دون الأكبر، وحمل صاحب هذا القول {المطهرين} على أن يُراد من الحدث: الأكبر، ورخَّص مالك في مسِّه على غير وضوء لمُعلِّم الصبيان؛ لأجل المشقة.
واختلفوا في قراءة الجنب للقرآن، فمنعه الشافعي وأبو حنيفة مطلقاً، وأجازه الظاهرية مطلقاً، وأجاز مالك قراءة الآيات اليسيرة، أي: لتعوُّذ ونحوه. واختلفوا في قراءة الحائض والنفساء للقرآن عن ظاهر قلب، فعن مالك روايتان، وفرّق بعضهم بين الكثير واليسير. اهـ. قلت: المشهور في الحائض والنفساء جواز القراءة مطلقاً. وقال الكواشي عن ابن عطاء: لا يفهم إشارات القراءة إلاَّ مَن طَهَّر سره من الأكوان. اهـ. وفي آخر البخاري؛ {لا يمسه}: لا يجد طعمه ونَفْعَه إلاَّ مَن آمن بالقرآن، ولا يحمله بحقه إلاَّ المؤمنُ لقوله: {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة} [الجمعة: 5]. اهـ.
{تنزيلٌ من رب العالمين}: صفة رابعة للقرآن، أي: نزل من رب العالمين، وُصف بالمصدر؛ لأنه نزل منجّماً من بين سائر الكتب، فكأنه في نفسه تنزيل، {أفبهذا الحديثِ} أي: القرآن {أنتم مُّدْهِنون} متهاونون به، كمَن يُدهن في بعض الأمر، أي: يلين جانبه، فلا يتصلّب فيه تهاوناً به. قال ابن عطية: قال ابن عباس: المداهنة هي المهاودة فيما لا يحل، والمداراة: المهادوة فيما يحل. اهـ.
{وتجعلون رزقَكم أنكم تُكذِّبون} أي: وتجعلون شكر رزقكم التكذيب، أي: وضعتم التكذيب موضع الشكر. وفي قراءة عليّ رضي الله عنه، وهي مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وتجعلون شكركم أنكم تكذِّبون} أي: وتجعلون شكركم لنعمة القرآن التكذيب. وقيل: نزلت في الأنواء ونسبة الأمطار إليها، أي: وتجعلون شكر ما رزقكم الله من الغيث أنكم تكذّبون كونَه من الله، حيث تنسبونه إلى النجوم، وتقولون: مُطرنا بنوء كذا، والمنهي إنما هو اعتقاد التأثير للنجوم، لا من بابا العلامة وقيل: مطلقاً، سدّاً للذريعة، وهو مقتضى كلام ابن رشد، وعزاه لسحنون. والمسألة خلافية، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا ذُكرت النجوم فأمْسِكوا»، ومنهم مَن فصّل في المسألة، فقال: يجوز إضافة الأفعال السيئة إليها لقوله صلى الله عليه وسلم: «تعوّذوا بالله من شر هذا، فإنه الغاسق إذا وقب»
وأشار إلى القمر. وأما الحسنة فالشكر يقتضي إضافتها إلى الله، وكذا الأدب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: مواقع النجوم هي أسرار العارفين؛ لأنه يغرق في بحارها كل ما سوى الله، وتغيب فيها نجوم العلم العقلي والنقلي، وأقمار التوحيد البرهاني؛ لأنه إذا أشرقت في قلوبهم شمس العرفان، لم يبقَ لنور النجوم والقمر أثر، وقد قلت في قصيدتي العينية:
تبدّت لنا شمسُ النهارِ وأشرقتْ ** فلم يَبق ضوءُ النجمِ والشمسُ طالعُ

قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي: كنتُ أعرف أربعة عشر علماً، فلما تعلمتُ علم الحقيقة شرطت ذلك كله. اهـ. يعني: وقع الاستغناء عنها، فالكنز الذي ظفر به من العلم بالله، على نعت العيان، فلم يبقَ للروح التفات إلى شيء قط. ماذا فقد من وجدك؟ وليس المراد أنها ذهبت معرفتها عنه، بل لو رجع إليها لوجدها تشحرت واتسعت أمدادها، ولكن ظفر بعلم يُعد الاشتغال بغيره بطالة، كما قال الغزالي لابن العربي المعافري: كنتَ الصاحِبَ في زمن البطالة، يعني: قبل ملاقاته بالشيخ. وإنما كان القسم به عظيماً؛ لأنه ليس عند الله أعظم من قلوب الواصلين وأسرار العارفين، لأنها وسعت الرب تعالى علماً وتجلياً، «لم يسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن». فالقَسم عظيم، والمُقسَم به أعظم، والمُقسَم عليه أعظم، وهو القرآن الكريم، {لا يسمّه إلاّ المطهرون} قال الجنيد: لا يمسّه إلاّ العارفون بالله، المطهرون سرهم عما سوى الله. اهـ. أي: لا يمس أبكار حقائقه ودقائق إشارته إلاّ القلوب المطهَرة من الأكدار والأغيار، وهي قلوب العارفين: {تنزيل من رب العالمين} على سيد المرسلين، ثم غرفت أسرارَه قلوبُ خلفائه العارفين. أفبهذا الحديث أنتم مدهنون. قال القشيري: أي: أنتم تتهاونون في قبول مثل هذا الكلام الحق، وتعجبون من مثل هذه الحقيقيات والتدقيقات. اهـ. والعتاب لمَن يتهاون بعلم الإشارة ويُنكرها. ويتنكّب مطالعتها. وتجعلون شكر رزقكم إياها- حيث استخرجها بواسطة قلوب العارفين- التكذيب بها والإنكار على أربابها.

.تفسير الآيات (83- 96):

{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)}
يقول الحق جلّ جلاله لمَّا وبَّخهم على تكذيبهم بالقرآن الناطق بقوله: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} [الواقعة: 75]، ثم أوقفهم على أنهم تحت قهر ملكوته، من حيث طعامهم وشرابهم وسائر أسباب معاشهم، عجزهم بقهرية الموت، فقال: {فلولا} أي: هلاَّ {إِذا بلغتْ} الروح عند الموت {الحلقومَ} وهو ممرّ الطعام والشراب، وتداعت للخروج {وأنتم حينئذٍ} أيها الحاضرون حول صاحبها {تنظرون} إلى ما هو فيه من الغمرات، {ونحن أقربُ إِليه} علماً وقدرة وإحاطة {منكم} حيث لا تعرفون من حاله إلاَّ ما تُشاهدون من أثر الشدة، من غير أن تقفوا على كنهها وكيفيتها وأسبابها، ولا أن تقدروا على دفع أدنى شيء منها، ونحن المتولون لتفاصيل أحواله، {ولكن لا تُبصرون} لا تدركون ذلك لجهلكم بشؤوننا، {فلولا إِن كنتم غير مَدِينينَ} غير مربوبين مقهورين، من: دان السطلان رعيته: إذا ساسهم واستعبدهم، والمحضَض عليه قوله: {ترجعونها} تردون الروح إلى الجسد بعد بلوغ الحلقوم {إِن كنتم صادقين} أنكم غير مربوبين مقهورين.
وترتيب الآية: فلولا إذا بلغت الروحُ الحلقومَ، وأنتم تنظرون إليه، يُعالج سكرات الموت، ترجعونها إلى الجسد إن كنتم غير مربوبين، ف لولا الثانية مكررة للأولى؛ للتأكيد، والمعنى: إنكم في عموم جحودكم إن أنزلت عليكم كتاباً قلتم: سحرٌ وافتراءٌ، وإن أرسلتُ إليكم رسولاً صادقاً قلتم: ساحرٌ كذابٌ، وإن رزقتكم مطراً يُحييكم قلتم: صدق نوء كذا، على مذهب التعطيل، فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن إذا بلغ الحلقوم، إن كنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمُحيي المييت، المبدئ المعيد، وأنكم غير مربوبين مقهورين؟!.
ثم ذكر أحوال الأرواح عبد الموت في البرزخ، فقال: {فأمّا إِن كان} المتوفى {من المقرَّبين} من السابقين، من الأزواج الثلاثة المذكورة أول السورة، عبّر عنهم هنا بأجلّ أوصافهم، وهو شدة القرب، بعد أن عبّر عنهم أولاً بالسبق، فالسابقون هم المقربون، وهم العارفون بالله معرفة العيان، أهل الفناء في الذات، لقوله صلى الله عليه وسلم: «سبق المُفَرِّدون»، قيل: ومَن المُفَرِّدون يا رسول الله؟ قال: «المسْتَهترون بذكر الله» الحديث. فالسابقون هم المولعون بذكر الله، حتى امتزج مع لحمهم ودمهم، فحصل لهم القرب من الحق.
{فَرَوْحٌ} أي: فلهم روح، أي: راحة للروح لأرواحهم من هموم الدنيا وغمومها، ومن ضيق عالم الأشباح إلى خالص عالم الأرواح، مع أن هذا حاصل لهم قبل الموت، لكن يتسع ميدانه بعد الموت، أو: رحمة تخصهم، أو: نسيم يهب عليهم. وفي القاموس: الرَّوح- بالفتح: الراحة والرحمة ونعيم الريح. اهـ. وقرئ بالضم، وهي مروية عنه صلى الله عليه وسلم، أي: الحياة والبقاء، أو: فله حياة طيبة دائمة لا موت فيها {وريحانٌ} أي: رزق، بلغة حِمْير، والمراد: رزق أرواحهم من العلوم والأسرار، أو: أشباحهم، فإنّ أرواحهم تتطور على شكر صاحبها، فتأكل من ثمار الجنة، وتشرب من أنهارها.
كما في حديث الشهداء، والصديقون أعظم منهم، أو: جنة، أو: هو الريحان الذي يُشمّ. قال أبو العالية: «لا يُفارق أحدٌ من المقربين الدنيا حتى يؤتى ببعض من ريحان الجنة فيشمه، فتفيض روحه»، {وجنةُ نعيم} تتنعّم فيها روحه في عالم البرزخ، ثم جسمه وروحه بعد البعث، وهذا يقتضي أنّ الأرواح تدخل الجنة قبل البعث، وهو خاص بالشهداء والصدِّيقين.
{وأمّا إِن كان مِن أصحاب اليمين فسلامٌ لك من أصحاب اليمين} أي: فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، أي: يسلّمون عليك؛ فإنّ الروح إذا سُئلت في القبر عُرج بها إلى أرواح أهلها، فيتلقونه ويُسلّمون عليه، ويهنُّونه بالخروج من سجن الدنيا، أو: سلامة لك يا محمد من أصحاب اليمين، فلا ترى فيهم إلاَّ السلامة.
{وأمّا إِن كان من المكذّبين الضالين} هم الصنف الثالث من الأزواج الثلالثة، وهم الذين قبل لهم: {ثم إنكم إيها الضالون المكذِّبون}... إلخ، {فَنُزُلٌ من حَميم} أي: فله نُزل من حميم يشربه، {وتَصْلِيهُ جحيمِ} إدخال في النار، ومقاساة ألوانِ عذابها. وهذا يدل على أنّ الكافر بمجرد موته يدخل النار. وقيل: معنى ذلك: ما يجده في القبر من سموم النار ودخانها. ويحتمل: أن الآية لا تختص بعالم البرزخ، بل تعم البرزخ وما بعده.
وقد تكلم الناسُ عن الأرواح في عالم البرزخ، وحاصل ما ظهر لنا من الأحاديث والأخبار: أنّ أرواح الصدّيقين، وهم المقربون، تتشكل على صورة أجسامهم، وتذهب حيث شاءت في الجنان وغيرها. وأرواح الشهداء تدخل في حواصل طيور خُضر، تسرح في الجنة حيث شاءت، لمّا كانت أرواحهم في الدنيا مسجونة في هيكل ذاتهم، سُجنت في حواصل الطيور، بخلاف العارفين لّمَا سرحت أفكارهم في الملكوت والجبروت؛ أُطلقت أرواحهم بعد الموت، وأرواح الصالحين الأبرار وعامة المؤمنين، ممن لم ينفذ فيه الوعيد؛ متفرقة في البرزخ، فمنهم في ظل شجرة المنتهَى، ومنهم في السموات، على قدر سعيهم في الدنيا. وكل صنف يُجمع مع صنفه جماعةً، فالعلماء مع صنفهم، والقراء كذلك، والصالحون كذلك، والأولياء كذلك، والمنهمكون في الدنيا إذا سلموا من العذاب تكون أرواحهم كالنائم المستغرق، لا يشعر بمرور الأيام، حتى يستيقظ بنفخة البعث، وأما مَن نفذ فيهم الوعيد، فهم يُعذبون بأنواع من العذاب، وتذكَّر حديث البخاري في الرؤيا التي رآها صلى الله عليه وسلم في شأن الزناة وأكل الربا، وغيرهم. وفي ابن حجر: أن أرواح المؤمنين في عليين، وأرواح الكافر في سجين، ولكل روح بجسدها اتصال معنوي، لا يُشبه الاتصال في الحيلة الدنيا، بل أشبه شيء به حال النائم، وإن كان هو أشد من حال النائم اتصالاً قال: وبهذا يُجمع بين ما ورد أن مقرها في عليين أو سجين، وبين ما نقل ابن عبد البر عن الجمهور: أنها عند أَفْنية قبورها.
قال: ومع ذلك فهي مأذون لها في التصرُّف، وتأوي إلى محلها من عليين أو سجين، وإذا نقل الميت من قبر إلى قبر، فالاتصال المذكور متصل، وكذا إذا تفرقت الأجزاء. اهـ.
وفي الأصل الرابع والخمسين من نوادر الأصول: إذا قَدِمَ المؤمنُ على ربه لقاه رَوحاً وريحاناً وبشرى على ألسنة الرسل، وهو قوله: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة} [فصلت: 30]، ثم يأمر له في قبره بكسوة من فِراش ودِثار ورياحين، وهو قوله: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44]، ويُنور له في مضجعه، ويُؤنسه بملائكته الكرام، إلى أن يلقاه عرصة القيامة، فيبعثه إلى الموطن الذي هيأ له نزلاً. اهـ. وقال في الأصل السبعين: إنّ الشهداء يُعجّل لهم تعالى اللقاء، ويحييهم قبل نفخة الصور، ويكلمهم كِفاحاً، كما لأهل الجنة، وليس لمَن دونهم من الأموات هذه الدرجة إلاّ للصدّيقين، فهم أجدر بذلك؛ لبذلهم نفوسهم لله تعالى مدة أعمارهم، والشهداء بذلوها في طاعة الله ساعة، فظهر أن للشهيد حياة خاصة على مَن دونه، وأحرى منه الصدّيق. اهـ.
وبالجملة: فالأرواح منها في البرزخ تجول وتُبصر أحوال أهل الدنيا، ومنها تحت العرش، ومنها طيّارة في الجنان وإلى حيث شاءت، على أقدارهم من السعي إلى الله أيام الحياة، ومنها ما تسرح وتتردد إلى جثتها تزورها، ومنها ما يلقى أرواح المقبوضين. وعن سَلمان: إنّ الأرواح المؤمنين- أي: الكُمل- تذهب في برازخ من الأرض حيث شاءت، بين السماء والأرض، حتى يردها الله إلى جسدها، فإذا ترددت هذه الأرواح علمت بأحوال الأحياء، وإذا ورد عليهم من الأحياء ميت، التفُّوا وتساءلوا عن الأخبار. اهـ. قلت: وهذه أرواح العارفين دون غيرهم. والله تعالى أعلم. وفي بعض الأثر: إذا مات العارف قبل لروحه: جُل حيث شئتِ.
{إِنَّ هذا} أي: الذي ذكر في السورة الكريمة {لهو حقُّ اليقين} أي: الحق الثابت من اليقين، أو: حق الخبر اليقين، {فسبِّح باسم ربك العظيم} الفاء لترتيب التسبيح، أو الأمر به على ما قبلها، فإنّ حقيّة ما فصل في تضاعيف السورة الكريمة مما يوجب تنزيهه تعالى عما لا يليق بشأنه الجليل؛ من الأمور التي من جملتها الإشراك والتكذيب بآياته الناطقة بالحق.
الإشارة: فأمّا إن كان من المقربين؛ فرَوْح الوصال، وريحان الجمال، ومِنّة الكمال، أو: فرَوْح الفضاء، وريحان العطاء، وجنة البقاء، أو: فروح الفناء، وريحان البقاء، وجنة الترقي أبداً سرمداً، أو: فرَوْح الأنس لقلبه، وريحان القدس لروحه، وجنة الفردوس لنفسه، {وأمّا إِن كان مِن أصحاب اليمين فسلامٌ لك} أي: فسلام عليك يا محمد {من أًصحاب اليمين} فهم يسلمون عليك، ويشتاقون إلى لقائك، ويرتاحون للقدوم عليك وصحبتك.
والحاصل: أنَّ المقرَّب راحته ونعيمه في وصاله بربه، وصاحب اليمين اشتياقه لرسوله، وراحته ونعيمه في حصبته وجواره، فالمُقرَّب فانٍ في ذات الحق، وصاحب اليمين فانٍ في رسوله صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، فأهل الفناء في الذات هم المقربون، وأهل الفناء في النبي صلى الله عليه وسلم هم أصحاب اليمين، فحاصل الآية: {فأمّا إِن كان مِن المقربين} فهو لي، وأُجازيه برَوْح وريحان وجنة نعيم، وأما إن كان من أصحاب اليمين فمُسلم لك، وهو من أصحاب اليمين، هذا حاصل ما حرره شيخ شيوخنا الفاسي في حاشيته.
وفي الإحياء ما حاصله: أنَّ المقرَّب له الوصال إلى سعادة الملك، وصاحب اليمين له النجاة، وهو سالك، والمقرَّب واصل، والمعرِض عن الله له الجحيم. والخبر عن ذلك كله حق يقين عند العارف بالله؛ لأنه أدرك ذلك كله مشاهدةً. وفي القوت بعد كلام: وأيضاً للمقربين من كل هولٍ رَوح به لشهادتهم القريب، وفي كل كربٍ ريحان لقرب الحبيب، كما لأهل اليمين من كل ذلك سلامة. اهـ.
قال النسفي: رُوي أنَّ عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل على ابن مسعود رضي الله عنه في مرض موته، فقال: ما تشتكي؟ فقال: ذنوبي، فقال: ما تشتهي؟ فقال: رحمة ربي- وفي رواية: ما يقضي ربي- فقال: أفلا تدعوا الطبيب؟ فقال: الطبيب أمرضني، فقال: ألا نأمر لك بعطاء؟ فقال: لا حاجة لي فيه، قال: ندفعه إلى بناتك، قال: لا حاجة لهن فيه، قد أمرتهنّ بأن يقرأن سورة الواقعة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تُصبه فاقة أبداً» وليس في هذه السور الثلاث ذكر لفظ الله (اقتربت، والرحمن، والواقعة). اهـ. وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وصحبه وسلّم.